قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الحادي والعشرون

أوقف أسامة السيارة أسفل البناية حيث تقطن يارا مع والدتها، التفت برأسه ناظرا اليها وقال بابتسامة:
- حمد لله على السلامة.
نظرت اليه وبإبتسامة ناعمة تزين شفتيها الورديتين أجابت: - الله يسلمك، تعبتك معايا...
هز برأسه نافيا وقال بهدوء: - أبدا، تعبك راحه، واعملي حسابك بعد كدا لو إتأخرنا في الشغل لأي سبب أنا اللي هروحك، انا بقولك علشان تبلغي مامتك فما تقلقش عليكي.

هزت رأسها إيجابا وقالت وهي تضع يدها على قبضة الباب بجوارها بابتسامة خفيفة تزين ثغرها الفاتن:
- ان شاء الله...

فتحت الباب وترجلت ثم أغلقته والتفتت تدخل البناية بينما اسامة يراقبها بنظراته حتى يتأكد من دخولها سالمة حينما فاجئها رمزي واثبا أمامها مما جعلها تشهق بينما قطب اسامة وهو يرى هذا الذي يقطع الطريق عليها وقد تراءى له انه سبق له وأن شاهده من قبل، وحينما تذكر انه هذا السمج الذي سبق له ان تعرض ليارا قبلاً، حتى دمدم بلعنة مكتومة بين شفتيه وترجل من السيارة بغضب صافعا بابها بقوة خلفه وسار متجها إليهما راغبا بتلقين هذا الأرعن درسا في عدم التعرض ثانية لأي أنثى وليست يارا فقط.

طرق سمعه عبارة رمزي التي قالها بكل صفاقة بينما يارا ترجوه بعينيها ان يخفض صوته في هذا الليل كي لا يسمعه الناس فيجتمعوا على صوته حيث كان يقول بسخرية فجة:
- ما شاء الله، راجعة الساعة 11 بالليل في عربية مع واحد!، ليه إن شاء الله. إوعي تكوني فاكرة ان الرجالة هنا لابسين طُرح وهيغمّوا عينيهم؟!

نهرته يارا بعنف وهي تحاول عدم رفع صوتها: - رمزي. احترم نفسك، انا ما بعملش حاجه غلط، وقبل ما تحكم وتتحكم في الناس شوف نفسك الاول!

قال بصفاقة: - اشوف نفسي؟، مالي إن شاء الله؟، أبويا صاحب اكبر متجر أقمشة في المنطقة هنا، غير عمارات وفلوس في البنوك، كنت عاوز اعمل منك ست محترمة، لكن إنتِ شكلك كدا كنت بترسميهم عليا علشان تعملي لنفسك قيمة قودامي، وإنتِ آخرك ورقة عرفي وتبوسي إيدك وش وضهر!

شهقت يارا ملتاعة بينما ابتدأت النوافذ والشرفات تُفتح وتجمهر الناس ولم يكد رمزي ينهي عبارته حتى شعر بقذيفة وقد انطلقت في وجهه فارتمى أرضا على وجهه، رفع رأسه ليمسح خطا من الدماء يسيل من أنفه ثم وقف مترنحا ليقابل اسامة الذي وقف على أهبة الانقضاض ثانية عليه، تقدم منه وهو يصرخ ثائرا كحيوان مذبوح:.

- انت أد اللي انت عملته دا؟، إيه خايف أمها تسمع ولا خايف الرجالة تتلم عليك وتعرّفك ان بنات حتتنا ما يتلعبش بيهم؟

همَّ اسامة بالإنقضاض ثانية على فكه بلكمة قوية أخرى عندما علا صوت أجش قوي يقول بحزم:
- رمزي!..
ثم التفت الى اسامة متسائلا بصرامة وحزم: - هو فيه إيه بالظبط؟
تنفست يارا الصعداء وركضت الى ذلك الشخص الواقف أمامهم يغلفه هالة من الهيبة والوقار وقالت بلهفة:.

- حاج ابراهيم، والله يا حاج مافيش حاجه، ال، الاستاذ أسامة يبقى رئيسي في الشغل، ومارضيش يخليني أروّح لوحدي في وقت متأخر زيّ دا وصمم يجيبني لغاية باب البيت وانا كلمت ماما وقلت لها، أرجوك يا حاج إبراهيم إبعد رمزي عني أنا تعبت...

سار الحاج ابراهيم حتى وقف امام رمزي وقال بقوة: - انت فعلا اتعرضت ليارا يا رمزي؟
رفع رمزي نظره لإبراهيم وما لبث أن أنزله سريعا وهو يجيب بتلكؤ: - ما، ما حصلش يا حاج. انا شوفتهم صدفة و...
قاطعته يارا بعنف وهي تشير اليه: - كداب!، أنت كل شوية ناطط هنا، كل ما اخرج ولا اروح في حتة ألاقيك في وشّي!..

قال اسامة وهو يكاد يلتقط انفاسه بصعوبة لغضبه الشديد من أشباه الرجال هذا وهو يشير اليه بتهديد امام الجمع الملتف حولهم:.

- بُص، انا معرفش أنت مين بالظبط؟، لكن لآخر مرة بحذرك. لو ضايقت يارا تاني ولا هوّبت ناحيتها. صدقني ساعتها ما تلومش الا نفسك، الرجولة مش فرد عضلات على الستات، الرجولة احترام لضعف السّت دا قبل أي حاجه تانية، فهمت كان بها، مافهمتش، أنا على أتم استعداد إني أفهِّمك كويس أوي، واضح كدا ان امثالك مش بيفهم الا بطريقة واحده بس، العنف، ما هو دا اسلوبك، ولو راجل بدل ما تتعرض ليارا في الرايحه والجاية. تعالي أنا وأنا أعرّفك المرجلة على حق تبقى إزاي يا، سبع الرجالة!

زمجر رمزي بشدة وهمّ بالاقتراب منه عندما إعترضته يد غليظة هتف صاحبها بقوة: - رمزي، الأستاذ مهما كان ضيف عندنا وأنت غلطت، يارا مهما كان بنت حتتك، وواجبك إنك تخاف عليها لكن مش تضايقها في الرايحه والجاية...

سكت قليلا ناظرا الى رمزي في صرامة هاتفا بقوة وحدة وعيناه تلمعان بصرامة مخيفة: - رمزي، بصّ لي هنا، أنت فعلا يا ولد بتتعرض ليارا في طريقها؟
تأتأ رمزي وتلعثم في الرد فلم يشعر إلا وصفعة مدوية تهبط بقوة على وجهه بينما احمر وجه ابراهيم غضبا والتمعت عيناه بشدة وهو يتابع:
- اخص عليك!، أنا ربيتك على كدا؟!، إبن الحاج إبراهيم المواردي يبقى واد فلاتي على آخر الزمن ويتعرض لبنت حتته؟،.

طأطأ رمزي برأسه الى اسفل وقال بتلعثم واضح: - أنا، انا...
قاطعه والده صارخا فيه بغضب قويّ: - انت ايه؟
ثم مسح على وجهه مغمضا عينيه واستغفر الله في سره وما لبث ان فتح عينيه ونظر الى جمهور المشاهدين وقال لهم بحزم:
- خلاص يا اخواننا حصل خير. سوء تفاهم واتحل خلاص، وابني انا كفيل اني أربيه من أول وجديد...

ثم نظر إلى يارا التي تنتفض حزنا مما حدث لها امام الناس عامة وامام. اسامة على وجه الخصوص، بينما تحدث الحاج ابراهيم اليها بلهجة الأب الحانية:
- معلهش يا يارا يا بنتي حقك عليا انا، وخديها كلمة مني، ليكي عليا رمزي ابني لا يتعرض لك في سكة ولا يقف لك في طريق، اطلعي شقتك يا بنتي وانا بعد اذنك انت والحاجه هاجي اشرب الشاي معكم انا والأستاذ بكرة بعد صلاة المغرب إن شاء الله...

هزت يارا برأسها إيجابا ونظرت الى اسامة مترددة بين الحديث اليه والاعتذار منه عما حدث او الصعود سريعا الى منزلها وعدم توجيه أي حديث اليه كي لا تزداد الهمسات والتكهنات حول ماهية علاقتها بأسامة وصحة كلام رمزي!، ولكن سرعان ما استقر رأيها على اللجوء الى منزلها لترتمي في أحضان والدتها...

نظر الحاج ابراهيم الى اسامة بعد ان غادرتهما يارا وقال بهدوء نسبي: - معلهش يا استاذ ممكن آخد من وقتك دقيقتين؟
جلس اسامة وابراهيم الى المقهى المجاور لمنزل يارا وبعد ان طلبا كوبيْن من الشاي مع اوراق النعناع الاخضر واثناء احتسائهما له بادر ابراهيم بالحديث قائلا:.

- معلهش يا استاذ. يمكن دي اول مرة أنا اشوفك فيها، لكن انا نظرتي في الراجل مابتخيبش أبدا وانت راجل بجد، وشكلك بيقول انك تعرف الصح من الغلط. رمزي ابني مش هخبِّي عليك. عينه على الآنسة يارا من زمان، وبيلح عليا من مدة انى اخطبها له وانا اللي مش راضي!..

نظر اليه اسامة بتساؤل اجابه عنه ابراهيم نافيا بقوة: - لا لا مش علشان مستقِلّ بيهم لا سمح الله ولا حاجة ابدا، يارا والحاجه امها وابوها الله يرحمه من احسن الناس واجدعهم في حتتنا، احنا يمكن مش ساكنين في الزمالك ولا المهندسين لكن اسأل أي حد على عابدين يقولك دي الشهامة والجدعنة والاصول وولاد البلد بجد، انا يمكن مش معايا شهادات كبيرة وتعليمي على قدي، لكن الدنيا علمتني احسن من أيتها جامعه ولا مدرسة، وعلشان كدا انا رفضت، لأني عرفت إنها مش موافقة عليه بالمفهومية كدا، هي متعلمة ومتنورة وبتشتغل في التلفزيون وهو ساقط ثانوية عامة، وإيه يعني لما يكون عنده سايبر. ولا حاجة أبدا، وأنا مهما كان أب. نفسي اللي تتجوز ابنى تكون بتموت في تراب رجليه وما تبصلوش على انه اقل منها ابدا بالعكس. تكون شايفاه راجلها وحاميها وتتمنى له الرضا يرضى!..

هز كتفيه وتابع قائلا: - غايته، احنا ولاد بلد يا استاذ ومش ممكن نستقوى على الضعيف ومش معنى انهم قاعدين في عمارتي يبقى ابني يبيع ويشتري فيهم وانا اسكت، لآ، بس بردو في نفس الوقت انا عاذره!

قطب اسامة ووضع كوب الشاهي الزجاجى امامه على الطاولة الخشبية المستديرة الصغيرة وقال بحيرة وعصبية خفيفة:
- عاذره؟، عاذره ازاي يا حاج؟، أي عذر دا اللي يخليه يضايق واحده في الرايحة والجاية ومش بس كدا لأ ويطلع عليها كلام كمان؟!

ابتسم الحاج ابراهيم وأجاب بخبرة السنون: - يا بني معلهش، واسمح لي اقولك ابني انت أد ابني بردو.
قال اسامة مُرَحِّبًا: - انا ليَّا الشرف يا حاج.

فتابع ابراهيم: - يا بني. ابني عينه منها، وطبعا اتجنن لما شافها راجعه معاك ونازلة من عربيتك في وقت زي دا، ودي مش اول مرة تحصل، في نفس الوقت اللي بتتعامل معاه هوّ معلهش يعني باستصغار انا بشوفه في عينيها، وهو عارف انها مش بتطيق تشوفه قودامها ولو لحظة حتى، انا عارف ان كل مرة بتبقى معاك فيها كان ليها اسبابها. لكن احنا هنا منطقة شعبية والناس ليها الظاهر، انا كفيل بلسان ابني أخرسه خالص او اقطعه اذا لزم الامر، لكن مش هقدر اقطع ألسنة الناس او أخرس بؤهم!،.

قال اسامة محتارا: - اسمح لي يا حاج، حضرتك عاوز توصل لإيه بالظبط؟
أجاب ابراهيم بصراحته المعهودة وهو يمسح على لحيته البيضاء التي تشي بسنوات عمره التي تخطت الستين:
- بص يا بني. يارا دي زي بنتي تمام، ابوها الله يرحمه كان راجل جدع وصاحب واجب مع الكل. الصغير قبل الكبير، من الآخر كدا، ايه رأيك فيها؟

اندهش اسامة من سؤاله وأجاب والحيرة تغلف صوته: - يارا انسانة ممتازة خلقا وعلما، وما شاء الله من بيت طيب وأصل كويس...
قال ابراهيم: - معلهش سؤال كمان. انت خاطب ولا قايل على واحده؟
ارتاب اسامة في السؤال واجابه وهو يقطب جبينه خوفا مما سيأتي وقد صدق حدسه فما أن نفى ارتباطه بأخرى حتى عاجله الحاج ابراهيم قائلا:.

- شوف يا بني المثل بيقول اخطب لبنتك وما تخطبش لابنك، وبصراحة أنا مستجدعك وعاوزك لبنتي يارا، إيه رأيك؟

نظر اسامة اليه مبهوتا وقال بذهول تام: - إيه؟، بتقول إيه يا حاج؟..

ألقت لبنى على نفسها نظرة أخيرة في المرآة قبل ان تلحق بمهدي الذي هاتفها منذ ثوان قائلا ببرود شديد أنه بالخارج في انتظارها للحاق به للذهاب الى موعدهما مما جعلها تغلق الهاتف زافرة بحنق وغضب وهي تسب وتلعن في سرها هذا المتغطرس المغرور الذي أوقعها حظها العاثر بالعمل تحت إمرته مع انها لا تنكر انه في البداية كان نموذجا للمدير المتفاهم المراعي لموظفيه ولكن منذ أن خاطبها بلهجة التعالي تلك في مكتبه وهي تشعر بالحنق منه ولكنها مندهشة من عدم شعورها بالكراهية له!

أفاقت من شرودها على صوت خالتها احلام تلك السيدة المسنة التي تعيش معها وهي تقرأ عليها الأذكار قائلة بابتسامة تنضح بالحنان الخالص:
- بسم الله ما شاء الله. اللهم صلي وسلم وبارك، قمر يا لبنى يا حبيبتي.

ابتسمت لبنى ابتسامة حنان للسيدة التي منحتها أكثر من والديها الحقيقيين اللذان توفيا وتركاها وهي لا تزال في الثالثة عشر من العمر في عهدة خالة والدتها وهي القريبة الوحيدة لها من الجهتين فقد تنصل منها عائلة والدها لزواجه بأمها من دون رضاهم حيث كانت من عائلة فقيرة بينما والدها ابن احد أغنى العائلات في البلد ولكنه أحب والدتها بقوة وصمم على الزواج بها...

كانت تشعر ان قصة حب والديها كأنها أحد الأفلام السنيمائية الرومانسية والتي كانت أمها دائما ما تقصها عليها حتى أنها عندما كبرت قليلا كانت تطلبها من امها كحدوتة قبل النوم، ومن عجائب القدر أن والديها قد ماتا سوية في حادثة سير لدى عودتهما من بلد قريب حيث كانا يحضران حفل عرس أحد أصدقائهما وكأن القدر كان رحيم بهما فهو يعلم تمام العلم ان أحدهما لم يكن يستطيع الاستمرار بدون الآخر وعوضها الله عن والديها بخالة والدتها أحلام والتي أصبحت كل عائلتها ووقفت بجانبها بعد أزمتها الطاحنة مع، شريف!..

نظرت لبنى الى المرآة بينما تستمر احلام في قراءة الأذكار اتقاءا لشر العيْن، ابتسمت لبنى وهي تشعر بالثقة بالنفس وهي ترى نفسها في هذا الثوب المكوّن من تنورة طويلة متعددة الطبقات من القماش الخفيف الذي يتطاير حولها عندما تسير من اللون الاسود وفوقه بلوزة من الحرير باللون الأبيض طويلة الأكمام ذات أساور عريضة، وقد ارتدت حذاء اسود ذو كعب عال وحملت حقيبة يد سوداء من الجلد الصناعي، واكتفت بارتداء ساعة يد ذات زائفة ماركة عالمية باللون الفضي مطعمه بالألماس المزيف، وخاتم في إصبعها الخنصر الأيمن ذو لؤلؤة بيضاء اصطناعية واحدة على شكل دمعة العين، واكتفت بوضع الكحل الأسود الذي أظهر لون عينيها الأخضر بجمال واضح، وصبغت شفتيها باللون الأحمر الوردي مما اكسب وجهها رونقا وجمالا ملحوظا، وأخيرا رشّت بضع قطرات من عطرها المفضل ذو رائحة الياسمين الخفيفة...

- هتتأخري؟
التفتت الى محدّثها وسارت حتى وقفت امامه ثم ركعت على ركبتيها وقبّلته على وجنته ومسحت أثر احمر الشفاه وهي تقول بابتسامة حانية:
- حمادة حبيبي، أنا عندي شغل، وهحاول ما اتأخرش، علشان خاطري تتعشى قبل ما تاخد الدوا وما تغلبش تيته احلام. ممكن؟

نظر اليها احمد نظرة عميقة تفوق سنوات عمره الست وقال برجولة مبكرة: - ما تخافيش يا ماما، انا هتعشى وآخد الدوا وانام، بس انتِ ما تتأخريش علشان انا بقلق عليكي.

سكت قليلا ثم قطب متابعا بحنق طفولي: - وبعدين بلاش حكاية حمادة دي، انا كبرت خلاص!
داعبت لبنى شعره الأسود الحريري بأصابعها وهي توافقه بمرح: - ماشي يا سي السيد احمد عبد الجواد، راضي كدا؟
هتفت احلام وهي تدعوها للذهاب قاطعة عليهما وصلة المرح: - ياللا يا حبيبتي، المدير بتاعك واقف بره بئالو مدة، قلت لك عيب كدا خليه يدخل ما رضتيش!

اعتدلت لبنى واقفة وقالت: - معلهش يا ماما احلام ( دأبت لبنى على مناداتها بلفظة ماما منذ ان عاشا سوية حتى اصبحت في الثالثة والعشرون من عمرها الآن ) ما ينفعش يدخل، عموما انا همشي دلوقتي، أي حاجه كلميني على الموبايل على طول.

مالت على ابنها مقبلة جبين وحيدها ثم اتجهت مغادرة وسط دعوات احلام لها...
فتحت باب السيارة ودخلت واغلقت الباب وقبل ان تلقي التحية على مهدي وكانت قد اعتزمت على جعل سير الحديث في حدود العمل فقط إذ به يبادرها بسخرية:
- ما بدري!، سندريلا ما كانتش عاوزة تخرج دلوقتي ولا ايه؟

عضّت لبنى طرف لسانها ممسكة نفسها وبصعوبة من الرد عليه بجواب لاذع يوقفه عند حده وعدّت في داخلها من واحد الى عشرة قبل ان ترسم ابتسامة بلهاء على وجهها وأجابت ببراءة زائفة:
- وعليكم السلام يا مهدي بيه، شكرا لحضرتك انك عديت عليا في طريقك وآسفة ع التأخير!

تجاهل مهدي سخريتها المبطنة من عدم إلقائه بالتحيّة إليها لدى صعودها بجانبه، وبدلا من الرد على استفزازها الواضح له، زفر كاتما غيظه وانطلق بسيارته بسرعة شديدة جعلتها تمسك أنفاسها خوفا و قلقا!..

ما ان وصلا الى الفندق الذي يقيم فيه الوفد الياباني حتى فتح حارس الأمن باب السيارة لها لتترجل، كما ترجل مهدي وأعطى الموظف المسؤول مفتاح السيارة ليقوم بصفها في موقف السيارات الخاص بالفندق، انتظرته لبنى حتى لحق بها ثم سارت معه ودخلا الفندق متجهيْن الى المصعد حيث المطعم لملاقاة ضيوفهما...

كان المطعم في الدور الأخير من الفندق يطل على بانوراما النيل، لدى دخولهما إلى المصعد وما ان أُغلق الباب خلفهما وقد وقف حارس المصعد موليا إيّاهما ظهره حتى التفت مهدي اليها هامًّا بالحديث وقد فتح فمه عندما تسمّر مكانه تاركا فمه مفتوحا وقد جحظت عيناه دهشة مما يراه أمامه، فقد تمثلت أمامه حورية من حوريات الأساطير!..

لم يكن قد رآها جيدا لدى صعودها الى السيارة فقد انشغل بتوجيه الكلمات الساخرة لها وبعد ذلك استفزته بكلماتها الباردة فلم يعرها انتباها حتى وصولهما الفندق، ولم يتمعن في هيئتها سوى الآن فقط وهي تقف على بعد إنشات قليلة منه!

ابتلع مهدي ريقه بصعوبة بينما حدجته لبنى بنظرة مليئة بالدهشة وحاول مهدي الحديث الذي خرج بصوت متحشرج من شدة صدمته لمدى جمالها الفاتن:
- إنتِ...
وسكت قليلا قبل ان يسعل بخفة متابعا فهو يريد كسر طوق الصمت الذي لفّهما وان يتحدث في أي موضوع يُخرجه من دائرة الذهول التي أحاطت به، فتابع قائلا:
- انتِ قريتي الأوراق الخاصة بالصفقة اللي بيننا وبينهم؟

سريعا غابت دهشة لبنى لتحل بدلا منها سرعة فهم المساعدة الذكية وأجابت بعملية فائقة:
- أيوة درست الأوراق كويس، ما تقلقش حضرتك. انا هسجل بالكلمة والحرف كل اللي هيتقال...

لم يعرف مهدي كيف مرّت أحداث هذه الأمسية عليه، فهو كان يحلل ويتناقش ويجادل بينما عيناه تراقبان هذه الفاتنة التي تجلس بجواره وقد ألقت بسحرها على جميع الموجودين سواء أعضاء الوفد أو صلاح مساعد خاله أدهم الشخصي...

تناولوا طعام العشاء وكان يراقبها وهي تتلهى بطعامها شاردة وذلك بعد تلقيها مكالمة أثناء تناولهم الطعام حيث رأى وجهها وقد أشرقت أساريره، فتيقّن ان هذه المكالمة لا بد وأنها من حبيبها هذا ال، أحمد!، واستشاط غيظا لذلك، فهو قد حذرها سابقا من عدم تلقي أي مكالمات خارج نطاق العمل، متناسيا أنهم كانوا بصدد تناول طعام العشاء وأنها لم يصدر عنها أي تقصير بل أنها كثيرا ما كانت تلفت نظره إلى تفصيلة صغيرة يكون لها أهمية بالغة في سير المناقشات والتي انتهت إلى نجاح عقد الصفقة بالشروط والمواصفات التي وضعتها مجموعة شمس الدين...

انتهت السهرة ورافقها مهدي في العودة ملتزما الصمت التام مما جعلها تستغرب سلوكه هذا، فمن يراه وهو يلاطف هذا ويمازح ذاك في السهرة لا يراه الآن وقد ابتلعت القطة لسانه!

عند اقترابه من مسكنها كسر طوق الصمت قائلا بسخرية: - غريبة. يعني ما كلمكيش يطمن يشوفك هترجعي امتى؟، ولّا هو كان فالح بس يكلّمك وانتِ في شغلك؟

قطبت لبنى حائرة من كلامه لا تدري ماذا يقصد، ولكن سرعان ما فطنت إلى انه يرمي الى مكالمة احمد لها أثناء تناولهم لطعام العشاء فعقدت ساعديها وردت ببرود مهني:
- والله احنا ساعتها كنا بنتعشى، يعني ما قاطعنيش وانا بشتغل ولا حاجة. دا أولًا، ثانيا، هو مطّمن انى مش هرجع لوحدي وان مديري هيرجّعني...

وشددت على لفظة (مديري) لتلفت انتباهه الى أن علاقتهما ما هي إلّا علاقة عملية بحتة وتابعت بنفس البرود:
- وأخيرا بأه. أظن إن دي مسائل شخصية، حضرتك مالاكش دعوه بيها!
سرعان ما ضغط على مكابح السيارة بقوة حتى كاد رأسها ان يرتطم بالزجاج الأمامي للسيارة لولا انها تضع حزام الأمان، نظرت اليه بذهول بينما طالعها بنظرة سوداء وهتف بغضب عنيف مكتوم من بين أسنانه:.

- آخر مرة اسمح لك تكلميني فيها بالأسلوب دا يا لبنى. مفهوم ولّا لأ؟
أفاقت من دهشتها وهتفت بعصبية نتيجة خوفها مما كان على وشك الحدوث نتيجة وقوفه المفاجيء بالسيارة، ولكن من حسن حظّهما أن الطريق شبه فارغ في هذا الوقت من الليل:
- فيه حد عاقل يعمل كدا؟، حد يقف بالعربية بالطريقة دي؟ إحمد ربنا ان الشارع فاضي، لو عربية طلعت مرة واحده كنت أكيد هتخبط فيها من غير كلام، وكان فيه كارثة هتحصل!

هتف مهدي بلهجة منذرة: - لبنى، أنا مش لسه قايلّك مش عاوز الطريقة دي في الكلام؟!
أشاحت لبنى بيدها وأجابت بحنق: - قايل ايه بأه وعايد إيه، انت كنت هتودي نفسك وتوديني معاك في داهية، حد يعمل كدا؟!

وزفرت حانقة بينما أجابها ساخرا بصوت يغلفه الغضب: - عجيبة!، اللي يشوف طريقتك في الكلام الليلة دي وابتساماتك اللي كنت بتوزعيها بالمجاني يمين وشمال ما يتصورش أبدا انك ممكن تتكلمي مع مديرك باللهجة دي!

قطبت لبنى ونظرت اليه متسائلة بحدة: - تقصد ايه؟
التفت اليها قابضا بقوة فاجئتها على ذراعيها وهو يجيب بغضب عنيف: - الابتسامة الواسعة والرقة في الكلام. لدرجة انه ما فيش راجل معانا ما عجبتيهوش!، لا وإيه، دا حتى صلاح ما نزلش عينه من عليكي طول السهرة. اقدر اعرف كنتم بتتوشوشوا مع بعض تقولوا ايه قبل ما نركب العربية؟

حاولت لبنى الإفلات من قبضته دون جدوى فقالت شبه صارخة: - انا ما أقبلش تلميحاتك دي!، الأستاذ صلاح كان في غاية الزوق معايا، وما اعتقدش إنه يهمك في شيء انك تعرف احنا كنا بنقول ايه!

لا تعلم لِما لَمْ تخبره بما قاله صلاح؟، فقد كان يثني على ذكائها الواضح متنبئا لها بمستقبل مبهر في عملها، وقد أعطاها رقم هاتفه اذا ما احتاجت الى مساعدته في أي وقت أو أمر ما.

قال مهدي من بين هسيس أنفاسه الغاضبة بصوت خرج كالفحيح وقد غلا الدم في عروقه التي انتفخت ما إن سمع مدحها في صلاح:
- إنتِ عارفة هو عنده كم سنة؟، 40 سنة!، يعني اكبر منك ب 17 سنة!، ولّا انتِ من المهووسين بالشعر الأبيض؟

ما إن همّت بصفعه بلسانها والى الجحيم بوظيفته وراتبه، حتى تعالى صوت رنين هاتفها الشخصي، فأفلتها حيث أخرجت هاتفها من حقيبتها اليدوية ليطالعها اسم احمد ففتحت الخط غير مبالية بالذي يجلس بجوارها يتململ بغضب وكأنه فوق صفيح ساخن، فقد طفح كيلها منه ومن رعونته وقالت مخاطبة ابنها بابتسامة مرتعشة محاولة التحدث بصوت طبيعي كي لا يستشعر ابنها غضبها:
- أهلا حبيبي انت لسه صاحي ليه؟

ضحكت ضحكة صافية بالرغم منها فوحده وحيدها من يستطع استخراج ضحكتها من صميم قلبها وان كانت في أسوأ حالاتها النفسية وقد نسيت تماما الجالس بجوارها والذي يراقبها كما الصقر وتابعت بحب مكررة حديث ابنها:
- قلقت قلت تطّمن عليّا؟!، لا يا روحي اطمن، عشر دقايق بالكتير إن شاء الله وهتلاقيني عندك يا قلبي، مع السلامة يا حبيبي، لا الاه الا الله.

أغلقت الهاتف بعد انتهاء المكالمة وقد نسيت غضبها وشجارها مع رفيقها وقد ارتسمت ابتسامة ناعمة فوق ثغرها الوردي، أعادت هاتفها الى حقيبتها اليدوية، ثم انتبهت إلى انها لا تزال في السيارة جالسة بجوار هذا الأرعن المتحذلق المغرور!، فزفرت بضيق مغلقة عينيها قليلا ثم فتحتهما ونظرت اليه محاولة التحدث بهدوء قائلة:.

- ممكن نخلّص الليلة الطويلة دي بأه وحضرتك توصّلني؟، علشان انا فعلا تعبت، وانهرده كله على بعضه كدا. كان يوم طويل أووي، وانا عاوزة أروّح ارتاح...

نظر اليها مهدي نظرات تعتريها الغموض ثم تحدث قائلا: - مين احمد يا لبنى؟..

زفر مراد بضيق وهو يغلق هاتفه ويلقى به جانبا بقوة. فهذه المرة التي لا يعلم عددها والتي يهاتف فيها همس لتجيبه تلك الرسالة المسجلة الغبية ان الهاتف خارج نطاق الخدمة، مما جعله يوقن ان همس قد اغلقت هاتفها كي لا يستطيع الاتصال بها، فمنذ ان كان لديها بغرفتها منذ اسبوع وهي تتحاشى لقائه او التحدث معه وهو قد ترك لها بعض الوقت لتراجع نفسها ولكنه قد ملّ من طول الانتظار كما انه اشتاق اليها وبشدة، زفر بحنق وقال يحدث نفسه وهو يعبث في شعره بأصابعه:.

- ماشي يا همس، مش عاوزة تردي عليا!، مش مهم، خلاص هانت. كلها أسبوعين ويتقفل علينا باب واحد، وساعتها وريني بأه هتهربي مني تروحي فين؟

انتبه على صوت دقات على باب غرفته فأمر الطارق بالدخول ليجدها شمس التي دخلت مبتسمة وهي تقول بمرح:
- ايه يا مراد ما نزلتش تتغدى معانا ليه؟
أشاح مراد برأسه جانبا وأجاب بضيق: - معلهش يا شمس. متضايق شوية.
اقتربت شمس واضعة يدها على كتفه وقالت بحنان: - معلهش حبيبي ما تضايقش نفسك، عموما الموضوع كله 4-5 ايام وترجع بالسلامة!

نظر مراد بريبة اليها وقال وعلائم الحيرة ترتسم على وجهه: - هي مين دي اللي ترجع؟، وترجع منين؟
أجابت شمس بدهشة مماثلة: - همس!، اعتدل مراد ونهض واقفا أمامها وهو يتابع بدهشة: - همس؟، مالها همس؟
اضطربت شمس قليلا وهي تجيب بارتباك واضح: - انت. انت ماتعرفش ولا ايه؟
أمسك مراد بكتفيها ونظر اليها في قوة وهو يهتف بحدة: - اعرف ايه يا شمس؟، اتكلمي على طول وبلاش الألغاز دي!

أجابت شمس وهي تهرب بنظراتها بعيدا عنه: - همس. همس سا، سافرت لبنان علشان توقع عقد القناة الجديدة، وقالت لي انك عندك علم بالموضوع دا من زمان!

شهق مراد بقوة وقال بدهشة بينما علامات الغضب العنيف ترتسم على وجهه: - ايييييييييه؟ همس سافرت؟..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة