رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الحادي عشر
أصبح صوت الرصاص والقذائف مألوفا، لم يعد يرهب الروم كما كان في باديء الحرب.
هدأ الهجوم على (إستفار )، حطت الطائرات على أراضي( ييفيا) وأقيم معسكر الإسبان وارتفعت رايتهم في الأفق.
تضاعف الخطر الآن، وأصبحت( ييفيا) كاللغم الذي إذا ضغطت عليه قدم أحدهم انفجر وأطاح بالجميع دون استثناء.
قام شريف البلدة بإقامة حظر تجوال على السكان مساءا، وتقليل الحركة نهارا، وهذا بالضبط ما دعى إليه الأب ( فابيان)، وها هو الزعيم (سيرجيو) يجمع قبيلته للتحدث عنه:
تركنا (جرندة )، وكان رحيلنا عنها مريرا، لكن كان لابد من ذلك! كما ترون، لقد احتلتها فرنسا، والآن ( ييفيا)! وهاهي اسبانيا تستغلها لضرب الأخيرة، فدعوني أخبركم! هذه الأرض أصبحت موطننا، لقد أكرمتنا منذ دخولها، لذا سنحارب من أجل بقائنا فيها.
لقد فرض الشريف حظر تجوال، ووافقه الأب، وأنا بدوري أدعم رؤياهما!
لذا. سيكون عملكم على اليابسة فقط! لا عمل في البحر إلى أن تضع هذه الحرب اللعينة أوزارها، وكذلك بالنسبة إلى السوق. لا عمل فيه بعد الآن، سنبتعد عن كل الأماكن التي تكثر فيها الحركة، لأنها مستهدفة! لاضير في عمل أصحاب المحلات، والبقية سنجد لكم عملا يحفظ سلامتكم.
أما النساء! إنكن محظورات من الخروج خارج المخيم بدون إذن أو رفقة أحد رجال القبيلة،
وهذا أمر، من تخالفه ستعاقب!
هناك أمر آخر!
استقام وراح يسير وسط قومه مستطردا: سنتسلح! لن أأمن مكر هؤلاء، علينا التصدي لهم، إن ما حاولوا انتهاك حرمة مخيمنا هذا!
ولن أخفيكم، لقد تطلب شراء الأسلحة مبلغا كبيرا من الخزينة الإحتياطية للقبيلة! لذا سنضاعف المؤن ونقلص الإستهلاك.
ستصلنا الأسلحة والذخيرة بعد أيام قليلة! ستكون في كل خيمة بندقيتن و إحتياطي ذخيرة!
لم يرو منا سوى طيبة سمعتنا! ونحن عليها ما داموا بعيدين عنا، وإن إقتربوا. فسينالهم من سخطنا ما يقلق مضاجعهم!
فلتحمينا الآلهة!
وانصرف عنهم وهم يرددون وراءه تمجيد الآلهة.
أما (إيستاف ) ركضت خلفه تناديه ليلتف إليها ويسألها بثبات: ماذا هناك؟
لتجيبه بأنفاس متقطعه: الدير! المدرسة؟!
ارتدى قناع الجدية ولفه البرود قائلا: لقد كان كلامي واضح بخصوص القانون الذي فرضته على النساء!
قالت ولكنني.!
قاطعها بحزم: لا استثناء!
سأتولى مرافقتها أيها الزعيم، أعطها الإذن فحسب
قالها ( بارتولوميو ) وهو يضع يده على كتف ابنته يدعمها.
بدا على الزعيم كأنه حوصر، ولا سبيل له سوى الرضوخ للموافقة. فقال: حسنا!
وغادرها يلعن هذا العجوز الذي يتدخل في شؤونه دوما.
احتضن ( بارتولوميو) صغيرته وقبل رأسها قائلا: حتى الحرب لن تقف حاجزا يمنعك من تحقيق ما ترغبين به!
نزلت دموعها وهي تشدد من إحتضانه.
هل سامحتني أبي! أنا أسفة. أسفة، أسفة ماحييت!
قال بحنان: لا عليك طفلتي! هيا، سأوصلك إلى المدرسة، وأتوجه إلى عملي، وبالمناسبة هناك أزهار جديدة، مذهلة، إنها عنيدة وقوية مثلك
وجميلة أيضا، سأحضر لك منها حين اعود مساء.
الجروح الغائرة، السهد والحمى، والألم الذي لا يسكنه دواء، لم يكن ليأثر به! حتى غيبوبته كانت من نوع آخر، كان يصارع شخصان.
شخصان! يشبهانه. ولكن أيهما هو؟
الظلام يلف المكان والألم مرهق، أحدهما بدا منهزما رخوا، والآخر متحديا صلبا، كل منهما
يريد الإطاحة بالآخر...
كان يشعر بالخوف والقوة معا، كان يشعر بالخزي والغرور معا، كان يشعر بالظلم والتجبر معا...
كل شعور كان يصارع نقيضه، وجسده ينتفض وهو يتفصد عرقا والأطباء في حرج من حالته.
كانت( لويندا )قد قامت بتنظيف جرح يده وخياطته ووضع مراهم خاصة عليه ثم جبرته، و أعطت أطباءه جرعة من مزيج سائل ليضعوه بكمية قليلة في محاليله كل ساعتين.
جلس ( جيوم ) بجانبه يمسك يده السليمة قائلا: أعتذر يا أبي! مع أننا لم نكن بذلك القرب الذي يجعلني أشعر بدفئك، إلا أنني أحبك،
أعارضك على مبادئك وليس شخصك...
أعتذر لأنني كنت أنفر منك، بسبب خبر غارة سمعت صوت ضحاياها...
بسبب نهب حق ليس لك حاولت إجباري على أخذه
بسبب تسلطك الساحق.
أعتذر منك لأنني مختلف عنك!
أحتاجك أبي، أشعر كأن السماء أثلجت على حين غرة، فكرة فقدانك ترهبني أكثر من مجازرك.
عد أبي! ولنبتعد عن كل شيء. لنذهب إلا مكان، حيث يكون السلم عادة لا رفاهية، حيث.
نستنشق هواء خال من الكراهية. حيث تكون أنت. انت! وأنا. أنا، نتعانق ونضحك لنسحق الكبرياء الذي يلفنا...
هدأت رعشة ( داميان) وغرق في نوم هاديء،
كلماته إبنه كانت مسكنة لكل مخاوفه، فانتصر
شخصه الضعيف على أناه المتجبرة، ونام هانيء البال.
في مكان آخر.
كان الجنرال ( ألفونسو أرليك) يقف على أعلى نقطة بمعسكره يطالع (إستفار) باستعلاء وبسمة النصر تلازمه قائلا: لقد مددت إليك يد الصداقة ( داميان)! ورددتها على وجهي، لنرى إن كنت ستحتفظ بها أم تقطع! (داميان). (داميان)، (داميان)!
أتتك الفرصة لتحفظ كل هذه الدماء ورفضتها،
والآن يا ملك الغابة المصاب عليك أن تحسب ألف حساب لدخول إسبانيا، هذا إن استطعت المرور من( ييفيا ) أولا!
خرج من تأملاته وشماتته ب(داميان )على صوت أحد جنوده يستدعيه للتوقيع على إدارة مخزون الأسلحة الكبير الذي إكتمل وصوله إلى قاعدتهم الجديدة ( ييفيا).
في المدرسة...
خسوف القمر هو ظاهرة فلكية تحدث عندما يحجب ظل الأرض ضوء الشمس المنعكس من القمر في الأوضاع العادية...
وتحدث هذه الظاهرة عندما تكون الشمس والأرض والقمر في حالة اقتران كوكبي كامل (يكون خسوفا كليا) أو تقريبي (يكون خسوفا جزئيا).
وراح الأب ( موريوس) يشير إلى المجسم النموذي للظاهرة حتى يفسر كلامه للطلبات جيدا،.
فكان النموذج عبارة عن سطح مستوي يضع عليه كرة كبيرة صفراء يمثل به الشمس، وفي بعد جيد منها كرة زرقاء يمثل بها كوكب الأرض
وكرة اخرى باللون الأبيض تمثل القمر.
ويحدد بقوس ملون مدار الأرض، وبلون آخر مدار القمر، وبرسم مخروطي حدد منطقة شبه
الظل.
استأذنت احدى الفتيات للإستفسار.
أبتي! ارى من خلال النموذج التوضيحي أن هناك نوعان من الخسوف، إما كلي أو جزئي
أليس كذلك؟
أجابها الأب ( موريوس): هنالك ثلاثة أنواع من الخسوفات
خسوف كلي، ويحدث عندما يدخل القمر كله منطقة ظل الأرض، وفي هذه الحالة ينخسف كامل قرص القمر، مما يؤدي إلى فقدان الرؤية نهائيا في أوقات منتصف الليل.
خسوف جزئي، ويحدث عندما يدخل جزء من القمر منطقة ظل الأرض، وفي هذه الحالة ينخسف جزء من قرص القمر، ويبدو ظل الأرض على وجه القمر.
خسوف شبه الظل، ويحدث عندما يدخل القمر منطقة شبه الظل فقط، وفي هذه الحالة يصبح ضوء القمر باهتا من دون أن ينخسف.
وأشار إلى المخروط الذي يمثل منطقة شبه الظل وأردف: ومنطقة شبه الظل هي المنطقة التي ينحجب فيها جزء من ضوء الشمس عن القمر أي أن المراقب للشمس من على سطح القمر يراها منكسفة جزئيا، ولا يصنف هذا النوع على أنه خسوف شرعي.
إذا لكي يحدث الخسوف الكلي فإنه لا بد أن يحدث الخسوفان السابقان. وفي بداية الخسوف الكلي فإن لون القمر يميل للحمرة بسبب الأشعة الحمراء التي لا يمكن امتصاصها من أعلى الغلاف الجوي للأرض...
قمر الدم!
سألت ( إيستاف ) حين استوقفها شرح الأب سبب تصبغ القمر باللون الاحمر.
فقال الأب بابتسامة لطيفة: نعم، إنهم يطلقون عليه أيضا إسم قمر الدم أو القمر الدامي.
قالت بفضول: لقد سمعت هذا الاسم من عرابتي، أخبرتني أن له طاقة كبيرة يستغلها السحرة في أعمالهم، فيما تكمن هذه الطاقة أبتي!
تنحنح الأب و راح يشرح مفهومه عن تساءلها: لو نظرنا إلى السحر بجلاء فاعليته بشكل علمي وبحث دقيق لوجدنا أن تأثيره الفعلي أو جزء كبير من تأثيره يأتي من منازل القمر دون سواه، ولكن ليس بذات مفهوم السحرة عن تأثيره.
إن تأثيره العضوي على الإنسان موضع اهتمام الشياطين في احداث أذى أو إختراق الأجساد، أو تأثيره في العالم الغير منظور من حيث قدرتهم على إلحاق الضرر من عدمه...
أي أن القمر له تأثير بصفة عامة على إنسان، وله طاقات يعجز العلم عن تفسيرها، مثلا كأن تتزايد كهرباء مخ الإنسان خلال ظاهرة القمر الدموي عن غيرها من باقي الايام.
قديما رفع البشر رؤوسهم إلى السماء ليلا بشكل دوري، حيث كانت لهم بأهمية الكهرباء لنا مثلا؛ فاستخدموا نجومها لتحديد خط سير رحلاتهم، ولتنظيم مواسم الحصاد، وتوقع الطقس، فكان ظهور نجم خافت في الأفق قبيل شروق الشمس، يدعى البطين، يعني اقتراب الطقس الحار، أما ظهور نجم الشعرى اليمانية في الأفق فكان يعني اقتراب مواسم البرودة. وحسب تقاويم أسست نفسها على حركة النجوم والقمر والشمس في سماء الليل، أقام البشر حياتهم اليومية في جدول متزامن.
لهذا السبب تدخلت النجوم والكواكب بكل شيء في حياتهم، تفاءلوا وتشاءموا بوجودها، بل وكانت قراراتهم بالسفر مثلا، أو بالزواج، أو بالعمل، مرتبطة بموضع النجوم والقمر في أيام اتخاذ تلك القرارات، كذلك ربطوها بأساطيرهم ودياناتهم، ورسموا بين نجومها حكايات العدل، والغضب، والخيانة، والوفاء، ورد الجميل، وتأملوها وهم يحلمون بحياة سعيدة ومستقبل مسكون بالفرحة، لكنهم كذلك وضعوا فيها مخاوفهم من المجهول، فكانت كل الظواهر الطارئة والنادرة هي نذير حدث عظيم، كموت ملك، أو قدوم الحرب، أو انتقام من أهل السماء، إحدى هذه الظواهر هي خسوف القمر، بلونه الأحمر الدموي المرعب، والذي طالما كان ممثلا رسميا عن الشر!
وهو بحقيقته ليست له أوردة تجري فيها هذه الدماء التي زعموها عنه...
ابتسم الأب وابتسمت طالباته، في الحين الذي دق جرس إنتهاء الدوام المدرسي، فاستودعهن وباركهن لينصرفن بمعرفة جديدة يرين بها العالم بشكل أفضل ويستطعن الفصل بين الخرافة المعتقدة و التفسير العلمي الحقيقي.
خرجت (إيستاف )منبهرة بما تعلمته ومتحمسة لإعادة ترديده على مسامع والدها وصديقتيها وعرابتها، كانت تسير برفقة ( أمادا) حين رأت والدها ينتظرها أمام البوابة فمالت عليها صديقتها تقول:
ياله من أب وسيم أيتها المحظوظة!
امسكتها من يدها وقالت: هيا! سأعرفك عليه...
رحب ( بارتولوميو) بصغيرته وصديقتها بحفاوة وناول كل منهما زهرة جميلة، فكانتا كأميرتين بين يدي ملك.
غادرت ( أمادا) وغادر الأب مع إبنته تسأله عن يومه ويحكيه لها ويسألها عن يومها فتحمست وقبل أن تطلق العنان لحماسها ناولها أصيص الزهر الذي كان يحمله، كانت زهرة جميلة باللون الوردي الفاتح المائل إلى البياض وأطرافها بذات اللون مع درجة أغمق قليلا، كانت زكية الرائحة
وقبل أن تسأله عن اسمها حرك حاجبيه بحماس وقال: جلاديوس! زهرة برية.
كاد الأص أن يسقط من بين يديها لو لم يمسكه في آخر لحظة، فظن أن وزنه ثقيلا عليها وأشار إليها بإنتباه: هل أعجبتك! لقد أحببتها أنا!
قالت: هااا،! نعم. إنها رائعة! شكرا عزيزي.
أجابت بسهو وأطبق عليها الصمت بينما راح والدها يثرثر عن أشياء كثيرة، وهي لا يخطر
ببالها سوى الغريب وسبب رحيله بدون وداع،
والآن أصبحت هذه الزهرة اللعينة الذكرى التي تحييه أمامها إلى الأبد...
هرج كبير وأصوات عالية، أناس يركضون عكس إتجاههما، فزع (بارتولوميو) واحتضن إبنته، إذ بهما يسمعان صوت حوافر الخيل وصهيلها، حتى بدأت تظهر جليا.
الجنود يمتطون أحصنتهم يتجولون في المدينة ويرهبون سكانها.
امسك صغيرته وركض بها نحو اول زقاق ارتأى له...
كان الجنود يوقفون الشباب الذين تقع عليهم أعينهم لتجنيدهم قصرا من أجل خوض هذه الحرب التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
بدأت صافرات حظر التجول، ودق جرس الكنيسة، أغلقت المحلات باكرا وخلت الطرقات
من الناس إلا الفارين الذين ادركتهم يد الجند.
وصلا إلى مخيمهم كحال الغجر المذعورين الذين كانوا بالخارج، اتجه( بارتولوميو) نحوهم، أما (إيستاف )فقصدت خيمة (لويندا )، دخلت مذعورة كقطة وارتمت بين أحضان عرابتها التي دفعتها على الفور ونهرتها:.
إنها الحرب، مرعبة! حين يتسلل الخوف إلى اوصالك وتصابين برعشة وإجفال، لا تبحثي عن حضن تختبئين فيه.
الحرب لا أحضان فيها، ولا عواطف.
كفي عن البكاء واجعلي من يدك صلبة حين تمسك السلاح لا تحيد عن هدفها!
ستكون هناك أوقات صعبة في الحين الذي تختبيء فيه جميع الناس، قاومي!
أنت مختلفة. الحكمة التي بداخلك تجعلك المختارة لقيادة قبيلتك.
كانت( إيستاف) تطالعها بعينان جاحظتان قائلة: الحكمة!
هدرت (لويندا )بصرامة: نعم الحكمة، الحكمة شمس تشع على الجميع ولا تدخر ضياءها حتى إذا وجدت النفوس حقيرة منحطة أقامتها، الحكمة في الأكواخ والأزقة والجحور، لن تجدوها فوق قمم ولا في الأديرة، الحكمة تأتي لمن يبتغيها لا لمن يطلبها، شريطة أن يستحقها حقا.
السعادة لا تمنح الا لنفوس تعرف قيمتها، نحن نرث حكمة القرون ونرث معها غباوة القرون كذلك، الميراث لا يتجزأ، مثل الفراش الذي لا حفيف لجناحيه، يداعبني اشتهاء الموت، فأغمض عيني وارى. إن النوم رفيق رحيم بي، أنا التي تعذبني الرؤى والكوابيس وهول ما رأيت. سفينتي جابت الكثير من الخلجان بحثا عن السلام لكن لاتوجد خلجان ترضى بأن تلقي مراسيها عندها.
وأنت! سترين الكثير. ستنكسرين لملايين القطع.
لكن فيك من القوة ما يجعلك تجمعين شتات نفسك وتقفين كلبوة تدافع عن أرضها وصغارها.
قالت كلمتها الاخير وخرجت تاركة (إيستاف) تحدق في طيفها بحيرة.