قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع

أحاط قلبه الطمأنينةٍ فور رؤيته يقف قبالة عينيه، سالمًا، معافًا، لا يصيبه خدشًا ولو صغيرًا، ابتسامته تنير وجهه الذي لا تحول عنه عينيه، استقبله بجملته التي تكررت على مسمعه بوضوحٍ: وعدتني إنك هترجع على طول، ده وعدك ليا يا عدي؟
منحه ابتسامة هادئة وهو يخبره: متأخرتش دول هما كلهم 15يوم!

بقى هادئًا أمامه وعسليته لا تحيل عنه، فمزق ذاك الصمت حينما قال بوجعٍ: كانوا 15 سنة بالنسبالي، وجودك جنبي بخير وسلامة كان كفيل يخليني أحط رأسي على مخدتي وأنام وأنا مرتاح.

سابقًا كان يخشى البوح بحبه الكبير لإبنه حينما كان شرسًا لا يقوى أحدٌ على ترويضه، والآن وبعدما تمكن من ذلك لا ينفك يستغل كل لحظة بينهما ليعلمه كم يعني له؟، جذبه ياسين لاحضانه، فلمعت عين عدي تأثرًا حينما وجد أبيه يحتضنه بقوةٍ شابٍ لا يتعدى عمره الثلاثون، شعر بقوة عضلاته التي كادت بتهشم جسده، فأوحت له بمشاعره الجياشة، فانهمرت تلك الدمعة على خده ويده تضمه إليه، وما أن وجد والدتم ترنو إليهما حتى أزاحها بإبهامه سريعًا، وابتعد يقابلها ببسمةٍ هادئة، فانزوت بأحضانه وهي تردد بفرحةٍ: حمدلله على سلامتك يا حبيبي، كنت خايفة متحضرش معانا العيد السنادي.

ابتسم وهو يجيبها: ودي تيجي، العيد ميبقاش عيد غير وسطيكم.

وانحنى يقبل يدها باحترامٍ، فأحاطت خصلات شعره بأصابعها، وتحركت جانبًا حينما اتجه الشباب بأكملهم يحاوطنه بسعادةٍ ويتبادلان السلامات، ومن خلفهم كانت تقف رحمة تراقبه بعينٍ مشتاقة، متلهفة إلى لمحه من وسط ذاك التجمع الرجولي، أغدفت عينيها حزنًا حينما لم تلمح سوى كتفيه، انقضت خمسة عشر دقيقة ومازالوا يتبادلون المزح، إلى أن إستأذن عدي من بينهم وإتجه إليها، اتسعت ابتسامتها فرحةٍ، وبدت مرتبكة بما ستفعله، وجودهما بحضرة الجميع يكتف نطاقها المسموح، لذا تمسكت بيده وهي تناديه بلهفةٍ: عدي!

شدد من ضمه لأصابعها الرقيقة بين جلده الخشن وهو يهمس لها بعاطفةٍ: وحشتيني.
تهربت من ضمة عينيه الجريئة، وهي تردد على استحياء: وأنت كمان وحشتني أوي.
واسترسلت بارتباكٍ: كنت زعلانه إني مش هقدر أقدملك هدية عيد ميلادك بس الحمد لله إنت رجعت.
احتل ثغره ابتسامة عذباء، ورفع يده يحتضن وجهها المفعم بطيات الخجل، ليخبرها بمشاعرٍ مغرية: إنتي هديتي.

مرر عينيه بنظرةٍ خاطفة للخلف، وحينما لمح انشغال الشباب باللعب برفقة أطفال الميتم، اقترب منها فتراجعت للخلف استجابة ليديه التي تدفع يدها كتفيها للخلف، حتى توارت عن الأعين خلف مجموعة الأشجار الصغيرة المحاطة للدار، فما أن ابتعدوا عن مرمى الجميع حتى ضمها إليه وتمسكت هي به بقوةٍ أيقظت رغباته العاشقة إليها، ربت بحنان على حجابها وهو يعود لهمسه الهادئ: مفيش داعي للبكى أنا خلاص رجعت!

قالت ومازالت تستند على صدره: رجوع مؤقت، أنت خلاص رجعت شغلك يعني دي مش أخر مرة هتسافر فيها!
ابتسم وهو يخبرها: فترة البعد القصير دي بتقوي علاقة الحب.
وابتعد وهو يغمز لها بمشاكسةٍ: حلوة اللقاء بعد الغياب لحظات نادرة، كفايا الحضن ده!
ضحكت وهو تضرب صدره بيدها: عدي!
مال برأسه ليستند على جبينها وهو يردد بحبٍ: وحشتيني والله!

بالخارج.

جلس ياسين على الطاولة والمقعد البلاستيكي، يتابع فرحة الأطفال بالالعاب المقدمة إليهم من الشباب، فقام أحمد وياسين بفتح العلب لهم، بينما استمتع حازم بالركض وهو يحمل أحد الأطفال المعاقين على كتفيه وهو يفرد ذراعيه كأنه يحلق به والصغير تتعالى ضحكاته الصاخبة، أما الفتيات فأحاطن نور وشروق ومليكة لتزين أظافرهم بطلاء الأظافر وبعض تسريحات الشعر التي تسر قلوبهم للغاية، بينما ترافق بعض الصغيرات مريم ورحمة وليان باللعب بالدمى، وتبقى هو يرتشف قهوته بهدوءٍ وهو يتابع الجميع بنظرة رضا وخاصة زوجته التي تنحني رغم كبر سنها لتعاون أحد الأطفال بارتداء وانتقاء ما بناسبه من ملابس العيد دون ملل، انتبه ياسين لابنه يقترب منه، فجذب المقعد وجلس قبالته يردد: خلاص يا بابا وزعنا كل اللعب واللبس.

منحه ابتسامة محبة وهو يربت على يده: عظيم.
وعاد يرتشف من كوبه بشرودٍ، ثم تساءل بتذكرٍ: قدمت الهدية لنور؟
ابتسم عمر وهو يخبره: في يومها على طول.
اتجهت عسليته إليه ليعود سؤاله بحماسٍ: وعجبتها؟
هز رأسه موكدًا: جدًا جدًا.
ربت مجددًا على يده بحنان: ربنا يسعدكم يا حبيبي.
واعتدل بجلسته وهو يخبره بجديةٍ احتلت معالمه: عمر أنا عايزك تفكر في نور شوية.

برق بعينيه بدهشةٍ، جعلته يزدرد ريقه وهو يتساعد بقلقٍ: هي نور اشتكت مني ولا أيه يا حاج.
ابتسم وهو يجيبه بمكرٍ: يا ريت، مفيش شكاوى بتجيني منك نهائي يا عمر، طول عمرك مش بتاع مشاكل وفي حالك وعمري ما اتدخلتلك في شيء لإنه مش موجود.
التقط نفسًا مطولًا وهو يردد براحةٍ: طب الحمد لله.
وحينما وجده يتطلع إليه بثباتٍ قاتل، فزم شفتيه برعبٍ: يعني أقلق!

ألقى جسده العلوى للطاولة حتى يضمن اقترابه من ابنه، ثم قال بصوته الرزين: نور بتحاول تكون كويسة بس الحقيقة عكس كده.
باهتمامٍ قال: مش فاهم حضرتك عايز تقول أيه؟
أوضح له، حينما قال: هدوئها ده مش من طبيعتها، قرب من مراتك وشوف مالها.

شرد بكلماته، يمتلك كل الحق، نور ليست ذاتها صاحبة المئة وسبعون مشكلة، هي ليست تلك الفتاةٍ المشاغبة التي لا تنفك عن صنع شجارًا مع أبناء عمه، وإن لاحظ ياسين الجارحي بذاته الأمر فهذا يعني بأنه ملحوظ للجميع ولم ينتبه هو إليه! إتجهت عينيه إليها ليجدها مازالت تضع طلاء الأظافر لطفلة صغيرة تمنحها ابتسامة عذباء والاخيرة تبتسم لها بفرحةٍ، صفن بها مطولًا ومازال يبحث داخله عن مفتاح مغارة المرأة السرية!

ركل الطفل الصغير الكرة للأخر، الذي فقد السيطرة عليها فانجرفت تجاه قدم أحمد الذي تلقفها وخطى بها بحرفيةٍ، ليشارك الأطفال لعبة كرة القدم، فتعالت صيحات الاطفال بحماسٍ، وخاصة حينما دفع أحمد الكرة تجاه الشباب مناديًا: ياسين.

تلقفها ياسين بقدمها وهرع إليه يشاركه باللعبة، وانضم إليه جاسم ومعتز وحازم ورائد بمرحٍ، فعادت المعركة تحتدم بينهم حيث لا مجال لمشاركة الصغار، فاصطفوا جانبًا يصفقون بحماسٍ ومراقبة لمهارتهم، ركض معتز وهو يصيح لحازم العالق بفريقه أمام المرمى: خلي بالك يا حازم.
كان يقصد أن ينتبه لأحمد الذي يركض بالكرة ليصوبها بالمرمى، فشل حازم بصد الكرة، فصاح به جاسم بغضب: غبي قولنالك خلي بالك!

ضحك وهو يحك جبهته التي تلقت ضربة الكرة مرددًا بحزنٍ مصطنع: مينفعش أردهاله ده أخويا الكبير بردو يا جدعان!
أشار معتز لجاسم بغضبٍ: شيل الحيوان ده وأقف مكانه هنتغلب كده!
ترك حازم المرمى وهو يصيح بانفعالٍ: هتطردني من الجنة يعني، أنا أساسًا لاعب حريف ماليش أقف هنا.
عادت المعركة لشراستها، فسدد ياسين الكرة بالشبكة ولم يتمكن جاسم من سدها، صاح حازم بغرور: متزعلوش طول ما أنا معاكم هنتساوى.

وركض بالكرة بكل حماس متجهًا ليسددها تجاه جاسم الذي يشير للجهة الاخرى صارخًا: مش هنا يا غبي، بالشبكة التانية عند مازن! أنا في فريقك!
اتجهت الكرة لتصيبه أسفل بطنه بعدما ركلها حازم بكل بسالةٍ وتفاخر، سقط جاسم أرضًا يتأوه ألمًا مرددًا من بين اصطكاك أسنانه: هقتلك، وربي لأقتلك.
كبت معتز ضحكاته بصعوبة، فربت على كتف جاسم وهو يتساءل: أنت كويس؟!
منحه نظرة مغتاظة جعلته يشير إليه: هقف بدالك.

اعترض مرددًا بعصبية: لأ. أنا عايزك تطلعه بره الفريق!

راقبان معًا ما يحدث بدهشةٍ وعدم تصديق، فاستكان عمر بجلسته جوار عدي الذي تساءل ساخرًا: ملعبتش مع الشباب ليه؟
استدار برأسه إليه وهو يردد بغضبٍ: ألعب! أنا دكتور محترم ماليش في لعب الكرة أنا.
التقط عدي حبات التسالي يلتهمها، مشيرًا بإعجابٍ: لا عاقل يا دوك!
علي رنين هاتفه، نهض عمر عن مقعده وهو يشير بيده: شوية وراجع.

وإتجه بهاتفه للسور الجانبي بعيدًا عن أصوات الشباب الصاخبة في محاولةٍ للحديث من المريض بمكانٍ هادئ.

علي الجهة الأخرى كانت الكرة خاضعة لفريق ياسين وأحمد، حتى أصبحت تتدحرج أسفل قدم حازم، فرفع ساقه في محاولةٍ لإدعاء الحرافية، وإصابت أعلى الشبكة مثلما يفعل المحترفون، فمرت الكره من فوق السياج الحديدي مندفعة بقوة ليد عمر الحاملة للهاتف، فسقط للأسفل من قوتها، ارتعب الجميع حينما هوى جسد عمر عن السياج للأسفل، ليختفى عن أعين الجميع.
هرع ياسين عن طاولته وهو يصيح بذعرٍ: عمر، ابني!

ركض الجميع تجاه السياج المحاط بالدار من جميع الاتجاهات الا من ذاك الجزء المتهالك، فكان من السهل الانحراف عن مساره ليسقط به على الرصيف، ركضوا خارجًا فكان عدي الأسرع إليه حينما عاونه عن النهوض، والأخر يتأوه وهو يحمل ذراعه الأيمن، فما أن وجد الجميع يحيط به بقلقٍ كان بارزًا على وجه أبيه الذي تساءل بلهفةٍ: أنت كويس؟
أجابه ببسمةٍ هادئة يخفي بها ألمه: وقعة بسيطة.

جذب حازم ذراعه يتفحصه قائلًا بحزنٍ: مقصدتش والله يا عمر، وريني دراعك كده.
تأوه بصوتٍ مسموع، جعل ياسين يشير لعدي: خد أخوك للدكتور يشوف ده كسر ولا كدمة.
هز رأسه وأحاطه بذراعه، فأسرع أحمد للسيارة قائلًا: هسوق أنا.
اعترض عمر على مبالغة الأمر، فقال: يا جماعة الموضوع مش مستاهل أنا كويس جدًا.
رد أبيه بقلقٍ وهو يتفحص ذراعه: إيدك ورمت، شكله كسر.
وشدد على أوامره بصرامةٍ: اتحرك يا عدي.

إنصاع إليه وتحرك به للسيارة، فأصرت نور على الذهاب برفقتهم، ولم يتمكن أحدٌ من إقناعها بالبقاء، فصعد عدي جوار أحمد وبالخلف عمر ونور، ليتحرك بهم سريعًا للمشفى.

عاد الجميع للقصر بعد وداع حافل بالمحبة لاطفال الميتم، وإتجه البعض للجناح الا ياسين بقى بالأسفل يترقب عودتهم بقلبٍ يكاد يقفز من بين أضلعه، حمد الله بأن لم يلاحظ أحدٌ ما حدث لعمر الا نور والشباب، والا كانت ستصيب آية بالجنون لجواره، خطى بخطواته التي تصدح على رخام القصر بصوتٍ مسموع حتى وصل للشرفة الزجاجية فما أن وجد السيارات تعود لچراجٍ القصر، حتى أسرع إليهم، هبط عدي أولًا ففتح الباب لأخيه الذي هبط يلف ذراعه بالجيبرة، إلتاع قلب ياسين لما رآه، فصاح غاضبًا: كنت عايز تطنش الموضوع!

فشل باخفاء ضحكة فلتت منه، فحدجه ياسين بنظرةٍ قاتمة جعلته يحاول السيطرة على ضحكاته بصعوبة، يشعر وكأن ياسين الجارحي قد جُرد من كل شيء ليصبح ذاك الأب الذي يخشى على ابنه الصغير بينما يجابهه بالطول، فتنحنح وهو يردد بحزن مصطنع يخفي من خلفه سعادته: وفي النهاية سمعت كلام حضرتك، صح يا عدي؟
هز عدي رأسه وهو يربت على كتفه ساخرًا: طول عمرك محترم وبتسمع الكلام.

رددت نور بغضب: أنت بتتريق عليه وانت شايفه بالحالة دي من سبق وحش كاسر لا تشعر بالاخرين.
وأحاطت ذراعه السليم وهي تردد بحنان: تعالى يا حبيبي أنت تعبان ومحتاج ترتاح.
رفع أحد حاجبيه باستهزاءٍ: أنا ايدي اللي اتكسرت مش رجلي!
وهمس لها وهي تصر على أن تسانده للأعلى: نور سبيني أنا بمشي!
أجابته بعناد: مش هسيبك أنا لما بتعب مش بتتخلى عني!

ابتسم وهو يضمها إليه، ليصعد من خلفها للقصر ومن خلفه الشباب، فلحق بهم حازم وهو يردد بتأنيب: أنا مكنتش أقصدك أنت كنت حابب أسجل في التاريخ ضربة محترمة جات فيك أنت بقى.
تعالت ضحكات الشباب الرجولية، فقال ياسين بمرحٍ: أنت فاشل في كل حاجة حتى الكرة!
صاح متعنجهًا: أهو الفاشل ده خلى ياسين الجارحي يفقد زمام أموره قدام اصابة الواد عمر التافهة.

ضيق عمر عينيه بغضبٍ، وصاح بشراسةٍ: طب أيه رأيك أكسرلك دراع ونشوف الأمر تافه ولا أيه الدنيا.
ابتلع ريقه بارتباكٍ، وأسرع من خطواته وهو يشير له: مين قالك إني هظهر قدامك تاني!

بالخارج.
بقى عدى بمفرده يخطو بالحديقة شاردًا، مازال عقله شاردًا بالمهمة التي وُكل بها حتى بعد أن انتهوا ثلاثتهم منها على أتم وجه، ولكن بقى ذلك الخيط عالقًا بذهنه لا يتركه أبدًا، فعاد بذكراته لما حدث بالأيام الأخيرة وبالأخص بتلك الليلة.
##.

ولج للداخل مسرعًا، فأغلق الباب من خلفه، ثم هرول تجاه الفراش، في محاولةٍ بائسة لايقاظ أحدًا منهما، وحينما فشل، صاح بعنفوانٍ: اللي خططنا ليه كله طلع وهم، يعني تحالف الشياطين اللي بنفتخر بيه طلع في احلامنا الوردية بس!
ازاح عدي عنه الغطاء، ومنحه نظرة من عينيه الناعسة، فجاهد النوم مرددًا بتكاسلٍ: نام يا مراد. والصبح نبقى نشوف حكايتك أيه!

ومال بجانبه حتى لا يتمكن الجوكر من ايقاظه مجددًا، مط مراد شفتيه بصدمةٍ من رد فعله، فاتجه للجانب الاخر، وهز أخيه وهو يصيح به: رحيم. المهمة فشلت من قبل ما تبتدي!
زفر بضجرٍ، وابعد يده عنه ثم مال بجسده جوار عدي، فكاد مراد بأن يكرر فعلته، ليتفاجئ به ينهض بجسده ليحذره بشراسةٍ: ايدك لو جت عندي تاني هتطلع من غيرها. طفي النور ده وخلي يومك يعدي. مهمة أيه اللي فشلت ده في أحلامك.

حاول الحديث ليخبره بالجديد بعد مراقبته لاخر التطورات، فحذره بزيتونية عينيه بالا يصدر الضوضاء مجددًا، وجذب الغطاء ليتقاسمه بينه وبين عدي، وزع مراد نظراته المغتاظة بينهما، فجذب سلاحه وتطلع للضوء بنظرة ماكرة: عايزين هدوء. عنيا.

واطلق رصاصه فانهمرت شرارة الضوء على الفراش، لينتفض كلاهما بفزعٍ ونظراتهما الخطيرة تجوب الجوكر الذي ينفث فوه سلاحه بانتصارٍ وتحدٍ، وبشراسةٍ صاح بكلاهما: جيورت اللي جاينا من مصر عشانه اتقتل هنا في نفس الاوتيل.
رمش عدي بصدمةٍ، وتساءل: اتقتل ازاي؟
وأضاف رحيم بدهشة: وأيه اللي جايه الاوتيل اللي إحنا فيه!

وزع نظراتهما الساخطة بينهما، وجلس على المقعد باسترخاءٍ تام بعدما نجح بايقاظهما، وبعد قليل من اسدال صمته صاح: مفيش غير إجابة واحدة بس، إن اللي وراه عرفوا إننا كشفناه فبالنسبالهم بقى كرت محروق عشان كده قتلوه.
هز رحيم رأسه بخفوت، وأدمى شفتيه السفلى بغيظٍ: عملتهم في الفندق ده بالذات غرضها إنهم يبينولنا إنهم كشفونا!
نهض عدي عن محله، وهمهم بغضب: يعني أيه هنرجع مصر من غير ما نكشف عن الإرهاب ده!

قال مراد بثباتٍ: مش هيحصل، اللي حصل دمر طرف الخيط اللي كنا هنمشي وراه بس على هندور على طرف جديد ونهايته هيكون كشف الاقنعة عن الشياطين دول.
اقترب رحيم من الشرفة، يحررها عن مخضعها وهو يحاول التحكم بغضبه، واستدار فجأة إليهما يخبرهما: الناس دي مستحيل تكون موجودة هنا في بريطانيا، رجالتهم هنا لكن مش ده مكانهم.
ردد عدي بعد تفكير: هنحاول نجمع أي معلومات خاصة بجيورت ال ده أكيد هنوصل لحاجة.

فرقع رحيم بأصابعه وهو يردد: بالظبط. ولازم نتحرك من دلوقتي.
إتجه كلا منهم لخزانته لانتقاء ما يناسبهم، وتفرقوا جميعًا للبحث عن أي شيء يساعدهم بالعثور على طرف خيط جديد يدلهم على هؤلاء اللعناء الذين ابتكروا نوعًا مدمرًا من السموم البيضاء لم يسبق لافراد الشرطة بالتعامل مع تلك الأنواع، وما زاد الأمر تهربيها لداخل مصر وغيرها من البلاد العربية، وأسوء ما يحيط بهم من تمكن من صنع ذاك العقار المدمر!

الأيام مرت حتى تمكنوا معًا بالقبض على مجموعة من الاطباء يترأسهم شاب صغير، عالم تمكن من ابتكار ذاك العقار، والذي اعترف بجريمته كاملة وقدم دفتر يحوي طريقة صنع هذا المخدر القاتل، نجحوا ثلاثتهم بمهامهم وعادوا لمصر ولكن عقله لم يرتاح أبدًا حتى تلك اللحظة.
التقط عدي هاتفه، طلب رقمًا وترقب سماع صوت الجوكر الذي أجابه ساخرًا: لحقت أوحشك!
بجدية تامة لا تحتمل أي نقاش قال: مراد قابلني حالًا بعربيتك.

تساءل بقلقٍ: في حاجة ولا أيه؟
اتجه لسيارته وهو يسترسل حديثه عبر الهاتف: لما هقابلك هتعرف، قابلني في مطعم، عازمك على السحور.
أجابه ساخرًا: متنازل عن السحور ده يا عم!

بالأعلى وبالأخص بجناح عمر.

تمدد على الفراش بتعبٍ شديد، وسرعان ما غفى بنومه، وبين أحضانه نور التي تتمسك به ومازال النوم لم يزور منامتها الغير مريحة، انقضت ساعة كاملة ومازالت تحاول، اعتراها حزنًا جعل عينيها تدمعان من فرط كا يشغلها بتلك اللحظة، فتسللت عن الفراش وعينيها تراقب عمر لتتأكد من غفوته، فتسللت خارج غرفة نومهما للردهة الفاصلة بين غرفة الاطفال وغرفة النوم، فاتجهت للأريكة الموضوعة بأحدى الاركان، وبيدها ألبوم من الصور جذبته من الداخل بحذرٍ، لتقضي وقتها خلسة باصطحاب أوجاعها.

شعر بانسحابها من جواره وحرصها الشديد الا يشعر بها، فاتبعها عمر للخارج، ليجدها تجلس باكية وعينيها لا تترك شيئًا غير واضحًا إليه، فتسلل ليقف خلفها بالتحديد فوجدها تتأمل صور ابنتهما الراحلة حلا، صدق أبيه حينما أخبره بأنها ليست على ما يرام والآن يجد البرهان أمام عينيه، وضعت نور يدها على فمها وضغطت بكل قوتها حتى لا يخرج عنها أي صوتًا قد يوقظه، لم تعلم بأنه شعر بها منذ الوهلةٍ الأولى.

برقت بعينيها بصدمةٍ حينما أحاطت يده كتفها، فاستدارت للخلف ببطءٍ لتجده يقف قبالتها، أغلقت نور الصور بفزعٍ، فنهضت عن الأريكة تخفي خلفها الألبوم وهي تجاهد لرسم بسمة صغيرة والتحلي بنبرتها المرحة: لسه بدري على السحور أيه اللي قومك؟!
منحها نظرة تخللت داخلها، وخطفها ليدها الموضوعة خلف ظهرها، فانتشل ما بيدها وهو يردد بحزنٍ: بتخبي عني أيه يا نور؟

ترقرقت الدموع على عينيها خشية من أن تثير حزنه، لطالما كان يتوسل لها الا تحفر بتربة الماضي المؤلم، هو أيضًا مازال يتألم بالنهاية ابنته. فلذة كبده، ولكن ماذا سيفعل تلك هي إرادة الله عز وجل.
بقى صامتًا قبالتها، عينيه هي من تعاتبها فخرجت عن صمتها حينما رددت ببكاءٍ: غصب عني يا عمر، بقالي فترة بشوفها بالحلم.
وانفجرت باكية وهي تردد: احساس الذنب مش راضي يسبني، أنا اللي كنت السبب في موتها يا عمر، أنا السبب.

خرج عن طور هدوئه حينما قال: تاني يا نور تاني!
جلست على الأريكة تبكي دون توقف، وكلما احتد بها البكاء تزيحه سريعًا قبل أن تثير عصبيته تجاهها، راقبها عمر بضيقٍ، فجذبها إليه بذراعه السليم وهو يردد بحزن: لما بتدارى وجعك مني ده بيوجعني أكتر!
وربت بحنانٍ على كتفيها وهو يسترسل: حبيبتي اللي حصل ده مكنش بايدك ولا بإيدي، ده مقدر ومكتوب، وربنا سبحانه وتعالى خصنا إحنا بيه.

وطبع قبلة على جبينها وهو يخبرها: ربنا عوضنا بحلا وعدي في أحسن من كده؟
رفعت رأسها تتطلع إليه بحبٍ، بالرغم من محاولتها للتغلب على حزنها، فمنحته ابتسامة هادئة وانزوت بأحضانه وهي تهمس له: أنا بحبك يا عمر، ومش عايزة حاجة من الدنيا غير إني أشوفك سعيد ومرتاح معايا.
ضمها إليه بقوةٍ، وبعشقٍ قال: هبقى سعيد ومرتاح لما تبطلي بكى وابتسامتك متفرقيش أبدًا.

وأبعدها عنه ليقترب منها ملثمًا رموشها بقبلةٍ، مسترسلًا بحنان: مش عايز أشوف دموعك دي تاني يا نور.
هزت رأسها وهي تختبئ داخل أحضانه من جديدٍ خجلًا من نظراته وحبًا بالبقاء داخل أسارير أمانها.

توقفت سيارة مراد مقابل المطعم المشار إليه هاتفه، أغلق باب السيارة واتجه للداخل يبحث عنه حتى وجده يجلس على أحد الطاولات المقابلة للمياه، سحب مراد المقعد وجلس قبالته طارقًا بيده بغيظٍ: اديني سبت كل شيء وجتلك، خير؟
حدجه عدي بنظرةٍ غاضبة، جعلت الاخير يتدلى ببسمة مغتصبة: اتفضل قولي مالك وأنا سامع!

زفر بمللٍ، وبدأ يحرك ساقه بعصبية وكأنه يحاول الاستعداد لما سيقول، ففاه: مراد أنا طلبتك هنا عشان أنت هادئ وعاقل وهتقدر تفهمني، أخوك مش هيديني فرصة أتكلم أساسًا.
ضم شفتيه معًا، وأشار: اتكلم يا عدي في أيه، قلقتني؟!
التقط نفسًا مطولًا وهو يتساءل: فاكر أخر يوم لينا في الفندق ده، لما في ولد صغير إختفى ووالدته كانت عاملة دوشة في المكان.

هز رأسه وهو يستطرد بتذكرٍ التفاصيل: أيوه ووقتها طلعوه غرقان من البحر، ربنا يرحمه ويصبرها.
وعاد يتساءل بحيرةٍ: أيه دخل الحادثة دي باللي أنت عايز تقولهولي!
راقب عدي المكان من حوله، واقترب بنصفه العلوي من الطاولةٍ حتى بات قبالة الاخر، ليستمع لما سيقول جيدًا: الولد ده دراعه كان مليان أماكن لأبر حقن كتيرة، وكأن موته دي مكنتش طبيعية.
زوى حاجبيه بضجرٍ، وصاح: يا سلام، ما جايز كان مريض وبيتعالج.

أجابه عدي بنفس الثبات: أماكن الأبر كان كتير أوي يعني الشخص ده مريض مرض مزمن، أيه يخلي أبوه وأمه يروحوا مكان للمصيف وابنهم حالته خطيرة كده!
واسترسل بحدةٍ: جرى أيه يا مراد ده انت ظابط مخابرات والتفاصيل المفروض متفوتكش، أنا ظابط عادي وهرشت الموضوع!
بدى حائرًا لا يعلم ما يود الاخر قوله، فردد بنفاذ صبر: أنت عايز تقول أيه؟

رد عليه بحزمٍ بعدما جمع الخيوط باكملها: وجود جيورت بالفندق ده مكنش متدبر، لإن الفندق ده تابع ليهم، وده معناه اننا متكشفناش من أصله، وإن الدكتور الساذج ما هو الا واحد منهم شال الليلة عشان الموضوع ينتهي، والدليل الولد اللي مات في نفس الفندق وشكوكي نحيته إنه فار تجارب ليهم، يعني الموضوع أكبر مما نتخيل، الموضوع مش مرهون على السم اللي اخترعوه الموضوع مرهون على حاجات أكبر من كده بكتير أوي يا مراد، اللي فات ما هو اللي بداية لشيء مخيف جاي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة