قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس

حالة الهرج والمرج المنتشرة بين جموع العائلة أثارت الريبة لهم، فكان عدي الأسرع بينهم، حينما أغلق باب السيارة وهرع إليهم يتساءل بريبةٍ: في أيه؟
انتبهوا لوجود ياسين ويحيى بينهم، فلعق حمزة شفتيه وهو يردد بإرتباكٍ: دي خناقة بسيطة متخدش في بالك!
ردد يحيى بصدمة: خناقة!

ضيق ياسين عينيه بنظرةٍ حانقة، طالت حمزة الذي يحمل المقعد بين يده، فما أن رأه حتى ناوله لعدي مرددًا برعبٍ: أحمد كان هيلقفه لأخوه وأنا أخدته منه وقولتله ميصحش!
واسترسل بحدةٍ: الأولاد مبقوش عاملين ليا أي إحترام يا ياسين!
بدت تعابير وجوههم ساخطة على تفسير حمزة الغير منطقي، وبدى الجميع متأهب لما سيفغله، فانفلت عنه انفعالًا لم يسبق له التحلي به: هو أنت مش هتعقل أبدًا يا حمزة!

ارتعبت نظراته، فسحب عينيه لعدي مرددًا بحزنٍ مصطنع: شوفت أبوك يا عدي خلص حربه معاك ومبقاش قدامه غير حمزة المسكين!
كبت عدي ضحكة ساخرة كادت بالانفلات منه، ومال برأسه إليه وهو يهمس له: بصراحة يا عمي محدش بيقدر يخرج ياسين الجارحي عن شعوره غيرك، وده في حد ذاته إنجاز لازم تفتخر بيه.
ارتسمت بسمة فخر على وجهه وردد بفخرٍ: قولتلهم كده والله محدش صدقني!

مال إليهما أحمد ليردد بسخريةٍ: الفخر ده هيتلاشى أول ما ياسين الجارحي يعطس، ووقتها مش هتلاقي حد ترمي عليه مصايبك يا ولدي العزيز!
قاطع حديثهم خروج آية مرددة ببسمتها المشرقة وهي تقدم صينيتها: عملتلكم شوية قطايف إنما أيه.
وطوفتهم بنظرة شاملة، فرددت بقلقٍ: هو في أيه؟!
التقط منها يحيى ما تحمله، وتناول الحلوى بنهمٍ، مرددًا وهو يلوكها: خسارة فيهم والله يا آية، سبيلي أنا الصينية دي.

وأشار لياسين ببسمةٍ واسعة: إدخل رايح أنت يا كبير وسبلي أنا المواضيع التافهة دي متشغلش بالك إنت بيها، أنا هحلها!
منحهم ياسين نظرة ساخطة قبل أن يتجه للداخل برفقة زوجته، بينما اتجه يحيى للطاولة الضخمة التي تتوسط الحديقة، مشيرًا لهم ومازال يتناول الحلوى بتلذذٍ: شرفوا هنا قدامي.
وتابع للشباب بمرحٍ: متشكرين على مجهودكم المبذول، اطلعوا ريحوا قبل السحور وسيبولي الليلة دي!

إنسحب عدي من بينهم حينما لمع هاتفه برسائل من الاسطورة، يحسه على ضرورة الاستعداد للسفر في التو والحال بعدما أحدثت بعض التطورات العاجلة، وضع هاتفه بجيب جاكيته الأسود وكان بطريقه لجناحه إلى أن تسلل إليه صوتًا مألوفًا بالقرب من الجراج الخاص بالقصر، ضيق عينيه بدهشةٍ زادت حينما اقترب ليجد نور تجلس داخل السيارة التي قام بإهدائها إليها، ومازالت تتحدث بشكلٍ صارم، ظن ببدأ الأمر بأن هنالك أحدٌ بصحبتها، فانتقلت عسليته للمقعد المجاور لها فاندهش حينما وجده فارغًا، فطرق بإصبعيه على النافذة، حتى انتبهت إليه نور ففتحت نافذة السيارة وهي تردد ببسمة ترحاب: أهلًا يا وحش.

تغاضى عن ترحابها الساخر، وانحنى بقامته إليها ليعيد نظرة خاطفة للسيارة وحينما تأكد ببقائها المنفرد تساءل: كنتِ بتكلمي مين يا نور؟
أشارت بيدها لدريكسون السيارة: بكلم بسنت.
رمش بعينيه وهو يجاهد لرسم ابتسامة مصطنعه: معلش في السؤال مين بسنت؟
مسدت بيدها على إطار السيارة وهي تجيبه: عربيتي!
حك ذقنه النابتة كمحاولة للتحكم بانفعالاته، ومن ثم عاد لثباته وهو يردف: عربيتك! أمممم.

واستقام بوقفته وهو يحرر بابها مشيرًا بإصبعيه: انزلي حالًا.
وهمس بسخطٍ: وأنا اللي كنت فاكر عمر بخيل لما رفض يجبلك العربية طلع أعقل مني!
إنصاعت إليه وهبطتت لتقابله، لتطرح نظريتها بتفاخرٍ: أنت مش فاهم حاجة ولا عمرك هتفهمني.
كز بأسنانه على شفتيه السفلية بغيظٍ، ومع ذلك تحكم بأعصابه مشيرًا ببرودٍ: اتفضلي فهميني أنا بنصت للي قدامي كويس!

اتسعت ابتسامتها وعدلت من اسدالها بغرورٍ وهي تشرح له: دلوقتي يا ابن الحلال لو واحد مكتئب وعنده تراكمات مش لذيذة بيروح فين؟
زم شفتيه وهو يشاكسها: لو الواحد ده عاقل يعني!
أكدت بإشارة رأسها، فقال بتريثٍ: ممكن لدكتور نفساني.
صفقت بيدها فجأة ففزعته وخاصة حينما صاحت: برا?و عليك، وأنا عملت نفس الشيء.

ضم شفتيه معًا باستسلامٍ لفهم زوجة أخيه، فعادت لتوضح له الأمور الغامضة بالنسبة إليه: بس أنا ذكية حبتين بدل ما أدور على دكتور نفساني يعالجني ويسجلي اعترافاتي الخطيرة اللي تودي لحبل المشنقة، وبعدين يساومني عليها بكل الفلوس اللي أمتلكها، إختارت الشخص الصحيح اللي يسمع البلاوي والأسرار الخاصة بيا بدون ما يفتح بوقه والضمان قدامك.
وركلت السيارة وهي تشير له: جماد لا يسمع لا يتكلم لا يتحرك!

هز رأسه بخفةٍ وهو يردد ببسمة مخيفة: اقنعتيني!
ووضع يديه بجيب جاكيته وهو يدنو منها قائلًا: أسف للمقاطعة بس هو أنتي عملتي أيه بالظبط يوصلك لحبل المشنقة، اعترفيلي يمكن أقدر أساعدك قبل فوات الأوان.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ مضحك، وخاصة حينما شددت عليه: أقولك بس توعدني متقولش لأخوك.
منع تلك البسمة من الظهور، وقال بصرامةٍ وجدية: اعتبريني مشوفتكيش.

ابتسمت وهي تخبره بأريحيةٍ تامة: يعني أوقات بتجسس على عمر وهو في الشغل، الاحتياط واجب بقى أنت عارف.
ضيق عينيه بصعوبة فهم ما تقصده بأي مدى يصل حد مراقبتها، فقالت: زراعاله كاميرا بمكتبه.
جحظت عينيه في صدمةٍ وخاصة حينما استكملت: وأحيانًا بسرق فلوسه ولبسه.

وراقبت الطريق من حولها قبل أن تفصح عن أخر أسرارها: كل ما بيطلب هدوم أون لاين بستلمها بداله من الكريدت كارد بتاعه وبأخدهم لنفسي لإنه كده كده بينسى هو طلب أيه!
اغتاظت تعابيره، فأشار لها بغضبٍ رغم ثبات انفعالاته: اطلعي نامي يا نور بدل ما أعتقلك أنا حالًا!

استمع يحيى لجميع الأطراف والملابسات، وانتظر من حوله سماع حكمه المنصف بالنسبة للسيدات، مرر يده على فمه عدة مرات، وكأنه يحاول إخفاء سخريته التي ظنها غير واضحة، وقال ببسمة هادئة: أنا حقيقي عاجز عن الرد، ومش عارف أقول أيه!
هز حمزة رأسه بتفهمٍ عجيب لحق رزانة جملته: أيوه فعلًا هو الموضوع صعب وميتعرفش يتقال فيه أيه.

استدار تجاهه وأشار إليه بغضبٍ: أنت بالذات متتكلمش خالص، لإنك سبب أي مصيبة بتحصل وهتحصل جوه قصر الجارحي!
لطم صدره بصدمةٍ: أنا!
احتقنت عين يحيى بإشارةٍ مزلزلة، جعلته ينساق خلف صمته، فصاحت يارا بعصبية: لا يا أبيه يحيى خليه يتكلم ويقولنا على الأسرار اللي مخبيها عنهم.
واتجهت نظراتها لعز وهي تصيح بانفعالٍ: عايزة أعرف أيه اللي مستخبي عني بالظبط!

أكدت شذا حديثها: صح يا يارا، محتاجين كلنا نفهم أيه اللي كان بيحصل من ورانا!
رد عليها رعد موضحًا: لا مش من وراكم من قبل ما نعرفكم أساسًا وده في حد ذاته مش مهم!
طرقت دينا على سطح الطاولة بغضب قاتل: وماله يا أخويا نسمع ونقرر مع بعض إذا كان مهم ولا مش مهم!

تأزم على يحيى الموقف برمته، خاصة مع توتر الأجواء، لذا بدأ يلتزم بجديته مع إتخاذ الأمر للخطورة بينهم، فقال: يا جماعة من فضلكم بطلوا تبصوا على الماضي، لإنكم عارفين إن ماضينا كلنا سييء.

ورفع عينيه لبنية القصر الشامخ وهو يتابع بغصة حزن طالت نبرته: القصر ده زمان كان متاح فيه كل شيء محرم قبل دخول آية ودينا وشذا، اللي حصل زمان مينفعش نتحاسب عليه دلوقتي، إحنا اتولدنا من تاني وإبتدينا نبص على الحلال والحرام اللي عمر عتمان الجارحي ما وضعه حد لينا، قوانينه وقواعده كانت بتجمع شمالنا وأملاكنا عمرها ما جمعت قلوبنا ولا جمعت طاعتنا لربنا عز وجل.

وتابع بتأثرٍ شديد: كلنا كنا غارقنين بالمعاصي حتى لو في مننا مرتكبش الكبائر بس مكناش ملايكة، الدنيا لهيتنا ونستنا حساب ربنا وغضبه علينا.

وتجولت عينيه بينهم فوجدهم يستمعون إليه بانصات وحزن يتلون على الوجوه، فعاد يلتشح ببسمته الساحرة من جديدٍ: متبصوش لزمان بصوا لدلوقتي، قدرنا نربي أولادنا على قيم ومبادئ دينهم اللي إحنا متربناش عليه ده في حد ذاته إنجاز. لإن هما اللي هيمدوا نسلنا لسنين جاية، هما اللي هينقلوا تربيتنا ليهم، دلوقتي بنحاول نكون مثالين بس جوه كل واحد مننا شيء يخص الماضي اللي فيه ذنوب، وواجبنا نتوب عنه مش نعاير بعضنا بيه.

وتابع وهو يبعد مقعده عن الطاولة: ربنا ستر خطايانا وعيوبنا مينفعش نيجي بعد العمر ده كله ونفضح اللي ستره، خليكم متأكدين إن ربنا بيحبنا وأكبر دليل وجودهم حولينا، لإن ربنا سيحانه وتعالى كان عايزنا نتغير وهما كانوا السبب في ده.

تركهم يحيى وصعد للأعلى، فانتقلت نظرات رعد لدينا، سكنت عينيه داخلها، تذكر كل لحظةٍ مضاها برفقة تلك الفتاة البسيطة التي أرغمت كبريائه وغروره وجعلته ينحني إليها، تذكر معاناته بترويضها وكيف كانت تتلذذ حينما تكسر قاعدة من قواعد عنجهيته المعتادة، كيف كانت تبتسم خلسة حينما يتخلى عن سيارته ويرافقها بالباص أو تصطحبه لأحد الأماكن الشعبية، كيف نقلت تربيتها لابنائه رائد وداليا وجعلتهما أفضل منه، بالرغم من تمسك رائد ببعض الغرور الموروث عن أبيه ولكنه بالنهاية يحمل منها الخصال العظيمة، التي ترغمه على الاعتذار بصدر رحب دون أي غرور منه، تسللت يده من أسفل الطاولة لتحاوط خاصتها فمنحته ابتسامة أشرقت حياته القادمة لألف عامًا!

لطالما كان آدهم الرفيق المخلص لرعد، حتى كان رفيقه برحلة شروده، انتقلت لفتاته المحتشمة بعدما اعتادت عينيه على مظهر النساء المرتبط بالعري، وكأن الثراء بين الطبقة المخملية مرتبط بالملابس الفاضحة، فأتت إليه تلك الحورية لتهز عرش قلبه، مازال يتذكر أول صدفة جمعته بها ومن صدفة المصعد لصدفة المكتب حينما تفاجئت بأنه مديرها، إلى ذاك اليوم الذي خلصها من هؤلاء اللعناء وكيف بعدها وجد ذاته يعبر لها عن حبه العتيق الذي أثمر عن فتاته الجميلة آسيل وابنه المشاكس جاسم، كيف تمكنت بمفردها من زرع نبتة لم يتمكن هو من مساعدتها بزرعها لإنه لم يتربى عليها من البداية، ضمها آدهم إليه وهو يهمس لها بحنانٍ: آسف.

وإن ذُكر الغرام سيذكر العز ومعشوقته بالمرتبة الأولى، ذاك العشق الخالد الذي وُلد منذ الطفولة، أحبها وأحبته حتى وإن كان غليظًا فظ، ولكنه بأغلب أوقاته عاشقها الرومانسي الذي لم يدع فرصة التقرب إليها، ذاك العاشق الذي عانى لوعة الهجر ظنًا من أنها من تسكن قلب أخيه الوحيد يحيى، وهو ذاته الذي عاد للمعركة بعدما انسحب منها تاركًا لأخيه رأية الانتصار، فعاد حينما ألمه قلبه، عاد إليها وفرحته ازدادت فور كشف حقيقة حب يحيى لملك، أحبها وأرادها لنفسه فقط، أصابه الجنون وهو يحاول أن يمنع عنها نظرات المحاطين حتى وجدها تبتعد عن ثيابها المتحررة وتختار الحجاب بإرداتها، فشعر بأنها وأخيرًا وجد الراحة برؤيتها هكذا، هي تخصه فقط ولا تخص غيره، فتنتها المهلكة تلك لا ينبغي لغيره رؤيتها، وتتبع عشقهما ثمارهما معتز ومروج، مازال يتذكر كم بذلوا من مجهود ليجعلهما تربية صالحة تختلف عما نشأوا به وبالرغم من التعسرات الا أنهما نجحوا بالنهاية، جذبها عز لكتفه فمالت برأسها عليه ببسمةٍ هادئة، وقد صفيت الاجواء بينهما كمعتادها.

انتهت تلك الملاحم بمشاكس العائلة، راقب الجميع بذهولٍ وانتهى بزوجته تالين التي ترمقه بضيقٍ، فاقتربت منه تهمس إليه: كان لزمتها أيه الكلمتين دول، كنت هتولع النار بينهم.
حاوطها بذراعه وهو يخبرها بغرورٍ: الحياة متحلاش غير بشوية بهارات.
وأشار بيده إليهم: مش مهم البداية كانت أيه المهم النهاية وصلوا لفين، وكل ده بفضلي أنا!

زمت شفتيها بسخطٍ: بس أنا بقى زعلانه منك يا حمزة ومتحاولش تلجئ لأحمد أو للمغفل للتاني أنا مستحيل هسامحك بعد ما كنت عايز تحدفني بالكرسي!
هو الآن يدعي صدمته من الأمر باجتيازٍ، وخاصة حينما ردد باستنكارٍ: مين. أنا. معقول أنا أرميكي بالكرسي يا تالي، أنا لو كنت رميتك صحيح فأنا رميتك جوه قلبي يا بت!
ابعدته عنها وهي تصيح بانفعالٍ: ابعد أنا مش مصدقاك ومش هتقدر تضحك عليا المرادي.

عاد ليحكمها داخل أحضانه من جديد وهو يهمس لها بمكرٍ: كده يام أحمد يا غالية عايزة تضيعي علينا فرحة العيد!
لسه على العيد بدري، لما يقرب أفكر أصالحك.
قالتها وهي تنهض عن الطاولة، فلحق بها وهو يصيح: الكلام أخد وعطا، طيب استني طيب أنا مش حمل الجري بتاع المراهقين ده إرحمي قلبي يا ملتهمة الكيوي بقشره!
تعالت ضحكات من يراقبهم من الأعلى، فصاح لمن يجاوره: يستاهل، هو سبب الخناقة تالين هتقتص منه!

رددها يحيى وهو يقف جواره يراقبان الموقف من أعلى التراس، فابتسم ياسين وهو يتابعه، مازال منحني على السور الحديدي يراقب أثر كلماته التي ناشدهم بها بالأسفل، فاستقام يحيى بوقفته بعدما تأكد نجاح مهمته، ليجد ياسين يراقبه بصمتٍ ونظراته تلفظ سخرية مبطنه، فقال بتحذيرٍ: متستهونش بالموضوع مكنش سهل على فكرة!

بقى ثابتًا أمامه، فنال منه حينما تركه وولج للداخل قاصدًا غرفة الضيافة المجاورة لهما، فإتبعه يحيى وهو يردد: طب حيث كده بقى متبقاش تلجئ ليا تاني في حل المواضيع التافهة حل إنت كل شيء.
تمدد ياسين على السرير المجاور للجهة اليمنى، بعدما نزع عنه سترته، وجلس يحيى على السرير المقابل إليه يراقب هدوئه بغيظٍ، فردد بهمسٍ: مفيش فايدة فيك هتعيش وتموت وأعصابك في التلاجة!

اتسعت ابتسامته، وتخلى عن صمته تلك المرةٍ: خايف من كتر نقك ده لما أموت يدخلوني الفرن!
انتابه ذعر مقبض، فصاح به: متجبش سيرة الموت تاني!، ربنا يديك طولة العمر.
وتابع بمرحٍ يحاول إخفاء به دمعة عينيه: ثم إنك هتخش الفرن ليه ما أنت ماشي على الصراط المستقيم أهو ولا تكونش لسه بتلعب بديلك أنت كمان يا دنجوان!

ضم يديه معًا أسفل رأسه على الوسادة، ثم قال وهو يهيم بسقف الغرفة الغريبة التي يرتابها للمرة الأولى: أنا عمري ما كان ليا علاقة محرمة بواحدة ست يا يحيى وأنت عارف كده كويس.
تمدد بجلسته على الوسادة قبالته، وهام بذكريات الماضي، فابتسم وهو يردد باستغرابٍ: كان متاح لينا كل شيء ومع ذلك عمرنا ما ارتكبنا الذنب ده، تفتكر أيه اللي منعنا عن كده؟

وتابع وكأنه يتناقش مع ذاته: عتمان الجارحي كان مش حابب فينا كده، أوقات كنت بحسه هينطقها بشكل مباشر ويقولنا إلعبوا بديلكم بقى!
وتطلع تجاه ياسين وهو يتساءل: تفتكر كان عنده شك في قدراتنا؟!
قهقه ياسين بعدم تصديق لما يقوله، فتعالت ضحكاته الرجولية التي يفرج عنها بالمناسبات الخاصة قط، وقال بصعوبة من بينها: كان عايزنا ننحرف تقصد!
هز رأسه بتأكيدٍ، وأضاف: مهو كان عارف بمصايب ولاد عمك وساكت!

وأضاف بمرحٍ: كنت فاكر إنه شايفنا عاقلين كفايه طلع متضايق مننا ومش طايقنا.
وضحك وهو يخبره: كان نفسي أقوله حفيدك الكبير المبجل متجوز في السر حل عننا بقى!
سلط عسليته إليه ومال بجسده حتى بات يقابله، فقال ببسمةٍ ساخرة: قصدك القفا اللي علم على رقبتي لأول وأخر مرة.
وتابع بثبات مقبض: والله أعلم لو مكنتش آية دخلت حياتي في نفس التوقيت كان حالي هيكون إزاي.

والتقط نفسًا مطولًا وهو يستطرد: مكنتش هسمح لأي واحدة إنها تدخل لحياتي من تاني، خاصة بعد اللي رو?ان عملته معايا، يمكن عشان كده سمحت لتالين إنها تحكي للأولاد كل شيء خاص بالماضي، مكنتش حابب إنهم يتفاجئوا بشيء وخصوصًا عدي وعمر وأحمد وحازم متنساش إنها بالنهاية كانت خالتهم حتى لو كانت بالسوء والبشاعة دي.
هز يحيى رأسه بتفهمٍ، واستقام بجلسته حينما وجد ياسين يحيطه بنظرة زرعت داخله القلق، فتساءل: في أيه!

وكأنه عاد بذاكرته لشيءٍ هام، فقال بضيقٍ: لو كنت حكيتلي من البداية مكنش كل ده حصل!
ابتسم يحيى وقال بغرور: لو كنت حكيتلك مكنتش قابلت آية ولا حبيتها، أنا قدمتلك خدمة كبيرة على فكرة!
عاد ليتمدد مجددًا، وأغلق عينيه باستسلامٍ للنوم، فتمدد يحيى باستقامة على الفراش وصاح بدهشةٍ: هننام هنا!
لم يأتيه ردًا صريحًا منه، فأغلق عينيه وهو يهمس بنومٍ: لو صحيت الفجر صحيني أشرب، لإن مستحيل حد هيعرف إننا هنا!

وسرعان ما غفى لنومةٍ مريحة، ففتح ياسين عينيه يتأمله ببسمةٍ هادئة، ثم أغلقهما ليغفو هو الآخر!

طوى ثيابه ووضعها بالحقيبة الموضوعة على الفراش من أمامه، فعاونته رحمة حينما جذبت عطره الخاص وبعض متعلقاته، وضعتهما بحقيبته ومازالت تدعي ثباتها أمامه، التقط عدي منها ما تحمله، ووضعه جانبًا ثم قربها إليه فأخفضت رأسها حتى لا يرى دموعها، رفع ذقنها إليه فأفرجت عن دمعاتها أمامه، ضم يديه ليزيحها عن وجهها مرددًا بصوته الرخيم: مش مضطرة تخبي خوفك عليا يا رحمة، من حقك تخافي عليا لإنك ليا فيا أكتر ما أنا ليا في نفسي.

وحاوط وجنتها بحنانٍ وهو يستطرد: هرجعلك في أقرب وقت أوعدك.
مالت برأسها على صدره فضمها إليه بكل قوته، وقد عاد ليهمس لها: خلي بالك من نفسك ومن اللي في بطنك.
هزت رأسها بهدوءٍ وقالت بتوسلٍ: حاول تكلمني وتطمني عليك حتى لو مرة واحدة يا عدي.
طبع قبلة عميقة على جبهتها وقال: هكلمك لإني أكيد هحتاج أسمع صوتك.
وأشار لها بابتسامته الساحرة: لسه معانا وقت نقعد ونرغي، كده كده مش همشي غير بعد الفجر.

وإقترب منها وهو يغم بخبثٍ وعينيه لا تترك شفتيها المغرية: ما تيجي أديكي تذكار وداع!
وقبل أن تستوعب مغازلته الجريئة كان يحملها بين ذراعيه ليطفو بها لعالمهما دون مناقشة عابرة، الحديث بتر والأفعال تكفي لتزف أقصوصة حبه لها.

مر اليوم سريعًا واقترب موعد آذان المغرب، ومازالت تنتظر عودته للقصر، فما أن وجدته يهبط من السيارة أسرعت إليه تخبره بضيق: جاسم أنت نسيت صح.
ضيق عينيه وهو يتساءل باستغرابٍ: نسيت أيه!
منحته نظرة محتقنة وتركته وولجت للداخل فلحق بها وهو يخفي بسمته الماكرة، فجلس قبالتها على طاولةٍ الطعام، خرج معتز من المطبخ يحمل الأطباق، فصاح إليه بغضب: ما تقوم ما عم تساعد بدل ما أنت قاعد مريح كده.

لوى شفتيه بسخطٍ، وهو يجذب عنه الاطباق للطاولةٍ، ولج ياسين من الخارج فأسرع إليه رائد يلحق به، فزفر بضيق: قول اللي عايز تقوله يا رائد وخلصني.
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه وهو يخبره: في مؤتمر مهم جدًا، جايلنا دعوة لحضوره وطبعًا أحمد وأنت الأنسب لحضور النوعية دي من الاجتماعات.
بدأ يشعر بالفتور من شرحه المفرط، فصاح به: لخص.

أخرج من جيب جاكيته كرت الدعوة وهو يخبره بكل سرور: أحمد زي ما أنت شايفه كده مش مظبط، لذا مفيش أنسب منك إنك تحضر المؤتمر وده مكان الفندق.
واستطرد بتقدم اغراءات عرضه: أشيك بدلة وصلة من تركيا لصاحب النصيب اللي هيحضر المؤتمر ويكون وجهة مشرفة لشركات الجارحي طبقًا لأوامر ياسين الجارحي هخلي حد من الخدم يوصلهولك لحد باب جناحك، ها كده متفقين؟

جذب الدعوة منه وهو يدفعه بضيق: طب غور بقى مش عايز أشوف وشك لبعد الفطار!

بغرفة المكتب الرئيسية للقصر.
طرقت على الباب قبل دلوفها للداخل، فجلست قبالته تترقب فور انتهائه من توقيع الملفات من أمامه، فأغلقها وهو يردد ببسمة صافية: بنفسك جاية تناديني للفطار؟
هزت رأسها نافية وهي تخبره: لا مش جاية عشان كده.
زوى ياسين حاجبيه وهو يتساءل بفضول: طيب أيه؟
ابتسمت آية وهي تخبره على استحياءٍ: جيت أفكرك بوعدك قبل كل عيد، نسيته يا ياسين.

نهض عن مكتبه وإتجه إليها بخطواتٍ واثقة، فحرر جاكيته وهو يجلس قبالتها مرددًا: مستحيل أنسى طبعًا، يومين أرتب نفسي وننزل نشتري للدار كلها لبس العيد، فرحتهم بدخولنا كل عيد متتعوضش يا آية.
اتسعت ابتسامتها وصاحت بحماسٍ: أنا بأحبك أوي وحبي ليك بيزيد يوم عن يوم.
دنا منها حتى بات قبالتها، فهمس وعينيه لا تفارقها: وأنا بعشقك!

بالخارج
اجتمع الشباب حول الطاولة، يتناولون طعام الافطار بعدما انطلق الآذان، فما أن انسحب ياسين ويحيى وكبار العائلة حتى جذب جاسم كوب العصير الفارغ والملعقة، فطرق ليستحوذ على اهتمامهم مردفًا: انتباه يا سادة، انتباه.
ردد حازم بسخطٍ: أيه هتوزع علينا التموين ولا العيدية!
جذبه رائد بغضب: يا عم اتنيل لما نشوف حكايته أيه هو كمان.
صاح عمر بضجر: عدي سابنا وفلسع هنشوف مواهب!

نهض جاسم عن الطاولة وإتجه لزوجته التي تراقبه بضيقٍ، فتفاجئت به يجذبها إليه وهو يصيح: النهاردة كلكم معزومين برة على حسابي بمناسبة عيد جوازنا أنا وداليا.
تعالت صيحات الفتيات المحمسة، وكانت آسيل أول من تحدثت بينهن: بجد يا جاسم طلعت بتفهم، أخيرًا هنخرج.
جحظت عين أحمد بصدمة: مين اللي بيتكلم! حبيبتي أنتي مش هتلحقي تطلعي تلبسي هيغمي عليكي كمان شوية.

جذبت داليا القهوة الساخنة إليها، قائلة بحزم: اشربي فنجانين تلاتة كده وفوقي عشان ورانا طالعه!
راقبها أحمد وهي ترتشف الكوب بنهمٍ، وصاح ساخرًا: وفري مجهودك يا داليا مستحيل حاجة هتقصر فيها!

بالأعلى وبالأخص بغرفة ياسين.
ولجت مليكة للداخل ببعض الارهاق، فتفاجئت بوجود كيس من القماش الفخم على الفراش، فتحته وهي تراقب تلك الحلة الفخمة السوداء، لوهلةٍ اختلط عليها الأمر بينها وبين البذلة الانيقة التي إرتداها بليلة زفافهما، فأسبلت بتوترٍ، وخاصة حينما لمحت لجواره دعوة خاصة لأحد الفنادق الفاهرة، انقبض قلبها ورددت بارتباكٍ: رايح يقابل مين!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة