قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الأول

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الأول

رواية لن يشفى الجرح للكاتبة شاهندة الفصل الأول

أتى الربيع مبكرا هذه السنة! لا بأس، إنه أمر جيد وسبب مثالي لنترك هذا المكان!
إنها عادة العجوز ( بارتولوميو)، يحب أن يفكر بصوت عال أثناء العمل، ولا سيما إن كان ينظف حصانه كأنه يشاركه الرأي ويبغي مشاورته...
تابع كلماته مستطردا: الطقس جميل وحماسي، الطبيعة زاهية. تبا!
ما المبهج بالأمر ليكون الجميع بهذا النشاط!؟

سمع صوتا يأتى من خلفه قائلا: هون عليك أيها العجوز! لم تصب غضبك على الطبيعة في هذا الوقت المبكر من الصباح؟! دعك من هذا وتعالى! لقد بدأ الإجتماع منذ قليل، لنرى ماذا سيقرر الزعيم؟!
إلتفت (بارتولوميو) لمحدثه قائلا: حسنا (كوريو)! سألحق بك!
لم يكن ( بارتولوميو) يستلطف (كوريو) مطلقا،
يعتبره شخص متطفل إستغلالي يسعى دائما وراء مصلحته على حساب أي أحد، لقد كان يتمتع ببعض الوسامة رغم تقدمه في السن،.

كلاهما كان في العقد الخامس من العمر وكلامهما يتمتع بقوة جسدية لا بأس بها، غير أن (بارتولوميو) سريع الغضب، حانق على كل شيء، لكنه نزيه يتلقى الاحترام من الجميع.
تمتم قليلا وضع يده على خصره ويده الاخرى على جبهته يحجب بها أشعة الشمس التي بدأت تتسلل من كل منفذ تداعب بدفئها كل شيء تلمسه، ثم قال بصوت مسموع كأنه يخاطب حصانه:.

تبا للفرنسيين! لقد بدأت أيديهم تستطيل إلى هنا أيضا، الوضع سيء! ومتى لم يكن؟! نحن (الروم) لا نهاب النار، ويأتي هذا الزعيم الأبله ليقول أن الغجر لا ينتمون لمكان. هم ينتمون إلى كل مكان! ماهذا الهراء بحق السماء؟!

نحن غجر، لا عيب في ذلك! أحرار، كأشعة هذه الشمس تصل إلى كل مكان وهكذا نحن! كنا في قمة مجدنا في الأربعينيات، هذه الخمسينية اللعينة تمخضت بمشاكل لا حصر لها! اللعنة حتى السكان العاديين يريدون حياة الغجر، لما لا يبقى كل في مكانه؟ لما يزحفون كذوات الدم البارد إلى حدود جيرانهم!؟ لا يهم هناك دماء ستراق وعليها أن تراق وإراقتها أمر محتوم. أليس كذلك ياصاح؟

ونظر إلى حصانه ليستدير على ضحكة إبنته وهي تقول: وهل تظن أنه يفهمك يا أبي؟
قال ببشاشة: (إيستاف)! ها أنت ذا! لنذهب سويا إلى الساحة لنرى خطبة الزعيم، سأهشم رأس هذا الغبي يوما ما!
تأبطت (إيستاف )يد والدها بحنان وهي لا تزال تبتسم.

(إيستاف) نعمة الآلهة على هذه القبيلة كما تسميها الحكيمة ( لويندا) مرضعتها ومربيتها، لقد توفيت والدة( إيستاف) أثناء ولادتها في يوم ماطر، مظلم غير مقمر، لربما كانت لتكون نحسا على القبيلة لكن ( لويندا ) تنبأت أنها ستكون نعمة الآلهة على هذه القبيلة...
تولت رعايتها وتربيتها حين كان ( بارتولوميو).

غارق في أحزانه على زوجته الراحلة، كان يحبها جدا فحزن على فراقها حزن عظيم، كان يستأنس برؤية طفلته الصغيرة من حين لآخر، كان يخاف من تعلقه بها فتفارقه كأمها، ففضل أن يبقى بعيدا عنها، كانت طفلة جميلة
تشع بالحياة استطاعت إخراج والدها من دوامة حزنه، بل أعادته للحياة من جديد، فعاد ليختلط بأصدقاءه وعاد لعمله وأصبح يقضي وقتا كبيرا برفقتها فلا تغادره الا قليلا...

حينما بدأت إيستاف تستوعب كل شيء حولها، قامت ( لويندا ) بتلقينها كل ماتعرفه في التطبيب، وعلمتها صنع الأدوية، وكل شيء كانت قد تعلمته، كانت( إيستاف) سريعة البديهة تحفظ بسرعة كبيرة كل شيء تتعلمه، حتى أصبحت عرابتها تعتمد عليها بصفة كبيرة...

ثمانية عشر سنة مرت على قبيلة ( الروم) هنا بجرندة ( كتالونيا) حيث ولدت ايستاف وهاهي اليوم صبية جميلة، كان لها شعر أسود فحمي لامع وعينان بلون الشمس مفعمة بالحماس، تحب الملابس الملونة المحتشمة كثيرا، كسبت قلوب شعبها، فلم تشعر يوما أنها يتيمة بل كان لها أمهات كثيرات واخوات كثيرات...

بعد مسافة ليست ببعيدة، في ساحة القرية
اجتمعت القبيلة كلها بصغيرها وكبيرها، رجالها ونساءها بأمر من الزعيم الذي خلف والده بعد موته، لم تكن القبيلة تستهويه لكنهم فضلوا إعطاءه فرصة إكراما لوالده الذي كرس حياته من أجل إزدهار القبيلة...
انضم (بارتولوميو) وابنته بعد أن ألقيا التحية إلى الغفير المجتمع...
كان الزعيم في العقد الرابع من عمره تبدو عليه.

ملامح الجدية والقوة، يمسك بعصاته وعلى رأسه قبعة قماشية مثبت بجانبها دبوس على شكل صقر من الفضة، وقف أمام شعبه يقول:
نحن غجر! والتنقل عادة ليست بالجديدة علينا، لا أنكر أن هذه البلدة قد كانت موطنا لنا، إنها الجنة التي أرغدت علينا بالخيرات لسنوات، لكن حان الوقت للرحيل...

تعالت الهمهمات بين الناس ليردف وهو يرفع يده ليهدأوا: أعلم أنكم آلفتم هذه البلدة، لكننا سنتعرض للخطر إن بقينا هنا! لقد بدأت الهجمات والاشتباكات بين الدولتين، نحن إسبان وننتمي
إلى هنا، ولكننا غجر، بيوتنا خيام متنقلة، لن تحتاج إلى مدفع أو قنبلة لتنهار فوق رؤوسنا،
لو وصل زحفهم إلينا سيدمروننا قبل أن نستوعب ماذا يحدث لنا...
بدأت الأراء العشوائية من هنا وهناك، فقال أحدهم: نحن أقوياء سندافع عن بلدتنا!

وقال اخر: لن نترك بلدتنا ونفر كالجرذان لمجرد احتمال خطر يهددنا، سنبقى وندافع!
ليقول اخر: سنطلب المساعدة من شريف المدينة من المؤكد أنه لن يتأخر عنا...
وقال (كوريو): أرى أن الزعيم على حق! لا داعي لإظهار العاطفة، فسنعتاد على أرض أخرى كما اعتدنا هذه، الأمر يتعلق بأمننا! لنتعقل بحق السماء!
توجهت الأنظار نحو (لويندا) الجميع يثق في هذه العجوزة الطبية، فاستقامت وسارت إلى المقدمة وقالت:.

النار ستلفنا من كل جانب، سنعلق بالمنتصف،
سيموت الكثير من الأطفال. ستغدر أرواح و دماء بريئة، سنبكي كثيرا. إلى أن تتبلد مشاعرنا وتقسى قلوبنا. سنتشتت وننهار.!
دب الذعر وتعالت الاصوات المرتجفة من الخوف خاصة من النساء ورحن يلفنن صغارهن
بين أيديهن، ليقطع الزعيم هذا الضجيج بكلمته الحاسمة: سنرتحل إلى ييفيا! بعد أسبوع من الآن! أرجوا منكم التفهم، هذا القرار من أجل مصلحة الجميع. لسلامتكم!

بدأ الجمع ينفض شيئا فشيئا , كما عادت (إيستاف) مع والدها إلى خيمتهما، كانت القرية تحوي مئات الخيام الكبيرة المصطفة بالانتظام
وأشجار الغابة الشامخة تحيطها كسور يحميها من الغرباء، أما الماشية واسطبلات الأحصنة كانت بعيدة نسبيا عن الخيام يقوم الحراس والرعاة عليها...
جلس (بارتولوميو) وبجانبه ابنته أمام خيمتهما
أمسكت يديه ومالت نحوه تسأله: مارأيك أبي؟

ليرد بإسهاب: أثق بكلام (لويندا)! كل ما تقوله لا يمكن تجاهله، علينا الرحيل يابنتي! سنعتاد( ييفيا )
مسألة وقت فحسب.
فقالت: سنكون بالمنتصف وسط النيران، برأيك سيكون ذلك أكثر أمنا للقبيلة!؟
أجابها باستنكار: الأمن؟! لن يكون هناك أمن، وأمن علام! على الأرواح؟

الأمن ياصغيرتي لا وجود له، القنابل والرصاص شيء نراه فنأمن بالهروب منه. لكن هناك أشياء تحدث لا نراها. ولن نشعر بها. تباغتنا على حين غرة فتمزقنا إربا إربا. فنحيا أمساخا، إن كان الأمن يمنع الموت المريح ويتركنا نتخبط بأرواح هائمة مشتتة. فلا حاجتنا لنا به...

(ييفيا) هي الأمن الحالي لنا، ليس لأننا نخاف الموت، وإنما هناك لوعة الفقد. لا احد يستطيع احتمال خسارة صغاره. الأمن الذي نبحث عنه في (ييفيا) مختلف. يشبه تلك الراحة التي يشعر بها المتعب الشاقي بعد أن يعود إلى بيته فتنبعث بداخله تلك الرائحة، رائحة العائلة.
كانت( إيستاف) تحدق بوالدها وقد لمعت العبرات بعينيها، شعرت بالحزن العميق المتجذر بقلب والدها، فوضعت على وجنته قبلة لطيفة وأمسكت بيده وقالت:.

حسنا! هناك وقت للحديث الشيق هذا، والآن وقت الغداء. هيا بنا، إنني أتضور جوعا!

في خيمة الزعيم...
كان الزعيم الكهل يجول خيمته ذهابا وإيابا وهو شارد الذهن إلى أن قطع وريد أفكاره تلك صوت ( كوريو ) الذي دخل من دون أن يستأذن مما جعله يغضن حاجبيه من الاستياء...
قال (كوريو): لم يكن الوضع دراميا! ظننت أن القبيلة لن توافق على الرحيل، لكن الساحرة العجوز استطاعت إقناعهم دون أن تقول شيء مفهوم.
رفع الزعيم يده ليصمت، ثم خاطبه بحزم: المكان جاهز؟، والاسطبلات ماذا عنها؟

تنحنح( كوريو) وقال بصوت منخفض: لقد اخترنا المنطقة الشمالية القريبة من هنا، انها مناسبة ومحاذية للقرية، قد ملأت
قريحة القس بما يشبعها وهو مرحب بحفاوة بنا وسيقنع رعيته.
الاسطبلات! نعم.! لقد عمل عليها الشباب وهي جاهزة. سنقوم، سنقوم بالرحيل متى ما أمرت...
قال الزعيم: بعد يومان! والآن انصرف
ليخرج هذا الأخير مرتبكا يتمتم: ياله من وغد متكبر، لم يكن ليصل للزعامة لولا والده.

صاح الزعيم على مساعده وطلب منه أن يستدعي (لويندا )...
أتت (لويندا )ترفل في تنورتها الفضفاضة، تلعب بودعاتها بين أصابعها إلى أن استقرت أمامه وقبل أن يقول شيئا سبقته بقولها:
هناك أشياء كثيرة ستحدث سواء بقينا أو رحلنا، هناك من سيموت حتما. سنعيش ألاما كبيرة، لكننا سنجد الوطن هناك، علينا أن نرحل!

جلس الزعيم على كرسيه بحيرة وأسند رأسه بيده وقال بصوت رتيب: أرجوك انصحيني ماذا أفعل؟ لن أستطيع تحمل رؤية كل شيء سهر من أجله والدي يتدمر. كيف أنقذ شعبي؟
قالت(لويندا): ليس بيدك حيلة. دعنا نرحل من هنا فحسب!
خرجت العجوز بعد أن قالت جملتها الأخيرة تاركة إياه غارقا في همومه وما إن وصلت إلى الساحة حتى صاحت بأعلى صوتها:
باشروا في جمع حاجياتكم. لا تضيعوا الوقت، الوقت!

. واخفضت صوتها مستطردة: لنرى كم سنصمد في وجه الوقت!
مر يومان، وقد أصبحت القبيلة على وشك الاستعداد، لم يبقى الكثير من العمل، ليبدأوا رحلتهم إلى موطنهم الجديد...
كان الشباب قد قاموا بترحيل المواشي والأحصنة إلى الديار الجديدة، وبعض السكان كذلك قد باشروا في نصب الخيام هناك...
قال(بارتولوميو): ييفيا! الديار الآمنة. ديار السلام والسكينة!
ديار السلام والسكينة! ستحبينها (إيستاف )، إنها.

جميلة جدا وليست منعزلة، هناك قرية محاذية لها. هناك سوق صغيرة، وميناء به قوارب صيد كبيرة، وكنيسة، ومستوصف، و. و. امممم.
نظرت (إيستاف) إلى والدها بحماس وقالت: و. وماذا أبي؟
قال (بارتولوميو): و، و. حسنا سأخبرك!
ابتسم مستطردا: ودير للراهبات
أو بالأحرى هي مدرسة صغيرة تعلم فيها الراهبات الفتيات علوما وأدابا مختلفة، و. و
بتذمر ونفاذ صبر قالت: و. ماذا أرجوك؟
قال: وسأقوم بتسجيلك هناك! ستتعلمين.

أكثر مما علمتك إياه (لويندا )، أكثر بكثير صغيرتي!
قفزت (إيستاف )ولفت عنق والدها بذراعيها تحتضنه والسعادة غامرة تلفها وهي تقول: أحبك أبي، أحبك أبي!
ثم قبلته على وجنته...
كانت فرحة( بارتولوميو) دائما حزينة كأنها تبتغي الكمال فلا تصل إلا إلى النقصان، قال وهو يربت على ظهر صغيرته:
كانت لتكون والدتك فخورة بك! بل إنها فخورة حتما!

ابتعدت عنه قليلا ووضعت يدها على خده وقالت: أتعتقد ذلك يا أبي؟ هل ترانا أمي الآن. أنا أحبها كثيرا. وأشتاق إليها كثيرا!؟
ابتسم نصف ابتسامة وقال: إننا أرواح ياصغيرتي! أرواح قبل أن نكون أجساد حية. إننا نحب بأرواحنا وليس بأجسادنا
وحب الأرواح لا نهاية له. كحبك أنت! تقولين أنك تحبينها وتشتاقين إليها كذلك مع أنك لم تريها يوما. لم تسمعي صوتها. لم تشعري بحنانها. لكنك تحبين!

لم؟ لأنك قطعة من روحها وهي قطعة من روحك، روابط الأرواح لا تقطع، إنه حب نوراني. حب فحسب، قوي جدا ومتين، إنها تحبك أكثر مما تفعلين. ربما روحها تحوم حولنا وتراقبنا وترعانا. وربما لا! لكننا نشعر بوجودها من أعماقنا! كأنها الحقيقة الخالدة التي لا يمكن أن تضمحل بأي دليل، إنها فخورة بك! قد أعدت أباك البائس الذي كره الحياة من دونها. إلى الحياة مرة أخرى، تعلقت بك روحي لأنك من روحها فأحببتك مرتين. بروحها وبروحك! سأحيا من أجلك فقط، وسأعمل على أن تكوني أفضل شخص بالعالم. ناجحة وقوية، وأحميك بكل ما أوتيت من قوة.

قالت (إيستاف): كفى أبي!
وطفحت دموعها على وجنتيها وهي تعانق والدها وتشدد عليه.
يوم الوداع...
يوم الرحيل كان أشبه بإلقاء النظرة الأخيرة على الميت قبل دفنه، كانت قريتهم خاوية على عروشها، أرض منبسطة لا روح فيها، بكاها سكانها الذين حملوا لها ود سنوات بمرارة، وودعوها مغادرين إلى ديارهم الجديدة.

استمرت الرحلة يوما كاملا ثقيلا حزينا، وقبل الغروب بدأت ملامح الديار تلوح في الأفق، وماهي إلى أميال حتى وصل الغجر إلى مقرهم الجديد.
كانت الخيام قد نصبت بنفس الطريقة التي كانت عليها (بجرندة ) فشعروا ببعض السكينة التي أزاحت عنهم غمام ترك موطنهم القديم، فعرف كل منهم سكناه وقبل أن يدخلوه للراحة.

رفع الزعيم صوته قائلا: ستكون( ييفيا) ديارنا من الآن فصاعدا، ستدر علينا بخيارتها كما فعلت( جرندة) إن احسنا إليها فستحسن إلينا، أما الآن فارتاحوا من عبء السفر! غدا يوما حافل، سنوزع المهام فقد اتفقت مع شريف البلدة على عملنا هنا.
أما (إيستاف) وصديقتيها فكانت لهما راحة من نوع آخر، الراحة التي تفكر بها الفتيات في مكان كهذا هي التجول واستكشافه، وأهم شيء أن يرين قوارب الصيد هذه وكيف يكون شكلها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة