قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السادس

لم تره منذ أن استيقظت صباحا لتفاجأ بمكانه الى جوارها في الفراش خالٍ، لم تعلم أكانت تود رؤية عينيه بعد ما كان بينهما سويا، أم أتحمد الله أنها قد ذهب، ليعفيها من الخجل الذي تشعر به وهو يكبّل خلجاتها.

هي لم تكن يوما شخصية رومانسية، فلم تستهويها قصص الحب التي كانت تسمع بها من رفيقاتها سواء بالمرحلة الثانوية او الجامعة، كما أنها ليست شغوفة بقراءة الروايات الرومانسية، بل تميل أكثر للقراءة بكل ما يتعلق بالعلاقات الانسانية وتتعمق بالنفس البشرية، فكم شدتها تلك الكتابات الفلسفية، فهي مؤمنة أن كل انسان له نقاط ضعف او مفاتيح لشخصيته الحقيقية، تكون موجودة بأعماق نفسه، وحده الانسان الذكي من يستطيع وضع يده على تلك المفاتيح وذلك بمعرفة طبيعة النفس الحقيقية لمن يقف أمامه، وهذا لن يكون الا بعد المعرفة الالمام بكل ما يتعلق بدارسة النفس الانسانية أو ما يسمى ب علم النفس، تتذكر مزح شقيقها معها عن أنها كان ن الانسب لها دراسة الفلسفة وعلم النفس فكانت ستبرع كمحللة نفسية لا يشق لها غبار، لتخبره يومها أن عملها محامية يستوجب أن تكون على علم بكل ما يتعلق بخبايا النفس البشرية، فيكفيها عندها نظرة الى عيني محدّثها لتعلم خبايا نفسه، وبالأمس، وهي تنظر الى عيني صالح، فيما هو يحتويها بين ذراعيه، أخبرتها عيناه بالكثير، ولكن أكثر ما لمسته من نظراته أنها شعرت به كمن وضح رحاله أخيرا في مرفأ وصوله بعد طول سفر وترحال، وأنه عابر سبيل وصل لموطنه أخيرا، لتشعر بأن هذا الوطن لم يكن سوى ذراعيها بالنسبة له، فما ان احتواها بين ذراعيه بعد أن انتهت تلك العاصفة التي اندلعت بينهما لا تعلم لها اسمى، ولكنها شعرت بها تكاد تطيحها عن قدميها، ما أن انتهت حتى تنفس بعمق وهو يحتضنها بحنان ورقة، وكأنها زجاج هشّ يخشى عليه من الكسر، ليضع رأسه فوق صدرها ويغيب من فوره في سبات عميق حتى أنه لم يكد يمر ثوان حتى سمعت صوت أنفاسه المنتظمة العميقة، وكأنه لم ينم منذ دهر أو يزيد!

والآن، وما ان فتحت عينيها حتى وجدت نفسها بمفردها في غرفتهما، لتلتقط مئزرها ترتديه وتدلف خارجا تقدم قدما وتؤخر أخرى حتى تستطلع وجوده من عدمه في سائر الجناح، لتفاجأ بأنه قد غادر المكان كلية، لتعود الى غرفتها تنوي الاغتسال وتبديل ثيابها و...

وقعت عينيها على غطاء الفراش، لتحمرّ وجنتيها حياءا وخجلا، وتسارع لنزع أغطية الفراش حتى تقوم بتنظيفها فعلاقتهما الزوجية يجب ان تكون بعيدة كل البعد عن ثرثرة أيّ كان، حتى أنه هو بنفسه لم ينفذ ما طلبته منه عمته نرجس وهو يرافقها الى داخل الجناح، حيث أخبرته أنها ستظل واقفة مكانها حتى تأتيها البشارة وتمسك بيدها ب المنديل!

ولكن صالح وبعد أن أصبحت زوجته فعليا، وكانت نرجس تطرق الباب كل وهلة تتعجله، لم يفعل سوى أن طالها بابتسامة صغيرة، نهض بعدها من جانبها متجها الى الباب، حيث شرعه دفعة واحدة حتى ان نرجس كادت تسقط على وجهها، لينظر اليها يخبرها ببرود بأن تطمئن، فقد أصبحت زوجته فعليا، ولا يشوبها شائبة، وعندما سألته عن قطعة القماش التي أوصته بها أخبرها بجمود قبل أن يغلق الباب في وجهها فهو تمتم ب عن اذنك بصوت لا يكاد يُسمع، بأن كلمته تكفي، وليست زوجة صالح الراجي من تكون محل شك لتثبت براءتها بقطعة قماش ملطخة بنقاط من الدماء، كما أنها بدارة الناجي واسمها لوحده أكبر دليل على أنها. صاغ سليم!

كانت تقف في زاوية بعيدة عنه، فلم تستطع كبت فضولها لتعرف ماذا سيقول لعمته، لتفاجئ بكلماته المليئة بالفخر بها، ولم يكد ينهي حديثه مع عمته حتى طارت عائدة الى مكانها فوق الفراش في انتظاره، وقد اعترفت لنفسها بأن صالح قد جعل مشاعر غريبة عنها تتسلل اليها، لن ترهق عقلها في الوصول الى معناها الآن، ولكن ما هي متأكدة منه تماما أنها، سعيدة. و. راضية بموقف صالح، ولا تدري لما خالجها احساس أنه وبالرغم من أنها على يقين من أن عمته لن تتركها هادئة البال فهي كثيرا ما سمعت من خالتها روحية عن أن نرجس شخصية قوية صعبة المراس، ولكنها تشعر أيضا أن صالح لن يتركها لقمة سائغة لها، فها هو قد فرض حمايته لها منذ الليلة الاولى، على الرغم من أنها ليست أنثى ضعيفة بل أنها أكثر من قادرة على حماية نفسها، ولكنها شعرت بسعادة غريبة وهي تجده يرفض طلبا لعمته من أجلها هي، حتى لو كان أمرا عاديا في وسطهم، ولكنه شعر بطريقة أو بأخرى أن هذا الأمر غير صحيح لمن كانت بدارة هي زوجته، حتى إذا ما عاد اليها يحتويها بين أحضانه بعد ما كان بينهما احتوته هي الأخرى بين ذراعيها ليتوسد صدرها فتداعب أناملها شعره الفحمي المجعد بأصابعها البيضاء الناعمة...

تنفست بعمق وهي تفكّر أنها لن تشغل ذهنها أكثر من ذلك، فعليها الان الاستعداد لاستقبال خالتها وشقيقتها ونساء عائلتها المقربات فقط، فقد نبّه جدها خالتها روحية أن عائلة الراجي لا تزال في حالة حداد على فقيدتهم، فممنوع منعا باتا إطلاق أي زغاريد، كما أمرها ألا تصطحب معها الا قلة قليلة من المقربات فقط، مراعاة للظروف، وفي ذات الوقت حتى لا يكسر فرحة حفيدته الاثيرة لديه تماما، فلو كان في ظروف طبيعية كان أقام الافراح أربعين ليلة كقطر الندى تماما، والأكيد أنه لم يكن ليوافق على تلك الزيجة، فهي جوهرة عائلتها، وتستحق من هو أفضل، يكفي أنه زوجا لغيرها وربّا لعائلة أخرى.

ارتدت بدارة عباءة استقبال بيضاء مكونة من طبقات من الشيفون الابيض، تنسدل بطول جسمها حتى الارض، مطرز بدوائر ذهبية على حواف ياقة العباءة المتخذة شكل مربع هندسي، وعلى الصدر، بشكل رقيق ولكنه جذاب، ذات حمالات متوسطة فوق كتفيها العاريتين، يغطيهما وشاحا أبيض من الشيفون الأكثر سمكا، مشبوك في حمالات ثوبها وينسدل بطول عباءتها خلفها حتى الارض، لتبدو تماما كملكة عندما تسير بينما الوشاح يتهدل خلفها على الارض.

ما ان انتهت من تجهيز نفسها حتى تعالت الدقات فوق الباب، لتتجه لفتح الباب حيث قابلتها خالتها بالاحضان والقبلات، تبعتها شقيقتها الصغرى خلود، ثم من أتى بصحبة خالتها من قريباتها.

كانت في المطبخ الملحق بالجناح تصب كؤوس العصير عندما لحقت بها خالتها تسألها بغضب مستتر:
- ونتي اللي هتضيفينا بنفسك؟، فين الشغالة أومال؟
بدارة وهي تسكب العصير داخل كؤوس الكريستال: - يا خالتي قلبك أبيض، شغالة ليه؟ عشان كاسة عصير! بعدين انتي خابرة اني بحب أعمل كل حاجة بيديّ.

روحية بسخط مخفضة صوتها حتى لا يصل لاسماع من بالخارج: - ايوة يا نضري، لكن انتي عروسة ولدهم، اكبر واحد في عيلة الراجي بعد عمه عبد الرحمن، أصول يبجى فيه اللي تخدمك، ثم. فينها نرجس؟ مش المفروض تاجي وترحب بينا؟ مهما كان اسمنا ضيوف عنديها!

كادت بدارة تجيبها عندما قاطعهما صوت يقول بسرور مفتعل: - أكيد اتوحشتيني عشان اكده بتسألي عنّي يا روحية!
التفتت روحية لنرجس تطالعها بنصف عين لتجيبها بنفس طريقتها وبابتسامة صفراء تماثل تلك التي ارتسمت على شفتي نرجس:
- أومال! دا انتي ليكي واحشة كابيرة جوي، شوفي من فيين ما شوفتاكيش يا نرجس...

نرجس وقد أحنت شفتيها الى اليمين قليلا بتهكّم مخفي: - من زمان يا روحية، خابرة زين اللي في جلبك (قلبك) يا حبيبتي من غير ما تجولي...
روحية بابتسامة ماكرة وبدهاء بينما قطبت بدارة لا تعلم لما تشعر بأن هناك أمورا مخفية بين خالتها و عمة زوجها:
- طبعا اومال، دا انتي غالية عليا جوي.
ثم تابعة هامسة في أذنها بمكر حتى لا يسمعها الا هي: - من اليوم إياه فاكرة؟ يوم ما اليمامة رفضت. الصقر!

ليشحب وجه نرجس بينما تركتها روحية وابتسامة تشف تعلو وجهها قبل ان تتوجه الى بدارة قائلة:
- ياللا يا عروسة نروح نضايفوا الحريم...
سارت خطوتين برفقة بدارة التي حملت صينية أكواب العصير قبل ان تقف تنظر من فوق كتفها لنرجس الواقفة في وجوم تقول ببساطة:
- مش هتاجي يا نرجس؟ لو رايدة تيجي براحتك البيت بيتك برضيكي!

وانصرفت برفقة بدارة التي قطبت وشعورها يتأكد من أن هناك أمورا مخفية بين خالتها وعمة زوجها، ومن الواضح أن تلك الامور كانت في ماضي يجمع بينهما، لأنها حسب ما سمعت نرجس انت صديقة لامها وخالتها في يوم من الايام!

بينما وقفت نرجس تطالع انصراف روحية وعروس ابن أخيها، وقد غامت عيناها بسحابة الذكرى، وهي تتذكر ذلك الصقر، والذي كان يحلق دائما بجناحيه القويين حول يمامته ليحميها دون أن تشعر، بينما عيناه تحرسانها أينما ذهبت، لتأبى اليمامة ذلك الحصار، رغبة منها في التحليق بعيدا عن مداره، ولكن بقيت عيناه تحرسانها أنما حلّت، وكأنه يخبرها بأنها مهما ابتعدت فستظل تحت كنفه هو. صقرها، فحتى وإن رفضت وأبت وابتعدت، ستظل يمامته مهما كابرت وعاندت!

نظر عبد الرحمن الى ابن شقيقه الجالس بجواره يحتسي كوب الشاي الزجاجي بعد عودتهم من جولتهما اليومية على مزرعة الراجي المترامية الاطراف، دقق النظر فيه فوجده ساهما في البعيد بينما اعتلت وجهه عقدة جبين عميقة كمن يفكر في مسألة عويصة الفهم!

قال عبد الرحمن وهو يميل ليضع كوبه الفارغ على المنضدة المقابلة له: - بس بصراحة. انت فاجئتني انّهاردِهْ يا ولد أخوي!
تعمقت عقدة جبين صالح ليخفض كوب الشاي والذي كان قد رفعه ليرشف منه وقال باستفهام:
- فاجئتَكْ! فاجئتك كيف يعني؟
عبد الرحمن وهو يهز كتفيه ببساطة: - يعنيّ. كان بيستهيألي انك ما هتنزلش الشغل انّهارده، اني خابر أنك رايد تدبح لها القطة من اول يوم، لكن جولت انك هتعطيها يومين ولّا حاجة.

قاطعه صالح بصوت خشن: - وليه يعني؟
عبد الرحمن بلؤم: - يعني اكمنيها عروسة.
ليقول صالح من فوره وهو يحتسي رشفة كبيرة من شايه: - خلاص، هتدنّيها عروسة، اتجوزنا البارحة وخلصنا!
عبد الرحمن باستحسان: - عفارم عليك ياولد اخوي.
صالح متسائلا: - صحيح ما حكيتليش. عرفت من فين اللي كان رايده الشيخ عبد الحكم عشان يطلع من موضوع التّار ديه؟

عبد الرحمن وهو يمسح على شاربه الكثّ: - انت ما خابرش عمّك ولّا ايه؟ اني عندي عيوني اللي بتجيب لي الاخبار لحدّت عِندي.

صوت طرقات تعالت تبعها صوت عبد الرحمن يأذن بالدخول ليدلف غفيره الخاص يخبره بحضور فاضل لرؤيته، قبل ان يفسح الطريق للزائر الغير متوقع بالدخول، ليخرج الغفير مغلقا الباب خلفه، بعد ان ألقى فاضل التحية دعاه عبد الرحمن للجلوس، نظر فاضل للأخير وقال وهو يحاول التحكم في غضبه بصعوبة:
- يعني يا حاج عبد الرحمن خلاص؟ دم مِريام هيروح هدر؟!
هدر صالح بقوة وغضب وهو ينهض واقفا: - فاضل!

ولكن عبد الرحمن رفع يده يُسكت صالح وهو يطالعه بنظرة خاصة، قبل ان يلتفت لفاضل قائلا بكل هدوء:
- مافاهمتش يا فاضل؟ ما كل شيء كان على يدّك، مش المحافظ ومدير الامن والدنيا انجلبت وجتها، وكبار البلد وعلى راسهم الشيخ عبد الحميد الخولي عرض الصلح، وكيف العُرف. كان النسب لوجف التار، واخدنا بنتهم لولدنا. اجدر اعرِف ايه سبب الغضب؟

فاضل بقوة: - إيوة يا حاج، بس اني ما جبلتش الحل ديه، انت وجتها جولت لي انك هتاخد بتار بنت اخوك، وماهترضاشي دمها يروح بلا تمن، لكن اللي حوصل انك وافجت وجبلت، لكن أني لأ!

تبادل عبد الرحمن وصالح النظرات المتسائلة المرتابة قبل ان يسأل صالح بتوجس: - يعني ايه؟ تجصد ايه يا فاضل؟
فاضل بثقة تامة: - ماريم الله يرحمها كانت ماراتي، والتار تاري أني. وأنا مش ههمّل تاري أبدا!

انقض صالح على مقدمة جلباب فاضل يشده منها بقوة هاتفا بشراسة: - انت اتجنيت يا فاضل؟ واجف جصاد كابير الرجاوية واتهدد؟ من ميتة والكابير حد فينا بيعترض على حكم ليه؟ الله في سماه لولا اني عامل خاطر لعمي وجعدته وسطينا كنت دفنتك موطرحك، لكن هو بس يشاور وأني أعملها!

وقف عبد الرحمن وتقدم منهما يربت على كتف صالح قائلا بهدوء بينما عيناه مسلطتان على وجه فاضل:
- همّله (اتركه) يا ولدي.
دفعه صالح بقوة قبل ان يتركه فكاد يسقط لولا انه تماسك جيدا، ليعتدل واقفا بينما طالعه صالح بتركيز قبل ان يقول بصوت هادئ، صارم:.

- هي كلمة ومش هتنّيها، مالاكِش جعدة في البلد اهنه، جبل الليل ما يليّل تلم خلجاتك وترحل من اهنه، لو نهار بكرة جِه وانت لسّاتك اهنه معخليش الدبان الازرج يعرف لك طريق جُرّة، لمّن توصل انك تعتر على قرارات كبار البلد وجبلهم كبير عيلتك تبجى ما تستاهلشي تعيش وسطيهم دجيجة واحدة، وعشان تِعرف اننا مبنظلِمشي ( لا نظلم) انت لوحديك اللي هترحل، باجية (باقي) عيلتك لاه!

فاضل بذهول: - انت بتطردني من بلدي وعيلتي يا حاج؟.

عبد الرحمن بحزم: - لمّن تخالف شور كابيرك يبجى مالكش عيشة اهنه. انت بكلامك ديه هتعمل فتنة بالبلد، ومش عبد الرحمن الراجي اللي يرجع في كلمته أبدا، مريم كانت ماراتك، بيناتكم حيا الله ورجة، لكنها بنتنا، واللي واجف ديه – واشار بعصاه الى صالح الذي ارتسمت على وجهه علامات الغضب القوي وتابع – يبجى اخوها الوحيد، هي اللي كانت باجياله من ريحة امه وابوه، يعني حرجة الجلب لينا احنا، لكنك غبي معتفهمش. وعشان اكده بجولك انت مالكش عيش بيننا.

فاضل باعتراض: - كبارات العيلة مش هيوافجوا يا حاج عبد الرحمن.
عبد الرحمن بصلابة: - اني كبيرهم يافاضل، ولمّن يعرفوا انك كنت رايد تجيد النار في البلد، وتكسِّر كلمتي رايهم هيكون من رايي. الله يرحمه بوك، لو كان سمع اللي بتجوله ده كان زمانته دفنك مطرح ما انت واجف!

نفخ فاضل بغضب قبل ان ينطلق منصرفا لينادي عبد الرحمن غفيره قائلا: - ارمح وراه. اجطُرُه (راقبه) من غير ما يحس، لحدّت ما يخرج برات البلد، وعاوز واحد من رجالتك المفتحين يكون عينه عليه 24 ساعة، مفهوم يا رابح؟

رابح بصوت جهوري أجش: - مفهوم جنابك.
وانطلق رابح لتنفيذ أمر سيده، فيما نظر صالح لعمه قائلا بريبة: - ظنّك انه ممكن يعمل حاجة؟
عبد الرحمن بهدوء: - الغباء بلوة بعيد عنيك، ولمّن الغبى (الغباء) ولعناد يجتمعوا سوا هتكون النتيجة كارثة، عشان اكده فاضل هيكون تحت عينينا طول الوجت، يا يعجل (يتعقل) يا نعجّله (نعقّله) احنا بمعرفتنا!

تلك الليلة لم يعود صالح الى جناح عروسه، بل لم يرها منذ تركها ما ان اشرق النهار، فخرج سريعا قبل ان تستيقظ، وكأنه يخشى رؤيتها بعدما كان بينهما، هو ليس بزوج حديث العهد بالزواج، وليس بشاب غر، فهو متزوج منذ ما يزيد من ثلاثة عشر عاما، ولكن ما شعر به من ليلة واحدة معها لم يسبق له وأن شعر ولو بجزء ضئيل منه مع زوجته الاولى هدية والتي تزوجها وكان وقتها يكاد يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما، نزولا على رغبة عمه عبد الرحمن، فقد وجد أن اقرانه قد تزوجوا بل ولديهم بدلا من الطفل اثنين، لتختار له عمته نرجس هدية، ابنة أحد العموم له، وقد رجحتها لشخصيتها الطيبة الساذجة شارحة له انها هي من ستمتص غضبه وتستطيع جلب الراحة له، فهي تعلم تماما أن ابن أخيها كبركان ثائر، حتى في اوقات خموده، منتظر ان ينفجر في اي وقت!

ها هو زوج ولديه أربع بنات وكانت حياته هادئة نوعا ما كما قالت له عمته، حتى الأمس! عندما تجسدت أمامه حورية من أساطير الزمان، ليحيا معها سويعات كانت بعمره كلّه، بل لو شاء على وجه الدقة منذ تلك اللحظة التي دفنها بعيدا في اعماق عقله الباطن قسرا، وذلك عندما خرجت له تلك الحورية من اللا مكان في لقائهما الاول، ليتعمد أن يبتعد عندما شعر انه يهتم بشكل مريب، فهو زوج وأب كما أن كبير أبناء عائلة الراجي، فأقفل على ذكرى تلك الحورية داخل أعماق روحه، ولكنها نفضت نفسها من داخله، تماما كما العنقاء التي تنفض الرماد من فوقها، ما ان جلست بجوارها في السيارة بالامس، ليمنحها جزء من روحه في الليلة الماضية، بينما أعطته هي حياة كاملة في بضع سويعات قضاها يتنعم بدفء أنفاسها في واحة أحضانها العذبة...

وها هو الآن، يتجه الى جناحه مع زوجته الاولى، ينأى بنفسه بعيدا عن عروسه، فحديث فاضل قد نكأ جراحه وهو لا يريد أن يفجّر غضبه بها، مبعدا ذلك الصوت الذي استمر يسأله ع السبب، فهي فرصة مواتية لتعكير مزاج بنت الناجي، ولكنه أخرسه بالقوة. فكيف يجيب عن أمر هو نفسه لا يعلم اجابته!

رفعت هدية رأسها من فوق وسادتها وقالت بتقطيبة وهي تشعر بحركة حولها في الغرفة بينما تمد يدها لاضاءة المصباح بجوارها:
- مين؟!
خرج صالح الى دائرة الضوء لتتسع عينيها وتنتفض واقفة وهي تهتف بقلق: - سي صالح!
جلس صالح على حافة الفراش بينما وقفت هدية أمامه تسأله بلهفة وقلق: - خير يا سي صالح؟ فيه حاجة؟
صالح بضيق: - خابر ايه يا هدية؟ واحد وجاي ينام، غريبة داي؟

هدية بغير فهم: - لاه، ما غريب الا الشيطان يا ولد عمي، لكن أني بجول يعني اكمنك يعني. اكيد ال - وارتبكت قبل ان تتابع بهمس منخفض – العروسة مستنياك يعني واكده ف...

ليباغتها صالح بالقبض على معصمها حيث جذبها اليه بقوة لتسقط فوق الفراش بجواره راقدة فوق ظهرها فمال عليها هامسا بخشونة:
- هشششش، بطّلي رط (رغي) وكتر كلام، أني عاوز أرتاح.

همّت بالكلام عندما أسكتها فمه بقبلة قوية، تعجبت لها، ولكنها لم تكن لتبعده وقد جاءها بقدميه وكأنه شعر بوجعها ليكون مجيئه اليها كتربيتة فوق مكان الالم، والذي طاب من فوره، وهي تسلم نفسها له، وتستسلم طواعية لزوجها، فهو صالحها، حبيب الروح ومهجة القلب!

بينما قضت بدارة الليلة ساهرة، ولم يزر النوم جفونها الا بعد آذان الفجر، وقد عللت لنفسها أن ذلك لتغيير المكان فقط لا غير.

أما صالح فبعد ليلة بين ذراعي زوجته، اكتشف أنه بدلا من أن ينساها بين ذراعي غيرها، فما حدث كان العكس تماما، فما كان بينهما كان حاضرا في ذهنه طوال الوقت، وأنه يفتقد لتوسده صدرها كما فعل بالامس، حيث غرق في نوم عميق، فيما الآن ها هو يرقد بجوار هدية الغاطة في نوم عميق بينما يعاني هو من أرق وسهاد. يأبى الاعتراف لنفسه بسببهما، بحق الله انها ليلة واحدة! فقط بضعة سويعات! هل جن عقله؟ لم يكد يعتادها لهذا الحد حتى يجافيه النوم لأبتعاده عنها، وقرر التأكد من أن سهاده وعدم نومه لا علاقة لهما بها، حيث اغتسل لصلاة الفجر، وما أن عاد من المسجد توجه لجناح عروسه والتي كان النوم قد داعب لتوه جفونها، لتستيقظ على أنفاس ساخنة تضرب بشرتها الناعمة، فلم تكد تتساءل حتى أجابها بصوت خشن أنه أنا، صالح، وبعدها لم يعي لما حدث، فما أن لامس رأسه صدرها حتى ذهب في سبات عميق، قد ظهرت ابتسامة راحة صغيرة على وجهه، ليعلم صالح بعدها أنه قد خسر وبجدارة في رهانه لنفسه!

وقفت بجوار حماتها تضعان اللمسات النهائية لطعام الغذاء، قبل ان تضع يدها على صدرها تشهق بقوة، فتقدمت منها سلسبيل قائلة بقلق:
- مالك يا مارات عمي كفانا الله الشر؟
اجابت بصوت ذاهل فيما علآ وجهها علامات عدم التصديق: - ما خابرشي يا سلسبيل يا بتي، فجأة إكده جلبي نغزني.
سلسبيل بقلق: - خير ان شاء الله.

حماتها بابتسامة ذهول: - لاه. مش حاجة شينة لا سمح الله، بس حاسة زي ما يكون حتة من جلبي وهتترد لي من تاني.

قاطع حديثهما صوت الليث وهو ينادي عليها هي وزوجته بصوته الجهوري: - يا ام الليث، يا أمّا. يا أم عدنان، انتو فين؟.
خرجت تحاول تهرول في خطوتها على حسب استطاعتها، لتقف مكانها وقد توسعت حدقتيها في ذهول وصدمة، بينما وقفت بجوارها سلسبيل وقد علت وجهها علامات الفرحة وعدم التصديق، وهي تنظر لمن يقف بجوار زوجها، قبل ان تنقل نظراتها الى حماتها التي تكلمت بصوت منخفض وفمها يرتعش من البكاء الذي داهمها:.

- و، وال، والادي؟، زين!
وفتحت ذراعيها واسعا ليندفع زين الى أحضانها هاتفا بلهفة: - أمّا!
لتطوقه بذراعيها بينما يمسك هو بيديها مقبلا ظاهرهما وباطنهما بينما تتحسس هي وجهه وكتفيه وصدره هاتفة ودموعها تجري مدرارا على خدّيها المجعدتين:
- زين، والادي، حبيبي. ضي عيني!

ليندفع زين ثانية الى أحضانها، معانقا، متشمما رائحتها الحنون التي حُرم منها طويلا، ليرفع رأسه بعد فترة ليست بالقصيرة وقد ترقرقت عينيه بدمعة محبوسة، يقول بصوت أجش:
- وحشتيني. وحشتيني أوي أوي يا أمي.
هتفت أم ليث من أعماق قلبها: - يا روح جلب أمك يا نضر عيني (نور عيني).
قالت سلسبيل بنعومتها المعهودة وابتسامة رقيقة تعلو محياها: - حمد لله على السلامة يا ولد عمي، البلد نورت.

رفع زين رأسه ناظرا اليها ليقول بابتسامة: - الله يسلمك يا سلسبيل، منورة بأهلها.
دفعة أتته من جانبه ليقطب قبل أن يطالع مصدرها ليجده ليث الذي همس له بجانب فمه بخشونة:
- اسميها أم عدنان. فاهم يا وِلد أبوي؟
ضحك زين وقال: - لسه طبعك زي ما هو يا ليث؟
الليث بثقة تامة: - وأكتر كومان!

ضحك زين بينما احمرت وجنتي سلسبيل خجلا وقد رمقت الليث بعتاب رقيق فقد أخجلها أمام شقيقه وهي غير معتادة عليه، فهي لم تكن تره سوى في الاجازات القليلة التي كان يأتيها في زيارة سريعة الى البلد.

صدح صوت قاطع ضحكاتهم يقول صاحبه بخشونة وصرامة: - ايه اللي رجّعك يا ابن الخولي؟.
نظرت أم الليث الى زوجها وهو يدنو منها لتهتف بينما عينيها تلومانه لقوله فيما يداها تتشبثان بذراع ولدها، الذي ربت على يدها مقبلا ظاهرها قبل أن يتركها ليقترب من والده يقف أمامه قائلا بابتسامة مهزوزة:
- وحشتني يا أبو الليث...

عدنان بنظرات جامدة ويده تقبض على عصاه: - جيت ليه يا زين؟ آخر مرة رفضت تنزل فيها جولت لك خليك موطرحك، ايه اللي حوصل يا ابن عدنان خلّاك ترجع البلد اللي منزلتهاشي عشان تاخد عزا خوك، راضي الله يرحمه!

وهدر صوته بقوة في عبارته الاخيرة، لتكتم زوجته شهقة بكائها، فتحتضن سلسبيل كتفيها مربتة عليها، فيما تقدم الليث من والده يقول:
- زين رجع لاهله وناسه يا بوي، هو حكى لي سببه، وأكيد لمّن تعرُفه هتعذره في عدم حضوره عزا راضي الله يرحمه...

عدنان بصلابة: - ما عاوزشي أسمع ولا أفهم، أنا خيّرته جبل اكده وهو اختار. فاكرنا ليه بعد السنين ديه كلاتها، رجعت ليه يا ابن عدنان؟.

وجّه سؤاله الاخير اليه وهو يطالعه بقوة ليهتف زين بثقة ووضوح: - لأني ابن عدنان! وابن عدنان مافيش حاجة تعوّضه عن اهله وناسه.
هتف عدنان بصوت قوي: - لا حصل يا ابن عدنان، همّلتنا وهمّلت امك بعد اللي جرى، ما رضيتش تنزل ولو يوم واحد، واحنا اللي يعافينا يا ابن عدنان النفس كمان تعافُه (من يرفضنا نفوسنا ترفضه)!

هتف زين بصدق: - لا عشت ولا كنت يا حاج، مش انا اللي اعمل كدا، انت وامي جزمتكم فوق راسي، انا مش عويل يا ابو ليث...

هتفت امه والتي دنت منه حتى وقفت بجواره: - اسم الله عليك يا ولدي، انت زين الشباب. بوك واخد على خاطره حبتين لكنه هيروج (سيروق) بسرعة، مش اكده يا حاج؟

ألقت سؤالها وهي ترمق زوجها برجاء ولهفة، فقال زين وهو يتقدم من والده ليقف أمامه تماما:.

- أسمعها منك يا حاج، لو مش عاوزني أنا مستعد أمشي، بس سامحني مش هقدر أسيب البلد، أنا ما صدقت أرجع، جايز انتم مش عاوزيني لكن أنا مقدرش أستغنى عنكم، واحتمال كبير أكون ما وحشتكش، وزعلك مني مخليك عاوزني أبعد من قودامك وما تشوفنيش تاني، لكن أنتو وحشتوني أوي، وانت وحشتني أوي يا حاج، كلامك ونصايحك كانت النور اللي نوّر لي ضلام غربتي، انا مقدرش أبعد عنكم تاني يا حاج، ولا أقدر أوعدك أنك مش هتشوفني تاني، لأنك وحشتني جدا، ومش هسيب ثانية تفوت الا وأعوض فيها شوق وحرمان السنين اللي فاتت كلها، اطلب مني اللي انت عاوزه يا حاج، هنفذها برقبتي، لكن سامحني حاجة واحدة مش هقدر أعملها، أني أبعد عنكم. أنا ما صدقت رجعت لعشّي من تاني!

صمت ساد المكان بعد انتهاء زين من حديثه، وتركزت العيون على عدنان الذي وقف يطالع ابنه بنظرات غامضة قبل أن يقول:
- مستعد تنفّذ اي حاجة أأمرك بيها يا زين؟
هتف زين بلهفة: - أي حاجة يا حاج، أنا راضي بحكمك، بس ما تحرمنيش منكم ومن بلدي...
عدنان بجدية: - توعدني؟
زين بقوة: - وعد...
عدنان بينما وقفت زوجته تنظر اليه بقلق: - اوعدني أنك ماعتفوتش البلد واصل (لن تترك البلد أبدا) من هنا ورايح!

توسعت حدقتي زين في ذهول لثوان وكأنه لم يصدق ما سمعه، ليقول والده والذي وعى لصدمة ابنه:
- ايه، الوعد شاديد عليك جوي اكده!
ليهتف زين سريعا: - وعد. وعد يا حاج، ما هتنقل خطوة الا بشورك وموافقتك، أنا خلاص يا حاج حطيت الرحال ومش همشي تاني أبدا!

ليفاجئه عدنان برفعه ليديه باسطا ذراعيه يقول بابتسامة مرحبة: - يبجى. حمد لله على السلامة يا ضاكتور!

ليندفع زين الى أحضان والده، يعانقه بقوة، يدفن أنفه بين طيات عباءته ليستنشق رائحته العبقة بحنان الابوة التي حرم منها ردح من الزمان، لتقف أمه تمسح دموعها بطرف وشاحها ولسانها يلهج بالدعاء وشكر الله لهداية زوجها، فقد شكت في لحظة من اللحظات أنه سيطرد ابنها بالفعل، لتعلم خطأ ظنها هذا، فلم يكن زوجها ليخرج ابنه من عباءته قسرا، بل هو قد فعل ما فعله ليضمن عدم خروج صغيره من تحت جناحه ثانية، لتبتسم بفرحة وسعادة وقد هدأ بالها لرجوع ابنها الذي كان فراقه ينغّص عليها فرحتها، والتي اكتملت الآن فقط. بعودة الغائب!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة