قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

وقفت(إيستاف)إلى جانب زميلاتها بالدير، تتأمل جنباته بإنبهار، تدرك أنها على وشك خوض تجربة جديدة تشعر بحماس شديد تجاهها.
حبست أنفاسها داخل صدرها عندما ظهرت تلك السيدة التي ترتدي زي الراهبات، كانت لها ملامح حادة صارمة بعض الشيء، طافت حولهن ترمقهن بنظرات متفحصة واحدة تلو الآخر وقالت بصوت جدي حازم:.

دير (القديسين) ليس كأي دير قد رأيتموه سابقا، إنه منبر للحكمة، ومنارة للعلم، ومحراب للزاهدين، سيكون عليكم أن تصغوا جيدا لأساتذتكم الموقرين، أن تصفوا أذهانكم لما تتعلمونه هنا، وأن تنتبهوا لقواعد الدراسة في هذا المكان المبجل، من ستلتزم بالقوانين والإنضباط ستتلقى الإحترام في هذا الصرح العظيم، ومن لاتفعل...
لتستقر عيناها على (إيستاف)قائلة بصرامة: فلن تعامل برحمة ويسر! وسنلقي بها خارجا!

لتشيح ببصرها عنها وهي تستطرد قائلة: ستدرسون في هذا الدير مختلف المواد العلمية كالطب ومداخل علم الفلك مع الأب (موريوس) والأب (برنارد)، وستدرسون تعاليم الرب مع الأب( فابيان)، أما الآن فسأقودكم إلى الأخت(كونتي)في (الأوبرادور)، لن أؤكد مجددا على إلتزامكم بقوانين الدير والتي يعلمها معظمكن، فمررنها للطالبات الجدد، ومن يخل بها فعليه مواجهتي أنا الأخت(الدورا)! تعرفونني جيدا، أليس كذلك؟

أومأت الفتيات برؤوسهن برهبة، لتلتمعا عينا (الدورا) وهي تستطرد قائلة: حسنا. اتبعنني!
إزدردت (إيستاف ) ريقها بصعوبة، وهي تنضم إلى الجمع، تتبع تلك السيدة بهدوء، لتميل عليها تلك الفتاة بجوارها هامسة بإبتسامة:
هونى عليك ياأختاه ولا تخشي شيء! لقد مر الأصعب والقادم أسهل بإذن الرب.

نظرت إليها (إيستاف) وقد هدأ عنها الروع، وارتاحت لسماع كلمات المواساة منها، كانت الفتاة ذات ملامح رقيقة تذكرها بصديقتها (لولان)، فطرفت بعينيها وابتسمت قائلة:
لقد كنت أفكر بالفعل في ترك الدير شعرت بالغربة والرهبة، ولكن كلماتك بعثت في قلبي بعض الراحة، شكرا لك.
إبتسمت الفتاة قائلة: على الرحب والسعة.
لتقول (إيستاف)بحيرة: إلى أين نذهب؟ وماهو ال(أوبرادور)؟

قالت الفتاة بهمس: (الأوبرادور) هي ورشة عمل في الدير، نقوم فيها بإعداد جميع أنواع الحلوى والمرطبات، ومن بينها حلوى(التورون)وهي أهم مانصنع.
قالت(إيستاف): وماهي حلوى (التورون)تلك؟

قالت الفتاة في دهشة: ألم تسمعي عنها من قبل؟ إنها الحلوى الأكثر استهلاكا من قبل سكان (ييفيا). جميعهم! أساس مكوناتها العسل واللوز، فهما غنيان بالقيم الغذائية والسعرات لمنح الجسم الطاقة كما أنها مشبعة، إلى جانب سهولة الاحتفاظ بها لمدة طويلة دون أن تفسد.
لتغمز لها وتسترسل: وكما يقول الأسبان إن أردت حلوى (التورون) فلن تجدها في المحلات، فقط توجه إلى الراهبات.

إبتسمت ( إيستاف ) قائلة: سيسعدني بكل تأكيد أن اصنع تلك الحلوى.
لتمد لها يدها قائلة: (إيستاف)! سعدت بلقاءك.
مدت لها الفتاة يدها بإبتسامة قائلة: (امادا)! وأنا كذلك عزيزتي.
أسرعا بفض تشابك أيديهما، عندما إلتفتت إليهما الأخت (الدورا) ترمقهما بحدة، ثم عادت تنظر أمامها من جديد، لتبتسم الفتاتان رغما عنهما تدركان أنهما في طريقهما لتصبحا أفضل صديقتان، على الإطلاق!

فتح (جيوم)عيناه على صوت تمتمات بجواره لم يفهم فحواها، وقعت عيناه على تلك السيدة التي رآها مرارا في اليومين الماضيين، حاول محادثتها أكثر من مرة، لكنها كانت تمتنع عن إجابته، تجبره فقط على تناول دوائه وتضع له بعض المراهم التي لا ينكر أن بها سحرا يسكن كل ألامه و ساعدت على إلتئام جروحه إلى حد ما بصورة مذهلة وفي وقت قصير، ومع ذلك كان يشعر ببعض الثقل في قلبه فكان يضع يده على صدره كأنه يتحسس إن كان به جرح طعنة ما، فلا يجد شيء...

إعتدل بحذر، وهي لازالت تتمتم بلغتها الغريبة تلك، لقد سمعها من قبل ولكن تبا هو لايتذكر أين سمعها وممن؟ أغمض عينيه وهو يراها تلتفت تضع شيئا من يدها في صحن صغير ثم تضيف عليه الماء الساخن وتقلبه بهدوء، قبل أن تفرغه في كوب لتمنحه إياه، قالت كلمة غريبة لم يستطع فهمها، أمسك الكوب مستسلما، فما من جدوى ليرفض إحتساؤه، سترغمه على احتساءه بدون شك، بنظراتها الصارمة تلك، لا ينكر أن بعمق عينيها يرى طيبة ساكنة تذكره بإحداهن والتي تظهر في مخيلته من وقت لآخر تمنحه قطعة من الكعك أو تربت على رأسه بحنان، يكاد إسمها أن يطل على تلك الذاكرة اللعينة التي تأبى أن ينقشع عنها ضباب الغموض بضراوة، ولكنه يدرك أنه سيستعيدها آجلا كان أم عاجلا، إبتعدت عنه تلك السيدة قليلا ليتمتم بحنق:.

ترى أين انت الآن (إيستاف)؟
إلتفتت تلك السيدة ترمقه بنظرة لم يفهمها وهي تقول بفرنسية سليمة: زهرتك البرية. أليس كذلك؟
عقد (جيوم)حاجبيه يتساءل بحيرة كيف عرفت تلك السيدة أنه يطلق في نفسه هذا المسمى على (إيستاف)؟ وإذا كانت تتحدث بلغته لماذا إختارت هذا الوقت بالتحديد لتتحدث إليه؟
أفاق من أفكاره على إقترابها منه تطالعه بتلك النظرة الغريبة قائلة: ماذا تريد من (إيستاف)؟

قال (جيوم )بإضطراب: لا شيء! أقصد أنني إعتدت وجودها فحسب، وأتعجب من إختفاؤها اليوم.
إبتسمت تلك السيدة لأول مرة فظهر أخدودين غائرين في وجهها وهي تقول: لقد نسيت إذا! فقد أخبرتك أنها ستذهب لمدرسة الدير.
أومأ برأسه وقد تذكر بالفعل قائلا: نعم. نعم. لقد أخبرتني! نسيت حقا.
إتسعت إبتسامتها قائلة: هناك العديد من الأشياء التي قد تغيب عن البال، إلا عزيزتي(إيستاف) فهي كذكرى حية تظل عالقة بالأذهان، أليس كذلك؟

لم يجبها لتستطرد قائلة: دعني أخبرك عن الذكريات الحية، إنها كالوجع الذي تشعر به في صدرك الذي تتفقده كل آونة!
نظر جيوم إلى صدره لاإراديا وعاد يطالعها وهي تواصل حديثها: الوجع الذي يشبه طعنة خنجر مسنن، ترك هوة تالفة داخل القلب وربما نزفت كثيرا حتى تخثر الدم وأصبح كتلة صلبة ثقيلة، لكن! لا أثر لها فتتخبط بين كونها حقيقة. أم خيال.

الذكريات الحية! كالذنب الذي لايزول مهما توسلت أمام المذبح، مهما بلغت عدد المرات التي دخلت فيها غرفة الاعتراف لتقر أمام القس.
تحملها رغما عنك حتى وإن لم تتذكرها، ستشعر بها!
فاحترس من أن تجعل زهرتك البرية ذكرى حية!
لم ينطق بكلمة وإكتفى بالإصغاء إليها بصمت، عادت ملامح تلك السيدة لا تعكس دواخلها وهي تقول:
إسترح الآن! فقد أوشكت على الوصول وسأخبرها أنك سألت عنها.

ظل صامتا، لتلتفت مغادرة ولكنها توقفت للحظة وقالت: هل تذكرت شيئا عن حياتك يا (جيوم)؟
إتسعت عيناه بدهشة قائلا: كيف عرفت إسمي؟ بالكاد تذكرته أنا!

إبتسمت قائلة بغموض: هناك العديد من الأشياء التي تعرفها العجوز(لويندا)ولكنها لا تفصح عنها، لكنني سأخبرك لكي تزول دهشتك، لقد تمتمت به وانت تهذي، هناك ملابس لك على ذاك الكرسي، حاول أن ترتديها، ملابسك تلوثت، لنرى إن كنت ستبدو كالغجر إن أردت العيش معنا، إن إتضحت هويتك الحقيقية سيقطعونك إربا ويصنعون منك حساء رائعا.

إقشعر بدنه للفكرة، أما العجوز فلم تمنحه فرصة للرد عليها، إلتفتت مغادرة لتمتم أثناء الخروج قائلة:
عواقب الغضب هي أكثر ضررا من أسبابه، تذكر هذا جيدا أيها الشاب الغريب!

عقد جيوم حاجبيه، هو يعرف هذا المثل الفرنسي جيدا ولكن لايدرك ماذا تقصد به، زفر بقوة وقد شعر بصداع يداهمه من جديد، لينظر إلى هذا الرداء الغريب على كرسي بجواره يحاول أن يستجمع قواه ليحاول إرتداؤه، فهو بالتأكيد لا يود أن يكون حساء رائع لهؤلاء القوم غريبي الأطوار.

في الغابة...
قالت (لاتويا): قلت لك مرارا يا (ميغيل) مازال الوقت مبكرا على القيام بخطوة كهذه، أنا لست مستعدة للزواج بعد؟

رمقها ميغيل بهدوء قبل أن يقول بسخرية ومرارة: ومتى ستكونين مستعدة يا (لاتويا)؟ لقد فاض بي الكيل، عامين وأنا أركض خلفك لا يهمني شيئا سوى رضاؤك! عامين وأنت تتدللين وتماطلين حتى أنني طرقت جميع أبواب الآلهة أتوسل إليهم أن ترقي لحالي وترحمين ضعف قلبي الذي يعشقك بلا أمل في إرتباط مقدس يوحد قلبينا.
ظهر الإضطراب على وجهها ممتزجا ببعض الحزن الذي ربض بعينيها السوداوتين، ليزفر (ميغيل )بقوة قائلا:.

أتعلمين! لقد بدأت الشكوك تساورني حقا، يخبرني عقلي أنك لا تحملين في قلبك مشاعر اتجاهي...
وضعت يدها على فمه مقاطعة إياه بسرعة وهي تقول بنفي مطلق: هراء يا(ميغيل). أنت تعلم أنني أحبك ولن أحب أحدا سواك.
رفع يده يمسك يدها الرابضة على فمه قائلا بعشق: إذا وافقي على الزواج مني!

ظهر التردد على وجهها، فشعر (ميغيل)بخيبة أمل: مازلت تخشين أن أكون مثل والدك، مازالت لديك شكوك حولي، لقد خيبتي أملي حقا، وكأننا لم ننشأ سويا، وكأنك لا تعرفينني...
لن أكون خوسيه آخر بحياتك!
سأحبك (لاتويا)! سأعاملك بحب، الحب الذي أكنه لك، ليس مجرد نبضا يزداد بصدري لقربك أو أنفاس تختنق بداخلي لبعدك. الحب الذي أكنه لك كالأرض الذي يصيبها غيث فتزهر.
سأحبك كل يوم أكثر.
سأحبك كل يوم كأنه أول يوم.

سأمسك بيدك فلاتخافي عثرة.
حين تشرق الشمس في الصباح ستكونين صلواتي للرب.
سأبدد بداخلك كل ذرة خوف من كوني رجل.
الرجل ياأميرتي. ذاك الوحش الذي تهابينه!
أنني رجل! رجل يحارب من أجل إمرأته، لا يحاربها هي!

كانت (لاتويا) قد بدأت تلين مع كلماته، تدرك في قرارة نفسها أن (ميغيل) يختلف كليا عن والدها الذي يعامل والدتها بغلظة وقسوة، يسقيها كل أنواع العذاب اللفظي والجسدي، بينما يتجنبها هي الآن، يدرك أنها ما عادت تلك الصغيرة التي ستتقبل عقابه القاسي لها بصمت، بل ستتصدى له بكل ماأوتيت من قوة، على عكس والدتها الضعيفة التي أخبرتها مرارا وتكرارا أن تبقى بعيدة عما يحدث بينها وبين والدها ولا تتدخل.

أفاقت من شرودها على (ميغيل) الذي خلع عنه عمامته التي يلفها حول رأسه، ممررا يده في شعره قائلا بحنق:
كما أخبرتك يا(لاتويا)لقد فاض بي الكيل، ولن أكون حيوانك الأليف بعد الآن، احسم أمرك، إما الزواج أو الفراق، فلم أعد قادرا على ردع رغبة أمي في تزويجي وعرض الفتيات علي لأختار...

إنتابها الغيظ بعد أن إستفزتها كلماته عن والدته تلك المرأة البغيضة التي تعلم يقينا أنها تكرهها وتود من كل قلبها أن تفترقها عن ولدها الوحيد لتقاطعه قائلة:
إذا السيدة(أرانزا)هي من دست السم في أذنك وأثارتك ضدي، أليس كذلك؟

رمقها بجمود للحظات قبل أن يقول: مازلت تسيئين الظن بي، ومازلت تقللين من شأني، حسنا. أرى أنه لا فائدة من الحديث معك الآن! لقد أخبرتك بما لدي وسأنتظر جوابك! علي المغادرة فورا، فالزعيم يطالب بإجتماع الرجال في خيمته.

ليهز رأسه بتحية مقتضبة قبل أن يبتعد تتبعه نظراتها المضطربة المرتبكة التي يشوبها بعض الندم، إنتفضت على صوت(لولان) التي كانت تقف بعيدة بعض الشيء تراقب لهما الطريق، إقتربت منها بهدوء بعد ان رأت (ميغيل) يغادر قائلة:
مازالت رأسك صلبة كالجلمود وعنيدة كالبغل، أليس كذلك؟
ثارت (لاتويا) وجلست على صخرة تضع قدماها بماء النهر الشفاف الهاديء: دعيني وشأني(لولان)! لا تنقصني الآن سوى سخريتك السخيفة هذه!

أخذت (لولان) حجرا صغيرا وقذفته بالنهر وهي تقول: بل ينقصك العقل أيتها الغبية! تضيعين من يدك الحب الذي يحمله إليك هذا البائس العاثر الحظ فقط من أجل أوهام في رأسك الفارغ هذا؟ لقد كنت أظنك أعقل مني وأقوى أيضا ولكني إكتشفت اليوم أن عقلك يضعفك دون أن تدري.
نهضت (لاتويا) وهي تصيح بها: كفى(لولان) كفى!

قالت (لولان): لا لن أكتفي اليوم، ولن أصمت! (ميغيل)ليس كأباك (خوسيه )أو أبي (موريل) هو گ(بارتولوميو) وأنتى تعلمين.
كانت( لاتويا) في حالة ضياع، كانت تريد (ميغيل) بشده لكنها تخشاه، كانت تحبه لكنها تخاف الاقتراب منه، كانت تشعر معه بالامان ولكنها كانت تنفر منه، ضائعة في بحر مخاوفها فلم تستطع إيجاد بر ترسو عليه هي وهمومها.

حاولت أن تبدو متماسكة وكأن الأمر لم يعد يعنيها قائلة: إن كنت ترينه هكذا فهاهو لك، تفضليه!
شعرت (لولان) كأن صديقتها ورقة ذبلة سقطت من غصن شجرة فحملها النسيم يلفها بقربة من الأرض فلا ترتقي ولا تسقط فتهدأ، حاولت إغاظتها علها تنجح في جعلها تتخلص من مخاوفها قائلة:.

لا تمزحي أبدا بهذا الشأن، وإلا إستمعت إليك وتزوجته فقط لأريك كم ستتألمين وستعضين أناملك ندما على فقدانه يابلهاء، الحب نعمة الآلهة على الأرض. فلا تكوني جاحدة، قليلون هم من يختبرون الحب، وقليلون أيضا من تكرمهم الحياة بمن يحبون.
شعرت (لاتويا) ببعض الغيرة لمجرد أنها تخيلت حدوث ما قالته (لولان)، حاولت أن تشتت ذهنها بعدم التفكير بالأمر قائلة:.

حسنا كفاك سبابا وإلا أوسعتك ضربا! ودعينا من الحديث عن (ميغيل)وأخبريني، إن كنت تؤمنين بالعشق لما لم أرك تغرمين؟
نظرت (لولان) إليها للحظة قبل أن تنظر أمامها بشرود قائلة: لم أقابل بعد من أشعر بأنه نصفي الآخر، توأم الروح كما إعتدت أن أسمع من جدتي حين تتحدث عن جدي.
ذاك الشخص الذي أشعر معه أنه عالمي، فازهد بكل شيء، أكون معه أنا. أنا كما أنا من دون تحفظ، كأنه إنعكاس لروحي...

كانت تتحدث بشاعرية وهيام فضربتها (لاتويا) على رأسها بخفة قائلة:
البلهاء هي أنت! من يتحدث الآن عن الخرافات،!
رمقتها (لولان )بحنق لتبتسم (لاتويا) قائلة: هيا! دعينا من هذا الحديث وأسرعي لنعود إلى العشيرة، فقد تأخرنا ياحمقاء!
ثم أسرعت تسبقها لتتبعها(لولان)تهز رأسها بإحباط.
تلك الفتيات كان يترجمن معنى الحب الروحي،
التناقض الذي بينهن كان يزيدهن ألفة، وحتى الخلاف كان يزيدهن إرتباط، حب فطري بدون مقابل...

الحب هنا تواجهه كارهية كبيرة في جزء قريب من هذا العالم.
كان الجنرال(داميان) يقف في خيمته ينظر إلى الخرائط الموضوعة على طاولته بتركيز شديد، حتى تنحنح أحد رجاله ليرفع إليه رأسه قائلا بصرامة: تحدث يا (ليو)!

قال(ليو) بإحترام: لقد وصلت رسالة من جواسيسنا ياسيدي! إنهم يستعدون الآن للقيام بالتفجيرات في (كتالونيا)، بضع ساعات وينتهي كل شيء وسينشغل الإسبان تماما بتلك المفاجأة التي أعددناها لهم حتى نستطيع أن نتسلل إلى (جرندة)ونفرض سيطرتنا عليها دون جهد أو مقاومة منهم سنغزوها معتمدين على عنصر المفاجأة والمغافلة وما إن ندخل أرضهم ونضع قواعدنا عليها ستكون ضربة العار التي تشلهم نهائيا.

أومأ (داميان)برأسه برضى وهو يلف شاربه ثم قال بأعين تلمع: إجمع القادة على الفور في خيمتي، فليلتنا في( ييفيا) أوشكت على الإنتهاء، وغدا ومع شعاع الفجر سنكون ب(جرندة) نعلن لهؤلاء الحمقى أننا نحن سادة العالم أجمع والعبث معنا
موت لا يشبه الموت!
إبتسم (ليو) ثم إنحنى بإحترام قبل أن يغادر الخيمة تتبعه عينا(داميان) التي لمعت وهو يتخيل هذا النصر الساحق الوشيك.

( ييفيا)! أيتها المدينة الساحرة، رفقا بالقلوب!
هناك ولادة جديدة، وربما مبكرة، لكنها ستعايش الكثير، الحب في (ييفيا) سخي جدا كالجنة، و حارق جدا كالجحيم.
إحتضنت (إيستاف)عرابتها قائلة بإبتسامة واسعة: لقد تعلمت اليوم العديد من الأشياء الجديدة يا(لويندا)، أشياء لم أسمع عنها طوال حياتي سأخبرك بها جميعها، وستنبهرين مثلي تماما.

إبتسمت (لويندا) وهي تخرج (إيستاف) من حضنها، تنظر إليها بحب: أرى أن الفتاة ستتفوق على عرابتها.
قبلت (إيستاف)وجنة (لويندا) والحماسة تغمرها قائلة: ستظلين العرافة (لويندا)، حكيمة كل الأزمان وعرابتي وأمي، ومهما رأيت وتعلمت لن يكون أي شيء كذلك الذي علمتني إياه.
غشيت عينا(لويندا) الدموع، هي لحظة نادرة لا تتكرر، قبل أن تغلبها مشاعرها قالت:.

بالمناسبةلقد سأل الغريب عنك، هيا إذهبي لرؤيته، ولا تتأخري! (بارتولوميو) يستفقدك و هو متحمس جدا لمعرفة كيف قضيتي يومك.

شعرت(إيستاف) بذبذبة خفيفة بصدرها، كأن النبض الذي اعتادته أخذ شكلا آخر كلما دنت من هذا الغريب، حاولت إنكار إحساسها هذا، لم تتردد وهي تسرع بإزاحة الصندوق والدلوف إلى عيادة( لويندا) السرية، توقفت حين وجدته نائما، إقتربت منه بهدوء لا تبغي إزعاجه، تريد فقط أن تلقي عليه نظرة ثم تعود من حيث أتت، كانت تتأمل ملامحه عن قرب، لقد إرتدى زيهم وأصبح مثلهم، لكنه أشد وسامة من أي رجل رومي، من يراه هكذا لا يظن أبدا انه أحد هؤلاء الفرنسيين بالرغم من شقاره، مدت يدها نحو جبينه موضع إصابته لكنها سحبت يدها بفزع على صوته وهو لايزال مغمض العينين:.

مرحبا!
فتح عيناه لتقع على عينها، إعتدلت وهي تقول بإضطراب: كيف حالك؟
نظر إلى عينيها العسليتين ذات الأهداب الطويلة للحظات، لم تكن بهذا ا القرب منه من قبل او كانت لكنه لا يتذكر، شعر أنه مسحور بنظراتها الخجلة التي تمتزج برقة وعفوية وشيء من الإصرار والقوة، زهرة برية تجذبه في كل مرة يراها فيها! عقد حاجبيه يتذكر كلمات تلك العجوز(لويندا):
(إيستاف)كذكرى حية تظل عالقة بالأذهان.

لقد أدرك الآن ما عنته تلك العجوز، ربما تملك من الحكمة ما يعجز عن إستيعابه الآن، طال صمته لتقول (إيستاف )بإرتباك: هل تذكرت شيئا؟
غمرته الحيرة من مشاعره الغريبة هذه، كان يشعر أنها تعنيه، كأنه يعرفها طوال حياته. قال:
إسمي فحسب! وأنني أحب المعكرونة وأكره فصل الشتاء، أتتخيلين؟
ليزفر مستطردا: أشياء بسيطة لن تفيدني بشيء، عقلي عبارة عن صفحة بيضاء. للأسف!
إبتسمت (إيستاف)وهي تربت على كتفه.

لا عليك. ستتذكر! لا تجبر نفسك!
ستتذكر حين يحين الوقت، أما الآن يمكنك إعتبار نسيانك هذا كأنه استراحة لك من عبء ما، كل شيء يحدث لغاية ما.
قال بحيرة: النسيان؟
كانت تحضر له شاي الأعشاب الساخن، فكانت تبرده بين كوبين، ثم قالت: نعم النسيان! أترى هذان الكوبان؟
وأشارت إلى الممتليء منهما مستطردة: إنها الذاكرة، ممتلىء بالحاضر والماضي، أشياء ترغب بها وأشياء تتحملها بعنف. أشياء كثيرة تفرحك، وأخرى
تحرمك الراحة.

وانظر الى هذا! فارغ، هكذا أنت الآن، خفيف
لايثقلك شيء!
وأخذت تسكب من الكوب الممتليء في الكوب الفارغ قليلا قليلا مستطردة: وهكذا يمتلأ الفارغ من جديد! ذكريات جديدة، وصور قديمة مغبشة، وسيأتيه يوما ما فيمتليء على آخره.
ناولته كوب الشاي وهو يطالعها بنظرات متفحصة كأنه يحاول أن يستوعب شخصية المتحدث إليه. قالت بهدوء:
لم تخبرني عن إسمك بعد!
خرج من شروده وراح يرتشف شايه ثم أجابها بصوت هاديء: (جيوم)!

إلتفتت إليه تبتسم بتردد: فرنسي بالتأكيد، على الرغم من أن مظهرك الآن لا يوحي بذلك أبدا.
قال (جيوم): ربما! وربما أسباني!
رمقته بإرتباك من نظراته قائلة: ربما! لكنك لست غجريا حتما! حسنا. سأذهب! أبي ينتظرني.
قال بسرعة: لا تذهبي!
نظرت إليه بدهشة، ليستطرد قائلا بإرتباك: أقصد لا تتعجلي بالذهاب. فأنا هنا وحدي، أقصد أنني أشعر بوحدة وغربة أريد من يشاركني الحديث.

إبتسمت بهدوء وهي تخرج من حقيبتها كتاب منحته إياه. قائلة: سيشغلك هذا الكتاب ويؤنس وحدتك، لقد أحضرته خصيصا من أجلك.
أخذه منها ينظر إلى غلافه، يقرأ إسمه بهدوء(entre le passé,le présent )(مابين الماضى والحاضر)، لقد أحضرته بالفعل من أجله رفع إليها عيناه بالإمتنان.
قالت: سأذهب الآن ا إعتني بنفسك وسأراك غدا صباحا!
قال بابتسامة: أبكري بالمجيء. رجاءا!

لتبادله إبتسامته قائلة: من يستيقظ باكرا، يباركه الرب. إلى اللقاء!
إلتفتت مغادرة لتتوقف لدى سماعه يناديها: (إيستاف)!
هل سمعت حروف إسمها بهذا الجمال من قبل؟ هي حقا لاتدري! إلتفتت إليه ليقول رافعا الكتاب بيده: شكرا لك.
قالت بإبتسامة: على الرحب والسعة!
ثم إلتفتت تسرع بالمغادرة، بينما يتابعها (جيوم)بعينيه قبل أن يتنهد ويفتح كتابه يتصفحه يتراءى له من بين حروفه عيون بلون العسل وكم يعشق العسل! ليهمس قائلا:.

ستكونين ذكراي الحية التي لا تفرغها ذاكرة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة