قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

رواية كبرياء أنثى (نساء متمردات ج2) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

مر على وفاة والدة يارا ثلاثة أيام وهي تلتزم غرفتها في منزل والدتها رافضة أي شكل من أشكال الحياة، فهي لا تتحدث ولا تأكل الا بضعة لقيمات صغيرة وبإصرار من والدة أسامة التي تلازمها في بيتها ولا تدعها وحدها ثانية واحده وذلك بتحذير من الطبيب الذي أسعفها بعد إغماءتها بالمستشفى إثر سماعها نبأ وفاة والدتها حيث أخبرهم بإصابتها بانهيار عصبي حاد وحذرهم أنها على وشك الإصابة باكتئاب حاد قد يؤدي بها الى الحاق الضرر بنفسها، كما شدد أسامة على أمه ألاّ تغفل عينها عنها ولو للحظة واحده، وكان قد قدّم على طلب أجازة من عمله لمدة ثلاث أيام فترة العزاء ولكن لا بد من عودته للعمل وقد زاره زملاؤه جميعا بمن فيهم همس وزوجها لتقديم العزاء في وفاة والدة زوجته ومواساة يارا زميلتهم في مصابها الأليم بفقدانها والدتها وذلك بدار المناسبات المقام بها سرادق العزاء...

كانت يارا تجلس على الفراش رافعة ركبتيها الى صدرها مستندة بذقنها عليهما وهي شاردة بنظراتها الى البعيد حين دخل أسامة بصينية الطعام والتي رفضت تناول أي شيء منه بالرغم من إلحاح حماتها الشديد لتخرج الأخيرة بذات الصينية كما هي لم تمس وهي تنظر الى ولدها الذي وقف امامها رافعة كتفيها بقلة حيلة فتناول من يدها الصينية وطرق الباب ليجيبه الصمت التام كالمعتاد منذ ثلاثة أيام فدفع الباب دفعة خفيفة ودخل مغلقا الباب خلفه بقدمه...

وضع الصينية فوق الفراش جالسا أمامها بينما هي تناظر في الفراغ وتحدث اليها بحنو قائلا:
- يارا حبيبتي علشان خاطري. انت بآلك كم يوم من غير أكل. هتقعي من طولك كدا...

لم تلتفت اليه وظلت على صمتها التام فزفر بعمق ثم ابتسم ابتسامة خفيفة متابعا: - انت عارفة أنا كمان بئالي كم يوم مش بآكل كويس، مش قادر آكل ولا أستطعم الأكل وانت صايمه بالشكل دا، . ايه رأيك تاكلي معايا وأهو نفتح نفس بعض؟، عشان خاطري ما تكسفنيش. انا جعان جدا ومش هآكل الا لما تاكلي. وقبل ما ترفضي اعرفي انى لو وقعت من طولي من قلة الأكل يبقى انت السبب.

أجابت ببرود دون أن تكلف نفسها عناء النظر إليه: - ماليش نفس. كُل انت.
قال اسامة بحزن مفتعل: - يعني بقولك مش هآكل الا معاكي تقوليلي آكل لوحدي؟، انا جعان جدا يا يارا وهموت من الجوع كمان!

فانتفضت في مكانها واضعة يدها سريعا على فمه بشكل فاجأه وقالت وعيناها تبرقان بدموع محبوسة وصوتها يحمل نبرة رجاء حار:
- بلاش سيرة الموت دي انا استويت الله يخليك!

تنهد بعمق وجذبها ناحيته ليحتويها بين ذراعيه بقوة يريد غرسها داخل أضلعه ثم ربت على رأسها المستكين على صدره قائلا وهو يقبلها متنسما رائحة شعرها المشعث والذي لم تمشطه منذ وفاة أمها حتى عندما تغتسل فإنها تقوم بجمعه برباط مطاطي على هيئة ذيل الفرس بعيدا عن وجهها الذي أصبح عبارة عن عظام يكسوها الجلد!، قال اسامة بحنان زائد:.

-حاضر يا حبيبتي مش هجيب سيرة الكلام دا تاني، بس لو ليا عندك معزة علشان خاطري تاكلي معايا. معلقتين بس يا يارا.

هزت برأسها إيجابا فأبعدها عن صدره ناظرا إليها بابتسامة وأردف وهو يقرب منهما صينية الطعام:
- ياللا يا قلبي مدّي ايدك وسمِّي بالله.

مدت يدا صغيرة لتتناول طعامها فيما كان يراقبها ليلاحظ شرودها التام بينما لم تكن كمية الطعام التي تأكلها تكفي عصفور صغير!، لا ينكر ان القلق يكاد يفتك به. فمنذ انهيارها في المستشفى وعودتها بعد تشييع جنازة والدتها الى مثواها الأخير وهي تلتزم الصمت التام ولم تذرف دمعة واحده!، هو يخشى من هذا الصمت المطبق الذي تعتمده، حتى عندما قدم المشيّعون لمواساتها كانت كالتائهة ولم تكن تتكلم او تجيب على من يقدم لها واجب العزاء وما زاد من قلقه ان والدته قد أخبرته انهما عندما كانا في قاعة عزاء السيدات الملحقة بمسجد عمر مكرم – حيث أقيم سرادق العزاء - كانت تتعامل بغرابة مع المعزيين، فكانت شاردة على الدوام لا تكاد تنتبه الى أي شيء مما حولها، كانت لا تمد يدها لمصافحة أحد منهم الا عندما تلفت هي انتباهها كما انها كانت تنظر طوال الوقت بغرابة وكأنها منومة مغناطيسيا!، مما جعله يهرع الى الطبيب مستفسرا منه فأكد له ان ما تمر به هو أمر طبيعي فهو ردة فعل الصدمة نتيجة لفراق والدتها ولكنه شدد على عدم تركها بمفردها، والآن هو يدعو الله أن توافق على الانتقال للعيش مع والديه بينما سينتقل هو للسكن في منزل الزوجية الخاص بهما، وذلك لحين مرور وقت كاف تجعلها توافق على إتمام الزواج فهو لن يطمئن له بال حتى تكون تحت ناظريه وبصفة دائمة.

- خالي ادهم انا طلبت من حضرتك اننا نتقابل برّه علشان أفهم ايه حكاية موضوع مهدي ولبنى بالظبط؟، كل اللي مهدي قاله انها متطلقة وعندها ابن وان حضرتك اللي عارف الحكاية كلها لانها حكيت لك انت، ممكن بعد إذنك تعرفني الموضوع بالظبط أصله ايه؟، عشان لما أتكلم مع ماما أبقى فاهمه انا بقول إيه!..

سكت ادهم قليلا مفكّرا ثم هز برأسه إيجابا وقد اقتنع بوجهة نظر همس ليميل فوق الطاولة التي تفصل بينهما في ذلك الكازينو المطل على النيل وهو يجيب بجدية:
- مع ان المفروض دا مش موضوعي أنا علشان أقوله. لكن انا هقولك على كل حاجه مع وعد منك ان اللي هقوله دا ما يخرجش برّانا احنا الاتنين.

أومأت همس برأسها بحماس قائلة: - اكيد يا خالي. لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.
اطمئن أدهم لوعدها وسرد عليها ما سبق وسمعه من لبنى كاملا حتى إذا انتهى من حديثه نظرت اليه همس معلّقة بحيرة:
- الموضوع صعب فعلا يا خالي. هنقنع ماما ازاي؟
نظر أدهم الى همس بتركيز زافرا بعمق ثم أجاب بعزم: - انا هقولك ازاي يا همس...

جلست همس مع والدتها وريما في غرفة المعيشة بمنزل والدها بعد الانتهاء من تناول طعام الغذاء بينما جلس نزار ومهدي ومراد في الحديقة لاحتساء الشاي...

تعمدت همس الحديث عن هَنا وزوجها وابنتهما شهد ثم تطرق الحديث الى شباب عائلتهم العازفين عن الزواج وذكرت عصام كمثال على ذلك فما كان من ريما إلا أن قالت بلا مبالاة:
- ويتجوز ليه؟، هو مش عايش في روما براحته؟، تعالي شوفي الصور اللي بينزلها في صفحته الشخصية على الفيس بوك، صور موديلز انا اللي اسمي بنت كنت هيغمى عليا من جمالهم. أومال هو بأه يعمل ايه؟

تساءلت راندا وهي تضع قدح الشاي جانبا: - آه فعلا يا همس. عصام ابن خالك مش المفروض يرجع بعد شهر؟
أجابت همس ضاحكة: - شكل إسلام كدا ما قالكوش، عصام يا أمي الحبيبة المعهد اللي كان بيدرس فيه المنحة عرض عليه يسجل فيه دبلومة سنتين. حاجه كدا بتعادل الدكتوراة هنا، وكمان يشتغل مدرس فيه. وهو طبعا ما صدق. قالك دي روما بلد الفن كلّه.

هزت ريما كتفيها بلا مبالاة وقالت: - يعني هو عصام بس ما عندك مهدي اخوكي العزيز أهو مش عاوز يتجوز
نظرت إليها همس مندهشة من التغيير الذي أصاب شقيقتها الصغرى، فقد كان من الواضح أن ريما تحمل شعورا قويا لعصام، ولكن يبدو انها كانت مجرد افتتان مراهقة، فها هي لا تتوانى عن الاستخفاف به!، بل انها تتحدث ببرود شديد عنه وكأنه شخص عابر مرّ في حياتها!

رأت همس تنحية التفكير في سبب التغيير الذي طرأ على شقيقتها جانبا والإمساك بالفرصة التي سنحت لها لتفتح موضوع مهدي بعد أن ذكرت ريما أمر عزوفه هو الآخر عن الزواج، نقلت همس نظراتها بين ريما وبين أمها قائلة في خبث:
- واللي يقولكم غير كدا تدّوا له إيه؟
طالعتها راندا بغير تصديق بينما فتحت ريما فاها دهشة فيما تساءلت راندا في ذهول: -انت بتتكلمي جد يا همس؟، اخوك قالك حاجه؟

أجابت همس بابتسامة: - ايوة يا ماما، مهدي قال لي انه أخيرا قابل الإنسانة اللي حس انها نصه التاني وانه عاوز يرتبط بيها.

صرخت راندا فرحةً وهتفت بابتسامة واسعة: - والله؟، دا أحلى خبر سمعته يا هموس، ليكي عندي حلاوة كبيرة على الخبر الجميل دا. اللي تطلبيه يا حبيبتي، بس قوليلي تبقى مين؟

نظرت همس الى امها نظرة مسترقة وهي تفكر في نفسها قائلة: - آخ. دخلنا في الجد. ربنا يستر.
أجابتها بابتسامة: - اسمها لبنى وبتشتغل معهم في المجموعة.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه راندا وقالت: - ما شاء الله. مهندسة؟
أجابت همس بابتسامة صغيرة وقد بدأت تشعر بالتردد: - لا يا ماما.
قطبت أمها وتابعت متسائلة: - في العلاقات العامة؟

لتجيب همس بزفرة خفيفة وتلكؤ بسيط: - لا يا ماما. هي، هي كانت المساعدة الشخصية بتاعته.
أجابت راندا وقد ارتاحت أساريرها قليلا: - اممممم. السكرتيرة يعني؟، طيب كويس.
لم تقف كثيرا عند هذه المعلومة. فليس لكونها سكرتيرة خاصة تحكم عليها انها لا تصلح كزوجة لولدها فقد تكون مناسبة أخلاقيا واجتماعيا، فهي لم تكن بمن يحكم بالمظاهر.

أردفت راندا متسائلة: - بس غريبة. اخوكي ليه ما كلمناش في الموضوع دا؟
أجابت همس بتلعثم وهي تنظر الى والدتها بطرف عينها: - لا يا ماما هو. هو بصراحه كلم بابا و. وخالي ادهم، وقالي أنا علشان أتوسط له عندك!

عقدت راندا جبينها وقالت بابتسامة حائرة: - غريبة!، من امتى مهدي عاوز واسطة بيني وبينه؟
أجابت همس وهي تعض على شفتها السفلى باضطراب واضح لاحظته راندا: - لا يا ماما أصل الموضوع...
قاطعتها ريما متأففة: - مالو الموضوع يا همس؟، ما تتكلمي على طول.
قالت راندا مقاطعة ابنتها ريما بينما صوتها يحمل جدية مطلقة: - همس البنت دي تطلع مين بالظبط؟

سكتت همس ترمق أمها بريبة وقد انتهت من إخبارها بأمر لبنى، لم تذكر لها سوى أنها قد سبق لها الزواج ولديها ابن وحيد كان نتاج هذه الزيجة المبكرة!، نظرت راندا الى همس في ذهول بينما تطلعت ريما إلى همس تناشدها بنظرات قلقة على والدتها والتي يظهر على ملامحها عدم التصديق والدهشة التامة!، خرقت راندا الصمت السائد بصوت يشوبه التردد وعدم التصديق قائلة:.

- انتي بتقولي إيه يا همس؟، سبق لها الجواز وعندها ابن؟، قصدك. قصدك تقولي أرملة؟

نفخت همس في سرها بيأس واستغفرت ربها كثيرا داعية إياه ان يمدها بالقوة اللازمة لتهدئة والدتها بعد انفجارها الأكيد الذي سيحدث ما ان تلقي بقنبلتها، رطبت همس بلسانها شفتيها وأجابت وقد قررت إلقاء قنبلتها مرة واحدة فيما تهرب بنظراتها بعيدا:
- لا يا ماما. هي. هي مش أرملة، لبنى. لبنى مطلقة!
ما ان انتهت من عبارتها حتى قفزت راندا واقفة وهي تصرخ بذهول: - ايييييييه؟!، مطلقة؟!

نهضت همس واقفة وقالت وهي تحاول تهدئة والدتها التي تكاد تجن مما سمعت: - يا ماما علشان خاطري اهدي بس هفهمك.
ولكن لم تعط راندا همس الفرصة لأي كلام آخر واندفعت خارجة لتركض همس في أعقابها محاولة اللحاق بها، ولكنها كانت قد انطلقت كالعاصفة لمكان جلوس مهدي بصحبة نزار ومراد في حديقة المنزل، وصلت إليهم قبل أن تدركها همس وما ان وقع نظرها على مهدي جالسا أمامها حتى وقفت أمام طاولتهم وصرخت غاضبة:.

- الكلام اللي بتقوله اختك همس دا صح؟، انت فعلا عاوز تتجوز اللي اسمها لبنى دي؟، هي فعلا مطلقة وعندها ابن؟

تبادل مهدي النظرات مع أبوه بينما تفاجأ مراد مما سمع، ليقف مهدي بعد ذلك احتراما لوالدته ويجيب بابتسامة خفيفة:
- ايوة يا ماما. وانا متأكد انك لما تشوفيها هتحبيها اوي.
نقلت راندا نظراتها بينه وبين نزار ثم قالت موجهة السؤال الى نزار بجدية بالغة: - وانت موافق يا نزار على الكلام دا؟

زفر نزار بعمق ثم نهض واقفا وأجاب بهدوء قدر المستطاع: - راندا حبيبتي الجواز قسمة ونصيب، المهم ان البنت أخلاقها كويسة وأصلها طيب.
سكتت راندا قليلا لتقول في برود: - بص يا نزار. من الآخر لو ابنك مصمم على الجوازة دي يقدر يعتبرني مُت!، لأني مش موافقة ومش ممكن هوافق. عن اذنكم!

وانصرفت وسط ذهول الجميع من تصريحها الناري...

رفضت يارا رفضا قاطعا التحرك قيد أنملة واحده بعيدا عن منزلها للسكن مع عائلة أسامة الذي حاول مرارا إقناعها دون جدوى حتى كان يوم...

جاء الحاج ابراهيم الى منزل يارا زائرا بعد أن تأكد من وجود أسامة، بعد أن رحب به أسامة وجلسا في غرفة الجلوس قال الحاج إبراهيم بهدوء:
- معلهش يا اسامة يا بني انا قلت استنى شوية لما نفسية يارا ترتاح قبل ما اقولها وصية المرحومة الله يرحمها، وأهو فات اسبوعين دلوقتي فقلت أكيد نفسيتها هديت شوية...

تساءل اسامة في حيرة: - ايه؟، وصية؟!
هز الحاج إبراهيم رأسه إيجابا وقال: - أيوة يا بني وصية، الست ثريا قالتها لي نهار لما كلمتني تطلب مني اني أزورها ضروري في المستشفى وطلبت مني انى ما أقولش حاجه خالص إلا لو جرالها حاجه، وأنا بعد إذنك عاوز أشوف يارا علشان أبلغها بوصية الست والدتها...

أخبر أسامة يارا بقدوم الحاج إبراهيم ورغبته في رؤيتها لأمر هام، وامتنع عن ذكر أي شيء عن الوصية التي لا يعلم فحواها تاركا الحاج إبراهيم يقوم بذلك بنفسه.

رحبت يارا بالحاج إبراهيم بابتسامة صغيرة، نظر اليها الحاج إبراهيم باشفاق على حالها، فقد نحلت للغاية ونم وجهها على ما تعانيه من غياب أمها، جلست يارا على الأريكة في غرفة الجلوس تتوسط أسامة من جهة وأمه من جهة أخرى في مواجهة الحاج إبراهيم الذي وجه حديثه غليها قائلا بأبوة:.

- شوفي يا يارا يا بنتي. والدتك الله يرحمها كانت ست مؤمنة ومصليّة وكانت حاسة إن يومها قرب ووصتني أقول لك باللفظ انه لو جوزك حب يتمم جوازكم إنك توافقي. لو فعلا عاوزاها تكون مرتاحة في نومتها!

شهقت يارا بذهول قائلة: - ايه؟، ازاي دا يا حاج ابراهيم؟، اتجوز وافرح وأربعين أمي حتى لسه ما فاتش؟

أجاب الحاج ابراهيم بصبر: - يا بنتي احنا ما قولناش كدا. بس الست ثريا والدتك الله يرحمها كانت شايله همك وازاي هتعيشي لوحدك من بعدها. علشان كدا لاقيت ان أسلم طريقة انك تتممي جوازك وبعدين انتو فعلا مكتوب كتابكم فمش لازم زيطة ولا حاجة، كل اللي ممكن نعمله انه ييجي ياخدك من هنا ونكون كلنا اهل حتتك معاكي علشان نشهر جوازكم.

هزت يارا برأسها يمينا ويسارا بعنف في رفض تام قبل ان ينتهي الحاج إبراهيم من حديثه وهتفت برفض قاطع:
- لا لا لا يا حاج إبراهيم معلهش. أنا مش ممكن أتجوز وافرح وانا جوايا بيتقطع، ربنا وحده العالم باللي فيا.

تدخل اسامة لأول مرة في الحديث منذ أن بدأ الحاج إبراهيم بالكلام قائلا بجدية: - معلهش يا حاج إبراهيم اسمح لي. أنا يوم ما هتجوز يارا مش هتجوزها بالطريقة دي، يوم ما أتجوزها مش بس أهل شارعها والجيران هيعرفوا لا. الدنيا كلها لازم تعرف أنها بقيت مراتي، لكن بردو أنا ما يرضنيش انها تقعد هنا لوحدها. علشان كدا اقترحت عليها انها تيجي تعيش مع والدي ووالدتي وانا هروح اقعد في شقتنا لغاية أربعين المرحومة بإذن الله ما يفوت وبعد كدا نعلن جوازنا ونعمل حاجة صغيرة كدا بس لازم اللي يعرفنا كلهم يحضروا سواء جيران أو زمايل شغل، إيه رأيك؟

نظر ابراهيم إليه باستحسان جعله يتحمس منتهزا لفرصة وجوده وموافقته على قراره ليردف قائلا:
- يا ريت تحاول تقنعها لأنه للأسف يارا مش موافقة!

التفت ابراهيم إلى يارا معاتبا: - ليه يا يارا يا بنتي مش موافقة؟، يا بنتي جوزك راجل بجد وبيفهم في الأصول وأنت عارفة إنه غلط انك تقعدي لوحدك دي مش أصول، ومن الآخر وبصراحة كدا. يا توافقي على اقتراح الأستاذ أسامة يا إما تيجي تعيشي معايا أنا والحاجة أم رمزي مراتي، ها. ايه رايك بأه؟..

شعر أسامة بالامتعاض لدى سماعه اقتراح الحاج ابراهيم. فقد خشي ان توافق عليه مما جعله يعلق قائلا بهدوء بينما يظهر رفضه للفكرة جليًّا على وجهه:
- معلهش ما تأخذنيش يا حاج هتعيش معكم ازاي وابنك معاكم في نفس البيت؟
أجاب ابراهيم شارحا: - لا رمزي عنده شقته اللي عايش فيها، هي جنبنا هنا في عابدين بردو.

ابتسم اسامة مردفاً بهدوء: - يا حاج ابراهيم حضرتك أبوالواجب. ينفع ان يارا تروح تعيش في بيت الشخص اللي كان عاوز يتقدم لها وتسيب بيت جوزها؟

أجاب ابراهيم مبتسما بإحراج: - آآه. تصدق يا بني عندك حق، بس بردو قعدتها لوحدها كدا ما تنفعش.

استقر الرأي أخيراً على ان تنتقل يارا للسكن مع عائلة أسامة التي رحبت بها وبالفعل انتقلت الى هناك في نفس اليوم، دلفت يارا على استحياء الى المنزل بينما تقدمتها حماتها مرحبة بها وحيّاها والد زوجها، اقترحت عليها حماتها أن تذهب الى الغرفة لنيل قسط من الراحة، أشارت لها بأن تتبعها، دخلت حماتها الى الغرفة تلحقها يارا بخطوات بطيئة، كانت تتجول بنظراتها في الغرفة التي يشي كل ما فيها أنها غرفة ذكورية مائة بالمائة بدءا من ألوان دهان الحائط الى ديكور الغرفة، قالت حماتها بابتسامة عريضة:.

- انت هتورينا يا بنتي. دي أودة أسامة ومن انهرده هتبقى أودتك، أنا هستأذنك أروح أحضر العشا.

وخرجت ليقابلها أسامة وقد حضر يحمل حقيبة ملابس يارا، ابتسمت له والدته وربتت على وجنته بحنو وغادرت تاركة إياه مع يارا التي كانت تقف في منتصف الغرفة تطلع الى الفراغ أمامها بينما وقف أسامة جانبا يطالعها وابتسامة حانية تزين شفتيه.

بعد عدة دقائق ارتأى أسامة خرق الصمت السائد وايقاظها من شرودها الواضح قائلا بابتسامة هادئة:
- ها. عجبتك الأوضة؟
انتبهت يارا من شرودها وأجابت بهدوء وهي تجول بعينيها فيما حولها: - آه. كويسة.
قال بمرح خفيف مقلدا لها: - كويسة!، يا بنتي الأوضة دي آثار. عاصرت طفولتي ومراهقتي وشبابي، دي كانت عاشت معايا خطوة بخطوة كل اللي مر بيا من وأنا صغير لغاية دلوقتي.

ابتسمت يارا ابتسامة حزينة وقالت بدون ان تلتفت اليه: - يا بختك، أوضتك لسه موجودة لكن انا أوضتي اللي الحيطان بتاعتها كانت شاهده عليا زيك بالظبط بقيت مقدرش أقعد فيها. إتمنعت عنها!

اقترب اسامة منها بضع خطوات قائلا بهدوء: - يارا حبيبتي ما حدش يقدر يمنعك من انك تزوري بيتك، أنا عمري ما هحرمك انك تزوريه وقت ما تحبي لكن مش لوحدك. رجلي على رجلك، حبيبتي إحنا كل اللي بنعمله دا خوف وحرص عليك، وبعدين والدتك نفسها الله يرحمها وصِّت بكدا قبل ما تموت.

اغرورقت عينا يارا بالدموع المكبوتة التي رفضت النزول وطأطأت برأسها الى أسفل، تقدم منها أسامة رافعا رأسها بابهامه ونظر الى عينيها السابحتين في غلالة رقيقة من الدموع، مال عليها مقبلا جبينها بحب وهمس لها وهو يمسح دموعها التي رطبت جفنيها:
- ادعي لها بالرحمة يا يارا كل ما تفتكريها، صدقيني دعاكي ليها أفضل لها من دموعك، أنا هسبقك وانتي غيري هدومك وحصيليني علشان نتعشى مع بابا وماما.

وانصرف أسامة تاركا اياها لتبدل ثيابها وتلحق بهم لتناول العشاء...
- همس انت ما شوفتيش يارا؟، ألقى أسامة سؤاله على همس بتوتر وقلق مما جعلها تقطب جبينها وهي تجيب:
- لا يا أسامة. ليه؟

زفر أسامة بضيق وقال بينما يعصف به القلق: - ماما لسه مكلماني دلوقتي بتقولي ان يارا من الصبح وهي في أوضتها ونزلت السوق تجيب حاجات ويارا رفضت تروح معاها، ولما رجعت ما لقيتهاش، طلبتها على الموبايل لاقيته مغلق فكلمتني افتكرتها جات لي الشغل!

زادت تقطيبة همس وهي تعلّق بحيرة: - لا يا اسامة يارا ما جاتش.
نفخ أسامة بيأس هاتفاً: - يعني هتكون راحت فين بس؟، أنا انهارده كنت في ماسبيرو ولما ماما كلمتني جربت أتصل بيها على موبايلها بردو مقفول فجيت على هنا جري أشوفها، وعلشان كدا سألتك. هتكون راحت فين بس ياربي؟!

اقتربت همس من أسامة وقالت في محاولة لطمأنته: - ما تقلقش يا أسامة ان شاء الله خير.

هتف أسامة بينما تظهر على وجهه علامات القلق الشديد: - ما أقلقش ازاي بس يا همس؟، انت مش عارفة يارا بقيت عاملة ازاي؟!، دي تقريبا زي ما تكون رافضة الحياة، تتصوري انها لغاية دلوقتي ما عيّطتش على مامتها؟، من بعد الوفاة والانهيار اللي جالها في المستشفى وهي سرحانة على طول، عارفة هي لو عيّطت أنا هرتاح واطمن، لكن كبت حزنها دا اللي راعبني عليها.

قالت همس بشفقة على حال يارا: - ربنا يطمنك عليها يا اسامة و، آه.
بترت همس عبارتها فجأة وقد شعرت بدوار مفاجئ وأمسكت برأسها بينما قطب أسامة قلقا وقال:
- مالك يا همس فيه ايه؟
أجابت همس وهي تصارع الدوار الذي ألمّ بها فجأة: - ما فيش شوية تعب بسيط، ما تشغلش بالك بيا انت يا اسامة وروح دور على يارا. انا هكلم مراد دلوقتي ييجي لي.

أصر اسامة على الانتظار حتى مجيء مراد الذي لم يجيب اتصالات همس، حاولت همس عدة مرات مهاتفته لتستقبل في كل مرة رسالة هاتفية مسجلة تعلمها بأن الهاتف مغلق، فيما كانت حالتها تزداد سوءا، وكانت تخشى العودة إلى المنزل بسيارتها فهي لا تستطيع القيادة بحالتها الراهنة كما تخشى ركوب سيارة أجرة وهي بهذه الحالة خوفاً من أن يغمى عليها داخلها وهي بمفردها.

قال أسامة بتصميم: - همس قومي هوصلك وبعدين هروح أدورعلى يارا، مش ممكن أسيبك تعبانه بالشكل دا.
لم تستطع همس المجادلة فهي بالفعل تشعر ان حالتها تزداد سوءاً فوافقت وغادرت برفقته...

كانا في طريقهما لمنزل همس عندما طرأت على بالها فكرة جعلتها تنسى تعبها وتهتف بلهفة:
- صحيح يا اسامة احنا ازاي فاتتنا حاجه زي كدا؟
قطب أسامة واسترق النظر اليها قبل أن يعيد انتباهه إلى الطريق قائلا: - حاجه؟، حاجه ايه دي يا همس؟
أجابت بحماس: - مش يمكن تكون يارا راحت بيت مامتها؟
انفرجت أسارير أسامة وهتف بحماس: - تصدقي ممكن. برافو عليكي يا همس. هوصّلك وأروح أتأكد...

هزت همس برأسها رفضا وقالت: - لا لا لا توصلني إيه. اطلع بينا الأول عليها نتأكد، انت عارف حالة يارا ما تطمنش وأنا الحمد لله بقيت أحسن. أول ما شمِّيت الهوا حاسيت ان الدوخة والصداع راحو.

وافقها أسامة فالقلق والرعب على مصير يارا كانا يفتكان به، وبالفعل أدار مقود السيارة ليسير في الطريق المؤدي الى منزل يارا القديم غافلا عن السيارة السوداء التي تتابعهما منذ وقت طويل!..

كان مراد قد أغلق هاتفه لانشغاله في اجتماع هام وبعد انتهائه قام بفتحه واتصل بهمس ليفاجأ برسالة تبلغه ان يعاود الاتصال في وقت لاحق فعلم ان الإرسال ضعيف كالعادة فاتصل بها في مكان عملها ليفاجأ بمن يخبره أن همس قد انصرفت من العمل بصحبة. أسامة المخرج!، وفي غضون ثوان كان يطوي الطريق بسيارته في سرعة جنونية متجها الى مكان عمل همس.

كان الطريق مزدحما للغاية نظرا لوجود سيارة معطلة تسببت في إغلاق الطريق فعلق اسامة به مما سمح لمراد باللحاق بهما ولكن ما ان هم بترك السيارة والترجل منها حتى انفرج الطريق فابتعد أسامة بسيارته ولكن مراد لم يدعه يبتعد عن عينيه ولحق به يكاد يطير بسيارته وسط أبواق السيارات الأخرى وشتائم السائقين لرعونة قيادته!

أوقف أسامة السيارة أسفل المبنى السكني الذي يحتوي على شقة يارا القديمة، و ترجل هو وهمس متجهين الى حارس العقار المسنّ سائلين إياه عمّا إذا كان قد رأى يارا ولكن كان عم أيوب الحارس يعاني من ضعف شديد بالسمع فتململ أسامة لاضطراره إلى إعادة السؤال مرارا وتكرارا ففضّل الصعود إلى أعلى للاستعلام بنفسه ورافقته همس...

شعر مراد بدمائه تفور كالبركان لدى رؤيته لأسامة وهو يسير بجوار همس متجهين الى المبنى السكني ولا يعلم كيف لم يلحق بهما ليشبعه ضربا ولكنه انتظر قليلا في سيارته مراقبا لهما لعلهما يعودا دون الصعود الى هذه البناية ولكنه صعق برؤية أسامة وهو يتنحى جانبا بعد وقوفهما مدة طويلة مع حارس العقار لتتقدمه همس التي دخلت الى العقار يتبعها أسامة مما جعل مراد يشعر بدمه يفور حتى كاد ان ينفث نارا من فمه!

دق أسامة الجرس طويلا دون مجيب ثم فتحت إحدى الجارات باب منزلها وما إن رأت أسامة حتى تهلل وجهها ورحبت به ثم سألته عن أحوال يارا فقال بتلعثم طفيف وقد تعالت دقات قلبه قلقا عندما سألته عن يارا:
- ست لواحظ هي يارا ما جاتش هنا؟
اندهشت لواحظ من السؤال قائلة: - لا يا خويا من يوم ما مشيت معاك انت والست والدتك ما شوفنهاش.
ثم تابعت بقلق حقيقي: - ليه خير حصل حاجه؟

زفر أسامة بضيق حاول كتمه ورسم ابتسامة باهتة على شفتيه وأجاب: - لا ابدا يا ست لواحظ، بس يا ريت لو شوفتيها تخليها تكلمني أو كلميني انتي على الرقم دا.

وناولها بطاقة تعارف مدون عليها رقم هاتفه المحمول، فتناولتها وهي تعده أن تطمئنه ما إن يصلها خبر عنها، استأذن أسامة بعد ذلك بالانصراف ترافقه همس وقد تملك منه القلق البالغ وهتف بحيرة عميقة:
- يا ترى روحتي فين يا يارا؟

وقف مراد ينتظر نزول همس وأسامة أسفل العقار ولكنه كان قد صف سيارته بطريقة عرضية أعاقت سير المرور وما إن حرّك سيارته ليصفها بطريقة صحيحة حتى كان أسامة وهمس قد نزلا وركبا سيارة أسامة التي تحرك بها فلعن مراد من بين أسنانه ولحق به متوعدا أن يعطيه درسا قاسيا قد يكلّف ذلك المعتوه حياته. كي يعلم انه من أكبر الأخطاء ان يعبث معه مقترباً من همسه!

لحق مراد بسيارة أسامة والذي لم ينتبه إلى السيارة التي تتبعه منذ فترة ليهتف فجأة قائلا:
- بس عرفت. يمكن راحت تزور مامتها؟
التفتت همس إليه وقالت بدهشة: - ايه؟
رمقها أسامة بنظرة سريعة قبل أن يعيد انتباهه الى الطريق هاتفا بحماس: - أيوة. ازاي الفكرة دي ما جاتش على بالي؟، انهرده الأربعين بتاع مامتها!
انتقل حماسه إلى همس التي هتفت: - طيب ومستني ايه؟، اطلع بينا على المدافن بسرعة.

اعتذر أسامة قائلا: - معلهش يا همس تعبتك معايا، انا رأيي انى أروحك الأول وبعدين أروح أشوفها.
رفضت همس بشدة قائلة: - كلام ايه دا؟، وانا كنت بمشي على رجليا يعني؟!، أهم حاجة دلوقتي أننا نطمن على يارا، ياللا ياللا بلاش نضيّع وقت خلِّينا نروح نشوفها.

ضرب مراد على مقود سيارته بعصبية بالغة فقد أفلت أسامة من ملاحقته بعد أن غير مساره فجأة فلم يستطع اللحاق به، ولكنه أقسم أنه لن يتركه وأن أدى الأمر أن يذهب إليه إلى عقر داره ولكنه سيعمل على أن ينسى تماما إسم همس وألا يفكر ثانية بالاقتراب منها ولو بعين خياله!

رأى أسامة يارا تماما كما توقع في مدفن أسرتها، كانت جالسة على أريكة أسمنتية تتلو بعضا من آيات الله فاقتربت منها همس وانتظرتها حتى انتهت من تلاوتها وهمست بهدوء:
- البقاء لله يا يارا، تعيشي وتفتكري حبيبتي.
رفعت يارا عينيها بدهشة هاتفة: - همس؟!
أومأت همس إيجابا مشيرة برأسها اتجاه أسامة فنهضت يارا ترافقها همس متجهة اليه لينظر إليها أسامة ثم زفر بعمق قائلا:.

- كدا يا يارا؟، كان هيحصل لي حاجه من القلق عليكي.
أجابت يارا ببرود: - وتقلق ليه يعني؟، عموما أنا آسفة. بس كنت لازم آجي انهرده.
قدّر أسامة حالتها النفسية ولم يشأ الضغط عليها ومجادلتها فغير الحديث قائلا أنهم لا بد لهم من الانصراف فالوقت قد تأخر ووالدته في أشد حالت القلق عليها كما وأن همس متعبة ولا بد من إيصالها الى منزلها، وافقت يارا بهزة من رأسها وانصرفت برفقتهما.

قالت همس التي جلست في المقعد الخلفي محاولة تخفيف حدة الصمت الذي ساد السيارة منذ صعودهم إليها:
- صحيح. هتنزلي الشغل امتى يا يارا؟
أجابت يارا التي كانت مشيحة بنظرها خارج نافذة السيارة: -أنا قررت أسيب الشغل!
ضغط أسامة على المكابح بقوة حتى كاد رأس يارا أن تضرب زجاج السيارة الأمامي بينما التفت هو اليها بغضب غير عابئ بصوت ابواق السيارات التي وقفت خلفه ولا شتائم السائقين:
- ايه؟، انت بتقولي ايه؟

نظرت إليه يارا قائلة بهدوء: - اطلع الأول يا أسامة. انت موقف السكة.
حرّك أسامة سيارته وقد ضغط على البنزين بقوة ضاغطا على أسنانه بقوة محاولاً تمالك نفسه فقد طفح الكيل تماما.

لم تستطع همس تركهما وهما في هذه الحالة من الغضب كما بدا وكأن أسامة قد نسي وجودها واتجه إلى منزله هو فيبدو أنه قد سهى عن باله وجودها معهما بالمفاجأة التي فجرتها يارا، وعندما حاول تدارك خطئه أخبرته همس ألا يهتم فلا بد أن يارا تشعر بالتعب ولا بد لها من الحصول على الراحة كما وأنهم بالفعل أسفل منزله، خجلت يارا من همس وشعرت أن هذه الأخيرة تحاول مراعتها فعرضت عليها مرافقتهما فقبلت همس بسرور.

دخلوا الى المنزل واستأذنت يارا من همس لتتجه من فورها الى غرفتها دون أن تعير أسامة انتباهها فيما ألقت على حماتها سلاما سريعا والتي أتت مسرعة ما أن سمعت أصواتهم.

تعالى صوت أسامة ليوقف يارا قائلا بقوة: - يارا.
وقفت يارا مكانها فسار حتى وصل إليها ثم تابع آمرا: - بصّي لي!
لم ترفع عينيها إليه فامتدت يده رافعا وجهها إليه بقوة وأردف بغضب: - إنتِ ليه مصرة تعذبي مامتك؟
بدأ الجليد الذي كان يغلف معالم وجهها بالتشقق وهي تهتف بدهشة: - إيه. أعذبها؟

أجاب اسامة مؤكدا وهو يهتف بها وبقوة: - أكيد!، إنتِ فاكرة بطريقتك دي فيه حاجه هتتغير؟، افهمي يا يارا مامتك ماااااااتت سامعه يعني ايه؟، مااااااااااااااتت. و دا أمر ربنا وكُلنا هنموت، ولازم ما نعترضش على أمر ربنا. لأن دا هيبقى كُفر وليعاذ بالله. فين إيمانك؟

لم ينتظر سماع جوابها وتابع بجدية: - أنا عاوز أسألك سؤال. تفتكري مامتك الله يرحمها كانت هترضى باللي انت بتعمليه في نفسك دا؟، كانت هتوافقك على طريقتك دي؟، انت شبه ميّتة بالحيا!، وأنا عمّال أقول معلهش الصدمة كانت كبيرة لكن لأ. إنتِ لازم تفوقي يا يارا. فاهمه فوووووووقي. بأه!

وكأن كلام أسامة كان المعول الذي هدم السد الذي كان يمنع دموعها من الهطول فما ان انتهى من حديثه زافرا بغضب حتى ارتعشت شفتي يارا ثم بدأت دموعها بالنزول كالمطر لتصرخ بعدها صرخة عالية وهي تهتف:
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا مامااااااااااااا، يا حبيبتي يا ماماااااااا...

ثم علا صوتها بالبكاء فأسرع أسامة بضمّها بين ذراعيه وبقوة فهو قد تقصد استفزازها ليدفعها الى البكاء لتخرج ما يعتمل بداخلها من حزن فقد كاد ان يفقد عقله خوفاً عليها.

قبعت بين أحضانه كالطفل الصغير بينما كان يربت براحته على شعرها مهدهداً لها بحنان بالغ حتى بدأت شهقاتها تخفت ثم سكنت تماما بين ذراعيه فأبعدها قليلا عنه ليفاجأ بها وقد نامت كالطفل الوديع. فرفعها بين ذراعيه متجها الى غرفتها بينما تابعتهما همس بعينيها التي امتلأت بدموع سالت على وجنتيها الناعمتين وشاركتها والدة أسامة مراقبتها لهما وهي تمسح دموعها هي الأخرى والتي سالت رغما عنها لتلتفت إليها همس مستأذنة بالانصراف:.

- معلهش يا طنط. يارا بتمر بوقت صعب وانا متأكدة أنها هتقدر تقف على رجليها تاني طول ما أسامة معاها، أنا كان بودي أفضل معاها لكن أنا آسفة مضطرة أمشي.

حاولت والدة اسامة اقناعها بانتظار أسامة ليقوم بتوصيلها ولكنها رفضت رفضا قاطعا فهي تعلم تماما ان يارا في احتياج شديد لوجود أسامة بجوارها الآن...

كان مراد يروح ويجيء في المنزل كالليث المحبوس بينما تتكرر كلمات حارس العقار في أذنيه عندما حاول اللحاق بأسامة وهمس إلى أعلى المبنى حيث وجد الحارس فاستفسر منه عنهما قبل اللحاق بهما سائلا إياه ان كان يعرف هذين الشخصين؟، ففاجأه الحارس بأنه يعلم أسامة وأنه دأب على المجيء دائما إلى هنا، فاستفهم منه ان كان يأتي بصحبة السيدة التي ترافقه الآن وبعد ان أعاد عليه السؤال أكثر من مرة لضعف سمع الحارس أجابه هذا الأخير قائلا:.

- وهو عم بييجي غير عشانها!، دي أوجات كتييير كان بيبيّت إهني!، شكله عم بيحبها جوي جوي وهي كمان بت ناس وزينة ربنا يهدي سرّهم!

كاد مراد ان يصاب بنوبة قلبية لدى سماعه كلمات الحارس التي كانت بالنسبة إليه كطلقات الرصاص القاتلة!، فهذه ليست زيارة أسامة الأولى لهذا المبنى بل ان الحارس يعرفه جيدا كما يعرف علاقته بالسيدة التي ترافقه دوما إلى هنا!..

ركل مراد المائدة الزجاجية الصغيرة بعنف لكي ينفث عن غضبه عندما سمع المفتاح يدور في قفل الباب ليرى همس وهي تدخل وقد أشرقت أساريرها لرؤيته، ألقت بمفاتيحها وحقيبتها اليدوية جانبا وأسرعت لإلقاء نفسها بين ذراعيه وهي تقول بابتسامة واسعة:
- وحشتني وحشتني حبيبي وحش...

وضع مراد يده أمامها دافعا مانعا تقدمها ناحيته قبل ان ترتمي بين ذراعيه مما جعلها تبتعد بضع خطوات الى الخلف ناظرة اليه بشبح ابتسامة قائلة وتقطيبة قلق خفيفة تعلو جبينها:
- فيه ايه يا مراد؟، حصل حاجه؟
أجاب مراد بغضب مكبوت من بين أسنانه المطبقة: - كنت فين يا همس؟
ضحكت ضحكة خفيفة تعبر عن دهشتها وتساءلت بحيرة: - ايه السؤال الغريب دا؟، هكون فين يعني؟، في الشغل.
قاطعها بقوة صارخا: - كدااااابة!

فتحت عينيها على وسعهما وهتفت مرددة بذهول: - ايه؟، انت بتقول ايه؟
أعاد على سمعها ما قاله: - بقول انك كدااابة. انت اكبر كداابة يا همس!
احتدت همس هاتفة: - مراد. انت بتقول ايه؟، انت شارب حاجه؟
أجابها وهو يطالعها بنظرات تعبر عن الاشمئزاز الشديد: - آه شارب. شارب خيانة زوجة وطعن وغدر حبيبة!
شهقت همس عاليا وتراجعت بضعة خطوات الى الخلف وهي تقول بذهول: - لا لا لا انت مش طبيعي. انت اتجننت. اكيد اتجننت.

لتستدير منصرفة عندما امتدت يده مديرا إياها بقوة ناحيته هاتفاً بغضب شرس: - على فين يا هانم؟، إيه. رايحه للواطي التاني تحذريه؟، إنتِ مش هتتنقلي من هنا غير لما أشرب من دمه الأول!

صرخت همس قائلة: - واطي مين ودم إيه؟، في إيه يا مراد مالك. انا مش فاهمه حاجة؟
جذبها ناحيته معتصرا ذراعها بقبضته وقد انتفخت أوداجه غضبا وقهرا فيما يجيبها بصوت كالفحيح:
- أسامة يا همس هانم!، إيه هو فيه واطي تاني غيره ولا إيه؟ شهقت همس في ذهول وقالت:
- إيه؟، أسامة؟
ضحك مراد ساخرا ضحكة عالية وأجاب: - الزوج آخر من يعلم. مش كدا؟

ثم قبض على ذراعها الآخر وأردف وهو يهزها بشدة صارخا: - لييييييه يا همس. ليييييييييه؟، عملت كدا ليه؟، أنا حبيتك يا همس. حبيتك حب عمر ما حد حبّه قبل كدا. وفي الآخر تعملي فيا كدا!

نظرت اليه همس بعذاب وهي ترى مراد منهارا بهذه الطريقة ولكن ولأول مرة تشعر بالخوف منه وبقوة، فالذي يقف أمامها الآن ليس أبدا مراد حبيبها وزوجها بل هو شخص آخر، شخص قد أصيب بلوثة عقلية مفاجئة، صرخت همس بيأس وقد بدأت الدموع بالتدافع الى مقلتيها:
- عملت ايه بس فهمني؟!
اقترب بوجهه منها وقال بقوة: - شقق يا همس؟، حصلت تروحي معاه شقته؟، إيه. الباشا واخد لك جرسونيرة؟!

ارتدت رأس همس الى الخلف بشدة فيما شهقت بقوة وأجابت وهي تحرك رأسها يمينا ويسارا في رفض لما قاله وسمعته:
- أنت. أنت بت، بتقول إيه؟
صرخ بجنون وقبضتيه تشتدان على ذراعيها بعنف: - شوفتك بعينيا يا همس. طالعه معاه شقته، لا والبواب بيأكد لي انكم على طول مع بعض وبيشوفكم كتير!، إيه. لسه هتنكري بردو يا همس!

تفاجأت همس من كلماته، فمن الواضح ان مراد بطريقة أو بأخرى قد رآها وهي ترافق أسامة للبحث عن يارا بمنزل والدتها ونظرا لضعف سمع الحارس فلم يفهم سؤال مراد جيدا فأجابه معتقدا انه يقصد يارا بسؤاله بينما كان مراد يقصد. همس، لتشعر همس بالجمود التام بعد ذلك، وتتسمر واقفة في مكانها تنظر الى مراد بجمود تام لثوان قبل أن تتحدث بجمود ناظرة الى يديه القابضتين على ذراعيها بقوة حبست الدماء في عروقها:.

- شيل إيديك يا مراد!
سخر مراد من عبارتها الباردة وقال باستهزاء: - إيه. تمثيلية جديدة دي؟!
لتبدأ قشرة البرود التي غلفتها بالتصدع وتهتفت همس بغضب عنيف وصوت خرج مكتوما من بين أسنانها:
- اخرس...
ولم تكد تكمل كلمتها حتى كان مراد قد هوى بصفعة ساخنة على وجهها كادت أن تطرحها أرضا لولا انها قد أمسكت بمسند المقعد أمامها لترفع بعد ذلك عينيها إليه في ذهول واضعة يدها على وجنتها مكان الصفعة بينما أردف بغضب ناري:.

- لما تيجي تتكلمي معايا. تتكلمي بأدب، اللي زيّك يبوس رجلي علشان أسامحه!
وكأنه بكلماته قد أفاقها مما اصابها من تبلّد لتعتدل واقفة وتسدل يدها بجانبها وهي تقول رافعة رأسها بشموخ:
- وأنت الصادق يا مراد. أنت اللي هتبوس رجلي أنا وأهلي كلهم علشان أسامحك وأرجع لك! لكن انا بقول لك من دلوقتي لو بكيت قودامي بدل من الدموع دم يا مراد. عمري. عمري ما هسامحك ولا هرجع لك. خلاص. خلصت يا مراد!

لتتناول حقيبتها اليدوية التي كانت قد ألقتها لحظة دخولها ومفاتيحها وتسرع باتجاه الباب تاركة مراد وراءها وقد وقف متجمدا في مكانه كالتمثال يراقب ابتعادها الشامخ وقد اعتراه الذهول التام من حديثها، ليخالجه الشعور بأن هناك خطأ ما في الأمر!، وتتصاعد دقات قلبه بقوة فيما هاجس داخله يخبره بأنه قد أخطأ خطأ كبيرا ستكون نتائجه قاتلة فيما لو صح ما تنبأ به الآن هاجسه!

وقفت همس أمام باب المنزل وقد أمسكت بالمقبض لتلتفت إليه تطالعه ن فوق كتفها بنظرة غاضبة. حزينة. ولكنها تشي بكبرياء الأنثى الذي يرفض قهرها ظلما وجورا!، لترميه بكلمات باردة. خاوية. لا حياة فيها ولكنها. باترة، صارمة. لا رجعة فيها:
- هستنى ورقتي تيجي لي يا مراد. وصدقني مش من مصلحتك أبدا انك تماطلني...

سكتت قليلا ثم أردفت بسخرية مريرة: - وعلى فكرة. الشقة دي شقة يارا ومامتها. يارا سابت البيت عند أسامة وكنا بندور عليها هناك. وقبل ما تسأل وتقول ليه أنا روحت معاه هقولك انى تعبت وأنا في الشغل وصمم أنه يروحني، ولو راجعت موبايلك هتلاقي في الرسايل عندك مش أقل من 5 مكالمات جات لك منى وانت كنت قافله...

سكتت قليلا فيما طالعها بجمود تام ثم تابعت ساخرة: - آه صحيح البواب سمعه تقيل اوي عشان كدا أكيد افتكر انك بتسأل عن يارا مش عنَّي، وعلى فكرة. أنا مش بقولك كدا علشان أبرر لك حاجه أو لأن من حقك انك تعرف إيه اللي حصل بالظبط. لأ، الحق دا خلاص ما بقاش ليك من ساعة ما شككت في أخلاقي واتهمتني بالتهمة البشعة دي( تقصد الخيانة عندما نعتها بالخائنة)، أنا بس حبيت انك تحس بالندم يا مراد، الندم اللي مش هيخليك تقدر ترتاح ثانية واحده بعد كدا. عن إذنك يا. إبن خالي!

وانصرفت صافقة الباب خلفها بقوة تاركة خلفها عاااشق قد أعمته غيرته وتضامنت الظروف عليه لتجعله يخسر حب عمره الوحيد!

نظر مراد في أعقابها قليلا قبل أن يطلق ضحكة قصيرة ثم بدأت تعلو تدريجيا حتى صدحت عاليا، وظل يضحك لمدة طويلة حتى أدمعت عيناه وهو يتذكر قول همس أن حارس العقار يعاني من ضعف السمع وأنه أجابه ظنًّا منه انه يعني يارا بسؤاله، فتلك الأخيرة هي من قصدها الحارس بجوابه وليست هي. همسه التي كانت بالأمس أقرب إليه من أنفاسه ولكنها أضحت اليوم أبعد منه بعد السماء عن الأرض!

مرر مراد أصابعه في شعره جاذبا إياه وبقوة الى الأسفل ليركع على ركبتيه بدون وعي منه صارخا من أعماقه وبقوة:
- هاااااامس...
و. تخونه دموعه ولأول مرة!، فقد انهمرت بالرغم عنه. تبكي معشوقته. ليبكيها بدموع الندم والتي سبق وأن توعدته بها، همسه!..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة