قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السابع

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السابع

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل السابع

تمطت في الفراش قبل ان تفتح عينيها، التفتت بعدها بجانبها، ليطالعها المكان الخالي الى جوارها، فعلمت أنه قد غادر باكرا كما فعل بالأمس، لتبعد الغطاء عنها، وتتناول مئزرها الحريري، ترتديه، مغادرة الغرفة، ليقابلها سكون الجناح بالخارج، فتوجهت ناحية المطبخ لصنع قدح من الشاي، فهو إحدى طقوسها التي لا تستغني عنها أبدا، فكوب الشاي بالصباح الباكر أمر لا غنى لها عنه...

ولكنها لم تكد تخطو خطوتين حتى سمعت فتح باب يقع بالقرب من غرفة المعيشة، وكانت قد مرّت بالقرب منه، في طريقها لبغيّتها، فقطبت والتفتت لترى ما كان هذا، لتفاجئ بصالح وهو يخرج من دورة المياه الصغيرة المنفردة، المجاور لها وهو يجفف شعره بمنشفة صغيرة، بينما يرتدي سروالا قماشيا فقط تاركا جذعه العلوي الاسمر عارٍ!

حمرة خجل قانية اندفعت الى وجهها، وشهقت مكتومة صدرت عنها على الرغم منها، ليتوقف صالح عمّا يفعله، ويسكن لثانية، رفع رأسه بعدها مبعدا المنشفة عن وجهه، وقد علم بوجودها من رائحتها التي اشتمّها في الجو المحيط به، فهو يملك حاسة شم تنافس تلك التي يملكها الذئب، فهو منذ أن شمّ رائحتها أول مرة وكأنها ثبتت داخل عقله، فلم تذهب عن باله، وها هي تهاجم أنفه الآن، ليقف على بعد خطوات صغيرة منها، وبينما هربت هي بعينيها بعيدا عنه كانت عيناه هو تتفرسان فيها وبتمهّل شديد، لتلوح ابتسامة بطيئة على وجهه وهو يرى هيئتها المشعثة، فقد انفلتت خصلاتها المتطايرة حولها لتبدو في صورة هوجاء، ولكنا فاتنة لناظريه، بينما عينيها لا تزالان تحملان أثر النوم، ليمنحهما النعاس الواضح عليهما فتنة زائدة، لتتوقف عيناه على يديها اللتان امتدتا تلقائيا تتشبثان بمقدمة المئزر، ليتذكر ما ترتدي أسفله، تلك الغلالة الناعمة التي يكاد يقسم أن ملمس بشرتها الحريرية يضاهي بنعومته حرير ذلك الثوب! ولكن ما جعله لا يستطيع الحياد بعينيه بعيدا عنها هي تلك البقعتين الحمراوين اللتان خضبتا وجنتيها، لتبدوان كثمرة توت شهية في نظره، ما جعله يرغب في تذوقهما، وهو يعلم يقينا أن مذاقهما سينافس ألذ شراب توت قد يستطيع تذوقه يوما!

انتبهت على نظراته المحدقة فيها، لتشعر بخجلها يتضاعف، فتحاول التسلّح بهدوئها الذي هرب منها، فقالت بصوتها الناعم الذي يفيض دلالا دون أن تشعر بينما تشيح بنظراتها بعيدا عن عينيه المسلطتين عليها فيما تبعد خصلة طويلة من غرتها لتضعها خلف أذنها:
- صباح الخير.
صالح بصوته الأجش القوي النبرات بينما عيناه ترفضان الزحزحة بعيدا عنها: - صباح النور.
بدارة بهدوء نسبي: - على ما تجهز حالك، هكون حضرت لك الفطور.

صالح بخشونة: - لاه. أنا ما بفطرشي، همّا جرجوشتين وكوباية شاي وبس.
قطبت بدارة وقالت باستغراب نجحت في اخفائه: - لكن انت بتجعد اليوم كله برّات الدار، لازمن تفطُر صوح!
ليرتفع طرف شفة صالح العلوية في ابتسامة صغيرة لم يستطع كبحها وهو يقول بتفكّه خفيف:
- وايه هو الفطور الصوح ديه في رايك يا جناب الضاكتورة؟
قطبت بدارة لتبدو أشبه بطفلة غاضبة، وقد اشتمت رائحة سخرية في كلماته لتتخصر قائلة:.

- مالازمش (لا يلزم) مَجْلَتاَ (سخرية). فطور زي ما خلق الله بتفطُر، عامةً براحتك أنت حر!

وأسدلت ذراعيها الى الاسفل وهي تتوجه ناحية المطبخ ليسارع بالقبض على ساعدها وهو يقول:
- ايه. زعلتي؟
رفعت عينين تسبحان في بحر من الشيكولاتة الذائبة وقالت بشموخ وعنفوان: - لاه. واني ايه اللي يزعلني؟ عن إذنك، هصب لك الشاي واحط لك جرجوشتين تفطُر بيهم...

ولكنه لم يفلتها، ليسحبها ناحيته ويحكم قبضته لساعدها الآخر بيده الحرة حيث مال بعدها عليها مسلطا ماستيه السوداء على بندقيتيها هامسا بابتسامة صغيرة ولا يعلم لما مرآها وهي تبدو غاضبة كطفلة قد سخر منها الكبار يجعلها تبدو لعينيه شهية:
- طالما ما انتيشي زعلانة، ليه التكشيرة دايْ ع الصبح؟

بدارة وهي ترفض النظر اليه وبتكشيرتها الطفولية التي لم تخف وبدمدمة حانقة: - مش مكشّرة! وهمّلني خليني أروح أصب لك الشاي.
نظر اليها صالح وقد راقه استفزازها، فهو يثير بداخله شعور يختبره لأول مرة، بل أنه وللغرابة يشعر بلذة غريبة وأحاسيس لم يمر بها حتى وهو في مرحلة المراهقة، الاستفزاز والعبث والسخرية، كلها مسميات سمعها كثيرا ولكنه لم يمر بها مرة واحدة في حياته حتى ولو بالخطأ! ليقول بابتسامة ساخرة:.

- طب اعملي حسابك اني بشرب الشاي سكر زيادة، لانه بتكشيرتك اللي اني شايفها دي شكلك بيقول هتيجيبيه مُر!

همهمة صغيرة صدرت عنها وهي تنظر بعيدا عنه لتفلت نفسها من قبضته تنصرف مهرولة الى المطبخ، بينما يسافر خلفها شعرها الثائر لتسرق صورتها أنفاسه، حيث أفاق بعدها لنفسه، ليتجه ناحية غرفتهما يدلف الى الحمام الداخلي ليضع رأسه أسفل صنبور الماء علّ المياه الباردة تخفف من وطئة الحرارة التي يشعر بها تتصاعد من رأسه الى سائر جنبات جسده.

انتي بتعملي ايه يا هدية؟ ...
التفتت هدية الى عمتها نرجس لتعود للاهتمام بما بين يديها قائلة بابتسامة حلوة: - صباح الخير يا عمة، كيف ما انتي شايفة، بحضّر فطور العرايس، سي صالح أكيد هيفطُر مع. – غصة استحكمت حلقها استطاعت التغلب عليها بصعوبة لتردف متابعة وقد اصابت ابتسامتها ارتعاشة طفيفة – مع العروسة!

هتفت نرجس تصيح بذهول وغضب وقد توسعت حدقتيها بقوة بينما تخبط براحتها على صدر عباءتها المنزلية الثمينة:
- واه! اتجنيتي إياك! عروسة مين دايْ اللي واجفة تحضري لها الفطور بيدك؟ ديه ضرّتك يا هدية. سامعاني؟ ضرتك، عارفة سموها ضرة ليه؟

قطبت هدية باستفهام وما أن همّت بالحديث حتى قاطعها صوت ناعم آخر يقول بمكر يلون نبراته:
- عشان تضرّيها قبل ما هي تضرّك!
نرجس وهي تنظر الى هدية بغيظ: - أول مرة تجولي حاجة عدلة يا هند، قوليلها اللي هتشلّني داي!

اقتربت هند من هدية والتي وقفت بالمطبخ تحضر طعام الفطور لزوجها وعروسه وكأنها تريد رد الجميل له لقدومه اليها الليلة السابقة، وكأنه شعر بألمها اللا ارادي فأراد التربيت على وجعها، ولا يهم أنه بعد ذلك قد ذهب الى زوجته الجديدة، فمهما يكن هي تعتبر عروس جديدة ولها حق عليه مثلها تماما!

وقفت هند بجوار هدية تهمس لها فيما الخادمات فهن مشغولات بأمور المطبخ الأخرى: - يا أم البنات اوعي لروحك، أنت مغيرناشي على جوزك؟ النار مش بتجيد فيكي لمن تشوفيه وهو حدا (عند) واحدة تانية حتى لو كانت ماراته؟

هدية بابتسامة تشع حنانا وطيبة: - وأغيِر ليه يا هند يا ختي؟ سي صالح ممخلانيشي ناجصني حاجة، ديه غير أنه عمره ما هيجور عليا، ديه كفاية انه جَه (أتى).

وسكتت فجأة، لتقطب هند بينما تطالعها نرجس التي كانت متابعة المحادثة بريبة، بينما قالت هنادي:
- جَهْ؟ جه فين يا هدية؟ تجصدي ايه؟
ولكن هدية اشاحت بيدها في ارتباك طفيف وقالت بينما تشير لاحدى الخادمات لرفع الصينية الكبيرة التي تحمل أطباق الافطار المعدة:
- يوووه يا هنادي، مش فايجة (فايقة) لحديتك دلوك، سي صالح زمانته هينزل عشان يروح يشوف مصالحه...

لتردف للخادمة قائلة: - طلعي الصينية فوق يا بهية!
هدرت نرجس بذهول وغضب بينما حركت هنادي شفتيها من اليسار الى اليمين في حركة سريعة عدة مرات تندّرا بما تسمعه من هدية:
- واه، انتي كمان هتطلعي لها الفطور لحد عنديها؟.
هدية ببراءة كادت تصيب نرجس بأزمة قلبية: - واه يا عمتي! مش عروسة والاصول بتقول انه العروسة ما تخرجش من دارها قبل السابع؟

خبطت نرجس بيدها اليمنى فوق رأسها هاتفة بتعب وسخط: - نافوخي يا ناس، الحجوني، بنت رشيدة هتجيب لي جلطة وبالمستعجل كومان!
هدية باعتراض: - واه، ليه بس يا عمتي؟ ديه جزاتي أني عاوزة أعمل الواجب مع العروسة!

أسدلت نرجس يدها لتسحب هدية تجاهها هامسة بغضب فالخادمات تحيط بهم، وعلى الرغم من أن المطبخ يعد في مساحة غرفة كبيرة، وأنهم بعيدون عنهم ولكنها لا تضمن أن يرتفع صوتها فيعلم الجميع بأيّ زوجة بلهاء لدى ابن شقيقها:.

- حد جالك اننا هنضايفوها ولا هنعاملوها كيف العرايس التانيين كيف ما عاملناكي انت وهنادي؟ لاه، ديه جاية اهنه تخليص حاج(حق)، يعني ريّحي روحك ولا عاوزين منك واجب ولا يحزنون! واتفضلي همّي (اسرعي) جدامي زمانته الحاج عبد الرحمن هينزُل عشان يفطُر.

ودلف ثلاثتهن خارج المطبخ، حيث نادت نرجس الخادمة التي كانت متجهة الى الدرج للصعود الى الطابق الاعلى لتأمرها برص الاطباق على مائدة الطعام، ثم أشارت لكنّتيها بعدها بالذهاب الى غرفة الطعام، وما ان هممن بالذهاب حتى أبصرن عبد الرحمن وهو يهبط الدرج يلحقه صالح وهو يتبادل معه بعض الحديث، وما ان وصلا اليهما حتى ألقيا عليهن تحية الصباح، لتقول نرجس بابتسامة:
- ياللا الفطور جاهز.

اعتذر صالح قائلا: - معلهش يا عمة، انت عارفاني ما هفطرشي.
قاطعته نرجس: - ايوة عارفة، الجراجيش والشاي جاهزين.

علت وجه صالح ابتسامة غريبة ولمعة عجيبة برقت بين مقلتيه وهو يتذكر وجه تلك الحانقة الغاضبة التي تركها بالاعلى بعد أن احتسى كوب الشاي وتناول بعض المناقيش الخفيفة سريعا، حيث التزمت بدارة الصمت وقتها حتى حان وقت نزوله، حث ألقى عليها السلام وانصرف وهو يشعر ولأول مرة أن هذا الصباح يحمل انتعاشا غريبا اليه!

انتبه صالح لنداء عمه ليقول معتذرا: - ما تواخذنيشي يا عمتي، انا شربت الشاي قبل ما أنزل.
ليردف موجها حديثه الى عمه: - هسبجك انا يا عمي على.
قاطعته نرجس عاقدة جبينها بعمق: - استنى يا صالح، انت فطَرت يا ولد أخوي؟
أجاب صالح بهزة موافقة لتردف نرجس بريبة: - غريبة! ديه ماراتك من صباح ربنا وهي بتجهز لك الفطور!
صالح بهدوء: - ما انتو عارفين اني مبفطورش (لا أفطر).

هدية بارتباك كعادتها في وجوده تماما كالتلميذ الخائف من معلمه: - ما أني جولت أعملكم فطور عشان البارحة عيلة الناجي جوم من بدري وما لحجناش نعمل فطور للعروسة!

كادت نرجس أن تضربها في حين قال صالح بهدوء: - ما تعّبيش حالك يا هدية، كل حاجة حداها فوق ولمّن تعوز حاجة هتنزل اكيد.

نرجس وقد انتهزتها فرصة: - وهي الغندورة هتفضل في دارها لحدّت ميتى (الى متى)؟ مش المفروض تاجي تشوفنا، تقعد معنا، تسألني عاوزة حاجة، خلاص الفرح وانتهى هتفضل عروسة العمر كله اياك ولا ايه؟ ولا – وطالعته بتهكم مكملة – تكونيش فاكرة نفسيها عروسة عادية، هي نسيت سبب جوازكم ولا ايه؟

لا ما نستش يا عمة!
التفت الجميع ناحية مصدر الصوت ليروا بدارة وهي تتجه ناحيتهم بخطوات واثقة ترفل بعباءة حريرية من لون السيمون، بتطريز على أكمامه الواسعة وبالاسفل، باللون الفضي، وغطت شعرها بوشاح من نفس لون قماش العباءة بتطريز فضي اللون يمثل أفرع الشجر على الحواف...

دنت بدارة حتى وقفت أمام نرجس تقول بابتسامة متكلفة: - صباح الخير يا عمة...
والتفتت بعدها لعبد الرحمن الواقف يراقب بتعبير منغلق ما يدور أمامه، وقالت بابتسامتها الرقيقة:
- صباح الخير يا عمي الحاج.
عبد الرحمن بصوته الجهوري الواثق: - صباح الخير يا مارات الغالي...

ثم التفتت الى الواقفتين تلقي عليهما تحية الصباح مرفقة بابتسامة صغيرة، لترد عليها هنادي بابتسامة صفراء بينما ابتسمت هدية ابتسامة حقيقية شعرت بدارة بصدقها والاخرى تقول:
- صباح النور...
وجد عبد الرحمن أن فقرة الصباح تلك قد طالت أكثر من اللازم ولا بد من انهائها والا فإن نرجس كفيلة بتمديدها الى العشاء! فقال وهو يهم بالتوجه لغرفة المائدة:
- ياللا بينا عشان نفطر، وانت يا صالح تعالى عاوزك.

ابتسمت نرجس قائلة وهي تنظر ناحية بدارة بتشفّ: - هدية عامله الفطور بايديها، صاحية من النجمة مخصوص عشانك.
اكتفى صالح بنظرة الى هدية التي قالت بلهفة وعينيها لا تحيدان عن وجه صالح بينما أخفت بدارة ابتسامتها من تلميحات نرجس وكأنها ستنزعج منها:
- أنا عملتش حاجة، أنا كل اللي رايداه راحة سي صالح.

قطبت بدارة وهي تشعر بالاستسلام التام في نبرة هدية الأمر الذي لم يرقها، فكأنه هارون الرشيد وهي جاريته! لما هذا الضعف والاستكانة اللذان يحتلان صوتها ونظراتها الموجهة اليه؟ ليسحبها من شرودها كلمات نرجس الموجهة اليها:
- زين أنك خرجت من دارك يا مارات الغالي، انتي ما انتيش ضيفة، لازمن تاجي معنا تشوفي النظام اهنه ماشي كيف!

جلسوا حول مائدة الطعام ليقول صالح بتقطيبة رغبة منه في تغيير الحديث: - اومال فينه وهبي؟
عبد الرحمن وهو يلوك الطعام في فمه: - سافر مصر يخلص شغل وراجع عشيّة بأمر الله...
التفتت نرجس الى هدية وقالت بابتسامة قاصدة اغاظة بدارة: - تسلم ايديكي يا ام البنات، فطور ملوكي صوح، كل ديه على شرف صالح؟.

نظرت هدية الى صالح الذي احتل يمين عمه بينما جلست هي الى جواره، ثم بدارة فيما جلست نرجس الى يساره فهند بينما قبع كرسي وهبي خال الى جوارها، قالت هدية بابتسامة:
- اللاه. مش عرايس يا عمة! ديه أقل واجب نعمله، سي صالح الواحد يجدّم (يقدم) له عينيه!

آه، آه. مش قادرة...
صرخت نرجس ليلتف حولها الجميع بينما هدر عبد الرحمن يسألها عما بها فيما مالت عليها كلا من هدية وهنادي، لتهمس بتعب بأنها تريد بخاخة الصدر خاصتها فهي تشعر بالاختناق ولا تستطيع التنفس، ليسرع صالح من فوره لجلبها، أشار بعدها عبد الرحمن لبدارة وهنادي بالعودة الى أماكنهم فيما أمسكت نرجس بيد هدية المجاورة لها وهمست في أذنها قائلة بدون تعبير وبصوت منخفض لا يسمعه الا هدية:.

- تجدّمي له عينيك! جلع (خلع) عينيك قولي يارب! لو مت ذنبي هيبجى (سيكون) في رقبتك يا بنت رشيدة، هتموتيني ناجصة عمر بهطلك ديه!

هدية بعدم فهم: - واه يا عمة، انا جولت ايه؟ اني ما نطجتش (لم أنطق) واصل غير لمّن جولتي (قلتي) على اني اللي محضرة الوكل (الاكل)، وكل كلامي كان ترحيب ما جولتش حاجة تزعل، يبجى حمجانة (غضبانة) مني ليه؟

تألمت نرجس بقوة وهي تقول بتعب جلي: - آه، لا لا انت تسكتي ساكت أحسن، ما عاوزاشي أسمع صوتك واصل، ديه ناوية تجلطني (تكون سبب لاصابتها بالجلطة)، قال ترحيب قال. عوض عليا عوض الصابرين يارب!

- يا ماما مش رايداه. أتجوز كيف واحد ما عرفهوشي ولا عمري شوفته؟ ديه مهمّل بلده وأهله وناسه من عشر سنين وأكتر، حتى لما راضي الله يرحمه مات ما نازلشي خد عزاه جنب الليث، والله اعلم هو عيشته وحياته عاملين كيف.

اجابت زينب ابنتها هند الحانقة بصبر: - يا بنيتي الراجل عاود لبلده وأهله بالسلامة، والمثل بيجول الغايب حجّته امعاه. بعدين مالناش صالح احنا هو كان غايب الوقت الطويل ديه ليه، لِمْهِمْ أنه رجع وبوه الشيخ عدنان كلّم بوكي في موضوع زواجكم اللي كان فاتحه فيه من زمان. وأهاه هو جاي انّهاردِه وجاعد في الموندرة مع بوكي وخوكي اسم الله عليه فارس، ومْعاه ليث خوه الكابير. الله يرضى عنيكي يا بتّي اجصري الشرّ وانزلي دلوك وبعدها ربّك يسهّلها.

زفرت هند بضيق ثم عدلت وشاحها حول وجهها وهمّت بالخروج من غرفتها عندما أوقفتها والدتها تهتف باستنكار وهي تشير عليها: - اصبري. انتي نازلة تجابلي عريسك بخلجاتك ديْ؟

هند بضيق واضح: - ديه اللي عندي، هغير عشان أعجب بسلامته إياك؟ بعدين مالها الخلجات ديْ؟ - مشيرة الى عباءتها الزرقاء الموشية بخطوط متعرجة على الحواف سوداء اللون، تنسدل على جسمها واسعا وحتى الكاحل، ووشاحها الاسود الذي يغطي شعرها الحريري النحاسي اللون-
تابعت هند: - العباية اللي مش عجباكي دي تمنها ما يجدرش عليه أيتها حد، ويكون معجبوشي عشان نخلصو من لحكاية ديْ...

جالس بجوار شقيقه الكبير يهمس له بحنق: - أني مش عارف أنت وأبوك مصممين ع الجوازة ديه ليه؟ هو أني لحقت أرجع لكم لما عاوزين تخلصوا مني خالص؟

نهره الليث بصرامة بصوت خافت: - باه. اسكت ساكت يا زين. بجاه نسب رياض الراجي مش عاجبك؟ احمد ربك انه بوك رضى عنيك بعد السنين الطويلة اللي انت غبتها دي، وهو اشترط عليك انك تنفّذ اللي هيجوله عشان يطمن انك ماهتهملناش وتسافر من تاني، مش قار ينسى انك حتى ما فكرتش تنزل في موت خوك راضي الله يرحمه.

قاطعه زين باستنكار: - ما قلت لكم يا ليث، معرفتش انزل، مش بايدي، حاولت ومقدرتش، بين شغلي ودراستي. وأديني نزلت في الاخر أهو، لو كان في نيتي اني أستقر هناك ما كنتش رجعت!

وكتم زفرة مختنقة، ماذا يخبرهم؟ أتراهم لو عرفوا ماذا حدث معه بالفعل كيف سيكون رد فعلهم؟ هو على أتم الاستعداد لتحمّل لوم وغضب والده كاملا لعدم نزوله طوال تلك الفترة مبررا ذلك بظروف العمل والدراسة والذي يبدو سبب واهيا بالنسبة له، وهو على يقين أنهم غير مقتنعين به أيضا، ولكنه يظل أفضل من معرفة الحقيقة، فهناك أوقات يكون الجهل فيها نعمة من نعم الله على الانسان!

نفض رأسه ليستعيد مزاجه الساخر ليميل على ليث متابعا بسخرية وابتسامة عابثة: - وبعدين من مصلحتك اني ما كنتش موجود وقت اللي حصل!
قطب ليث متسائلا: - وأني موصلحتي ايه ان شاء الله؟
زين غامزا بمكر: - يمكن كان ابوك صمم اني اتجوز سلسبيل. ما تنساش انك اكبر منها بعشر سنين دا غير انك اتجوزت بدل المرة تلاتة. أما أنا بقه ف بِكر رشيد! شوفت أني خدمتك بعدم نزولي ازاي؟!

سكت ليث لثوان وهو يطالع أمامه بدون تعبير قبل أن ينظر اليه بنظرات سوداء هامسا بشرّ من بين أسنانه المطبقة: - هلفط بالحديت ديه تاني ووقتها ما هتلومش الا نفسك، واسميها أم عدنان. وديه آخر مرة هنبّه عليك مفهوم يا ولد أبوي؟

زين بايماءة هامسا فهو خير من يعرف أخوه جيدا، فلا أحد يلهو مع الليث ولو ببضع كلمات حمقاء! فنظرة الى الليث جعلته يتأكد من ىأنه يعني كلماته جيدا وكأنه يحذره من عدم الاقتراب من تلك المنطقة فكأنه وقتها قد شد ذيل الليث والذي بالتأكيد لن يدعه قبل أن يلقى عقابه بالكامل:
- اطمّن يا أسد الخولي، ام عدنان دي اختي، انما ما قلتليش، الحاج عدنان ماجاش معنا ليه؟

الليث شارحا بصبر: - بوك كلم الحاج راضي خلاص، وانهارده الرؤية الشرعية، فكر انه بدال ما ناجي احنا الاتنين امعاك ونربك العروسة، كافي واحد فينا اللي هو انا، ولا أني مماليش عينك يا ولد ابوي؟

زين باعتراض قوي: - ودي تيجي يا عمدة! دا انت تملا عين التخين، انا بتشرّف بيك في كل مكان يا ليث.

ربت ليث على ساقه ليسأله زين بعدها عن اولاد عمه فأخبره أن والده قد دعا رجال العائلة أجمع الى العشاء الليلة القادمة للاحتفال بعودة ابنه الغائب، وأكيد من بينهم راضي وولده فارس.

صوتا ناعما ألقى السلام بخفوت قاطع حوار ليث وزين الهامس، يرافقه صوت رياض مرحبا، تبعهما فارس الذي كان قد ذهب يأمر باحضار الضيافة للزائرين، رفع زين نظره فرأى فتاة لو لم يكن يعلم عمرها جيدا لظنها لا تزال في مقاعد الدراسة المدرسية، كانت مطأطأة الرأس الى الاسفل، دلفت بصحبة والدها وما أن جلست حتى ناداها والدها لترفع رأسها، وهنا. قطب زين. واختلاجة غريبة نفضت صدره، وما أن أدارت وجهها كاملا اليه حتى انفكت تقطيبته وارتفع حاجبيه الى الاعلى في ذهول تام. فأمامه جلست فتاة. ولكنها ليست كأية فتاة! فهو أكيد أن البدر قد اقتباس جماله منها! فمن تجلس في سكون وترفّع أمامه هي من المؤكد مصدر الجمال الكوني!

لم يسبق له وأن رأى من تضاهي حُسنها وجمالها، وما أن تحدثت مرة أخرى تجيب شقيقه حتى انتفض قلبه للمرة الثانية بقوة! فصوتها كبلبل يشدو بصوته الرائع، ليشعر بنفسه وكأن تلك الانتفاضة التي أصابت قلبه كانت بمثابة صدمة كهربائية أنعشته ليعود الى الحياة ثانية! وما أن رفعت عينيها اليه. حتى شعر بأنه قد غدا أسيراً لتلك العينين! وفي لحظات. كان زين قد فكّر وقرر وحسم الأمر. فتلك الظبية الفاتنة ستكون له، رغما عن رفضها الواضح في نظراتها الأبنوسية! ولكم سيشعر بالمتعة في اصطيادها بل وترويض ذلك الجموح الذي تشي به عينيها المشعتين كحجري من الماس الاسود النفيس، وكأنها بنظراتها تلك تهدده من الاقتراب، ولكنها لم تعلم بأنه. الجسور. من لا يهاب الصّعاب ويقتحم غير آبه للمخاطر. طالما أنه بالنهاية سينال ما يريده. وهو. يريدها. هي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة