قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

رواية كبير العيلة الجزء الثاني للكاتبة منى لطفي الفصل الأول

تطايرت شرارات من لهيب نظرات عائلة الراجي وبالأخص صالح ناحية آل الناجي وتحديدا على سالم، الذي جلس يجاوره جده عبد الحكم الناجي من الناحية اليمنى وعبد الحميد الخولي من اليسرى، والذي جاوره أحفاده غيث وشهاب و، الليث!

كتم شتيمة كادت تنطلق من بين شفتيه، أن كان ابن الناجي يظن أنه بجمعه لكبار عائلات البلد وخاصة الشيخ عبد الحميد الخولي كبير عائلة الخولي أكبر عائلة ليس في البلد فحسب بل في الجنوب بأكمله سيجعله ينسى ثأره منه فيجب عليه الكشف على قواه العقلية! ليس صالح الراجي من يتهاون في حق له أبدا. وهو أحق بالثأر لأخته من ذلك المنمّق والذي لا يدري الى الآن كيف نجى من بين يديه بالمشفى، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من ازهاق روحه بيديه العاريتين، ولكن. وفي أقل من لمح البصر كان هناك العديد من العاملين بالمشفى يحيطون به، ولم يكونوا ليتغلبوا عليه فرجاله قادرين على مضغهم أحياء بل وبصقهم بعد ذلك، ولكنه صوت قوي. من صدح يوقفه. صوت عمه كبير عائلته. عبد الرحمن الراجي. فقد علم بتدني الحالة الصحية لمريم، فأسرع بموافاة ابن أخيه الى هناك، وما أن وطئ بقدمه عتبة المكان حتى علم بما حدث. وحده هو من يستطيع الامساك بلجامه وكبح جماحه جيدا، وكيف لا فهو والده الروحي، من ربّاه هو وشقيقته بعد وفاة والدهما وكان عمره وقتها الثالثة عشر عاما بينما مريم ست سنوات، لتلحق به والدتهما كمدا وحزنا عليه، فقد توفي في عز شبابه ما يقولون، في حادث تصادم على الطريق السريع المؤدي الى البلد بليلة شتوية، كان الضباب بها على أشده، وفقا لتقرير الشرطة، لتقيد الحادثة قضاء وقدر، بينما السائق الآخر فقد تعرض لكسور وشروخ ولكن ليس بالشيء الخطير، فالتقرير الأمني أثبت أن والده كان يقود في الاتجاه الخاطئ، فتلقى هو الجزء الاكبر من الحادث، ومن سخرية القدر أن من تصادم معه ومات نتيجة ذلك فيما قيّد قضاءا وقدرا كان من عائلة الناجي! وكأن تلك العائلة مُوكّلة بحصد أرواح عائلته. والحُجّة. قضاء وقدر!

والآن يظنون أنهم بقادرين على جعله يتراجع عن وعده في الانتقام لأسرته، فعائلة الناجي قد تسببت في خسارته لجميع أفراد عائلته، والده ووالدته التي ماتت من شدة قهرها وحزنها والان شقيقته الصغيرة والوحيدة. مريم.

ثلاثة أيام مرّت منذ ذلك اليوم المشؤوم، في البداية أصابه الاحباط والذهول عندما أعلن عمه الحداد على فقيدتهم، بل وأجبره على أن يقف بجواره كتفا بكتف يتلقى العزاء، كيف هذا؟ يقسم أنهم سيصبحون علكة في أفواه الجميع، هذا أن لم تكن الالسن قد بدأت في الخوض بسيرتهم، وكيف أنهم قد نسوا ثأرهم المزعوم، بل ولا بد أنه قد ناله القسم الأعظم من سخريتهم، فهو من صاح وهدر مقسما على الانتقام لعائلته، وها هو الآن يجلس مجبورا متلقيا العزاء، ومن المفترض انه يمد يده مصافحا تلك اليد المخضبة بدماء صغيرته، ولكن اللعنة عليه أن فعل! فإن كان عمه قد استطاع الضغط عليه بحجة أنهم سينالون ثأرهم كاملا، ولكن بالتروي، فكما تسبب آل الناجي بفقدهم خيرة أبنائهم، معللين ذلك بالقضاء والقدر، هم أيضا سيحصدون أرواحهم، وبنفس المبرر. قضاء وقدر. ولكن أولا لا بد من إيحاء الجميع أنهم قد تفهموا حقيقة ما حصل، وأن ثورته يوم المشفى كانت نتاج صدمته لوفاة شقيقته الوحيدة!

لم يجد أمامه بدًّا أن يطيع عمّه ولكنه أضمر في نفسه أمرا، فهو سينال انتقامه منهم بيده، ولن يهمّه أي شيء أو أي أحد، وتلك اليد التي قتلت أفراد أسرته بدم بارد لن يلمسها الا في حالة واحدة فقط. ألا وهي قطعها! أما أن فشل في مسعاه فمن الأفضل له أن يرتدي إحدى أوشحة زوجته هدية ويجلس بجوارها في الدار!

تحدث عبد الحميد بعد أن انصرف معظم المعزوّن، حيث لم يتبق سواه وأحفاده وبضعة رجال من عائلة الناجي على رأسهم عبد الحكم جد سالم، وسالم نفسه وآخرين، ومعهم رجل الأمن، مدير مباحث المنطقة، وبالطبع رجال عائلة الراجي وأولهم عبد الرحمن وابن شقيقه صالح، قال عبد الحميد بصوته الرخيم:
- حاج عبد الرحمن، احنا انّهاردِهْ رايدين نجفلوا أي حديت عن حكاية التَّار دايْ. أهل البلد لسّاتهم بيتكلموا!

عبد الرحمن بعينين ثاقبتين وصوت هادئ ووجه لا يحمل أي تعبير: - يعني نعملوا إيه أكتر من إكده؟ نصبنا الصوان وخدنا العزا (العزاء) – ومال برأسه ناحيته يتابع بلهجة غامضة - وانت خابر زين أنه ما في عزا بيتنصب إلا لمّن ناخدوا بالتار لوّل!

حدجه عبد الحميد بنظرات قوية ليستدرك عبد الرحمن بدهاء الثعالب: - دِه لو في تار! لكن احنا ماعْمِلناشي (لم نفعل) إكده، بدليل انك جاعد دلوك في خيمة العزا – برقت عيناه ببريق مخيف وهو يستطرد بنبرة خافتة تنذر بالشر – عزا بتِّنا!

أدرك عبد الحميد وقتها أن عبد الرحمن الراجي يضمر في نفسه أمرا مخالف تماما لما يظهره، لقد ارتاب أول الأمر في ذلك خاصة ووجه صالح يحمل علامات غضب مستطير، ولكن عبد الرحمن استطاع لجمه جيدا، ومن الواضح أن ذلك لم يكن إلا قناعا يخفي وراؤه نيّته الحقيقية. والتي رآها مسطورة وبوضوح فوق وجهه. ألا وهي الثأر! وأن تم له ما يريد ساعتها ستغرق البلد في بحور من الدم لن يستطيع ايقافها شيء، لذا فهو سيعمد الى طرق الحديد وهو ساخن، فاليوم هو الثالث آخر أيام العزاء، التي أعلنها عبد الرحمن، ولن يغادر قبل أن يأخذ منه عهدا أمام رجال العائلتين أن الأمر قد انتهى بانتهاء أيام العزاء، ولن يكون هناك حديث ولو عرضا عن ثأر محتمل أو انتقام لم يتم!

قاطع تفكيره مدير الأمن وهو يقول مشيدا وكان مراقبا للحديث الدائر بين كبيريْ عائلات البلد:
- البقاء لله يا حاج عبد الرحمن، بصراحة انت أثبت أنك صاحب عقل وحكمة، كفاية أنك أنقذت البلد من نار التار، كانت هتحصد في طريقها خيرة شباب العيلتين. أنا بحييك على رجاحة عقلك يا حاج.

عبد الرحمن بصوت جامد: - هنعملوا إيه يا سيادة اللواء، اللي حوصل ماكانِش عن جصد، مش كان. جضاء وجدر(قضاء وقدر) برضيكي يا ضاكتور؟

موجها سؤاله الى سالم الذي أومأ ببرود قائلا: - أيوة يا حاج، بس أن جينا للحجيجة (الحقيقة) فاللي حوصل نسبة كبيرة منه الاهمال، للأسف المرحومة كان لازم تتابع مع دكتورة نسا، لكن من اللي عرفته أنها ما كانت بتابع لا مع دكتورة ولا مع ممرضة حتى، بس هنجول (نقول) ايه، هي أعمار في لوّل والآخر.

عبد الرحمن موافقا بايماءة صغيرة وعينين ثاقبتين لم يحيدا عن وجه سالم: - تومام يا ضاكتور. كيف ما جولت. جضاء وجدر!
لكن صالح لم يعجبه أن يلقي سالم بمسؤولية ما حدث على عاتقهم، لينبري قائلا بامتعاض وخشونة:.

- النساوين كلاتها بتحبل وتولد في الدار، لا حكيمة ولا يحزنون بيشوفوها، ومريام مش أول واحدة. فمتجيبِشْ الحَجْ (الحق) علينا احنا، اللي راحت تبجى (تكون) بتَّنا، احنا بس اللي حاسين بوجيعتنا. وفراجها (فراقها) مش عيروح (يذهب) من بَالنا (عقلنا) واصل (أبدا)!

انتهز عبد الحميد الفرصة التي أتته على طبق من فضة وهتف قائلا: - عشان إكده أنا رايد نجوم (نقوم) من اهنه واحنا مصفيين النفوس، اللي حصل دِه قضاء ربنا لا اعتراض عليه، وطالما أنتم مجتنعين (مقتنعين). يبجى نجرا (نقرأ) الفاتحة على إكده!

قفز صالح واقفا هادرا بغضب مخيف: - على جثتي!
بينما انتفخت أوداجه قهرا وبرزت عروق رقبته من شدة غضبه العاتي، ليقبض عبد الرحمن الجالس بجواره على ساعده كي يسكته فيما نظر الى الشيخ عبد الحميد وضيّق عينيه قائلا:
- مافاهماكِشْ(لا أفهمك) يا شيخنا، فاتحة ايه اللي نجروها؟

ليجيب الليث بدلا من جده وكان قد تأهب هو وغيث وشهاب ما أن رأوا صالح وقد بدى كمن يوشك على ارتكاب جريمة، وكانوا قد التزموا الصمت منذ بداية الحديث احتراما لكبار الجلسة.

نهض الليث واقفا أمام صالح مجيبا بحزم وعيناه ترسلان تحذيرا لصالح إلا يتمادى على كبيرهم:
- الفاتحة أنه الكل يخرج من اهنه ونفسه مافيهاش شر، وأي كلام أو تفكير في اللي حوصل ننساه واصل.

قاطعه صالح بصوت باتر: - مستحيل. يبجى وجتها ألبس بُرجُع (برقع – نقاب) وأجعد حدا (بحذى) الحريم في الدار.

نهره عبد الرحمن قائلا: - صالح. بكفياك!
ونظرات عينيه ترسلان اليه اشارات تهديدية ولكن صالح كان أصم أذنيه وأعمى عينيه عن أي شيء سوى ثأره لمقتل شقيقته، ليجيب بصوت قوي لا يحتمل النقاش:.

- سامحني يا حاج. لكن أنا لا يمكن أفوت تار أختي، في أبوي كنت اصغيّر. وجلتوا حادث وجضاء وجدر، وأمي حصلته من جهرتها عليه (قهرها)، ودلوك (الآن) مريم تروح وبيد واحد من عيلة الناجي، مش لوحدها، ولدها كومان مات، يعني الضاكتور حرمني من أختي ومن ابنها، أول ولادها، كانت بتتمنى اليوم اللي هتولد فيه، ورايدني أنسى بكل سهولة إكده؟ ما بجاش صالح الراجي اللي الكل بيعملاه ألف حساب، ويبجى شنبي ديه – وأمسك بطرف شاربه الأسود الكث مضيفا بحزم – على حرمة!

ونفض جلبابه قبل أن يسير بخطوات سريعة، قوية الى الخارج وترك الجميع جالسون وكأن على رؤوسهم الطير!

سمعت صوت حركة في الغرفة حولها، لتميل ناحية المصباح المجاور للفراش فتشعله، قبل أن تلتفت فتلتف حولها خصلاتها السوداء التي غدت كغيمة كبيرة تغطيها من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها، ورفعت جذعها العلوي قليلا قبل ان تقول بصوت مليء بالنعاس:
- انت جيت يا ابو عدنان؟
جلس الليث على الاريكة المقابلة للفراش يخلع نعليه يضعهما جانيا، قبل ان يستقيم نازعا عمامته وهو يقول بزفرة عميقة:.

- إيوة جيت يا سلسبيل، انعسي (نامي) انتي.
قالت سلسبيل وهي تنهض متوجهة إليه: - أحضر لك العشا يا ابو عدنان؟
رفع رأسه اليها وهو يقول بزفرة طويلة: - لا ماليش نِفس يا أم.

وانحبست أنفاسه داخل صدره وهو يراها تقف أمامه كحورية من الجنة، بجسدها الممشوق والذي اكتسب بضعة كيلوجرامات بعد ولادتها لتوأمهم الثلاث، في مناطق معينة ليصبح أكثر أنوثة وإغراءا عن ذي قبل، يحدده فستان نومها من الساتان اللامع بلونه السكري، والذي يظهر عنقها وكتفيها بسخاء، فهو عار من الأعلى مثبت بحمالتين رفيعتين فقط، ويصل الى كاحليها فيما هناك شق طولي فوق ساقها اليسرى، يتحرك أثناء سيرها مظهرا بشرتها الحريرية، بينما تغلفها غمامة حريرية سوداء، تجعلها تبدو وكأنها أسطورية، قد تختفي فجأة، تصل تلك الغمامة الى الاسفل تكاد تلامس الارض، بينما نعومة خصلاته تنافس الحرير، ليزدرد بريقه وينهض ببطء وعيناه تلتهمان محاسنها الظاهرة أمامه بسخاء كبير، ويرفع يديه يقبض برفق على ذراعيها ويميل عليها هامسا بصوت أجش:.

- إيه دِه؟
قطبت سلسبيل وقالت بعدم فهم: - أيه يا وِلد عمي؟ فيه حاجة؟

نظر اليها الليث وهو يميل عليها لافحا بشرة وجهها بأنفاسه الساخنة لتشعر باحتراق وجنتيها وكدأبها تسري حمرة الخجل الى وجنتيها وكأنها لا تزال عروس جديدة، وليست زوجته لما يزيد عن الاربع سنوات، ولكنه الليث. مهما مر بهما الزمان تظل تشعر بنفس الرجفة إلى تصيب بدنها، ليست من الخوف ولكن من الاثارة، ففي كل مرة يقترب منها تشعر وكأنها أول مرة، فلهفته عليها لم تقل أو تنضب، بل هي تزداد باضطراد مذهل، وعندما سألته في إحدى المرات أن كان قد ملّ من الزواج نظر اليها حينها بذهول يجيبها بما ألجمها. وهل يسأم المرء من الحياة؟ فأنتِ الحياة لقلبي حبيبتي، ودونك أنا جسد بلا روح، فأنت روح هذا البدن سلسبيلي! .

لتلقي بنفسها بين ذراعيه تطوقه بقوة، وهي تدعو الله ألا يوريها فيه بأس يبكيها، بل أن لسانها في كل صلاة يلهج بأن يكون يومها قبل يومه، فإن كانت هي الروح لجسده، فهو حياتها كلها!

همس الليث وقبضتاه تشتدان على ذارعيها: - بجول ايه؟
رفعت عينياها اليه في تساؤل صامت ليردف بابتسامته التي تأسر لبّها: - أني غيّرت رايي، أني جعان!
شهقت سلسبيل بنعومة وقالت وهي تحاول التملص من أسر يديه: - حالا الوكل (الأكل- الطعام) عيكون جاهز، مسافة ما اتغيِّر خلجاتك هتلاجيني جهَّزته!

الليث وهو يرفض تركها: - بس أنا ما رايدش وَكْل (أكل). أني عاوز أحلي طوالي (فورا)!
عقدت جبينها مفكرة لتنفك عقدتها وهي تشعر بنفسها تطير في الهواء لتحط بين ذراعين قويين، فهمست باعتراض زائف واه:
- أبو عدنان، أجهز لك العشا لوّل!
وضعها الليث في منتصف الفراش، ليعتدل خالعا جلبابه يلقي به الى البعيد قبل أن ينضم اليها في الفراش قائلا بلهفة وأحرف كلماته تقطر شوقا:
- عشا ايه، مش لمّن أرد عطشي لوّل؟!

ومال عليها ينهل من نبع عذوبتها ليروي عطشا لها لا ينضب!

ألقى بسلسال مفاتيحه على الطاولة الرخامية التي تتوسط ردهة منزله، ذلك المنزل الذي شيده في طرف الحديقة منفصلا عن صرايا جده الخولي، كما وعد جنيته المشاغبة، وحذا حذوه توأمه، إذ بنى منزلا له ولزوجته بجوارهما، وكان هذا اقتراح الجد عندما علم باشتراط بنات ولده رؤوف أن تنفصلا كل واحدة ببيت مستقل كشرط للرجوع الى حفيديه، فيكون بهذا قد فعل ما يرضيهما وبذات الوقت لا يزال أحفاده تحت جناحه، وأمام عينيه.

اتجه الى غرفته ليبصر نورا قادما من أسفل غرفة المكتب، فاتجه اليها، ليدفع الباب فيقع نظره على جنيته، وهي تفترش سطح المكتب برأسها، بينما تتطاير خصلاتها والتي استطالت حتى وصلت نهاية خصرها حولها، ابتسامة بدأت تشق فمه ولكنها سرعان ما انحسرت لتنقلب الى نظرة ذهول وصدمة، فيما اقترب منها حتى وقف بجوارها ورفع يده يتلمس تلك الخصلات والتي تركها في الصباح تكاد تنافس الشمس في نورها بلونها النحاسي المموج بخصلات حمراء، ليجدها أمامه الآن وقد استحالت الى أخرى، زرقاء! أتريد أن تخبره أنها ستجعل حياتهما باللون الازرق؟

عند هذا الخاطر كان يلكز كتف سلافة ولكن برفق ويناديها بصوت منخفض: - سلافة.
امممم! . لم تجبه بأكثر من هذه الكلمة، ليقطب بغرابة قبل ان يعيد ندائه لها بصوت أعلى مرفقا ذلك بوكزة أكبر لتنتفض سلافة من نومها كعادتها عندما تكون مستغرقة في النوم وتصحو فجأة لا تدري أين هي:
- مين. فين. ليه؟!
قطب غيث قبل أن يميل عليها قائلا: - اهدي يا حرمنا المصون، أني غيث. جوزك وولد عمك.

تثائبت سلافة وقالت وهي تغطي فمها المفتوح بيدها الصغيرة: - آه. غيث، حمد لله على السلامة، جيت امتى؟
غيث بعقدة جبين تتزايد وصوت رزين: - لسّاتني داخل.
ابتسمت سلافة وهي تقول تحاكي لهجته الصعيدية: - أحضِّر لك الوكل يا ولد عمي؟ عاملالك فضلة خيرك طاجن بطاطس بالعكاوي يستاهل خشمك!

غيث بسخرية ويده تبعثر خصلاتها الى الاعلى: - ويا ترى صينية البطاطس بالطماطم الحمرا ولّا. الزرقا؟!
وهو يرفع خصلاتها الى أعلى ثم يتركها تنسدل الى الاسفل، فابتسمت سلافة وقالت وهي لم تفطن لتلميحاته:
- طماطم زرقا ايه بس يا عمدة؟
ثم نهضت وهي تواصل قائلة: - شكلك جعان وابتديت تتوه في الكلام من الجوع، على ما تغير هدومك هكون جهزت الاكل.

أمسك بذراعها معيقا تقدمها وهو يقول فيما يشير الى رأسها بسبابة يده الأخرى: - استني اهنه، ايه اللي انت عاملاه دِيه يا سلافة؟ أزرج! أزرج يا بنت عمي؟
سلافة بابتسامة عريضة وهي تتلاعب بخصلاتها: - اخدت بالك؟
غيث بتهكم: - إلا أخدت بالي، لا هو انتي ناوية تشتغلي لي في الازرج ولّا ايه يا أم رهف؟
سلافة مقطبة: - مش عارفة ليه بيتهيألي أنه فيه ريحة تريقة (سخرية) في كلامك يا أبو رهف؟

غيث يومأ برأسه موافقا: - لاه دِه مش تهيؤات، دِه صح وبحاج وحجيجي (حق وحقيقي!
سلافة معترضة: - نعم! صح؟ يعني انت بتتريق عليا؟ وليه ان شاء الله؟
غيث بضحكة تعبر عن دهشته: - هو ايه اللي ليه يا سلافة؟ أزرج! ملاجيتيش غير الازرج يا بت عمي؟
سلافة وهي تشمخ بأنفها الى الاعلى: - دي الموضة يا أستاذ، ايش عارفك أنت! الحق عليا أني كل شوية أعمل نيو لوك بأحدث صيحات الموضة عشان ما أخليش نفسك في حاجة!

غيث وهو يمد يده الاخرى يحيط بخصرها بذراعيه: - حبيبتي انتي جومر(قمر) في جميع حالاتك، لكن صعب جوي الازرج دِه! خرعتيني يا سلافة (أرعبتني)!

ضربته سلافة بقبضتها الصغيرة على صدره وهي تهتف بنزق: - خرعتك! ليه؟ أكونش عفريت قودامك وأنا معرفش! وبعدين قلنا بلاش سلافة ده، اربع سنين متجوزين ومش عاوز تتعلم سولي؟

غيث وهو يضغطها أقرب اليه: - ولا بعد أربعين سنة هتعلمها! انتي سلافة، حبيتك سلافة وهتفضلي سلافة، ده اسمك أول حاجة شدتني ليكي، انسي اني أنادم (انادي) عليكي غير بيه!

سلافة بتحد: - ماشي يا غيث، يبقى مالكش دعوة أصبغ شعري ايه، أزرق. أخضر. أحمر حتى، مالاكش فيه!

غيث مقطبا بحنق: - كيف دِيه؟ اذا كنت أنتي كلك على بعضك ليا فيكي، لاه مش بس اكده. كلك ليا أنا، يبجى ايه ماليش فيه ديه؟

سلافة بعناد: - زي ما سمعت، ولعلمك المرة الجاية هتلاقيني صبغاهولك كحلي! عشان أشتغل لك في الكحلي يا عمدة!

ونحت يده جانبا منتهزة ذهوله قبل ان تتوجه الى الخارج ليفيق غيث من ذهوله ويهتف قائلا وهو يلحق بها:
- هي حصّلت لل كحلي؟! أما ألحجها أحسن دِيه عنديها ربع لاسع وممكن تعملها صوح.

ليعلو صوته هاتفا وهو يسرع الخطى اليها: - يا سلافة. يا ام رهف، تعالي عنتفاهم.
دلف خلفها الغرفة، لتسارع بكتم فمه وهي تغلق الباب خلفه قبل ان تزيح يدها وهي تنهره قائلة:
- ايه بتنادي على عيّل تايه؟ هتصحي بنتك وانا ما صدقت تنام!
غيث وهو يسارع بالامساك بيدها قبل أن تبعدها كلية: - لاه في ديه عنديكي حاج (حق)، وبصراحة فيه حديت (حديث) كتير عاوز أجوله، بجالي كم يوم مأجله!

سلافة وقد فهمت ما يرمي اليه لتقول وهي تهم بالابتعاد: - لا معلهش، خلي حديتك دا بعدين، انا سهرانة أخلص كشوف حسابات الديوان، وعيوني وجعاني وعاوزة أنام.

غيث وهو يأبى افلاتها: - ععملك مساج الوجع عيروح طوالي(فورا)!
سلافة بدون تعبير: - مساج لعينيا؟!
غيث بهزة تأكيد من رأسه: - أيوة أومال. – وغمز بعينه اليها متابعا بعبث – عشان تُعرفي ان جوزك أكبر مدلّكاتي (خبير تدليك – مساج) فيكي يا موصر (مصر)!

ضحكة عالية لم تستطع كبتها انطلقت فمها ليطالعها بعينين مشدوهتين، بينما صوت ضحكتها في أذنه تماما كخرير جدول ماء رقراق ينساب بعذوبة ورقة، ليميل عليها قائلا بابتسامة مداعبة:
- لاه الضحكة داي فيها حديت لباكر عشيّة على إكده!
سلافة بدلال ناعم وهي ترسم خط وهمي حول عنقه بسبابتها: - وهي رهف بنتك ان شاء الله هتسيبك لباكر عشيّة؟ دا انت لو عرفت تقول كلمتين على بعض لربع ساعة قودام من دلوقتي يبقى انجاز!

قطب غيث وقال مستهجنا: - مين دا؟ طب ايه جولك (قولك) بجاه.
ليقاطعه صوت طرقات صغيرة وصوت صغير ناعم يقول بنعاس: - ماما. رهف عاوز نام في حضنه!
كتمت سلافة ضحكتها بينما قال غيث بذهول: - حضن مين؟
بينما تعالى صوت رهف وتزايدت دقاتها على الباب: - ماما. رهف عاوز ينام حضنه!
لتتجه سلافة الى الباب وتقوم بفتحه لتنحني لمستوى ابنتها وهي تقول: - قلب ماما تعالي.

وحملتها لتمر بها بجانب غيث الذي وقف يراقبهما ببلاهة ليتمتم بعد ذلك: - تعالي؟! تاجي (تأتي) فين؟
وضعت سلافة ابنتها وسط الفراش ونظرت الى غيث تهمس بصرامة مفتعلة وهي ترنو بنظرها الى ابنتها الناعسة:
- اه يا غيث، خلي البنت تنام.
قاطعتها رهف قائلة وهي ترنو بعينيها الناعستين الى والدها: - بابا. حضنه!
ابتسمت سلافة وقالت: - تعالى يا بابا حضنه.

ابتسم غث واتجه الى ابنته ليحتل الجانب الآخر من الفراش مقابل زوجته، ويميل محتضنا كتفي ابنته وهو يقول:
- حضنه يا جلب بابا انتي!
لتبتسم سلافة، بينما تغلق رهف جفنيها فيما تسللت أصابع غيث تشتبك بأنامل سلافة، ورقد الثلاثة مستسلمون لنوم عميق دون أحلام.

انت بتقول ايه يا شهاب؟ .
شهاب بزفرة طويلة: - اللي سمعتيه يا سلمى، صالح الراجي مصمم على تار أخته. ولو دا حصل يبقى حنفية الدم هتتفتح في البلد ومحدش هيقدر يقفلها.

سلمى بتقطيبة: - وجدّي سكت؟
شهاب بهزة من كتفيه: - جدّي هو اللي خلّا صالح ينفجر، بعد ما طلب اننا نقرا الفاتحه انه النفوس صافية، صالح رفض وهدد وعمل اللي حكيتهولك.

سلمى بتفكير: - بس جدي مش هيسكت، أكيد هيتصرف.
شهاب موافقا: - أكيد، أساسا أنا حاسيت أنه قصد موضوع الفاتحة عشان يعرف نواياهم بالظبط، عموما بكرة كل حاجة هتبان.

أومأت سلمى موافقة، ليدنو منها شهاب قائلا بابتسامة عابثة: - رؤوف نايم مش كدا؟
سلمى ببساطة استفزته: - لا، أنا كنت عند ماما ستو المغربية قبل ما انتم تيجوا، ومسك فيها عاوز ينام هناك، فسيبته (تركته)!

هتف شهاب بدهشة: - انت عاوزة تقولي اننا لوحدنا خالص انهرده؟
أومأت سلمى بتلقائية، ليقفز شهاب فوق الفراش بعد ان كان جالسا بجوارها وهو يقول: - ومخلياني (جعلتيني أهري (أثرثر)، وأسيب المفيد!
انبطحت سلمى على ظهرها تسأله بابتسامة صغيرة: - وايه هو المفيد؟
شهاب وهو يغوص بنظراته بين زيتونيتيها: - دا أفيَد المفيد ذاته!..

طوقت رقبته بذراعيها وهمست أمام وجهه لتضرب أنفاسها الدافئة صفحة وجهه الخشنة فتثير داخله بركانا من المشاعر الملتهبة:
- نفسي في أخ لرؤوف يا شهاب.
شهاب بحنان وقد تذكر أنها منذ فقدت حملها الثاني وهي تتحرق شوقا لطفل آخرك
- ان شاء الله حبيبتي، ولو أني عاوز بنوتة بعيون زتوني زيّك كدا...
سلمى بابتسامة: - ايوة عشان تطبق على نفسها وما تروحيش وما تلبسيش.

شهاب بجدية مفتعلة: - أكيد، دي هتبقى بنتي وحتة منك، بقولك ايه – طالعته بتساؤل فأردف – أنا بقول نخش (ندخل) في المفيد!

ليدخل من فوره في المفيد، وبإخلاص منقطع النظير!

جصدك تجول ايه يا شيخ عبد الحكم؟ ...
أجاب عبد الحكم بصوته الهاديء الأجش: - اسمعني زين يا شيخ عبد الحميد، احنا كلاتنا عارفين انه حاجة واحدة بس اللي توجّف سلسال الدم اللي ناوي ابن الراجي يفتحه، وهو النسب! وأنا متوكّد انهم هيطلبوا أخت سالم بديل لأخت صالح، وانت خابر بدارة زين، أني معطيهاشي لأيّتها حد، دِيه درّة عيلة الناجي، يوم ما تتجوز تاخد اللي أكبر منيها ب 15 سنة وكمان متجوز وعنديه اعيال!

عبد الحميد باستفهام: - بس همّا لو طلبوا النسب معتجدرش تجول لاه!
عبد الحكم وعينيه تلمعان بدهاء: - لكن ما هتكونش بدارة، يختاروا اللي هواهم فيها الا هي.
عبد الحميد بريبة: - وكيف ما عتكونش بدارة؟ وهمن (هم) عيوافجوا (يوافقوا)؟
عبد الحكم بابتسامة غريبة: - غصبن عنيهم، مافيش شرع يسمح أنه واحدة تتجوز اتنين!
عبد الحميد بدهشة: - هي بدارة متجوزة؟ ميتى حوصل دِه؟

عبد الحكم بحزم: - عتتجوز يا شيخنا. ووجتيها معيجدروش يختاروها. هسبجهم (أسبقهم) بخطوة. هنعجد لبدارة وتدخل في ظرف سابوع (اسبوع)!

عبد الحميد بتوجس: - نعجد لها؟ على مين؟!
عبد الحكم وهو يطالع عبد الحميد بتركيز شديد: - عنعجد لها على اللي ميجدروشي يفتحوا خشمهم جصاده، عنعجد لها على الليث، الليث الخولي يا كابير، أني طالب الجرب (القرب) منِّيك فيه، بجدم (أقدم) لك بدارة بت ولدي، هدية لحفيدك. والهدية ما تنرد يا كابير!

ليصمت الشيخ عبد الحميد تماما فيما عقله يعمل كالمكوك لكيفية حل هذه المعضلة دون رفض الهدية فيخسر بذلك رجلا في مقام الشيخ عبد الحكم، ودون أن يضع الليث في هذا الاختيار الصعب، وأيضا دون أن يتسبب في طعن قلب حفيدته الاثيرة لديه. سلسبيل. فهي لن تستطيع تحمّل شريكة لها في زوجها ولو شكليا فقط!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة