قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

تصلبت يدها على قميصه الملتصق بجزءه العلوي تأثرًا بقوةٍ تشبثها به، ورعشة يدها تنقل له ما تشعر به في تلك اللحظةٍ، رأسها مطموس أرضًا خجلًا مما فعلته فإلتصقت بظهر ياسين الذي تمكن من الشعور من شهقاتها المكبوتة، فمد يده للخلف يتمسك بيدها ويمرر إبهامه على أصابعها برفقٍ وطبطبة تطمنها بأنه لن يتخلى عنها حتى وإن هددها مسبقًا بأنه لن يساندها أمام عقاب ياسين الجارحي الغاضب.

سُلطت نظراته الثابتة عليهما، والصمت يعتلي ملامحه فخضعت ياسين إليه حينما قال بتوترٍ: عمي محصلش حاجة، أنا منعت الصحافين ينشروا أي صورة خاصة بمليكة، وأوعدك إن اللي حصل ده مش هيتكرر تاني.
لم يحيل نظراته عن ابنته المتخفية خلف زوجها، فطال صمته مجددًا ومعه ازداد توتر ياسين المترقب لسماع ما سيقول، فمزق جلباب صمته المهيب حينما قال بهدوءٍ: سبني مع بنتي شوية.

ازداد تعلقها به، وكأنها تتوسله بإشارة يدها الأ يتخلى عنها، فظل محله صامدًا أمام ربكة مخالفة أمره، وردد بحرجٍ: عمي أرجوك الموضوع بسيط.
بالرغم من وداعة ملامحه الأ أن نبرته حملت بعض الصرامة حينما قال بخشونة: إرجع جناحك يا ياسين، متعودتش تعارضني في شيء عشان تعملها دلوقتي.

كانت معركة يغلبها انطباعه لاحترام عصب العائلة، ولو كانت خسائره قلبه المتألم، سيصمد على أمل عشرته لياسين الجارحي الذي لم يلجئ للعنف قط بتربيته الإيجابية لأبناءه، فعاد يشدد بإبهامه على أصابعها وكأنه يبث لها الأمان، وتحرك بخطواته الواسعة لجناحه ويده تنقبض بغضبٍ قاتل للموقف السخيف الذي وضعتهما به، فولج لجناح يخطو ذهابًا وإيابًا دون توقف، فشعر وكأنه على وشك الجنون من فرط تحليه بالصبر لعودتها إليه.

تنحيه عنها جعلها تشعر وأنها عارية دون ستار يحمي جسدها من السقيع القارص، فأدمت وجهها للأرض خجلًا لما فعلته، انقبض قلبه حينما تقدم منها أبيها، فبات لا يفصلهما الكثير، راقبها بنظرةٍ ثابتة ويده موضوعة بجيب سرواله، مازالت تترقب سماع صوته الغاضب لما إرتكبته، فأتاها يلبي إنتظارها حينما ردد بهدوءٍ عاكس توقعاتها: بتتحامي في جوزك مني يا مليكة!

رفعت عينيها إليه على استحياءٍ، وتحرر لجام لسانها الثقيل حينما قالت: أنا أسفة يا بابا، أنا غلطت وعارفة ده.

فتح ذراعه إليها وضمها إليه بحركةٍ فجأتها، غلبتها عاطفتها لما تعرضت له بداية من وقوع الدعوة بيدها ونهاية من مطاردتها له، فتعلقت به وهي تفرغ ما كبت داخلها من بكاءٍ صداه مسموع، كالطفلة الصغيرة التي تتعلق بأبيها باكية بصوتٍ صاخبٍ، ومع ذلك بقى صامتًا لم يعاتبها بعد بخطيئتها التي تعدت على أحد أبنائه، وليكن منصفًا أقربهما، لا يعلم بمعزة ياسين بقلب ياسين الجارحي سوى رفيقه يحيى، لذا لم يجد لابنه إسمًا يضاهي تلك المعزةٍ سواه، ربت بحنانٍ على ظهرها حتى هدأت تمامًا بعد قرابة العشر دقائق، ولم يبعدها عن ثدره قط الا حينما ابتعدت هي لتزيح دموعها بيدها وهي تستطرد بحرجٍ: أنا مكنتش قاصدة أحرج ياسين ولا أحرج حضرتك.

وعبست بطرف حجابها المنسدل بإهمالٍ وهي تخبره: وكنت متأكدة إن ياسين مش بيعمل حاجة غلط بس معرفش ليه مشيت وراه!

تثنى له مفهم مغزى حديثها، والمفهوم شمل مضمون خروجها من المنزل وصولًا للحفل، أنصت لها جيدًا والمبشر بصبره خضوعها للخطأ الذي إرتكبته دون أن يكون حازمًا معها، لذا بدى ودودًا يستمع لها حتى أنتهت، فرفعت عينيها إليه تترقب ما سيقول بارتباكٍ، فأشار لها لأقرب مقعدين مجاورين للنافذة الزجاجية العمالقة، جلست قبالته تنصت لما سيخبرها به، فقال ببسمةٍ هادئة: الغيرة اللي جواكي دي شيء غريزي في أي ست، بيجي لحظات كتيرة الست بتحس فيها إن جوزها مقصر معاها ومش شايفاها، فبتبتدي تفسر كل تصرفاته بالطريقة اللي تناسب تفكيرها، مثلًا لو اتخانقوا بسبب أي شيء يبقى أكيد عمل كده عشان يخرج من البيت أو عشان أي سبب يرضي العاصفة اللي دايرة جواها، واللي حصل بينك وبين ياسين مكنش له توابع قبل كده، أنتي بنفسك قولتي إنكم مكنتوش متخانقين يبقى كل ده إتخلق جواكِ من العدم!

ابتلعت ريقها بتوترٍ، فاسترسل على نفس الوتيرة: الست لازم تكون عاقلة يا مليكة، أولًا ياسين مش الشخص اللي الشيطان خيلك إنه ممكن يكون كده ولا حد من ولاد عمك فيه الطبع ده أنا عارف أنا ربيت أولادي إزاي!
ثانيًا إنتِ باللي عملتيه ده مش بس عرضتي جوزك للإحراج بيه إنتي عرضتي نفسك قبله وده شيء ميلقيش ببنت ياسين الجارحي!

وتعمق بالتطلع لعينيها وهو يردد ببطءٍ يجعلها تستوعب ما يقول: أنا سمحت ليكم تنزلوا المقر والشركات بس عمري ما سمحت إنكم تنزلوا الحفلات اللي من النوع ده، لإني عارف اللي بيحصل فيها وقادر أتوقع الغضب اللي كان جوه ياسين في اللحظة دي.
وبقسوةٍ اعتلته فجأة صاح: أنا لو حد لمح مراتي بعين هصفيله التانية.

سرعان ما استرد ثباته حتى لا يزيد ألمها، فقال برتابةٍ: أنا واجبي كأب هقدملك النصيحة وعمري ما كنت قاسي معاكي إنتي بالذات عشان أجي وأعملها دلوقتي.
وابتسم وهو يردد: إنتي بنتي الوحيدة لو قسيت على الدنيا كلها مش هقدر أعملها معاكي!
رمشت بعينيها بحزنٍ، فاستكمل وهو يربت على يدها الموضوعة على ساقها: إختارتلك ياسين من بينهم بس قبل ما أعمل ده هو سبقني وإختارك.

وتابع وهو يشير لها: إرجعي جناحك وإعتذريله، أنتي لو كنتي ناضجة كفايا كنتي شوفتي الخوف اللي مالي عيونه عليكي من أبوكِ نفسه، وهتشوفي أد أيه إنك هبلة لما سمحتي لشكوك تدخل لعقلك من نحيته!
رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها الباكي، فنهضت ونهض معاها يحثها على العودو لجناحها، خطت خطوتين وعادت إليه مجددًا، تحتضنه بلطفٍ فابتسم وهو يحيطها بذراعيه، هامسًا بمرحٍ: الحضن ده ياسين اللي محتاجه مش أنا!

ضحكت بصوتٍ أشرق وجهه الباسم، فأحاط خدها بحنان وهو يشير بعسليته: يالا روحيله.
وبخبثٍ استطرد: قبل ما يجراله حاجة وهو بيفترض اللي هعمله فيكِ!

هزت رأسها وإنصاعت إليه، فغادرت لجناحها ومازالت عينيه تراقبها حتى تخفت من أمامه، فما أن استدار حتى وجدها تقف من خلفه ببسمتها الرقيقة، فاقتربت منه ولفت يدها حول يده قائلة بحزنٍ مصطنع: أنت سيطرت على الأولاد كلهم يا ياسين حتى عدي بقى معاك ودلوقتي مليكة، سبتلي أيه أنت بقى فهمني!
استدار إليها ليضمها بنظرة عينيه العاشقة، هامسًا بصوته المغري: سبتلك قلبي مش كفايا؟!

جاب الجناح ذهابًا وإيابًا وللمرة الثالثة منع نفسه من العودة إليها خشية من أن يدمس إحترام عمه، فلم يكن من السهل عليه التحكم بانفعالاته وعقله اللعين يرسم له ألف سيناريو سييء، رُدت روحه إليه حينما وُجد الباب يفتح وتدنو للداخل إليه، أسرع ياسين إليها يتساءل بلهفته: مليكة عملتي أيه؟
لم تجيبه بقيت تتقدم للداخل بصمتٍ دفعه ليتساءل مجددًا بسؤالٍ أكثر وضوحًا: عمي قالك أيه؟

بقت ساكنة ودمعاتها تنسدل بخنوعٍ، فتقدمت من الفراش وجلست منخفضة الرأس، باكية بندمٍ لما فعلته، وما يؤلمها رؤيته يكاد يقتل من الخوف عليها بعد ما تسببت هي له.
حالتها تلك دفعته لافتراضات قاتلة، فانحنى بقامته قبالتها يرفع رأسها إليه ويعود لسؤالها من جديد بقلقٍ: قوليلي اللي حصل أنا على أعصابي، عملك حاجة؟
هزت رأسها نافية، وبالرغم من صمتها الا أنه وجده مؤشر جيد لمتابعة أسئلته: طيب عاقبك بشيء؟

منحته نظرة منكسرة وانخفضت عن الفراش للأرض زاحفة لأحضانه، تبكي وهي تردد بألمٍ: أنا أسفة، سامحني يا ياسين.
أغلق عينيه بقوةٍ وهو يجابه قلبه الخائن، لم يعتاد يومًا ردعها بعيدًا عنه، فأحاطها بذراعيه بحنانٍ، حتى إستكانت تمامًا على كتفيه، لدرجةٍ أوحت له بغفلتها، فنادها برفقٍ: مليكة إنتي نمتي؟
قالت بتعبٍ بدى بصوتها المحتقن من فرط بكائها: هنام إزاي وأنا وجعاك وجاية عليك.

أبعدها عنه ليتمكن من رؤية عينيها المتورمة، فقال بحنانٍ: أنا مش زعلان منك عشان أتوجع.
برقت بعينيها بدهشةٍ، فتابع مرددًا: أنا كل اللي شاغلني أنتِ شوفتي مني أيه خلاكي تفكري كده، أنا مسبقش اديتك فرصة توصلي لمرحلة الشك يا مليكة!
وتابع وهو يزيح دموعها بأنامله عن وجهها: وكل ما بهدى وبحاول أحتويكي تعملي شيء ينرفزني أكتر، وخصوصًا لما حسيت بخوفك مني!

وسألها بألمٍ لم يتمكن باخفائه: هو أنا سبق ومديت إيدي عليكي عشان أعملها دلوقتي!
أنا طول عمري راجل معاكِ مش عليكي!
واستطرد موضوحًا جملته الأخيرة: مش هفرض رجولتي عليكي بإني أمد ايدي عليكي يا مليكة وده اللي وجعني مش اللي عملتيه!
أخفضت عينيها أرضًا مجددًا وهي تردد: حقك عليا أنا بس استغربت لما لقيتك آ...

وبترت كلماتها بتوترٍ جعله يستقيم بجلسته الغير مريحة، فنهض بها للفراش وهو يتابع باهتمامٍ: أيوه بقى استغربتي من أيه، أفهم!
رمشت بعينيها بحرجٍ، فصاحت به وهي تشير على ما يرتديه: نازل ومتشيك كأنك رايح تتجوز مش نازل شغل!
زوى حاجبيه بصدمةٍ، فألقى على نفسه نظرة سريعة قبل أن يردد بدهشةٍ: يعني أنتي عملتي كل الليلة دي عشان البدلة!
وتابع ساخرًا: لو عجبتك أوي كده هخلي رائد يجبلي الكولكشن كله.

لكمته بغضبٍ وهي تهدر بانفعالٍ: يبقى مش هتنزل من هنا لشغلك تاني.
ابتسم وهو يراقبها بنظراته الجريئة، فتهربت من لقاء عينيه وخاصة حينما قال بمكرٍ: طب بالمنطق لقيتني لابس شيك غازليني قوليلي كلمتين حلوين مش ترميني بتهمة قاتلة زي دي!
حدجته بنظرةٍ مغتاظة فتعالت ضحكاته وهو يشير لها بأنه سيتوقف عن السخرية، فحاول إلتزام الجدية وهو يسألها: قوليلي ياسين الجارحي قالك أيه طيب؟

كبتت ضحكة كادت أن تنفلت منها، ففركت يدها وهي تخبره على استحياء: قالي حضن جوزك أولى بيكِ.
قهقه عاليًا وهو يضمها إليه متعزلًا بخبث: وماله يا روحي تعالي!
ضمها إليه طالبًا وصالها بكل عشقٍ، فلبت دعوته بصدرٍ رحب، لاحتياجها إليه لجوارها، وفجأة انطلق هاتفه وتوالى رنينه دون توقف، فأبعدته وهي تشير له: تليفونك بيرن!
أجابها مازحًا: ما يرن، أكيد جاسم.
حذرته بجدية: شوف مين يا ياسين.

ابتعد وهو يحدجها بغيظٍ، فإتجه للمقعد ثم جذب هاتفه من جاكيته، فهمس باستغرابٍ: ماما!
ورفع صوته قليلًا وهو يتساءل: هي مش ماما في القصر يا مليكة؟
جذبت مئزرها وهمت إليه، مرددة: معرفش، أخر مرة شوفتها كانت هنا!
حرر زر الإجابة وهو يجيبها: ألو. أيوه يا حبيبتي.
تقوست معالمه فجأة وقال: أيه مالك!
حاضر هجيلك بس قوليلي إنتي فين!
بملامح مندهشة قال: السطوح! تمام أنا جاي.

وأغلق الهاتف وإنحنى يرتدي قميصه مجددًا، فتساءلت مليكة باستغرابٍ: مالها طنط ملك؟
زم شفتيه وهو يجيبها: معرفش، بس بتقول إنها فوق.
وطبع قبلة على جبينها مرددًا ببسمة جذابة: شوية وراجع.
هزت رأسها بتفهمٍ، فعاد ليقترب منها مجددًا غامزًا بمكرٍ: أطلبلها بابا يطلعلها ونكمل كلامنا.
دفعته مليكة عنها وهي تحذره بعصبيةٍ: لا أنا مش هسمحلك تنشأ بيني وبين طنط ملك عداوة الحموات، من فضلك إطلع شوفها عايزاك ليه!

ردد ساخرًا: أنشأ عداوة! ماشي طالع.
وفتح الباب ثم استدار إليها يحذرها: أوعي تنامي!
ضحكت بصوتها كله، وقالت بمرحٍ: متخافش يا حبيبي أنا مش آسيل!
ضحك هو الآخر وغادر على الفور، فجلست على الفراش تراقب طيفه ببسمة هادئة.

بالمطعم.
اجتمع الجميع حول الطاولة التي تحوي العصائر وقالب الجاتو الضخم، ومن حولها كانت تجلس الفتيات برفقة الشباب، يتناولون الجاتو بجوٍ من المرح، إلى أن قطع معتز الاحاديث الجانبية بينهما مردفًا بذهول: نور أنا شايفك اليومين دول كده هادية ومش بتثيري أي مشاكل هو في أيه أنتي كويسة؟
لكزه رائد بغيظ: في أيه يا عم أنت هتحسدها ولا أيه!

ضحك الجميع، فرددت نور بعنجهيةٍ: لأ متفرحوش أوي كده، أنا قولت إحنا في شهر فضيل كفايا عليكم شهور السنة.
وتابعت وهي ترتشف عصيرها بتلذذ: لينا عودة في العيد إن شاء الله.
زم حازم شفتيه غاضبًا: يا ريتك مسألت.
وتابع بضيق: لو الأهلى إعتزل نور عمرها ما هتعتزل حزب الحفاظ على حقوق المرأة اللي مورطنا فيه ده.
ضحك رحمة ورددت: في أيه يا حازم أنت داخل حامي على نور ليه، دي حتى قاعدة محترمة ومش بتضايق حد نهائي.

ابتسمت لها وهي تصيح بغرور: قوليلهم يا روما، دول مش بيحمدوا ربهم أبدًا ويسيبوني كده أعبد ربنا في شهره الفضيل بدةن ذنوب النم على مصايبهم!
انفجر الجميع من الضحك، فصاح جاسم بحزم: لا بقولكم أيه بلاش تزعلوا نور السهرة لسه في بدايتها بلاها نكد.
ومال على زوجته يهمس بحبٍ: كل سنة وإحنا مع بعض يا حبيبتي.
برقت بعينيها وهي تشير له: جاسم احنا مش لوحدنا الله.
تساءل مازن باستغراب: هو فين عمر؟!

أجابه رائد بدهشة: مش عارف كان هنا من شوية!

أعلى القصر.
وصل ياسين للأعلى يفتش عن والدته، فتفاجئ بوجود عدد مهول من البلالين الحمراء والشموع التي تحيط بالطاولة المزينة بحرافيةٍ، أجواء شاعرية استحاذت على إعجابه، وسقطت عينيه عليها توليه ظهرها ومن جوارها والده يحاول إرضائها، اقترب منهما وتنحنح عساهما يشعرون بوجوده، فما أن استمعت إليه ملك حتى أسرعت إليه تشكوه: ياسين تعالى يا حييبي شوف أبوك واللي بيعمله فيا.

اتجهت نظراته لأبيه الذي كز على أسنانه بغيظٍ، قائلًا: هو أنتي مش بترتاحي غير لما تشكيني لأي ياسين في القصر، مرة ياسين الجارحي ومرة لابنك المرة الجاية هتشكيني لابن عدي!
كبت ياسين ضحكاته بصعوبة، وتساءل بتسليةٍ: عملت أيه يا حاج، أنا سترك وغطاك متقلقش.

زفر وهو يوليه ظهره بغضب، فصاحت ملك بغضب: أبوك المحترم طول النهار بيطردني من أوضتي وبيعاملني معاملة قاسية أوي ويوم ما يقرر يصالحني مطلعني فوق السطوح مستكتر عليا يخرجني بره في أي أوتيل، يرضيك كده!
قالت كلماتها الأخيرة وهي تنساق لذراعه تبكي عليه، فأحاطها إليه وهو يقطع ضحكاته بعدم تمكن، وكأنها تشكوه لوالده وليس ابنه، فردد بثبات مخادع: معلشي يا ماما يمكن مكنش عنده وقت يخرج مع حضرتك!

هدرت بانفعال: وكان عنده وقت يحطلي شموع والكلام الأهبل ده!
ضحك بصوته كله وقال بصعوبة بتوضيح حديثه: عندك حق.
وأشار اليها قائلًا: طيب سبيني أوضحاله أنا.
هزت رأسها بتأكيدٍ، فتركها ودنى ليقف جوار أبيه المبتعد عنهما، فتحلى بالصمت لجواره إلى أن وجد الوقت المناسب فقال: متخرجها في مكان كويس زي ما هي عايزة!

استدار تجاهها بغيظٍ تمرد ليجعله غاضبًا للغاية، وفجأة تلاشى عنه حينما وجد ذاته مغلوب على أمره وبالنهاية قد أقحمته ملك بالأمر، فقال بتريث: يا ابني أخرجها فين الفجر قرب يأذن مش هنلحق نرجع البيت ولا آ...

واستدار عنه وهو يطرق ساقه بنزقٍ من الحديث مع ابنه عن أمر لن يستعبه، ولكنه أخطئ بالحكم عليه سريعًا وقد أتى له خلاف ذلك حينما وجده يضحك دون توقف، فمنحه نظرة تحذيرية، فمنع ذاته عن الضحك وهو يردد: خلاص أنا آسف.
ثم مال عليه مردفًا بخبث: خرجها النهاردة تنال الرضا بكره!
صفق كف بالاخر وهو يصيح به: أخرجها النهاردة وأرجع أطردها تاني بكره ونصالح بخروجه تانية وتالتة والحال هيتعدل أمته يا حبيبي!

ضم ياسين كفه بمقدمة أنفه وقد تساقطت دموعه من فرط الضحك، حتى يحيى تحول بعدما كان ساخطًا على ضحكاته انجرف معه للضحك فمال بجسده عليه، سانده ياسين بقوة ومازال يضحك هو الأخر، ليأتيهما صوت ملك المتعصبة: بقى أنا مطلعاك تشوفلك حل مع أبوك واقف تحكي وتضحك معاه، مفيش فايدة فيك يا ياسين هتنصر أبوك عليا العمر كله.
ابتعد عنه ياسين وهرول إليها حتى بات قبالتها يهمس بغمزة خبيثة: كنت بتكلم معاه يخرجك ووافق.

اتسعت ابتسامتها وهي تردد بعدم تصديق: بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ، فجذبه يحيى من تلباب قميصه ليهمس بأذنيه بغيظ: وافقت أيه، أنت معايا ولا معاها.
حرر ياسين قميصه الثمين من قبضة أبيه، ولف ذراعه من حوله وهو يهمس له متصنعًا الضحك لوالدته التي تتابعهما بدهشة: مشي أمورك يا باشا، قضوا السهرة في أي كافيه وبعد كده باتوا في أي فندق وإن شاء الله تلحق السحور وصلاة الفجر.

حسب ما قال بتمعنٍ وحينما وجده حل مناسب لهما ربت على كتفه ببسمة ماكرة: ذكي زي أبوك.
وأشار لها بحبٍ: أنا عيوني ليكي يام الغالي، أحلى سهرة في المكان اللي تحبيه.
أشرقت شمسها المنطفئة واتبعته للخارج، فتركها وعاد للخلف يشير بيده: أبقى لم الليلة لأتفضح!
ضحك ياسين وهو يخبره: متقلقش، هقوم أنا ومليكة بالليلة بدالك!

بادله يحيى الضحك وهو يغمز له مردفًا: ناس تتعب في الطبخة وناس تأكل على الجاهز، يلا اعتبرها مكافأة ليك بعد ما رضيت الحاجة على الحاج المسكين.
همس ساخرًا: الحاج اللئيم!

دق هاتف نور للمرة الثالثة، ولم تستطيع سماع صوت عمر المتصل من صوت الزحام حولها، فأشارت لرحمة قائلة: هطلع أكلم عمر بره وجاية مش سامعاه من الدوشة اللي هنا.
أومأت برأسها، فما أن نهضت نور من مقعدها حتى أشار رائد لحازم قائلًا: .
خليك وراها يا حازم، مينفعش تقف بره لوحدها من غير راجل.

هز رأسه بتفهمٍ ولحق بها للخارج، وفجأة تلقى رسالة نصية على هاتفه جعلته يعود بملامح ممتعضة، بينما استكملت نور طريق خروجها، فأختارت زواية منعزلة عن الابواب الخارجية ورفعت هاتفها تطلبه، انتظرت لدقيقةٍ ولم يأتيها رده فأعادت الهاتف لحقيبتها واستعدت للعودة، فتصلب جسدها حينما أحاطتها يد تكبت فمها عن الصراخ، وقوة تحبرها على التراجع بعيدًا عن مرمي البصر وخاصة بتلك الزواية المتوارية عن الأعين، ارتحف جسدها وانخطف لونها بشكلٍ مقبض جعل الأخير يديرها إليه وهو يردد: متخافيش يا حبيبتي ده أنا!

استردت أنفاسها رويدًا رويدًا، واستندت على الحائط من خلفها بانهاكٍ جعل عمر يردد بندمٍ: أنا آسف متعمدتش أخضك، أنا كنت محضرلك مفاجأة وآ.
تخلت عنه كلماته حينما وجدها تطالعه بذعرٍ مازال يسيطر عليها، فانفجرت به: خضتني يا عمر أنا كنت هموت من الرعب.
لمس ذلك باصفرار وجهها، فأحاط وجهها بيديه وقال بلهفة: طيب خلاص آهدي وخدي نفس.

هدأت أنفاسها قليلًا وما أن استعادت جزء من اتزانها حتى تساءلت بحماسٍ: مفاجأة أيه بقى اللي عاملهالي أنا كنت عارفة إنك مستحيل هتفوت عيد جوازنا بالبرود ده.
ابتسم وهو يراقب فرحتها، وقال: بصراحة يا نور أنا كنت بحضرلها من سنة ونص تقريبًا وحظك إنها انتهت في رمضان وقرب عيد جوازنا.
واستطرد قائلًا: ومش أنا لوحدي اللي عاملتها، بابا وماما وعدي مشاركين معايا فيها.

طاق بها الفضول، فتساءلت بنفاذ صبر: طيب ما تتكلم أنا اتحمست.
أشار بوجهه للسيارة المصفوفة جانبًا: يلا بينا.

بالداخل.
جلس حازم باهمال على المقعد، فنهره رائد وهو يبحث حوله باستغرابٍ: نور فين؟
زفر وهو يخبره بضجر: معرفش.
جحظت عينيه بصدمة، وصرخ بانفعال غير مصدق لبروده بالحديث: يعني أيه متعرفش أنا مش منبه عليك متسبهاش!
جذب حازم هاتفه وألقاه إليه على مضض، ليجد رسالة عمر إليه تنير الشاشة
«ارجع مكانك يا هازم اللذات، مش عارف استفرض بمراتي! ».

أعاد له الهاتف بضحكة مشاكسة، فردد حازم بسخط: واحنا هنقعد ليه ما تقوموا نرجع!
تطلع له معتز وجاسم ومازن باستغراب، فصاح ساخرًا: عدي مسافر، ياسين ومليكة واختفوا، أحمد وآسيل طالعوا اتقتلوا فوق، ودلوقتي عمر ونور والله العظيم العيال دي بتفهم أنا عن نفسي هأخد مراتي وراجع وخليكم بقى احتفلوا باستاذ جاسم لحد ما الفجر يأذن عليه هنا.

وجذب نسرين المنصدمة عن المقعد وهو يتمتم: في حد ييحتفل في رمضان بره بيته أيه الغباء ده!
وغادر تحت نظرات الجميع المندهشة، فنهض معتز هو الأخر وهو يشير لزوجته مرددًا بمزحٍ: والله الواد ده أول مرة يقول حاجة صح، كملوا سهرتكم. هخلع أنا.
وغادر بها هو الأخر.
فجذب مازن مروج ولحق به وهو يصيح: استنى يابو نسب معيش عربيتي هتسبنا نرجع مواصلات!

خلت الطاولة من الشباب الا رائد وجاسم الذي ردد بضيق: شوفت ولاد عمك الواطين.
حك جبهته وهو يجيبه: أنا بقول نلم الليلة ونرجع احنا كمان، مش طفينا الشمع ولبستها العقد اللي جبتهولها فل أوي كده، بينا نرجع عشان شكلنا بقى مش تمام واحنا قاعدين على أكبر تربيزة فاضية!
انت شايف كده؟
هز رأسه بتأكيدٍ وهو يضيف: ده الصح، أنا هأخد رحمة ورانيا وأنت هات مراتك وحصلني.

وغادر رائد بهما وهو يخفي ضحكاته، حتى وصل لسيارته واتبعه جاسم من خلفه بسيارته.

أدمعت عينيها تأثرًا بما تراه، فعادت تتطلع إليه بعدم تصديق، فأكد لها بهزة رأسه وصوته الدافئ: حلمك يا نور. وزي ما رسميتها بالظبط حتى الألوان من جوه تحبي تشوفيها؟
انهمرت دمعاتها تباعًا بعدم تصديق، لحق نبرتها المرتجفة: مش معقول يا عمر. مش قادرة أصدق!

أشار عمر للحارس الذي فتح البوابة من أمامهما لتصبح في مقابلة الحديقة المفعمة بالأزهار التي لطالما عشقت رائحتها، ومن أمامها تلك البناية المزينة باللون الزهري والتي تحمل لافتة عريضة «مدرسة نور للمكفوفين».

رفعت قدميها لتعبر إليها فتفجأت بعدم وجود الدرج من أمامها، جسر من الحشائش الخضراء الناعمة أحاطت بقدميها، فجعلتها تبتسم بعدم تصديق هي كما رسمتها حقًا، حينما صنعت نموذج صغير وضعت به كل ما كان يأذيها حينما كانت كفيفة كانت تتلاشاه برسمتها لتلك الحالات التي فقدت أمل التعافي مثلما تعافت هي، استدارت لزوجها الذي يراقبها باهتمامٍ، فهبطت إليه تحتضنه وهي تردد بفرحةٍ: أنا بأحبك أوي.

وابتعدت تتمسك بيده وهي تشير للجسر: زي ما رسمته بالظبط.
ابتسم وهو يخبرها: ولسه من جوه.
وجذبها ليصعد بها للأعلى، مرددًا: تعالي.

اتبعته نور للداخل فتفاجئت بألوان الحوائط المبهجة، وتنظيم حافة الدرج بقماش مقوي حتى لا تتأذى الأقدام، ترقرقت دمعاتها من عينيها حينما تذكرت حديثها مع عمر سابقًا عن حلمها ببناء مشفى لعلاج المكفوفين وبعد فترة وحيزة من حقق حلمها، وعادت تخبره مرة أخرى بحلمها بمدرسة تتبنى تعليم المكفوفين، بما حُرمت منه وها هو يعود من جديد ليفاجئها، أفاقت من شرودها على صوته الرخيم: كانت المفروض تخلص من زمان بس إنتي عارفة الظروف اللي عشناها الايام اللي فاتت مع عدي كانت عاملة ازاي.

أمسكت يديه وتطلعت تجاهه بحبٍ يفوق ما تكنه داخلها، مرددة: أنا مش عارفة أقولك أيه يا عمر، الفرحة دي كبيرة أوي عليا، أنا بأحبك أوي وآ.
تلاشت كلماتها ورددت بتوتر: مش عارفة أعبرلك عن حبي ليك.
اقترب منها وهو يتأمل لمعة عينيها بسعادةٍ، فطبع قبلة على جبينها وهو يردد: فرحتك دي عبرتي عن كل شيء يا حبيبتي، عايزك كده دايمًا سعيدة.
هزت رأسها وهي تمازحه بمشاكسة: سعيدة وهادية صح.

واستطردت بفخر: وعشان تصدق إني عدت بسمع كلامك بطلت أطلع عين ولاد عمك وسبتهم في حالهم تمامًا، كده أفضل.
تلاشت ضحكاته وعاد للوجوم وهو يتفوه بتريثٍ: لا عايزك ترجعي تاني تبقي زعيمة العصابة، أهو على الأقل بتكلمي بني آدمين أفضل من لجوئك لبسنت!
إندهشت من معرفته للأمر، فبرر قائلًا: عدي موصيني عليكي قبل ما يسافر، وحكالي أخر حكايات جنانك!
لكمته بغضب: إخص عليك يا عمر أنا مجنونة.
لأ أنا يا روح قلبي متزعليش.

وأشار لها وهو يرفع ساعته إليها: يلا نرجع نكمل كلامنا في القصر النهار هيطلع علينا هنا، وفي كلام كتير لسه هنقوله!

تلاشى ضوء القمر المعتم وتلألأت الشمس بردائها الأصفر المتوهج لتعلن عن يومًا جديد بعد أن مر أكثر من أسبوعين قامت به آية بإختيار الملابس المخصصة لأطفال الميتم، واليوم هو المعهود للعائلة بقضائه كاملًا مع الأطفال، فبعد أن انتهت العائلة من السحور حتى استيقظ الجميع لترتيب أفخم وأجود أنواع الأطعمة بكميات هائلة، أشرفت عليه آية والفتيات بأنفسهن، حتى انتهوا من صنع ما يتعمى الربُعمائة واجبة، ومنها إنتهى الشباب من شراء الألعاب والحلوى، فتجهزت السيارات بالألعاب والطعام، وتحركوا جميعًا لميتم آية الرحمن، فالتف الأولاد من حولهم بفرحة، فقام عمر وياسين وأحمد والشباب بتوزيع الألعاب، بينما شارك ياسين الجارحي حفيده بتوزيع ملابس العيد برفقة الشباب.

أما الفتيات فتعاونوا جميعًا بصنع مائدة ضخمة من الطعام، استعدادًا لآذان المغرب الذي أوشك على الانطلاق، فوضعن العصائر والمقبلات والواجبات على السجاد المطول أرضًا بحديقة الميتم النظيفة، وجلس آل الجارحي أرضًا متفرقين بين الأطفال والفتيان، يشاركونهم الطعام، الابتسامة لا تفارق وجوههم وبالأخص ياسين الجارحي الذي مسد على ظهر حفيده وهو يخبره: الملجئ ده خليه في أساسياتك دايمًا يا ياسين، أنا بعز المكان ده وعايزك أنت كمان تهتم بيه.

ابتسم الصغير وأجابه: أكيد يا جدو، أنا مش ناسى إنه كان السبب في رجوعي لبابا.
ومال إليه يهمس بفرحة: تيتا حكيتلي لما حضرتك شيلتني وسكت معاك!
وتابع بابتسامته المبهجة: عشان تعرف إني بعزك من وأنا بيبي!
ضحك ياسين وأجابه: مش عارف طالع لمض لمين؟!
جذب الملعقة المدموسة باللحم، يتناول ما به بثباتٍ، انتقل لجملته: مش عايز أطلع لحد غيرك!

ابتسم وهو يتابع كل رد فعل ولو صغير لحفيده، ومن ثم تعلقت عينيه بزوجته التي تطعم الصغار بسعادة تسر قلبه هو، وللشباب بأكملهم، لا يعلم لماذا انتابه الحنين بتلك اللحظة لشبله الشرس، الا يكفيه فراق خمسة عشر يومًا وقد أصبح العيد على المشارف، لقد وعده مسبقًا بأنه سيعود بأقرب وقت، أفتقده، أفتقده كثيرًا ويود أن يضمه لصدره، ابتسم ياسين حينما تذكر مشاكساته المتبادلة معه على الدوام، ليته يعود فقد توحش صدره ألمًا لفراقه.

مستحيل كنت أفوق يوم زي ده!
كلمات ترددت على لسان عدي الذي أخفض حقيبة ظهره عنه، فاستدار ياسين للخلف ليجده يقف قبالة عينيه، ركض حفيده إليه وهكذا اندفعت رحمة الصغيرة لأحضانه، فانحنى يضمهما إليه ونظراته تحيط بأبيه الذي نهض واقترب إليه مسرعًا، وكأنه قد تخلى عن مكانته ورزانته المعتادة، فنهض ورنا إليه، ليتفاجئ به يضمه إليه وهو يعاتبه بكلماته المقتضبة: فين وعدك ليا؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة