قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

توجه (جيوم)بخطوات سريعة غاضبة نحو مكتب والده، حتى أنه لم يلق التحية على الخادمة(تونيا) أو يمزح معها كعادته، فاليوم هو في قمة غضبه، تشتعل عيناه بلهيب الثورة، فقد فاض به الكيل من سياسة رجال دولته وعلى رأسهم الجنرال (داميان جلير). والده!
ذلك الذي لا يرى سوى علم فرنسا، يرغب في أن يجتاح كل مكان بغض النظر عن الثمن ومايدفعه هؤلاء الأبرياء من دمائهم وأرواحهم في سبيل تحقيق ذلك.

إقتحم غرفة المكتب دون إستئذان، توقف لهولة ما إن رأى والده خلف مكتبه يرمقه بنظرة كانت لتردعه بالماضي ولكنه اليوم عازم وبكل قوته على وضع حد لتلك المهزلة التي دامت كثيرا...
تبادل مع والده النظرات لثوان ليقول( داميان ) ببرود: حسنا.! هل ستظل واقفا هكذا؟ أم ستقول ما جئت من أجله، ولتدعو أن يكون ذا أهمية تبرر وقاحتك هذه أو اذهب فلدي مايشغلني!

قال (جيوم)بسخرية: ومنذ متى لم تكن مشغولا؟ فأنت جنرال فرنسا العظمى، ومثل جميع قاداتها، أطماعكم تعميكم عن الحياة، ترغبون في كل شيء، وتضعون أعينكم على ثروات غيركم، تستعر بداخلكم نيران الطمع، كلما أطعمتموها طالبتكم بالمزيد.
عاد ( داميان ) إلى الخلف على كرسيه وشبك يديه يطالعه باستهزاء وبصوت حاد قال: أتسمي سعينا من أجل رفعة وطننا وإعلاء رايته فوق الجميع. أطماع؟ بئس الرجال أنت!

إن كانت فرنسا تلد رجالا مثلك فسأدعوا الله أن يصيبها عقما فتعجز عن الإنجاب. ولكن ما يمنعني هو أنني أعلم أن بها رجال يدركون هدفنا الأسمى ويدعمون رؤيتنا المستقبلية للبلاد. كما أوقن أنك لست منهم، لا تشبهني قط. كم تمنيتك أن تكون ذو قوة ترهب الجميع، قائدا يعول عليه لأفتخر بك، ولكنك تشبه (روانا) مع الأسف، عاطفي بائس!

جحظت عينا (جيوم) رغما عنه و غشيتها الدموع لدى ذكر والدته التي ماتت كمدا، ليقول بصوت حزين:
نعم أنا أشبه والدتي، وهذه نعم الرب التي خصني بها. فلا أريد أن أبدا أن أصبح مثلك. قاس. متحجر. وعديم القلب...
هدر (داميان)وهو ينهض ضاربا بقبضته سطح مكتبه: أصمت وأغرب عن وجهي الآن يا (جيوم)وإلا سيطولك سخطي! لو لم تكن ولدي الوحيد وآخر سليل، لألقيت بك في السجن لتتعفن.

، وتدرك النعم التي أغدقها عليك هذا الوالد الذي لا يعجبك.
إبتعد وإلا نسيت أنك إبني وأمرت بإعدامك لتكون عبرة لهؤلاء الفرنسيين الضعفاء الذين سولت لهم أنفسهم أن يعارضوا ما نفعله لوطننا الأعظم.

تجاهل (جيوم)غضب والده وهو يرمقه بكره، يقترب منه قائلا بحزم: لا يهمني إن كنت آخر نسل العظيم (داميان جلير)ولن أعبء بمظهرك أمام هؤلاء الجمع الذين يلتفوا حولك مهللين بأمجادهم المزعومة، ولن أصدق أبدا أن ماتفعلونه من أجل فرنسا.
أوتعلم متى ترتقي فرنسا في الأفق؟
حين تكفون عن إستغلال تقدمها من أجل جرائمكم في حق جيرانكم والدول التي تنهبون خيراتها، من أعطاكم حق الأذية؟ سيلعنكم التاريخ ثق بي!

لقد توفي صديقي (ارنو) في سعيكم المزعوم لرفعة شأن فرنسا، وإجتياحكم وإستعماركم لكل المدن المجاورة، لن أقبل أن يكون لي صلة بإراقة المزيد من الدماء! فلتسلسلني بأغلال السجن حتى أتعفن، فلن يرتاح لي بال حتى أوقف زحفكم المعظم هذا، وأفتح أعين شعب فرنسا العظيم على ما تحملون في قلوبكم من أطماع يغلفها سواد لا يرحم.

بلغ والده السخط من كلامه بينما أمال (جيوم)رأسه بتحية مقتضبة قبل أن يغادر، وقد انكسر قلبه من تعنت أبيه و رفضه الاستماع إليه، إلى جانب كلماته القاسية التي رغم أن (جيوم) لم يظهر تأثره بها إلا أنه حقا تأثر. بل ضربته تلك الكلمات في مقتل.
خرج من المنزل لا يقوى على شيء، إمتطى جواده يسرع به إلى المجهول، لا يدري إلى أين يتجه، ولا يهمه، طالما هذا المكان يبعد كل البعد عن والده...

كانت (إيستاف) تسير عائدة إلى خيام الغجر مع صديقتيها(لاتويا) و (لولان). تقول الأخيرة بخيبة أمل:
لم تعجبني تلك القوارب كثيرا، حقا لقد خاب أملي.
قالت( لاتويا ) بسخرية: وماذا كنت تتوقعين أن تشاهدي ياسيدة الأحزان! سفن عملاقة كسفن أصحاب الدم البارد، حقا لقد صدق من أطلق عليك إسمك. لابد وأنه رأى المستقبل وأدرك أنك ستكونين ملكة الدراما في مسرح الحياة...

إكتفت (إيستاف)بإبتسامة بسيطة بينما قالت (لولان)بحنق: كفاك مزاحا يا(لاتويا). بالطبع لم أكن أنتظر أن أرى سفن عملاقة ولكنني أيضا لم أتوقع أن تكون تلك القوارب مشابهة لمثيلاتها (بجرندة )، هي فقط أكبر قليلا، وهذا حقا مخيب للآمال...

قالت (إيستاف): لا تيأسي سريعا يا (لولان) فمازلنا نستكشف المكان وربما وجدت شيئا آخر يبهرك في تلك المدينة، لقد أخبرني والدي أنها مدينة رائعة وهذا العجوز لا يكذب أبدا، دعك من تلك السفن.
ألم تستمتعي برائحة البحر؟ إنها رائعة تحملك إلى عوالم أخرى، فتشعرين أنك خفيفة كريشة تحلق في هذه السماء الصافية، تعلمي أن تستمتعي ببساطة الأشياء لا تتلفي اللحظة.

كادت (لاتويا) أن تنطق بعبارة لاذعة ولكن صوت (إيستاف)المغمور بالحماس. أصمتها والاخيرة تقول: إنظرا هناك...
تتبعت كل من (لاتويا) و (لولان) إشارة صديقتهما، لتنظرا إلى بعضهما البعض بحيرة، لم تكن (إيستاف )تشير سوى لبعض الأشجار على ذلك الطريق الجانبي والذي بالتأكيد يقودهم إلى الغابة التي حذرهم منها كبار زعماء الغجر، لتنظر (إيستاف)إليهما ثم تعود بناظريها إلى تلك الأشجار قائلة بلهفة:.

هيا. ألا ترون شكل تلك الشجيرات. إنها بالتأكيد تدل على وجود عشبة (الكوهوش السوداء).
نظرتا إليها ببلاهة. لتنظر إليهما قائلة بإبتسامة: إنها عشبة نادرة ومعمرة. تستخدم في علاج الأعراض التي تحدث لإنقطاع الطمث. و آلام العضلات والتهاب الحلق وعسر الهضم. وفي بعض الأحيان في علاج لدغات الثعابين.
عندما جرى ذكر الثعابين ظهر الفزع على وجوه الفتاتين، لتنفجر (إيستاف)ضاحكة. ثم قالت:.

هيا! لا تخشيا شيئا. سنحضر البعض منه ثم نعود بسرعة.
ثم أسرعت بإتجاه الأشجار، لتنظر (لولان)إلى (لاتويا)لتهز الأخيرة كتفيها بقلة حيلة. تشير إلى (لولان)لتتبعهما بصمت. فكليهما يدركان شغف (إيستاف)بالنباتات. ويدركان أيضا أنها لن تعود معهما قبل أن تحضر البعض من هذه العشبة التي لم يعلق إسمها في أذهانهما حتى.
تسيران داخل الغابة بخطوات متوجسة. ولكن رغما عنهما يتبعان صديقتهما المقربة. بل الوحيدة. (إيستاف)...

نظر (جيوم)حوله فإذا به بجانب بحيرة، لا يدري إلى أين قاده غضبه وجواده، تأمل محيطه قليلا، ليضيق حدقتيه وهو يرى هذا الطريق الجانبي، ليدرك أنه قد أصبح في (ييفيا). خيرا فعل! إنها مدينة ساحرة ليقضي بها بعض الوقت ربما إستطاع أن ينسى ولو مؤقتا ما يحدث هناك في المدينة المجاورة (إستفار)،
حيث يجلس الآن والده المبجل مع قادة فرنسا يخططون للسيطرة على مدينة أخرى تحت شعارهم المزعوم، مصلحة فرنسا العظمى.

إقترب أحد الرجال من الزعيم وانحنى بإحترام قبل أن يقترب منه هامسا له بشيء في أذنه، إلتمعت عينا الزعيم بغضب مكتوم، ليبتعد الرجل عن زعيمه بعد أن أنهى كلماته، هز زعيم الغجر رأسه قبل أن يصرفه بيده دون كلمة، ليبتعد الرجل على الفور مغادرا، لينهض (سيرجيو) يجول في خيمته ذهابا وإيابا بإضطراب تأكله النيران، يتساءل إلى أين ذهبت فتاته مع صديقتيها؟ إنه اليوم الأول لهم بالمدينة الغريبة. ربما أصابها مكروها أو. أو...

نفض أفكاره السوداء وهو يقف ناظرا إلى السماء بحنق، يتساءل إلى أين ستصل هذه الفتاة بتمردها؟ لقد إنتظر كثيرا أن تكبر ويشتد عودها، ليستطيع أن يحقق حلمه بالزواج منها. سنوات قليلة تفصله عن تحقيق هذا الحلم، يبعد عنها كل الرجال في عشيرته، تحرسها عيناه دوما، مازالت تستطيع الإفلات منه وإثارة قلقه عليها كما فعلت اليوم، ربما عليه أن يتجاوز تلك السنوات ويجعلها زوجته في الحال، ليزفر بقوة وهو يدرك أن هذا البغيض(بارتولوميو) لن يوافق.

ضرب بقبضة يده اليمنى كفه الأيسر وهو يقول بحنق: بحق الرب. ماذا فعلت ب (سيرجيو موراتا)يا (إيستاف)؟
خلع عنه قبعته يمرر يده في شعره بعصبية وهو ينتظر بمشاعر ثائرة خبر وصول تلك التي قلبت حياته رأسا على عقب.

أسرع (جيوم )بجواده. يقترب من المدينة بقلب متلهف. يشرد بأفكاره في والده الذي يستشيط منه غضبا الآن. وفي (بيير ) صديقه الوحيد الآن بعد وفاة(ارنو). لابد وأنه سيصاب بالقلق لعدم ظهوره في الحفل الذي يقيمه على شرف فوزه في مسابقة الرماية بالأمس. ربما عليه فور وصوله( ييفيا) أن يتصل به هاتفيا. ويخبره بأسفه وربما عليه أن يدعوه للإنضمام إليه، أفاق من أفكاره فجأة على مرأى ذلك الغزال الذي ظهر من العدم أمامه. حاول تفاديه. فحاد بجواده عن الطريق. لينتاب الجواد حالة من الذعر لم يدري(جيوم)سببا لها. حاول تهدئة جواده وإعادته إلى طبيعته ولكن كل جهوده ذهبت سدى وجواده ينطلق إلى الغابة بسرعة جنونية. يدرك (جيوم)بكل يقينه أنه يتجه إلى هذا الجرف ليلقى حتفه. فما كان منه سوى المجازفة بإلقاء نفسه من فوق جواده. مخاطرا بحياته. لم يكن هناك وقت للتردد. فأسرع بتنفيذ ما إنتواه. ليسقط أرضا بقوة. شعر بألم شديد في رأسه وقدمه اليسرى. قبل أن تسود الدنيا من حوله.

قالت (لولان) بملل: هيا (إيستاف)لقد تأخرنا بالفعل، وقد مللت حقا.
لتقول(لاتويا): لأول مرة أتفق مع (لولان). لقد تأخرنا حقا يا(إيستاف)ولابد أن أهلنا قد إنتابهم القلق الآن. هيا بحق العجوز(بارتولوميو).!
نظرت (إيستاف)إلى قرص الشمس الأحمر الذي يبدو أنه يذوب في سواد الليل الوشيك، لتدرك أنهما على حق، لقد تأخرن بالفعل ولابد أن يسرعن بالعودة لتزفر قائلة:.

لم أجد ما أبحث عنه بعد ولكنكما على حق لقد تأخرنا. ربما سأعود غدا باكرا. وأبحث عما أريد.
زفرت (لولان)بإرتياح ليلتفتن عائدات من حيث أتين، سرن لبعض الوقت حتى توقف(إيستاف) فجأة وضاقت حدقتيها. لتقول(لاتويا)بضجر:
ماذا هناك أيضا؟
لم تجيبها واتجهت إلى تلك النقطة التي تنظر إليها بينما تبعتاها الفتاتان بحنق، لتتسع أعينهن وقد بدأت تتوضح صورة الشيء الذي تتجه نحوه (ايستاف)، هناك شخص غارق بدمه مسجى ع الأرض...

كانت (إيستاف) الأسرع بينهن في الوصول إليه، عقدت حاجبيها حين رأت تلك الدماء التي تغطي وجهه، أسرعت بعملية تتفحصه بينما توقفت الفتاتان بجوارها بوجل، زفرت بإرتياح قائلة:
مازال حيا. فقط بعض الكسور والكدمات. ما أخشاه حقا إصابة رأسه. لذا علينا أن ننقله بحذر...
إتسعت عينا الفتاتين بصدمة لتقولان في نفس واحد: ماذااا؟

قالت (إيستاف )بحنق: إنه مصاب وعلينا معالجته! بالطبع لن نتركه في هذا المكان، خيامنا قريبة، فقط علينا الحذر في نقله، وببعض العلاج والصبر سيكون بخير.
نظرت إليها (لولان)وكأنها قد نبت لها رأسين قائلة: هل جننت؟ نأخذ غريبا إلى العشيرة، سيقطعون رؤوسنا.
ردت عليها إيستاف بنفاذ صبر: لا تقلقي! سنأخذه إلى خيمة(لويندا)وهي ستعاجه يكفي أن تلتزما الصمت ولا تخبرا أحد، اتفقنا!

قالت (لاتويا): ولكنه فرنسي كما يبدو عليه ,وأنت تعلمين كم تكره عشيرتنا الفرنسيين. إن ما تنوينه هو ضربا من الجنون عواقبه مهلكة.
قالت (إيستاف)بحزم: لقد حسمت أمري، لن أدعه هنا ليموت. ضميري لن يسمح بذلك. فإما آخذه إليها بمفردي أو تساعدانني، القرار قراركما، لكن أسرعا، فحالته تتدهور في كل ثانية تمر علينا.

تبادلت الفتاتين النظرات القلقة قبل أن تحسما قرارهما فضميرهما بدورهما لن يسمح لهما بترك مخلوق مابين الحياة والموت.
حسنا. نحن معك! أخبرينا فقط كيف يمكن أن نساعدك.
تململ هذا الجسد بقربها لتنظر (إيستاف )إليه بسرعة. فتح عيناه لتظهر حدقتيه البندقيتين يتأملها للحظة قبل أن يقول بالفرنسية: Ma fleur sauvage.

ليغمض عينيه مجددا ولكنه ترك في نفسها شعور غريب لم تدرك كنهه، فقد سارع من دقات قلبها نظراته إليها وهمسه تلك الكلمة التي ترجمتها على الفور( زهرتي البرية ). لتدرك الآن فقط أن وجود هذا الرجل في عشيرتها يشكل خطرا بالفعل، وربما على سلامتها هي بشكل خاص.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة