قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

دلف صافقا الباب وراؤه بعنف، وهو يزفر بحنق لاعنا بغضب شديد، وارتمى بجسده الضخم فوق المقعد الكبير المكسو بقماش فاخر وهو يتمتم بشراسة:
- ماشي يا حاج عبد الحميد، فاكرني داجج عصافير (كناية عن الغباء والبلاهة) إيّاك! – وأردف مقلدا عبد الحميد بسخرية جمّة – نجروا الفاتحة أنه اللي فات مات!

لتبرق عيناه بوحشية وهو يستطرد قائلا بوعيد عظيم: - اللي فات معيموتش واصل، لكن اللي عيموت صوح هو وِلد الناجي، – لمعت عيناه بكره تقشعر له الابدان وهو يتابع – الضاكتور سالم!

صوت فتح الباب قاطع عليه أفكاره، فرفع عينيه يطالع ذلك المقتحم وهو يفتح فمه ينوي إشباعه لعنا وتقريعا، عندما أبصرها وهي تهفو اليه، تهتف بصوتها الملتاع عليه بينما عينيها تحملان قلقا وحنانا لا مثيل لهما:
- خير يا سي صالح؟ إيه اللي حوصل؟

قطب صالح بقوة ليهتف بعدها بحنق قوي: - واه. وانت من ميتة (منذ متى) بتسعليني (تسأليني) عن اللي صار واللي كان يا وَلِيّة (امرأة)؟ اتخبطتي في نافوخك إياك عشان تدخلي عليّا الدار بالطريجة دايْ من غير لا إحم ولا داستور (بدون استئذان)!

شهقت هدية قبل ان تلقي بنفسها أمامه وقد انحنت على ركبتيها وهتفت نافية بلهفة: - أني آسفة يا سي صالح، ما تواخذنيشي يا ولد عمي، لكن أني انخرعت لمّن لاجيتك مِتْكدِّر حتى عمْتي نرجس نادمت عليك كاتير وانت ما سامعتهاش!

نفخ صالح بضيق فهو لن ينتهي من استجواب عمته نرجس بل وكلمات اللوم لعدم وقوفه حال ندائها له! قال صالح ببرود وهو يشيح بيده:
- خلاص، جفلي (أغلقي) السيرة داي، وروحي شوفي وراكي إيه وهمّليني (اتركيني) لحالي.

هدية بدهشة: - أهمّلك كيف يا خوي؟ أنت مش شايف حالتك عامله كيف؟
قاطعها صالح ساخرا بامتعاض: - يعني شايفاني بجطّع (أمزق) في خلجاتي ولّا داير أجري في الشارع؟
هتفت هدية: - بعد الشر عليك يا خوي، دا انت سيد الرجال كلهم.
أغمض صالح عينيه وسحب شهيقا عاليا تبعه زفير قوي قبل ان يفتح عينيه لينظر اليها قبل ان يقول وقد أوشك صبره على النفاذ:
- هدية. جومي يا بت الناس دلوك أني ما طايجش (لا أحتمل) نفسي!

هدية بمهادنة وهي تربت على صدره بيدها الناعمة السمراء فيما تطالعه بعينيها الواسعتين اللامعتين كالالماس الاسود:
- ولا تِعتل(تحمل) هم يا ولد عمي. أني دلوك هكبّس لك اكتافك (تدليك) والتعب كلّاته عيروح من عنديك.

لحظة. فالثانية. ليصرخ صالح في الثالثة بقوة هادرا: - جومي!
لتضطرب هدية فتتراجع الى الخلف قبل ان تستند براحتيها على الارض لتنهض واقفة وتطالعه بغير فهم قائلة:
- حاضر يا سي صالح، بس ما تزعجْشي (لا تصرخ). لزعاجْ (الصراخ) شين (سيء) عليك!
طالعها صالح بدهشة صامتة قبل ان ينهض بدوره واقفا ليقول بعدها بخفوت بينما يحاول التحكم في أعصابه كي لا تفلت منه بصعوبة:.

- هدية. اخرجي الله لا يسيئك، اللي فيا مكفيني، همليني لحالي، دلوك. (الآن).
هدية ببساطة وهي تتأهب للذهاب: - تؤمر يا سي صالح، وأني ععملك كوباية لايسون (يانسون) عشان تروّج (تروّق) أعصابك!
صالح من بين أسنانه المطبقة: - مش عاوز حاجة، اخرجي وانسيني انّهاردِه خالص.
هدية ببلاهة: - أنساك! وأني أجدر؟

اقتربت منه لتقف أمامه وتضع يدها على صدره العضلي الواسع متابعة بابتسامة صغيرة بينما عينيها فقد امتلئتا بعشق ذلك الاسمر ذو القلب الصخري:
- دا انت جوزي وابوي اعيالي، انت دنيتي كلها. أنساك كيف؟
صالح بيأس: - يعني أنا كنت جولتلك تنسيني طول عمرك؟ أني أجصد شوية إكده، لحدّت (الى ان) ما أروج (كناية عن السرور).

هدية بلهفة وهي تحرك برأسها الى الاسفل والاعلى سريعا ببلاهة شديدة: - حاضر يا خوي، همشي، – كاد يزفر براحة ليتجمد بينما تتابع هي – وهروح اجهز لك وكلة (طعام) ترم عضمك، بس لوّل هعمل لايسون. صدجني هو اللي عيروّجك!

وانصرفت وهو يتابعها بعينيه بذهول، ولم تكد تمر دقائق حتى كانت تعود سريعا بابتسامة واسعة وهي تحمل كوبا زجاجي فوق صحن صيني صغير، مدّت يدها به ناحيته وهي تقول بابتسامة عريضة وكأنها قد انجزت أمرا هاما:
- اللايسون!
نقل صالح عيناه بينها وبين الكوب قبل ان يزأر بغضب ويضرب الكوب بيدها ليسقط على الارض فوق السجادة الفارسية القيمة، لتنسكب محتوياتها عليها، وهو يهدر:
- جولتك لك ما رايدش( لا اريد)!

شهقت هدية وهتفت سريعا وهي تربت على كتفه: - حاضر يا اخوي، براحتك، بس بلاشي زرزرة (عصبية). عِفشْ (سيء) عليك!
صالح وهو يبعد يدها بقوة: - مالكيشي صالح بيّ، انت بتفهمي من فين رايد أعرِف أني؟!
هدية بتلقائية: - من مخي (عقلي)!
فتح صالح ذراعيه واسعا رافعا راسه الى الاعلى ووجهه قد اعتلاه تعبير ينم عن اليأس الشديد، نظر بعدها اليها وقال بصوت متقطع:
- اخرجي يا هدية، ما ناجصاكيشي هيّا!

هدية باستسلام: - حاضر يا سي صالح.
وسارت تجاه الباب لتقف فجأة وتلتفت اليه هاتفة بحبور: - طب اعملّك كوباية لايسون تانية بدال اللي انكسرت؟ ولا اجولك. نعناع، او...
هدر صالح بقوة: - الله في سماه لو ما خافيتي من جدامي دلوك لا اكون مشرّبك آني كوباية برسيم، ايه جولك بجاه؟.

قطبت هدية ولاح على وجهها علامات التفكير العميق لتقول بعدها بتساؤل: - آني معرفاشي انه فيه عصير برسيم؟ لكن عسأل عمة نرجس عليه، ولو اكده ععملك آني كوباية واجيبهالك تشربها. بجه معجولة اكون موجودة وانت تعمل حاجة برضيكي؟

وانصرفت وقد ارتسمت ابتسامة زهو على شفتيها الحمراوين فهي اخيرا قد اقنعته باحتساء شراب لتهدئة اعصابه ولو انها لم يسبق لها ان سمعت ب شراب البرسيم، ولكن هو يعلم أكثر منها، وها هي في طريقها لعصر البرسيم لتحضير الشراب أم ربما يجب غليه أولا؟، عامة ستستعين بالعمة نرجس في تحضير الشراب!

بينما وقف صالح يتابع خروجها بوجه مشدوه وقد اعتراه الذهول والصدمة فيما يقسم بداخله أن نهايته ستكون على يديها لا محالة. والذي سيكون ولسخرية القدر قضاءا وقدرا وكأنها النهاية الرسمية لكل افراد اسرته بما فيهم هو! وان كان نهاية عائلته على يدي آل الناجي فنهايته هو على يدي نكبته هو، فهي ابدا ليست ب هدية، بل هي نكبة من نكبات القدر!

بتجولي إيه يا هديّة؟ برسيم إيه ديه اللي رايدة تشرّبيه لابن أخوي يا باهيمة (بهيمة) انتايْ (أنتِ)؟!

هدية بترجي: - جسماً (قسماً) بالله يا عمّة الحاجة سي صالح اللي جال!
نرجس بنظرة مرعبة: - جال إيه يا حِزني؟ أنه عاوز يشرب برسيم؟!
أومأت هدية بالايجاب عدة مرات هتفت بعدها بصوت منخفض كأنها تخشى أن يسمعها أحد ففي دار عبد الرحمن الراجي الجدران لها بدلا من الأذن. آذان!:.

- إيوة يا عمّة، أني بجوله أعملك لايسون ولا نعناع جالي لا ديه ولا ديه خلي عنّيك خالص وأن هعملك أنتي برسيم. جولت له يريّح روحه وأدام (بما أنه) نفسيه (نفسه) فيه يبجى ععملهوله أني. بس المشكلة أني ماعارفاشي هو بينعصر كيف؟ يعني – ولاحت على وجهها أمارات التفكير العميق وهي تضع سبابتها على صدغها علامة التفكير مسترسلة في حديثها – بنضربه مع شوية مايّة ولا بنغليه وبعدين نصفيه؟ أني ما سابجليش وسامعت بيه أنه بينشرب لكن طالما سي صالح جال أنه بينشرب يبجى هو أدرى!

ثم قطبت تطالع نرجس التي كانت تنظر اليها بتعبيرات صماء وأردفت بتساؤل: - تعرفي أنتي يا عمة بيعملوه كيف؟
نرجس بدون تعبير: - بيخرطوه للبهايم اللي زييك (مثلك) يا آخرة صبري!
ثم رفعت عينيها الى الاعلى مردفة من صميم قلبها: - ربنا يصبرك على ما بلاك يا ابن اخوي.
ثم رمقتها بنظرة اشمئزاز وأنفة متابعة: - دا انتي مش هدية. حجّتهم (من المفروض) كانوا سموُّكي رزيّة (كارثة)!

وانصرفت وتركتها وهي تنظر في أثرها مقطبة لا تفهم سبب غضب عمّة زوجها. أكُل هذا السخط لأنها لا تعرف كيف يُصنع مشروب البرسيم؟!

سكت الحاج عبد الحميد بعد أن أفضى لولده عثمان بما حدث في زيارة عبد الحكم الناجي له والهدية الغريبة التي هاداه بها، نظر اليه عثمان مقطبا ومفكرا قبل ان يقول:.

- غريبة لحكاية داي يا بوي! وليه الليث يعني؟ ما ممكن يجولولهم أنها مخطوبة لحد من ولاد اعمامها وهما كاتير، ولا يجولوا ليه ما البنتّه (البنات) حدانا مسيرهم لولاد عمهم حدانا (عندنا) إهنه! ثم أنه الليث زييه زي صالح تومام، هما التنيين (الاثنين) من دور بعض، نفس السن تجريبا ومتجوزين وعنديهم عيال، يعني سوا اتجوزت صالح ولا الليث عتكون زوجة تانية للتنين(الاثنين)!

عبد الحميد بروية ورزانة: - آني فاهم تفكير عبد الحكم، لو جالوا انها مخطوبة لواحد من ولاد عمها مش عذر، لانه الصلح أولى، وجتها محدش منيهم هيجدر يرفض، ولا عمامها كلهم عيجدروا يجولوا لاه، لكن الليث الخولي ابننا، ابن عيلة الخولي، لمّن ينعرف انها هتبجى ماراته مش عيفكروا فيها من أصله، وعيختاروا اي واحدة تانية من العيلة، او يمكن أختها ولو انها صعبة لانها اصغر من بدارة بسنتين تلاتة تجريبا، فكده عبد الحكم يكون ضمن انه بدارة تبعد عن تفكيرهم واصل.

عثمان باستفهام: - بس ديه معناته انها لازمن تتجوز الليث، وانت خابر زين انه الليث لا يمكن يعملها، انت عارف هو يستحيل ييجيب ضرة لسلسبيل بتّي، ثم انها نفس الاشكال سنه كابير ومتجوز.

عبد الحميد بفخر بحفيده ليث عائلة الخولي: - لكنه يدنّيه الليث! ما في بت في البر كلاته ترفضه، ولو عنديه بدل من الحرمة تلاتة وبدال من العيل عشرة! انت ناسي اياك انه أمه كانت رايده تخطبها ليه من لوّل وكانت لساتها بت 16 سنة؟ لولا اللي حوصل ووفاة راضي الله يرحمه اللي وجفت لحكاية! كانت لمحت للحاجة فاطنة وهي جالت لي جبل ما يحصول اللي حصل. ثم اني عارف دماغ عبد الحكم. هو عاوز يحجزها بس على اسم الليث، لحدّت (الى ان) ما ينحل موضوع الصلح وبعديها نفضوا الموال ديه ويا دار ما دخلك شر!

عثمان بعدم فهم: - كيف يا بوي وهو رايد يعجد على آخر السّبوع؟

عبد الحميد بابتسامة تهكم صغيرة: - ديه كلام، هو جدّم لي حفيدته هدية، زانجني (حشرني) فكره جاله أكيد هوافج، ومتى ما وافجنا هيزيعوا في البلد كلاتها، ولساتو ما في كلام على صلح لانه ابن الراجي جام (قام) من الجاعدة (الجلسة) وهو بيهدد بالتار، يبجى جِدام الناس عادي بتّهم وجالها عدلها (عريسها). لكن معيجدرش يعجد ولا نعملوا هيصة وفرح وفيه حدانا ميّت في البلد، مش بس اكده لا ديه تار ودم، يعني الموضوع كلاته عيكون كلام في كلام، الليث خطب بدارة، يامين وبعد ما نضغطوا عليهم تاني وتالت عشان يجبلوا بالصلح عيختاروا واحدة تانية من عيلة الناجي، وبعد ما ينعلن انهم جبلوا الصلح، وجتيها نفسخوا الخطبة ويكون عبد الحكم ضمن انه حفيدته او درّة الناجي كيف ما بيجول ما راحت لولد الراجي غصباينة (غصبا عن) عنيهم وعنيها هي كومان!

عثمان بذهول: - يا بوووووي ع اللفة يا حاج! طيب والعمل؟
نفخ عبد الحميد بعدم رضا قبل ان يقول بنظرات غامضة: - يفعل الله ما يريد يا ولادي. بس لمهم ما فيشي كلمة توصل لليث لحدت ما أفكّر وأشوف هنعملوا ايه!

عثمان بطاعة: - اللي تشوفه يا حاج...
بينما لاحت أمارات التفكير العميق على وجه عبد الحميد الخولي وهو موقن أنه أمام مأزق خطير أن نجح في تجاوزه سينجو بأهل بلده من طوفان الدم أما أن لم يستطع اجتيازه بنجاح فسيغرقون جميعهم في دواماته لا محالة!

دلفت تتهادى بخطوات واثقة ورأس مرفوعة تبدو كملكة تختال في مشيتها، لتجلس بجوار جدها بعد أن مالت مقبلة يده، نظرت اليه بعينيها اللتين تنافسان عيني المها في جمالهما، وقالت بصوتها الهاديء الشجي:
- جدي. سالم مصمم يعمل اللي جالو، أرجوك يا جدي، خوي لو جرى له حاجة أني مهستحملش، وانت خابر زين كيف هما الراجوية، جلوبهم صخر وحجدهم (حقدهم) وكرههم عامي عينيهم، هيخلصوا منّيه ومحدش عيوجف لهم.

نظر اليها عبد الحكم بتأنيب قبل أن يقول بهدوء: - بجه اكده يا درة الناجي؟ انت برضيكي تصدجي أني عهمّل ولد ولدي يروح للنار برجليه؟

قاطع حديثهم طرقات متتالية وقبل ان يسمح عبد الحكم للوافد بالدخول كان سالم يقتحم جلستهما، ويقف أمام جده يقول بكل عزم وارادة لا تلين:
- جدي أنا لا يمكن أوافج على الحل اللي جالهولي خالي صجر (صقر). أني هجدم لهم كفني على يدي!

شهقت بدارة عاليا وهي تنتفض واقفة متجهة اليه لتقف أمامه وهي تطالعه رافعة رأسها اليه، وبالرغم من أنها تمتلك قامة طويلة وجسد ليس بالنحيف ولا هو بالسمين بل ما يطلق عليه ب الريّان، ولكنه يتعدى طولها لتصل رأسها الى مستوى ذقنه الغير حليق، هتفت بدارة برفض محمل بالرجاء:.

- لاه. أنت مش ممكن تروح لهم برجليك، أنت ما عِملتش حاجة يا خوي، ديه أمر الله، همّان (هم) اللي عجولهم (عقولهم) مجفلة (مقفولة) ومافيش عنديهم أي فهم. وخصوصي اللي اسميه. صالح!
ولمعت عيناها ببريق كره واضح وهي تنطق باسم ذلك المستبد الارعن، قال سالم باصرار:
- لازمن أعِمل إكده يا بدارة، بحر الدم اللي عاوز ولد الراجي يغرّج بيه البلد أني بس اللي أجدر أوجفه!

بدارة باعتراض قوي: - بدمك! وعشان ايه؟ عشان ناس عقولها غايبة ونفوسها ماليانة حجد (حقد) وغل؟
سالم محاولا اقناعها: - افهميني يا ختي، الحقوق اللي درستيها متنفعشي اهنه، انتي عارفة صوح انه التار عندينا مالوش حل غير حاجة من اتنين. يا الصلح يا الدم!

صوت دبيب عال قاطعهما لينتبها الى الجد الذي أخذ يضرب بقاعدة عصاه الارض بقوة قبل ان يهت بصوت جهوري بالرغم من عمره الذي شارف على السبعين عاما:
- والله عال. موت أنا اياك لمّن تجرر (تقرر) منيك لنفسيك اكده يا ولد براهيم (ابراهيم) الناجي!

سالم بتلعثم طفيف وهو ينظر الى جده باعتذار: - لاه مجصديش يا جدي، بعيد الشر (بعد) عنيك.
عبد الحكم بتقريع قوي: - اومال جصدك ايه من اللي عتجوله ديه؟
رفع عصاه يشير بمؤخرتها اليه مردفا بصرامة: - انت مش هتخطي خطوة واحدة من غير شوري مفهوم؟
سالم محاولا اقناعه: - يا جدي.
قاطعه بدوي عال: - مفهوم يا ولد براهيم؟
أذعن سالم رغما عنه وهمس وهو يطأطأ رأسه: - مفهوم يا جدي، عن إذنكم.

ولم يستطع البقاء أكثر من ذلك ليخرج مندفعا حتى كاد يصطدم في خاله صقر الذي أمسك به وقال وهو عاقدا جبينه الاسمر:
- على فين يا سالم يا ولدي؟ واخد في وّشك كيف الجطر (القطار) اكده ليه؟.
عبد الحكم بحزم: - همّله يا صجر. وتعالى عاوزك.

ليتركه صقر يتابع طريقه الى الخارج بينما دخل هو الى الغرفة ويتجه الى جده ببنيته القوية وطوله الفارع حيث يميل عليه مقبلا رأسه وظهر يده بشفتيه الغليظتين اللتين يغطيهما شاربا كثًّا، ومن يراه يجزم فعلا أنه يستحق اسم صقر. فهو اسم على مسمى!

جلس صقر ينقل نظراته بين عبد الحكم وبدارة التي عادت الى مقعدها بجوار جدها قبل ان يقول بتقطيبة خفيفة:
- خير يا حاج؟ جد جديد ولا ايه؟
نظر اليه عبد الحكم وقال: - يعني ماعارفشي يا صجر؟ ولد أختك ما جلكش على الكلام الماسخ اللي رايد يعمله؟.

صقر برزانة: - جالي طبعا يا حاج، وأني رفضت، لكن انت عارف سالم مندفع ومارايدش حد يشيل الشيلة غيره.

(صقر هو شقيق زاهرة والدة بدارة والتي تجوزت من ابراهيم ابن عمها عبد الحكم الذي كفلهما ببيته وهما صغارا بعد ان توفت عائلتهما كلها أخذا بالثأر، وللصدفة كانت هي وصقر يبيتان ليلتهما في المنزل الكبير لدى جدهما عبد الحكم! حيث كان هو من أوقف سلسال الدم الذي حصد أرواح أبرياء كثيرين من عائلتهم والعائلة الاخرى وذلك بزواج أحد أبنائه بإحدى بنات تلك العائلة. ومن يومها وجميع الحالات المشابهة قد حلت بنفس الطريقة، فكان أن أنقذ البلد بأكملها من الغرق في سيل الدم! ).

عبد الحكم ناظرا الى بدارة: هملينا لحالنا يا بتّي.
نهضت بدارة وهي تومأ بإذعان ولكن قبل ان تنصرف نظرت الى جدها وقالت بشجاعة: - جدي لو نجاة أخوي هتوجف عليّ أنا فأنا مستعدة أكون فدو ليه، لا أني هكون الاولى ولا الاخيرة!

وانصرفت تاركة صقر يراقبها بعقدة جبين قبل ان يلتفت الى جده قائلا: - بدارة جصدها ايه يا حاج؟
لتنفك تقطيبته ويهتف بصدمة: - لا يكون جصدها يوحصل كيف ما حوصل زمان وراضينا بالنسب جدام (مقابل) التار!
زفر عبد الحكم بقوة قبل ان ينظر الى صقر ويقول وهو يركز عينيه على عيني الاخر: - اسمعني زين يا أبو طه وركز امعاي في اللي هجوله!

وطفق عبد الحكم يسرد على سمع صقر خطته لانقاذ حفيديه من براثن عائلة الراجي وكلما استرسل في الكلام كانت حواجب صقر تزداد ارتفاعا بذهول ودهشة!

تجلس أمام مرآة زينتها تمشط خصلاتها السمراء والتي أصبحت توهن يديها قبل ان تنهي تمشيطها، فقد استطالت حتى وصلت كاحليها، وكم من مرة حاولت اقناع الليث كي تقص منه ولو قليلا، ليرفض وبشدة وعندما تتمادى في طلبها ينظر اليها بنصف عين ويخبرها أنها لو قصّته فسيقص هو لسانها، مايجعلها تدبدب في الارض بقدميها كالاطفال وهي تهتف حانقة بأنه يتعبها ويستهلك وقتا طويلا في تمشيطه، ليغمزها عندها قائلا أنه يريده طويلا فهو يغنيه عن الالتحاف بالغطاء ليلا، يكفي نعومته ورائحته الذكية كما أنه يغطيه من أعلاه الى أسفله!

ابتسمت ما ان تذكرت شجاراتهما تلك ليقطع خيط ذكرياتها طرقات على الباب فسمحت للطارق بالدخول، لتدلف خادمتها وردة قبل ان تغلق الباب خلفها وتتقدم ناحيتها لتقف وراء سيدتها، وهي تقضم في شفتها وتفرك في أصابع يدها!

طالعت سلسبيل صورة خادمتها المنعكسة أمامها في المرآة بتقطيبة استفهام قبل ان تخاطبها قائلة:
- مالك يا بت يا وردة، واجفة مش على بعضيكي اكده ليه؟
وردة والخوف ينضح من مقلتيها: - ستي سلسبيل بصراحة هو حوصل حاجة إكده واني عارفاه لو الليث بيه شم خبر عيوديني ورا السمس (الشمس). لكن حضرتك اني لحم كتافي من خيرك ومجدراش (لا أستطع) ما أجولش!

التفتت اليها سلسبيل عاقدة جبينها وقالت بتساؤل وريبة: - انتي بتجولي ايه؟ اني ما فاهماشي حاجة.
وردة هامسة بيأس: - يعني آني موعودة يا ربي أنجلك (أنقل اليك) الاخبار العفشة، في لوّل المدعوجة (سباب) اللي اسميها وداد ودلوك الخبر المجندل (الكارثي) ديه!

هتفت سلسبيل تنهرها وهي تنهض واقفة هادرة: - بت. انطوجي معنديشي مرار ليكي، ايه اللي حوصل؟.
وردة بارتباك خفيف ولكنها قررت القاء ما في جعبتها دفعة واحدة: - ا، البت موزة بنت خالي بتشتِغل في صراية الحاج عبد الحكم الناجي وجالت لي انها سمعت...

وتلجلجت لتنهرها سلسلبيل: - انطوجي ككاك خابط في نافوخك!
وردة وهي تكاد تبكي وباندفاع: - سمعت الحاج عبد الحكم وهو بيجول لولد اخوه انه اتفج (اتفق) مع الحاج عبد الحميد انه يزوّج حفيدته بدارة لسي، ليث!

سكتت سلسلبيل تماما لثوان وجمدت في مكانها، قبل ان ترتسم ابتسامة عدم تصديق على محياها وتقول ساخرة:
- مين ديه يا بت اللي عيجوزوه؟
وردة بلهفة: - سي ليث يا ستّي، الحاج عبد الحكم جال (قال) لسي الحاج عبد الحميد أنه بيهادي بدارة لسي الليث. وانه الهدية ما تنرد!

وجمت سلسبيل وشحب وجهها تماما لتفيق من ذهولها هاتفة بسخط وغضب: - ايه؟ انتي بتجولي ايه؟
وردة وفرائصها ترتعد بينما أوشك قلبها على التوقف عن العمل خوفا ورعبا من عقاب سيدها الليث لو علم بما اخبرته لسيدتها:
- والله العظيم ما آني اللي جولت، ديه البت موزة اللي سمعت الحديت ديه كلّاته وجالتهولي!

سلسبيل بجمود: - طب روحي انتي دلوك.
أومأت وردة بإذعان من فورها ثم ما لبثت أن نظرت الى سلسبيل وقالت ضارعة: - أم عدنان. سايجة عليكي النبي ما تجولي لسي الليث بيه أني اللي جولت لك، أحسن بعدين أني والبت موزة هننضر، وانا ما رايداشي وربنا يعلم الا موصلحتك وما راضيتش انه حاجة كابيرة زي داي توحصل وانت ما توعرفيهاش!

هزة بسيطة من رأس سلسبيل كانت جوابها على رجاء خادمتها قبل ان تصرفها باشارة من رأسها، لتلمع عيناها بعدها ببريق العزم وتهمس بقوة:
- بجاه عاوزين الليث بجلالة جدره يكون كبش الفدا؟ الله في سماه ما يوحصل أبدا، ولو صممتم يبجى جبل ما تتلجوا التهاني بجوازته التانية، ياخد هو عزايا!

التف حول مائدة الغذاء العامرة بكل ما لذ وطاب أفراد عائلة عبد الرحمن الراجي، والذي ترأس الطاولة، ليجلس الى يمينه ابن شقيقه صالح الراجي، وبجانبه هدية زوجته، والى يساره ابنه وهبي وبجواره زوجته هند، وفي المقابل نرجس، بينما زوجة عبد الرحمن فمتوفية أما باقي أبنائه فيقطنون في بيوت منفصلة، فأحدهم في مدينة قنا والآخر في أسيوط والثالث بالقاهرة تبعا لأشغالهم فجميعهم حاصل على مؤهلات جامعية ما عدا وهبي والذي اختار النزول الى ميدان العمل مع والده ولم يكن قد أتم الساسدة عشر فترك المدرسة لهذا السبب، أما صالح فحاصل على دبلوم تجاري ولكنه ومنذ مكوثه وشقيقته مع عمه عبد الرحمن وهو يساعده يدا بيد في جميع اعماله حتى أصبح الذراع الايمن له ويستشيره في الصغيرة قبل الكبيرة ناعتا له بأنه الكبير من بعده الامر الذي أوغر صدر وهبي ضده وبالطبع ساندته في هذا زوجته هند والتي كانت تتدخل في حياة شقيقته والتي عانت كثيرا من تأخر الانجاب حتى منّ الله عليها بالحمل، ولم تكن تتركها تنعم بحب زوجها والذي كان يعاملها وكأنها جوهرة نفيسة يخاف عليها من ذرات الهواء، فهي طوال عمرها تشكو من ضعف صحتها، وما ان حدث الحمل حتى هدأت الشكوك التي كانت توعز بها اليها، وابتعدت عنها فأصبحت شبه ملازمة لغرفتها، حيث قرر عبد الرحمن أن تستقر ابنة شقيقه في منزله كي يعتنوا بها ولم يكن زوجها ليعترض على أمر لكبير العائلة، وما أن حدث ما حدث حتى ترك زوجها المنزل وعاد الى بيت أهله، ولكنه لم ينسى ثأره ليطمأنه عبد الرحمن أنه ليست عائلة الراجي من تنسى ثأرا لها، فهدأ وسكن منتظرا أن تخمد نيرانه بموت سالم من سلبه فرحته بزوجته وابنه!

نظر عبد الرحمن الى صالح الواجم والذي لم يتناول من الطعام الا النذر اليسير وقال له بجدية:
- بعد الوكل لافيني (الحق بي) لداري يا ابن اخوي.
هز صالح رأسه بالموافقة قائلا: - تومام يا كابيرنا.
تبادل وهبي وهند النظرات قبل ان توكزه بمرفقها خفية فتنحنح وقال: - الا صحيح يا بوي. عنعملوا ايه مع ابن الناجي؟ هنهملوه إكده؟ أنت أمرتنا كلاتنا إنّا نخرج ومعرفناشي ايه اللي حوصل امعهم؟

عبد الرحمن ببرود وهو يطالعه بنصف عين: - بيستهيالي أني جولت اني ما عسكتش، وكل حاجة عترفوها في اوانها، ولا – واكمل ساخرا – حاضرتك رايد اني آخد الاذن منيك في كل خطوة أخطيها؟

ارتبك وهبي وسريعا تبدل النظر مع زوجته قبل ان يقول: - العفو يا بوي ماجاصدش.
قاطعه عبد الرحمن رافعا يده: - خلاص خولصنا.
ليطالع عبد الرحمن متابعا: - خلص وكل وحصلني يا صالح.
لينظر الى نرجس مردفا: - شيعي لنا كاستين شاي على داري يا نرجس.
نرجس بايماءة موافقة وهي تشير الى عينها اليمنى فاليسرى: - من عيني ديه جبل عيني ديه.

جلس صالح امام عمه الذي أخذ يرتشف كوب الشاي باللون الاحمر الداكن الذي يقارب الاسود في لونه بتلذذ واضح، ليقول بعدها:
- وبعدها يا عمي، عنفضلوا ساكتين إكده وولد الناجي فاكر انه جدر يهرُب منينا!
عبد الرحمن وهو يضع كوب الشاي فوق الطاولة الصغيرة امامه: - معتفرجش يا ولد اخوي، العبرة بالنهايات!

صالح بتقطيبة: - يعني ايه يا عمي؟ انت وافجت جودامي على حديت الشيخ عبد الحميد ونفتحوا صفحة جديدة والكلام الماسخ ديه.

عبد الرحمن موافقا: - حوصل!
صالح بدهشة: - ايه؟ طب منين بتجول اكده ومنين بتجول العبرة بالنهاية؟ عناخدوا بتار ماريام اختي ولا ابن الناجي هينفد بجلده في جوازة مالهاشي عازة (ليس لها بد)؟.

عبد الرحمن يطالعه بهدوء: - وهو من ميتة والراجوية بينسوا تارهم يا ولد اخوي؟
صالح وقد بدأت أساريره بالانبساط: - معنى اكده اننا هناخدوا تارنا؟
عبد الرحمن بهزة موافقة من راسه: - أكيد.
ليرفع سبابته مردفا: - من غير نجطة دم واحدة!
قطب صالح بغير فهم: - كيف ديه؟
عبد الرحمن بابتسامة خبيثة: - هناخدوا أغلى ما في عيلة الناجي، كيف ما هما اتسببوا بموت بنتنا، احنا كومان عناخد بتّهم، الاخت جصادها أخت!

صالح حانقا: - يعني جواز! لو حصل جواز بيننا وبينهم عناخدوا بتارنا كيف يا كابيرنا تجدر تجولي؟

عبد الرحمن بصبر وابتسامة غامضة تلوح على وجهه: - بدارة الناجي درّة عيلة الناجي، وعشان نحرج (نحرق) جلبهم (قلبهم) صوح لازم بدارة ديه تبجى في يدنا، وساعتها كيف ما هما جتلوا بنتنا وراحت تحت التراب بتّهم كمان هتموت.

قاطعه صالح بريبة: - عنجتلها؟!
عبد الرحمن بشبه ضحكة ساخرة: - وهو مافيش موت غير بالجتل (القتل)؟ بالعكس ديه اسميه الموت الرحيم لانه الميّت معيحسش بحاجة، لكن الموت بالحيا هو ديه العذاب صوح!

صالح بتوجس وريبة: - توجصد (تعني)...
وسكت ليطالعه عبد الرحمن مومئا بالايجاب وهو يقول: - أيوة يا ابن اخوي، تارنا هناخده من بتّهم. بدارة الناجي، وكيف ما حرمونا من بتّنا عنحرمهم منِّيها. وعنخلّي أيامها سواد ومرار طافح، هتتمنى الموت ومعتطولوشي، العين بالعين والسن بالسن والبادي. أظلم!

وبرقت عينا عبد الرحمن بشرّ مستطير بينما ابتسم صالح ابتسامة شيطانية، فها هي ساعة الصفر قد اقتربت وسينال ثأره من ابنة الناجي كاملا وبالشرع والقانون!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة