قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل العاشر

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل العاشر

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل العاشر

الحب نار مشتعلة اللهيب ولكن الفراق هو من يخبت تلك النار رويدا رويدا ويحيلها إلى شعلة بسيطة ثم إلى رمادا يتخلله ألم الذكرى...
الفراق يجعلنا ندرك أننا لم نعد نشعر. لم يعد لمحيطنا معنى ولم يعد لأي شيء نفعله لذة.
الفراق يضاعف الألم، ثم يجعله يختفي ببطئ، حتى ندرك أن أقل شيء نفعله يعيد للرماد النار، يحييها من جديد، فيعود الألم حيا كما كان وكأننا أصبنا بجرح الفراق توا، لندرك أيضا أننا مازلنا، نهتم.

كانت (إيستاف) في (إسطبلات القبيلة) تمشط شعر آخر حصان، فنظرت إلى عينيه العسليتين لتتوقف يدها متجمدة وهي ترى في مقلتيه (جيوم) وكأنه يتجسد أمامها، نفس لون العيون ونفس النظرة المستجدية لها وكأنه طفل صغير يتعلق بثوب أمه يبغي صحبتها وحنانها أغمضت عينيها وهي تلتفت موالية إياه ظهرها، شعرت ببعض قطرات الماء تبلل وجهها، فتحت عينيها ومدت يدها تتحسس تلك القطرات الندية على وجهها...

تبا! مازالت تبكيه. مازالت تنعي فراقه. مازال الجرح حيا بعد أن ظنته تماثل للشفاء، مازال لهيب قلبها مشتعلا لفراقه بعد أن ظنته خمد وتحول إلى رماد. مازالت أسيرة الذكريات. أفاقت من شرودها على صوت (لولان)تقول بقلق:
(إيستاف)هل أنت بخير؟
نظرت (إيستاف)إلى (لولان) و(لاتويا)اللتان تحملان بعض القش، يطالعنها بقلق. لتمسح دموعها بكمها قائلة بهدوء:.

نعم أنا بخير، فقط حزينة بعض الشيء فالعجوز (بارتولوميو)مازال يعاقبني بالمقاطعة، عزائي أن غدا هو اليوم الأخير لنا في هذا العقاب المقيت، هيا أنهيا مهامكما فالشمس أوشكت على المغيب ومازال أمامنا الكثير لننهيه.
ثم إلتفتت تعاود تمشيط الجواد بعملية وسرعة تتحاشى النظر في عينيه، بينما تبادلت كل من (لاتويا)و (لولان)النظرات تدركان أن دموع صديقتهما وراءها شيء آخر. ربما تفتقد شيء ما. أو على الأحرى، شخص ما!

مهما إدعينا جمود مشاعرنا وتبلد أحاسيسنا تجاه أحدهم نلين حين نراه أمامنا، ومهما أحببناه فآذانا، واهتممنا به فتجاهلنا، ومنحناه كل مالدينا فبخل علينا بقربه وحنانه. نضعف أمام كلمة إعتذار يمنحنا إياها.
مهما أقسمنا أننا لن نهتم ولن نعود ولن يضعف الوتين حزنا لفراقه فعند الفراق يختفي القسم ويزول قناع الجمود، وتظهر فقط كوامن الأنفس لنعترف بالحقيقة. وهي أننا، مازلنا نهتم!

قفز (جيوم)من فوق جواده، يسرع إلى الخيمة التي نقل إليها الجنود أباه، ليسرع إلى موضعه، توقف متجمدا يتأمله بقلب يتألم، يراه وهو ضعيف نائم، . يئن قلبه لضعفه، نظر إلى الطبيب وقال: كيف حاله أيها الطبيب (ميشيل)؟
ربت الطبيب على كتفه قائلا: أنت تؤمن بمشيئة الرب يا(جيوم) ومشيئته تقتضي أن نبتر ذراعه كي ننقذه. لا مناص من ذلك.

نظر إليه(جيوم)بصدمة، ثم نظر إلى والده، الرجل الذي تهتز له أركان فرنسا ويخشاه أباطرة الإسبان، لن يتحمل أن يستفيق فيجد يده مبتورة، ربما تخلص من حياته وقتها، فالموت أهون لديه من ذلك، ولكن (جيوم)غير مستعد بعد لفقده، ولن يتحمل الفكرة، ظهر التصميم على وجهه، وإتقدت عيناه بالعزيمة وشبح شخص ما يظهر في مخيلته. قال للطبيب بحزم:.

لن نقوم ببتر الذراع! لدي من يستطيع أن يعيده كما كان، فقط إنتظر قليلا، إن وجدت وضعه أصبح خطيرا وأنا لم أعد بعد فقم بما يجب عليك فعله أيها الطبيب.
أومأ الطبيب برأسه قائلا: كما تشاء يابني.!
ألقى (جيوم)نظرة أخيرة على والده قبل أن يهرع خارجا من الخيمة ليقول ل(بيير )الذي تبعه بحصانه:
دع حصانك هنا وهيا معي!
ثم هرول نحو السيارة ليتولى القيادة بسرعة، سأله (بيير)قائلا: إلى أين؟

إلتمعت عينا (جيوم)وهو يقول: إلى (ييفيا).
ثم قاد السيارة وعينا (بيير)تتسع دهشة.
الحقد والكراهية و الغل هم مصدر الشر في المجتمع وعوامل هدم لبنيانه.
هم حكم مسبق تجاه فئة معينه أو مجموعة من الناس.
هم العنصرية كما نعرفها. والرغبة في إبادة الطرف الآخر او أذيته.

هم عفن يتلف نفس صاحبهم. ليظن أنه أفضل من الآخرين. يعاملنا كما لو كنا لاشيء وهو كل شيء، ورغم رغبته في أذيتنا إلا أننا لا نبادله الكره. بل ربما رغبنا في إصلاح دواخله. لندرك أننا، مازلنا نهتم.

قالت (إلدورا)وعيناها تطوف على جميع الفتيات: كما أخبرتكم في إجتماعنا الماضي عن بعض الحوادث التي تصيبكم في المنزل وكيفية التعامل معها على الفور قبل أن تستدعين الطبيب أو تتجهن إلى المشفى، فاليوم نستكمل هذا الموضوع الهام. بأحد أخطر الحوادث التي قد تصيبكن كربات منزل وهي الحروق. أعاذنا الرب منها!
لتهمس الفتيات: آمين.

وهن يتلن الصلوات بأيديهن فقلدتهن (إيستاف)ضامة يدها ورافعة سبابتها واضعة إياها على جبينها ثم صدرها ثم اليمين فالشمال. قبل أن تقول الأخت(إلدورا): الحروق هي التعرض للحرارة بشكل مباشر، وهي بالطبع أنواع ودرجات، فالحرق من الدرجة الاولى هو حرق بسيط لا خوف منه. أما الحرق من الدرجة الثانية ,فيظهر بعض البثور. لأن الجلد رطبا و قد يترك ندبة مزمنة. وهناك.

الحرق من الدرجة الثالثة وهو يتعدى إصابة طبقات الجلد الى الانسجة. أما الحرق من الدرجة الرابعة هو أشدهم خطورة. فهو يصل للاعصاب والعضلات والأوتار.
في حالة الحرق من الدرجة الثالثة والرابعة. عليكن التوجه إلى المشفى على الفور، لإتخاذ العلاج المناسب للحالة، أما في الحالة الاولى والثانية فعليكن غسل الحرق جيدا ثم وضع بعض البيض النيء عليه أو بعض الزيوت إن لم يوجد ثلج.

مالت(إيستاف)على صديقتها(امادا)قائلة: هذا ليس صحيحا. فالبيض الني والزيوت
ليسا علاجا أبدا للحروق بل يزيداه سوءا.
إنتفضت (إيستاف)على صوت(إلدورا)التي قالت بحدة: إنهضي يا(امادا)!
نظرت (امادا)إلى (إيستاف)بإضطراب قبل أن تقف ناظرة إلى (الدورا)برهبة، لتقول(الدورا):
ما هذا الشيء الهام الذي جعلكما تقاطعان محاضرتي؟ ما الذي قالته لك (إيستاف) يا(امادا). أخبريني؟

ظلت (امادا)صامتة. لتهدر (الدورا)قائلة: تكلمي وإلا طردتك من الصف!
ظلت (امادا)صامتة. فكادت (الدورا)أن تطردها خارج الصف ولكن (ايستاف)قاطعتها حين نهضت قائلة بثبات:
سأخبرك انا ياسيدتي!

رمقتها (الدورا)ببرود لتستطرد (إيستاف)قائلة بثقة: لقد كنت أخبرها أن البيض النيء والزيوت ليسا علاجا أبدا للحروق، أما بياض البيض النيء فيسبب انتشار البكتيريا، والزيوت تزيد حرارة الجسد. فيزداد الوضع سوءا، الثلج ومعجون الأسنان يسببان تهيج الجلد المحترق أيضا، وكل تلك الأمور لا تصلح لمعالجة الحروق، ولكن الأصح هو وضع الحرق تحت الماء البارد وتنظيفه بالصابون برفق، نحاذر من فرك الجلد ثم.

نضع بعضا من الفازلين تحت الضمادات، يمكن استخدام المضاد الحيوي أو كريم الصبار أو العسل لانهم مضادات للإلتهاب، والمسكنات أيضا إن تسبب الحرق في ظهور تقرحات ويجب الابتعاد عن الشمس وارتداء الملابس الفضفاضة. أيضا لراحة المصاب!
نظرت الفتيات إليها بإعجاب وعلت الهمهمات لتقول( إلدورا )بغضب: إخرجى من الصف (إيستاف) وإنتظريني عند الأب (فابيان)!
قالت (إيستاف): ولكن...

قاطعتها (الدورا)قائلة: أخبرتك أن تخرجي من الصف، حالا!
سارت (إيستاف)إلى الخارج رافعة رأسها تتابعها أعين الفتيات اللاتي يتمنين أن يكن مثلها بينما تابعتها (الدورا)بنظرات حانقة حاقدة. تضمر لها شرا، رأتها (امادا)فتوجس قلبها، قلقا!

عدت إلى ديارك بحنين ملتاع.
يذوب القلب لهفة لرؤياك خلسة ربما مازال الفراق واجب لكنني مازلت أهواك
مازال كل شيء كما أتذكره. لافرق هنا وهناك
ومازلت أنا كما أنا. قلبي مازال يهتم. لم و لن ينساك.
نعم كل شيء كما هو...

حرارة الجو. عبير الأرض. أصالة المكان ولكن كل شيء ينقصه زهرته البرية. ليصبح حقا كما كمان. توقف بتلك السيارة أمام هذا المتجر الجانبي. ونزل منها يتبعه (بيير). ليدلف إلى المتجر. نظرت إليه(لولان)بدهشة قبل أن تجمد ملامحها وهي تقول بسخرية:
الغريب عاد. ترى ما سر عودته؟

قال (جيوم)بسرعة: لا وقت للأسئلة يا(لولان). الأمر خطير ثقي بي. أريد العجوزة (لويندا) في الحال، ولا أستطيع الولوج إلى القبيلة والمخاطرة بكشفي. إستدعيها من فضلك إلى هنا على الفور.

نقلت بصرها بين (جيوم)وهذا الرجل الآخر الذي ينظر إليها بنظرات أربكتها ولكنها تمالكت نفسها وهي تقول بهدوء: لم أعد أثق بك بعد ما فعلته، فمازالت زهرتك البرية تعاني توابعه ولكنني سأثق بحدسي الذي يخبرني أن الأمر حقا جلل. لذا إنتظرني هنا. ولن أتأخر!
لتبتعد بخطوات مسرعة، يتابعانها بعينيهما قبل أن يميل (بيير)على (جيوم)قائلا بفضول:
من تلك الفتاة؟ ومن هي العجوز(لويندا) والأهم من كل ذلك من هي زهرتك البرية تلك؟

تنهد (جيوم)قائلا: هذه (لولان)و(لويندا)من جئنا لأجلها. ربما بعد ان ينتهي كل ذلك أخبرك عن زهرتي البرية، (إيستاف)!

لا ندعي الإهتمام ونترك الظلم يتفشى في الأرجاء، فيظن المظلوم أن العدل ولى ومضى ويصبح ظالما بدوره. بل ننصف المظلوم ونردع الظالم ونقيم دولة العدل لنثبت حقا أننا، مازلنا نهتم
رمق الأب (فابيان ) الأخت(إلدورا) بملامح جامدة قبل أن ينظر إلى (إيستاف)قائلا: عودي إلى محاضراتك يا(إيستاف)!
إبتسمت(إيستاف)قائلة: شكرا لك أيها الأب(فابيان).

ثم غادرت بهدوء تتابعها عيون(الدورا)بحنق لتلتفت إلى (فابيان)قائلة بحدة: لماذا تركتها ترحل؟..
قاطعها الأب(فابيان)قائلا بصرامة: لقد تخطيت الحدود يا(الدورا)عندما تحادثين رئيس الدير تحادثينه بإحترام.

قالت (الدورا) بأسف تشعر أنها تخطت الحدود بالفعل في غمرة غضبها وحقدها: عذرا أيها الأب(فابيان)ولكنني غاضبة. فقد آزرت تلك الفتاة ودعمتها فلم تعاقبها على فعلتها وهذا سيجعل المزيد من الفتيات يقتدين بها وستضيع هيبة الأساتذة ووقارهم. وستعم الفوضى.
رمقها(فابيان)بعيون فاحصة وهو يقول: لا تدعي البراءة يا (الدورا) ولا تتركي الشيطان يصور لك أنك قديسة. لا تخطئ.!

(إيستاف)طالبة مجتهدة ومتفوقة. يشهد لها الجميع بالحكنة والبراعة والتميز، يشيدون بأخلاقها، فلا تتصيدي لها الأخطاء، ما فعلت شيئا سوى أنها صححت لك بعض المعلومات وبدلا من أن تثنى عليها، أردتي صرفها من الدير، لم يكن الدير أبدا سوى منبر لهؤلاء الذين يشبهونها، فلا تحيدي عن تلك التعاليم التي درستها، أعيدي التفكير حتى لا تسقطي في بئر الخطيئة ويعاقبك الرب.

رمقته (الدورا)بجمود. قبل أن تقول بهدوء: حسنا أيها الأب(فابيان)أعدك بأن أعيد التفكير.
لتغادر بخطوات مسرعة قبل أن تتوقف و الحقد يرتسم في عينيها وهي تقول: سنرى أيها الأب (فابيان)من الذي سيغير رأيه. ويصر على صرف تلك الفتاة من الدير. نعم سنرى!

نحن من نملك المعرفة، نمنحها للجهلاء ونسبغها عليهم، لا نبخل أبدا بما لدينا يلجأ الجميع إلينا حتى من يدركون أننا لا نطيقهم ولكننا نساعدهم، فقط لأننا، مازلنا نهتم.
رمقت العجوز (لويندا)هذا الأسد العجوز المصاب، ربما تظهر أنيابه ولكنها لا تؤذي أحدا اليوم، نظرت(لويندا)إلى (جيوم)قائلة:
لماذا تظن أنني من الممكن أن أساعده؟ أساعد هذا الذي سيقيم الدنيا ويقعدها على رأس الإسبان؟

رمقها(جيوم)قائلا: لإنني أدرك أن الإنسانة بداخلك لن تدع جريحا يموت، حتى وإن كان من الأعداء، ولإنه أبي يا(لويندا).
سيقتله بتر ذراعه، لن يستطيع التعايش مع إعاقته، لذا أتوسل إليك أن تساعديه.
نظرت إليه للحظات، قبل أن تضرب بعصاها الأرض قائلة: حسنا. سأعالج ذراعه ولكنني سأحتاج إلى بعض الأشياء.
تهللت ملامحه وهو يقول: لك كل ما تطلبين، فقط سم ماشئت وسأحضره
لك على الفور.

أومأت (لويندا)برأسها ثم أخبرته بما تحتاج ليهرع خارج الخيمة ويحضر لها ماطلبت، لتنظر إلى (داميان)قائلة: سأعيدك أسدا كما كنت، وليرحم الرب الإسبان. ويغفر لي!
الشوق هو أن تشعر بآثار أصابع أحدهم تشابكت يوما بأصابعك، هو ذلك الجنون الذي يجعلك تصرخ بأعلى صوتك تعلن ملكيتك له، رغم كل الحواجز والقيود، هو مايدفعك للتفكير به ليلا ونهارا، لتدرك أنك، مازلت تهتم.

خرجت (لويندا)من الخيمة ليطالعها (جيوم) و(بيير)بلهفة. قالت بهدوء: والدك الآن على مايرام، فقط عليكم متابعته وخفض حرارته قدر المستطاع.
أطلقت الأنفاس المحبوسة، وظهرت البسمة على الشفاه. ليقول (جيوم)على الفور: شكرا لك(لويندا)، لا أدري كيف أكافئك على معروفك.
قالت: لم يكن معروفا بل كانت جريمة. فالجراح ستلتئم و غيوم الحرب ستعود، ستطولك وتطولنا، ولن يرحمنا القدر.

عقد(جيوم)حاجبيه يفكر في تلك الكلمات المخيفة، ليستفيق من افكاره على صوتها قائلة: هيا يافتى أعدني لقبيلتي. فقد إشتقت إليها!
وكذلك هوإشتاق إليها. أو على الأحرى إشتاق إلى زهرته البرية.
استقل السيارة وتبعته(لويندا) التي ما إن إستقرت بمجلسها حتى بادرها قائلا: كيف حالها؟

رمقته قائلة: ماذا تتوقع؟ تظن بك الظنون، وتذبحها خيبة الأمل، تتظاهر بالقوة وهي أضعف من الزهور، تقاوم حنينها بشغل أوقاتها بكل شيء ولا شيء. زهرتك البرية تذبل، ولا شيء سيزهرها مجددا سوى الحقيقة.
قال(جيوم)بمرارة: وقد تقتلعها من جذورها، ألا ترين من أكون وأين أكون، ألاترين أنني العدو؟
بل الحبيب أيها الأبله هكذا أسرت (لويندا) في نفسها، لم تجبه بل ظلت على صمتها طوال الطريق، وفي خاطرها تتردد تلك الكلمات.

لا مفر من القدر يا(جيوم)ولا مهرب منه. فصبرا جميلا. سترون جميعا أن أقداركم متشابكة. لا مهرب من قدركم ولا مفر.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة