قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثامن عشر

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثامن عشر

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الثامن عشر

تسحبنا الحياة إلى أعماق الحزن آن، ثم ترمي بنا إلى أحضان السعادة آونة. هكذا هي مد وجزر!
وهكذا هي. مقابل الحصول على شيء نخسر أشياء أخرى، في الواقع، علينا أن نعترف بأن المتعة والألم متكاملان، الرخاء لن يدفعنا إلى إكتشاف الواقع المرعب الذي يحيط بنا. اما البؤس يجعلنا نعي ذلك، بل يقوي روح المقاومة بداخلنا، يجعلنا نناضل من أجل السباحة عكس التيار لنصل إلى سطح ثابت، فنقف بفخر واعتزاز، نستمتع بلذة المد!

انتصف النهار وتوسطت الشمس السماء، فاحت رائحة أشهى المأكولات التي تعدها النسوة وسط غنائهن، أما الشباب فقد جعلوا من ساحة القبيلة مكانا رائعا.

فرشوا الأرض وعلقوا الشموع في قوالب زجاجية ملونة وغمروها بالزيت، وزينوا الكراسي بزهور بيضاء و حمراء رائعة، ومسطبة العروسان جعلوها عالية حتى يتسنى لكل الحضور رؤيتهما، كانت بشكل دائري، متكىء كل واحد منهما على نصف قطر مزين بالورود الحمراء، وفي الجانب الآخر وضعوا طاولة كبيرة تمتد لعدة أمتار مزينة كذلك بالقناديل والورود...

كانت (إيستاف و لولان) تقومان بمساعدة (لاتويا) بتجهيز نفسها، أحضرت لها (أرانزا) فستان الزفاف والمجوهرات كما جرت العادة لديهم.
فستان أبيض يتكون من قطعتين، صدرية بيضاء مطرزة بالذهب ومرصعة بأحجار متفاوتة الحجم من اللؤلؤ، وتنورة واسعة بذات اللون.

والمجوهرات كانت عقد عريضا من اللؤلؤ به تعليقة من الزفير الأصفر على شكل زهرة التي احتوتها كذلك أقراط الأذن، وحزام خصر فضي به حلقات نجمية، والعديد من الأساور الذهبية...
ارتدت (لاتويا) فستانها لتكون أجمل أميرة في الكون، اقتربت الصديقات واحتضن بعضهن بفرحة ودموع في الحين الذي دخلت والدتها برفقة (لويندا) حيث إقتربت منها ووضعت على رأسها وشاحا حريري أحمر وقبلت جبينها وقالت:.

إنها اللحظات الأخيرة لك كإبنة عزيزتي! بعد قليل ستصبحين إمرأة. إمرأة (ميغيل)! إنها المرة الثانية التي أشعر بها بهذه السعادة الغامرة، يوم ولادتك. والآن!
لم نجلب لك غير الشقاء أنا و والدك، أرجو أن تغفري لنا صغيرتي! ولكن مايعزيني أن (ميغيل) رجل حقيقي، رجل يعتني بإمرأته، ستكونين بخير برفقته.

وتعانقتا تذرفان الدموع لتقول( لويندا): الأشقياء هم من يعرفون المعنى الحقيقي للسعادة (نوريتا)، إنهما ناضجان وسيعتنيان ببعضهما، دعي الفتاة تسعد لقد أتلفت دموعك زينتها...
ابتسمن بعفوية على طيبة (نوريتا) التي يبدو أخيرا أنها قد نالت حظها من المد.
وقتذاك كان (بارتولوميو) يجلس بعيدا عن هذا الصخب هو وحصانه لكنه لايكلمه على غير عادته صامت فحسب، اقترب منه (سيرجيو) وجلس بقربه وقال:
فيم تفكر؟

قال(بارتولوميو): أنني أتقدم في السن!
ضحك الزعيم على رده الغير متوقع وقال: بحق السماء! كأنني لا أعلم تهافت النساء على محل الورود خاصتك.
قال: وهل يغير ذلك كوني أصبحت عجوزا؟
شعر الزعيم أن هناك أمر جدي يشغل باله ليسأله: ما الخطب (بارتولوميو) لم أرك متشائما هكذا يوما؟
حاول التماسك واستقام وهو يقول: ربما لأنني لا أستطيع مجاراة هؤلاء النساء اللواتي يتهافتن علي.

عاد الزعيم إلى الضحك ثم قال بإرتباك: أريد أن أتزوج إبنتك!
انفجر (بارتولوميو) ضاحكا وهو يمسك ببطنه ثم قال من بين ضحكاته: لقد غيرت مزاجي فعلا يارجل، جعلتني أضحك مع أنني لم أكن أرغب بذلك.
ليقول الزعيم بجدية: أنا أحبها! وسأفعل المستحيل من أجل إسعادها! أرجوك (بارتولوميو) لا ترفض!
عاد التجهم إلى وجهه وعقد حاجبيه ورفع إصبعه في وجهه وقال: سأعتبر الأمر مزحة! وإلا سأنسى أنك الزعيم!

وغادره بينما اشتعل حقد الزعيم وزاد إصراره على إمتلاكها...
عاد (بارتولوميو) غاضبا إلى خيمته فوجد إبنته قد إرتدت ثيابها. تنورة زرقاء طويلة وصدرية بأكمام مفتوحة باللون الأصفر ورفعت أجزاء من شعرها الطويل الفحمي إلى الأعلى حيث برزت أقراطها الفضية الكبيرة، كانت في غاية الرقة والجمال، نظر إليها للحظات يتمعن في الشبه الهائل بينها وبين والدتها و همس أخبريني كيف أتصرف الآن (أليسيا)! لتقول( إيستاف):.

هاا! أقلت شيء أبي؟
قال: همم. تبدين رائعة!
اقتربت منه تحاول رفع القلق الذي يساوره حيالها وقالت: أعلم أنك غاضب مما فعلت، لكني كنت ملزمة بأن أفعله وكان علي أن أفعله، أبي! إنه قدري،
لا أريد أن أستسلم لأي ظرف تحت الخوف أو قلة الحيلة، أرجوك تفهمني، أعدك أن أعتني بنفسي جيدا ولا أتهور.
عانقها بصمت وهو يصارع رهاب فقدها بكل طاقته. لتردف: هيا إستعد يابطلي، سنحتفل الليلة بأكبر نصر حققناه.

اومأ برأسه وتوجه إلى مكان نومه بينما بقيت تحدق فيه بقلة حيلة، دخلت (لولان) مسرعة وأخبرتها أن (جيوم) بخيمة (لويندا) فأسرعت الفتاتان إلى خارج، تريث (بارتولوميو) قليلا ثم تبعهما:
ارتفعت الموسيقى والغناء وبدأ الشباب في الرقص.
كان (جيوم) يجوب الغرفة ذهابا وإيابا بقلق بالغ
حتى دخلت (إيستاف) التفت نحوها وقبل أن ينطق انعقد لسانه من جمالها وتوهج إبتسامتها.

اقترب منها بسرعة ليعانقها فتراجعت تمنعه من ذلك فقال بحيرة: أنت بخير!
قالت بحيرة: ماذا؟
قال: كنت أظن أن. مهلا أأنت بخير؟ ماذا يحدث هنا؟ هل تقيمون مراسم الحداد بالموسيقى؟
ضحكت على بلاهته وحيرته وقالت: كلا! إنه زفاف (لاتويا و خوان ميغيل)!
اقترب منها بغضب وقال: لما خرجت وراء (روزاليندا) في ذاك الوقت المتأخر؟ ماذا لو أصابك مكروه؟
تجهمت قليلا فيدو أن غلطتها تلك ستعاقب عليها من قبل الجميع وقالت: ماذا!

فقال بحزن: كنت لأموت كمدا!
اقتربت منه وأمسكت يده وقالت: لاضير في أن تحب. وأن تعشق! لكن لا تتعلق بأحد بالقدر الذي يجعل حياتك من بعده مستحيلة! نحن زائلون (جيوم)، خلقنا لغاية ربما سنحققها أو نموت قبل ذلك، لكننا حتما سنتعرض للأذى كما نتعرض للراحة. هكذا هي الحياة. مد وجزر!

أتينا من (جرندة) إلى (ييفيا) بحثا عن الأمن، لكنني أدركت أن الأمن يأخذ ولا يمنح، ومع ذلك وجدت نوعا من الأمن هنا. أنت الأمن الذي منحتني إياه( ييفيا) دون أن أناضل لأنتزاعه منها ومع ذلك سأناضل لأنتزعه منها!
ليقول بقلق: (ييفيا) ليست آمنة (إيستاف)، ارتحلوا إلى( إستفار)، أستطيع تدبر ذلك، ساجعل من قس مدينتنا يدعوكم الإنتقال هناك.
ابتسمت وقالت: وسكانها! هل ستقومون بترحيلهم أيضا؟

الأمر ليس بهذه البساطة (جيوم) لأنه لا يتعلق بنا. يتعلق(بييفيا) ذاتها. لن نتركها ونغادر أصبحنا كيانا واحدا والكيان لا يتجزأ.
أنت العدو (جيوم) ستظل كذلك إلى أن نأخذ أمننا وأمن (ييفيا)!..
استقام وبدا كما لو أنه يفكر بشيء ثم قال: لنتزوج! لنتزوج ونغادر من هنا!
استقامت بدورها واكتست ملامحها الجدية: عدت إلى الإمتلاك (جيوم)، أخبرتك مرارا لا تحد عن مبادئك حتى لو كنت أكبر أطماعك!

زواجنا مستحيل! أنت الغريب بالنسبة إلي وقوانين عشيرتنا تحرم علينا الزواج من الغرباء فماذا لو علموا أنك العدو!
قال بغضب: عدو! عدو! عدو!! لم أختر أن أكون العدو
لم ألحق الأذى بأي أحد. لما أنا عدو إذن!
ألمجرد أنني إبن (داميان جلير). أكون العدو!
اقترب منها وأردف: أعدك أن افك الحصار عن (ييفيا)، أعدك أن أخذ من أجلك الأمن الذي تريدينه. أعدك أن أكون الغريب الذي يستحقك!

قالت بتهكم: أمم. وعودا كثير. هااه! لتكن مشيئة الرب إذا! والآن سأذهب، (لاتويا) في إنتظاري.
همت بالمغادرة فأمسك يدها وقال: أريد أن أشاهد مراسمكم!
فقالت بإبتسامة.
اختبيء في أي زاوية مظلمة وشاهد كيف يحتفل (الروم ). ارحل أيها الغريب!
اتشحت السماء بالسواد وتلألت القناديل الملونة
وصخبت الأجواء...

هاهي العروس مع صديقتيها ترفل فستانها بخيلاء، على صوت الموسيقى الهادئة، تتناثر فوقها بتلات الياسمين الفواحة وعريسها يطالعها بإبتسامة بالجهة المقابلة.
جلست العروس في مكانها وكذلك العريس واقترب (سيرجيو) ليقوم بمراسم الزواج، وقتذاك همست (لولان) ل(إيستاف):
لما يجلس كل من العروسين على نصف دائرة؟

ابتسمت (لويندا) واقتربت منهما وقالت: حياة الإنسان دائرة لا تكتمل إلى بشريكه، هكذا يعيش الشاب أعزبا نصفها، والفتاة عزباء نصفها وبعد أن يتزوجا تكتمل دورة حياتهما.
هكذا هي الحياة. تبقى منتصفة لا تكتمل إلا بروح مزدوجة موحدة.
وقف الزعيم بين العروسين وقال: اجتمعنا اليوم أعزائي لجمع قطري كل من (خوان ميغيل) و( أنا لاتويا) في دائرة الحياة المقدسة، وليكون الجميع شاهدا على ذلك.
وتوجه بالكلام إلى العروس.

(أنا لاتويا) هل أنت مواقفة على إتخاذ(خوان ميغيل) زوجا لك والإلتزام بواجباتك نحوه، ومشاركته أفراحه وأتراحه ومساندته أيا كانت الصعاب التي سيواجهها، وتكوني زوجة صالحة له لبقية حياتك؟
قالت (لاتويا) باستحياء: نعم! موافقة.

تعالت المباركات بين الحضور ليقول الزعيم موجها كلامه إلى العريس: (خوان ميغيل)، هل تريد أن تتخذ من (أنا لاتويا) إمرأة لك، تشاركك حياتك في سرائها وضرائها، تعتني بها وتتعهد بأداء واجباتك نحوها بقية حياتك، هل تقبل؟
صاح (ميغيل) بأعلى صوته: أقبل. أقبل. إلى الأبد!
ارتفع صوت الحضور بالتهليلات والتصفيق بينما قال الزعيم: اليوم تكتمل دائرتكما. اعلنكما زوجة وزوجة!

إقترب (ميغيل) من عروسه وقبل جبينها ثم وضع على رأسها إكليلا من الزهور وعلى معصمها سوار الرباط المقدس الذي كان عبارة عن حلقات ذهبية اللون تنتهي برمز على شكل صقر فضي من كلا الجانبين والقفل يكون تشابك مخالب هذان الصقرين، ثم إقتربا من الزعيم وقبلا يده، واقترب منهم كل الأهالي يعانقونهما ويتمنون لمهما حياة سعيدة.
زهرتي البيضاء.
بين الحطام. يلمع عرفها.
تتورد من الشوق. بحمرة.
تنحني بتلاتها لتزداد نضرة.

زهرتي البيضاء.
تقف عليها ألف فراشة...
وتقتات منها ألف نحلة.
ولا يزال يلمع عرفها...
كان (جيوم) يبتسم ببلاهة وهو يتخيل هذه المراسم خاصته مع (إيستاف)، كان يراها أجمل فتاة في عشيرتها، إبتسامتها تجعل من المكان متوهجا ساحرا.

بدأ العروسين في الرقص لينظم إليهما الجميع بصخب، حتى (بارتولوميو) أخذ يراقص إبنته المتحمسة التي جعلته يتناسى غضبه منها، كان قد استمع لحديثها مع (جيوم) وكان يعلم أنه يراقبهما من زاوية ما، لكنه أراد أن يتناسى ليحظى ببعض المد قبل الجزر الساحق...

لحظات سعادة عارمة قبل أن يتعالى صوت الرصاص و قرقعة حوافر الخيل والغبار المتصاعد على إثرها، جعل الجميع يفرون كقطيع نشب حريق بإسطبله، أمسك (بارتولوميو) بيد إبنته وركض بها و الجنرال يلحق به بجواده ليضربه بطرف سلاحه على رأسه ضربة قوية جعلته يقع مغشيا عليه، بينما قفز من فوق حصانه وأمسك(إيستاف)من شعرها ولطمها على وجهها وقال بغل:
القمامة تقتل هااا؟! سنرى!

ورمى بها إلى جندياه وأردف: أخرجاها من هنا، سأنظف القمامة والحق بكما!
جراها خارج المخيم وهي تقاومهما، وتصرخ خوفا على أبيها من إصابته، بينما رجال القبيلة هرعوا إلى أسلحتهم يدافعون عن أنفسهم.
لحق (جيوم) بالجنديان وضرب أحدهما على رأسه ضربة جعلته يسقط من فوق حصانه بينما سحبت (إيستاف) سلاح الآخر الذي تشتت من هجوم (جيوم) وانهالت عليهما ضربا بالرصاص.

أجفل (جيوم) والجمته الصدمة من رؤية فتاته الرقيقة وهي تتحول إلى لبؤة شرسة تقتل بغضب دون أن تطرف حتى، أخرجته من دهشته وهي تقود الحصان عائدة إلى المخيم ليلحق بها وهو يصرخ:
توقفي! توقفي (إيستاف)!
توقفت بعنف جعلت من حصانها يقف على قائمته الخلفيتين وهو يصهل وقالت بحزم: لا وقت للعواطف (جيوم). قومي يصارعون الموت. ليست معركتك! ارحل من هنا!

واستدارت عائدة دون أن تمنحه فرصة للإعتراض. دخلت المخيم، تؤزر قومها الذين كانوا يتبادلون إطلاق النار مع الجنود، فتشتت جميع من رآها تحمل السلاح وتطلق النار منه لتقول:
هيا.! لن نسمح لهم بالخروج أحياء من مخيمنا. لنريهم كيف تقتل القمامة!
حين يحوم الموت مزمجرا، يكون كالكابوس المزعج يستمر لثوان تكاد لا تنتهي، تعيش بداخله الكثير، وما أن تستفيق تجده كطرفة عين فحسب.

هدأ الطلق بعد دقائق، ولا يزال الغبار متصاعدا، قتلوا جميع الجنود لم يستطع أحدا الفرار منهم، كان (سيرجيو) قد أصاب الجنرال بعدة طلقات عشوائية على مستوى جسده لكنه لم يمت بعد، اقتربت منه (إيستاف) وأطلقت النار على رأسه، ثم جلست قرفصاء بجانبه وقالت:
ألم أقل لك أن الفيروسات فتاكة!
بصقت عليه واستقامت، ليصفعها الزعيم صفعة قوية أخلت توازنها وكادت تسقط لو لم يمسكها.

(روبيرتو) وقال بغضب: هل جننت! تدخلين شاهرة سلاحك وتطلقين النار. ماذا لو أصابك مكروه يابلهاء!
استقامت واقتربت منه بعنف حتى كادت تلصق وجهها بوجه وقالت بصوت عال: مكروه! لقد خطفني رجال هذا الوغد، وكان سيصيبني مكروه مالم أدافع عن نفسي! أين كنت أنت؟ واين الرجال لتحميني؟ في الحرب إما أن تقف بعزم وتبرز أنيابك في وجه العدو أو تموت تحت مخالبه!

ورفعت سلاحها عاليا وأطلقت منه ثلاث طلقات متتالية. الأخيرة! ووضعته بين يده وأردفت:
حين أجد من يدافع عني، حين أجد الأمن، لن أحمله ثانية.
والتفتت تبحث عن أبيها وهي تناديه، ليأتيها صوت (لويندا) من بين الغبار المتصاعد لتهرع نحوها، أمسكت يدها فشدت عليها إيستاف حتى كادت أن تكسرها وقالت:
هل رحل؟

نزلت دموع (لويندا) لأول مرة تغيب حكمتها فلا تستطيع التفوه بشيء، واكتفت الإيماء برأسها لتطلق (إيستاف) صرخة أجفل الجميع على إثرها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة