قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

(((لابد أن يرأف بك القدر ذات يوم ويهديك أياماً سعيدة، لن يبخل عليك إلى هذا الحد، افرد ذراعيك واستقبله بقلب يحب الحياة، يحب السعادة، يحب الحب ))).

المكتوب على الجبين لابدّ وأن تراه العين.
جملةٌ سمعتها كثيراً لكنها لم تدرك معناها الحقيقي، إنما الآن اقتنعت بمغزاها، يبدو أن قدرها أن تظلّ تجترع المرار كأساً دهاقاً، وتبقى الخيبات المتلاحقة نصيبها من بين منح الحياة للبشر.

مازالت تصلها أنفاس أبيها عبر الهاتف بعد جملته المقتضبة تلك، قَسَتْ ملامح وجهها وقد ثبتت نظرها على وجه والدتها المتحجرة أمامها، رمشت عليا وابتلعت ريقها بوجل حين سمعت نبرة ابنتها الباردة وهي تناولها الهاتف قائلة: شخص يدّعي أنّه والدي على الخط!

تهدج صدرها برعب أثناء سماعها لجملتها ذات المغزى الواضح، في حين أن كلماتها زادت آلام عمار وقد وصلته نبرتها الجافة، ظلّت نظرات عليا ومياس متشابكة بمزيجٍ خطر من الغضب الذي طفى على وجه الأخيرة، وفي مقلتيها رمادٌ خامد أشعل بركاناً في صدرها، وماتزال يدها ممدودة أمامها حتى رفعت عليا يدها بآلية لتتناول الهاتف من يدها، دون أن تحيد عينيها عنها أغلقت الاتصال في وجه عمار الذي لم يعلم حقيقة مايشعر به فعلاً، أسقط جهازه عن أذنه متطلعاً إلى النافذة أمامه، أرخى أجفانه بهدوء وهو يلقي برأسه إلى الخلف، تنهد بثقل بالغ مفكراً فيما قد يحدث الآن بين ابنته وطليقته.

لم يحسب يوماً أن تعرف بوجوده بهذه الطريقة، وهو على يقين بأن عليا لم تخبرها عن مكالماته لها أو حتى عودته إلى الوطن، والآن وقد انقشع الحجاب وتكاشفت الوجوه، مالذي سيحصل تاليا ً؟

كانت تعلم أن هذه اللحظة آتيةٌ لا محالة، لكنها لم تظنّ يوماً أنها بهذه الصعوبة، الملامح التي اعتلت محيا مياس غير مبشرة، فأيقنت عليا أنّ العاصفة لم تبدأ بعد.
بنبرة هادئة غريبة تحدثت مياس سائلة: هل حادثكِ قبل هذه المرة؟
كان السؤال فخاً بلا ريب، حاولت عليا التحلّي بثبات انفعالي لاتملكه، فبللت شفتيها وهي تتمتم: مياس حبيبتي...
قاطعته صارخةً في وجهها باهتياج: اسألك فأجيبي، هل حادثك من قبل؟

هالها مارأته من غضب تملك مياس، تراجعت للخلف وهي تتهرب بعينيها في أنحاء الغرفة، ارتجفت شفتا مياس وهي تضيق بقهر: مالذي يريده منك؟ عمّاذا كنتما تتحادثان؟
أجفلت بخفة حين سمعت شكوك ابنتها المتوارية فنفت بنبرة مرتجفة: لا مياس، ليس الأمر كما تعتقدين.
ابتلعت جمرة مؤذية لتسمع تبرير والدتها التي تابعت بارتعاش: صدقيني يا ابنتي، هو فقط من كان يتصل بي، وفي كل مرة حادثني كنتُ أردّه بجفاء ولكن...

خنقها ندمها فسكتت للحظة لتضيف عقبها بهمس كمن تخشى رد مياس: لقد طلب أن يلقاك..
صوت زفيرها كان عالياً حتى خُيّلَ إليها أنها قد تخرج ناراً بعد لحظات، إلا أن جملة عليا الأخيرة نبهتها لتدرك عودته إلى المدينة، لم تأبه بعودته فهمست تسألها بجفاء وقد احتقنت مقلتيها بالدموع: منذ متى وهو يكلمك؟
أجابتها بعد هنيهة بتردد: أول مرة حادثني فيها كانت قبل وفاة ورد.

ارتعش فك مياس بشدة حين قالت بنبرةذات معنى: يحادثك منذأكثر من شهر؟ ولم تخبريني؟
لم تعرف بما تجيبها فانهالت كلمات مياس قاسية وهي تصيح في وجه والدتها بخذلان: وهل كنتُ شفافةً أمامك لهذه الدرجة؟لماذا لم تخبريني قبل هذا اليوم؟ لماذا؟
رمقتها بشفقة بالغة وحاولت التقدم نحوها وهي تحاول تهدئتها فقالت: مياس اهدئي أرجوكِ...

كمن فقد عقله صرخت مياس في وجهها: كيف استطعتِ أن تخفي الأمر عني؟ ألم تفكري في ردة فعلي حين أعرف بعودته ومحاولته التحدث معك؟
سالت عبرات الندم على وجنتيّ عليا فألهبتها، حاولت التحدث لكنّ مياس لم تمنحها الأسبقية وهي تتابع باتهام صارخ آلم حبالها الصوتية: أنتِ لم تفكري بي حتى صحيح؟ لا بدّ وأنّ اتصالاته قد بعثت الحياة في حبك له أليس كذلك؟

إلى هنا ولم تقوَ على البقاء ساكنةً، استفزّ اتهام مياس كبرياءها فصاحت بقوة وقد تشوشت الرؤية عندها: إياكِ وأن تتهميني بهكذا أمر مياس، أنا لم أفكر في سواكِ طيلة حياتي ولكن...

قاطعتها مجدداً وهي تنتفض في سريرها، غير آبهةٍ بإبرة المغذي المتصلة بيدها، هبت جالسةً على ركبتيها وقد تحررت أدمعها أخيراً لتغرق وجهها، كوّرت يدها لتضرب على صدرها فيما تتابع صراخها: ولكن ماذا؟ هل ستلعبين الآن دور الضحية؟ بينما أنتِ أكبر مخادعة عرفتها يوماً.

تقريعها هذا أهان عليا فأشعرتها بصغر مابذلت في سبيلها، وكأن مياس قد نست، أو ربما تناست كل مافعلته عليا لأجلها، لكنّ الضغط النفسيّ الذي تعايشه أثّر على تفكيرها المنطقي فلم تعدْ ترى سوى أنّ والدتها قد غدرتها تماماً كما فعل أويس، كمجنون هارب من مصحة عقلية بدأت مياس تضرب على نفسها، غير عابئةٍ بيدها التي نزفت من أثر الإبرة الغليظة، ولا بأنين الألم من جراح جسدها وهي تهتف بصياح متشنج: كيف لي أن أثق بأحد بعد الآن؟ إن كان أقربهم لي قد خدعني واستغفلني كيف؟ ألهذه الدرجة أنا لا استحق ان أُعامل كبشر؟ أم نسيتم أنني إنسان مثلكم؟

لم تفهم عليا بعد كلماتها تلك شيئاً، فالتشنج الذي أصاب مياس أنبأها بأن ابنتها لن تكون بخير، لم تشعر حين فُتح الباب من خلفها ليدخل حسام بعد أن سمع صراخ مياس في الممر، ومن خلفه كانت إحدى الممرضات التي هرعت هي الأخرى على صوت العراك الذي سُمع في المشفى كله، أدرك حسام انهيار مياس فصاح بالممرضة أن تجلب إبرة مهدئ، بينما دخل هو إلى الداخل محاولاً تهدئة مياس، أراد أن يمسك بكتفيها هاتفاً بنبرة هادئة: اهدئي مياس...

نفضت يداه عنها كالملبوسة لم تعدْ تدرك ولا تعِ أي شيء، وكلماتها الهاذية ماتزال تخرج منها دون وعي، خلال ثوان دخلت الممرضة ومن خلفها شابين اثنين ساعداها على تكبيل مياس حتى حقنها حسام بالمهدئ، كل هذا تمّ خلال ثوان لا تكاد تُعد وتحت أنظار عليا المتجمدة مكانها، وسرعان ما تمكن المهدئ من جسد مياس لتسقط صريعةً في نوم إجباري، وعلى خديها ماتزال تسري دموعاً لاهبة معبقة بالقهر و الكبت، والغضب والتمرد على كل شيء في حياتها.

هدأت العاصفة بنوم مياس فتساعد حسام مع الممرضين بوضعها على السرير وتبديل الإبرة التي انكسرت بيدها، ثم تقدم من عليا التي لم تتحرك بعد باستثناء يدها التي كتمت شهقات مرتعبة من فمها، فقط مقلتيها الكريمتين بالدمع ظلّت تمطر على وجهها، قال حسام بعد أن لفظ زفيراً متعباً بنبرة عملية: لاتقلقي إنها بخير الآن، ما أصابها كان انهياراً عصبياً نتيجة لضغوطات متتابعة، أوصي بأن يراها طبيب نفسي.

هزت عليا رأسها بضعف دون أن تحيد بناظريها عنها، ليخرج حسام بعد لحظات وقد بدأ حال مياس الغريب يقلقه، ماسبب انهيارها الآن؟
هل بسبب حالة التعذيب التي عايشتها وقد أخفى هو الأمر عن والدتها؟ أم أنّ هناك سبباً آخر؟
أياً كان المتسبب فيما أصابها فلا ريب أنه أمر جلل، فأمثال مياس لاينهارون بسهولة، ووصولها إلى هذه النقطة معناه أنّ قدرتها على التحمل قد فاضت، واستلزم الأمر وقتاً مستقطعاً من معركتها مع الحياة...

كسارقٍ متسلل فتح مازن الباب بحرص كبير على ألا يصدر أقل صوت، شقّ اللوح الخشبي قليلاً ليدلف رفقة أويس الذي احمرّت عيناه فبدت كالجمر، تحركا في الصالة لكنّ مازن تجمد حين رأى والدته في الجزء المغطى من الصالة، تسقط في النوم على إحدى المقاعد وقد التحفت بغطاء خفيف نوعاً ما، زوى مابين حاجبيه حتى وقعت أنظاره على الطاولة الملأى بأصناف متنوعة من الطعام، وفي المنتصف كانت الكعكة الكبيرة ليدرك مازن للتوّ نسيانه لأمر عيد ميلاده وسط أحداث يوم أمس، تطلع إلى أويس الذي لم يأبه لتوقف شقيقه ولم يقف مكانه لثانية، بل تابع صعوده إلى غرفته الخاصة.

شعر مازن بالندم على تفويته حفلة عيد ميلاده، واحتلّ الآسى كيانه على تعبها الذي ضاع سدىً، فاقترب منها ليحطّ بيده على كتفها فيوقظها من نومها حين أجفلت ميادة بخفة، تطلعت إليه بعينين ناعستين أرهقهما السهر، اعتدلت في جلستها وهي تفرك مقلتيها بتعب قائلة بنبرة مازال النعاس بادياً فيها: مازن؟ متى أتيت؟
تبسم مازن بخفة فيما هو يجلس قربها مجيباً بلطف: لقد دخلتُ لتوي.

أشارت بتفهم أثناء محاولتها الابتسام مضيفة: هل أحضر لك شيئاً تتناوله؟
هز رأسه رافضاً بحنان: لا أمي، أريد أن أنام فقط، مايزال الوقت مبكراً جداً.
تحولت ملامحه إلى القلق وهو يسألها: بالمناسبة لماذا تنامين هنا؟
تطلعت نحوه بنظرات معاتبة مجيبة بنبرة ذات مغزى: كنتُ أنتظر عودتك لنحتفل بعيد ميلادك!
وتره عتابها المتواري فرنا إليها بنظرات معتذرة قائلا: آسف أمي، صدقيني لم أذكر عيد ميلادي إلا تواً، اعذريني أرجوكِ.

وضعت يدها على وجنته لتبتسم بلطف وهي تتمتم بحنوّ: المهم أنك بخير حبيبي.
بادلها بسمتها بأخرى ممتنة، كاد يتحرك قبل أن يعاود الجلوس كمن تذكر أمراً: بالمناسبة أمي، أويس جاء معي.
تجعدت ملامحها بقلق تلقائي تسأله بصدر متهدج: هل هو بخير؟
ربت على كفها الذي ارتجف ليجيبها بحيادية: اطمئني أمي إنه بخير، لقد صعد إلى غرفته.

هزت رأسها بتفهم معتقدةً بأن أويس اشتاق لهم فجاء للزيارة، لم تركز في الأمر ولم تكلف نفسها عناء التفكير، حاولت ميادة أن تستقيم من مكانها لكنها عادت لتسقط على المقعد فأسندها مازن هاتفاً بوجل: أمي؟ مابك؟
شعرت بأنّ المكان يدور بها فوضعت يدها على رأسها متأوهةً بألم بالغ داهمها على حين غرة، سألها مازن بقلق واضح ومايزال ممسكاً بكفها: أخبريني أمي بماذا تشعرين؟

حاولت التغلب على وجعها وقد نجحت بصعوبة، فرسمت بسمة باهتة على محياها وهي تشير له قائلة بضعف: أنا بخير عزيزي لا تقلق.

ثم استندت عليه حتى وقفت، ورغم أنه لم يصدقها لكنه أذعن لرغبتها، تحركت ميادة وهي تتمايل وتستند كل حين على الجدار حتى دلفت إلى الحمام، تحت أنظار مازن الذي استقام واقفاً عقبها، نفخ بتعب وقد بلغ الإرهاق مبلغه في جسده، فحثّ خطاه إلى الأعلى حتى وصل أمام غرفة أويس، فقط رغب بالاطمئنان عليه فقرع الباب لكن لم يأتهِ ردّ من أويس، استغرب الأمر ففتح الباب قليلاً حتى لاحظ جسد أخاه وقد ارتمى فوق الفراش نائماً على بطنه، يبدو أنه غفى من شدة التعب فلم يكلف نفسه حتى خلع حذاءه فتركه مازن على حاله، فما مرّ به أويس خلال الساعات الأخيرة لم يكن هيناً على أية حال...

غسلت وجهها مرات عدة لترفع رأسها مقابل المرآة، رأت خيال امرأة، بقايا أنثى قد حاربها حظها العثر حتى غلبها، رفعت يدها تتحسس التجاعيد التي برزت تحت عينيها، ثم مررتْ أطراف أصابعها على باقي تقاسيم وجهها وقد التعمت داخل عينيها عبراتٌ مغلولة، من نفسها وعلى نفسها وعلى الوضع الذي تعيشه برمته، وذاك الصوت المقيت عاد ليصرخ بها: إلى متى يا ميادة؟ إلى متى ستظلين هكذا؟ تقتاتين على بقايا اهتمام ممن حولك؟ لماذا رضيتِ لنفسكِ الهوان والبقاء في علاقة سامة من جميع النواحي؟ عثمان لم يهتمّ بك يوماً ولم يجبر بخاطرك ذات مرة، بل يتعمد أن يجرحك كلما سنحت له الفرصة ليوهمكِ أنك أقلّ من أن يراعي خاطرها؟

لكن أتعلمين؟ ليس الذنب ذنب عثمان وحده، فأنت تتحملين المسؤولية أكثر منه لأنكِ رخّصتِ نفسك أمامه كثيراً بحجة أنه زوجك ووالد ابنائك، بينما هو تطاول في هذا ولم ولن يكتفِ.

اختلّ توازنها مجدداً حين انهمرت دموعها على طول خديها، فاستندت على الحوض وأغمضت عينيها حتى تمالكت نفسها، أنتِ مريضةٌ ميادة، مريضة بحب عثمان، مريضة بالوهم الذي نسجته وعشتي فيه وحدك، أنتِ وحيدة، لطالما كنتِ هكذا وستظلين دوماً، حتى أولادكِ سينفضّون من حولك ذات يوم، فتتسلل سعادتك المزعومة من حياتك انسياب الماء من بين أصابعكِ، سيأتي يوم تكونين فيه رفيقة هذه الجدران، بائسة ووحيدة كمتسولة على قارعة الطريق في ليلة ممطرة.

شهقت ميادة بعمق كأنها على حافة الغرق، قابلت نسختها المشوّهة على المرآة، بوجهٍ مصفرٍّ شاحب كورقة خريف في مهبّ الريح، ومقلتيها الغائرة وقد حاوطتها هالاتٌ سوداء من فرط السهر والبكاء، جمالها غادرها منذ وقت طويل لكنها كانت تخادع نفسها دوماً، إنما الآن وقد تعرّت روحها أمام الحقيقة القاتلة رأت الواقع المر، لقد أصبحتِ عجوزاً ميادة، مرّ العمر أمامك دون أن تلاحظي.

تأوهت بصوتٍ مسموع وهي تفتح صنبور المياه لتغسل وجهها الذي سطرت الدموع خطاً مرئياً عليه، وقد داهمها الإعياء من جديد، كم كرهتْ نفسها حين أيقنتْ أنها على حافة المرض، يا لبؤسها حقاً!

في غرفةٍ طُليتْ جدرانها بكاملها من اللون الأبيض استلقت سعاد بمساعدة الممرضة على سرير معدني، بعد أن أبدلتْ ثيابها بأخرى فضفاضة ذات لون أزرق شاحب، تقدمت هويدا ترسم على محياها ابتسامة مطمئنة حتى جلست على مقعدٍ قريب، تحدثت فيما هي تقرب جهازاً ذو شاشة تلفزيونية متوسطة الحجم: أريدك ان تكوني هادئة سيدة سعاد، لا تقلقي فلن تتألمي.

بنزعةٍ أمومية حانية حاوطت سعاد بطنها المسطح قائلةً بنبرة صادقة رغم الخوف الذي تخللها: أنا لا أخاف على نفسي حضرة الطبيبة، خوفي وقلقي على جنيني فقط.

لوهلة اهتزّت يد هويدا الممسكة بعبوة صغيرة حين سمعت نبرتها، ربما لأنها أم أيضاً، وربما لأنها تعلم أن جميع الاختيارات في حال ثبتت شكوكها ستكون مؤلمة على سعاد، حاولت التغلب على مشاعرها فهزت رأسها بتفهم، بيدها الثانية سحبت ياقة الرداء الطبي للأسفل ليظهر صدر سعاد التي أغمضت عينيها بوجل بان على ارتجافة جسدها، أفرغت هويدا بعضاً من السائل السميك الطبي ( الجلّ الطبي) على ثدي سعاد الأيسر، ثم تناولت جهازاً صغيراً بحجم الكف أو أكبر قليلاً لتمرره على مكان السائل، فظهرت صورةٌ مكبرة على الشاشة أمامها، نقلت أنظارها بمهنية بين الجهاز والشاشة وهي تحرّك القبضة بيدها حركاتٍ دائرية بطيئة.

مرت خمسة عشر دقيقة كانت أشقّ على سعاد من أدهرٍ، حتى فرغت هويدا من الفحص فالتفتت صوب سعاد وهي تمسح بقايل السائل السميك عن صدرها مبتسمة بحيادية قائلة: لقد فرغنا سيدة سعاد، بإمكانك العودة إلى غرفتك، سأوافيكِ بالنتائج بعد قليل.

برغم لهجة هويدا العادية إلا أن قلب سعاد انقبض لا إرادياً، أشارت موافقة ثم حاولت الاعتدال جالسة لتساعدها الممرضة في تبديل ثيابها الطبية، ثم أوصلتها إلى الغرفة حيث استقبلها كمال الذي كان كجالسٍ على مرجل من نار، استقبلها عند الباب ومحياه ينطق بقلقه وساعدها حتى جلست على السرير، ابتعد عنها وفي عينيه سؤال لم يجسر على نطقه فأجابت سعاد بوهن: ستأتي الطبيبة بعد قليل وتخبرنا بالنتيجة.

اكتفت مقلتيها من ذرف الدموع بعد أن أُنهكت، فجلست عليا على مقعد الانتظار خارج غرفة ابنتها النائمة واضعة يدها على خدها، تنتظر استفاقة مياس بمشاعر متضاربة مابين القلق عليها والخوف من رد فعلها حين تستيقظ، في حين كانت أروى تسند رأسها على كتفي عمتها بعد أن علمت بما حدث مع مياس من انهيار دون أن تعرف الأسباب، شعرت أروى بأنها مشوشة ذهنياٍ وتائهة، لم تغفل لها عين منذ ليلة أمس فتعاقب الأحداث والمصائب طرد النوم من عينيها، بدءاً من سقوط والدتها مغشياً عليها، ثم شكوك هويدا حول صحة والدتها، وحادث مياس المزعوم واستفاقة الشاب المحروق فاقداً للذاكرة، وصولاً إلى انهيار مياس بطريقة مخزية..

أما في الداخل، فقد استفاقت مياس منذ بعض الوقت لكنها لم تحرك ساكناً، ثبتت عينيها على السقف بنظرات خاوية، مقلتيها فقدت رونقها فلا حياة فيها، فقط صدرها الذي يعلو ويهبط الدليل على أنها مازالت حية، لكن بلا روح، القسوة اتخذت مكانها على محياها ذي التعابير الجامدة، وفي داخل عقلها آلاف المؤتمرات المنعقدة لتحليل ماحصل وماسيحصل لاحقاً...

لمعت في ذهنها خاطرة هامة فحاولت الاعتدال جالسة على السرير، ثم نزعت إبرة المغذي عن يدها بسبب الألم الشديد الذي تسببت به ثورتها، بنظرة متفحصة بحثت عن هاتفها على الطاولة بجانبها لكنها لم تجده، انعقدت ملامحها بتفكير سرعان مالانت حين تذكرت أن أويس وضعه بجانبها على السرير قبل أن تنتفض بلحظات، بحركة حريصة تدلت بجسدها إلى الجانب فوجدته ملقىً تحت السرير، مدت يدها حتى وصلت إليه لتفتحه وتجد بطاريته على وشك النفاذ، لكنها وجدت فيه كفايتها لإجراء اتصال هام...

كعادته كل يوم، خرج رائد من الشقة التي أودع فيها ردينة وعائلتها حمايةً لها من غدر الخفاش، بعد أن جلب بعض الحاجيات الضرورية، أوصلته ردينة لغاية الباب تمشي خلفه على استحياء، ومحياها قد تورد بفعل مشاعر وليدة لم تحسب لها من قبل حساباً، وقف قرب الباب قبل أن يفتحه ليستدير ناحية ردينة مبتسماً باتساع حين أردفت بخجل عذري: شكرا جزيلا لك حضرة المقدّم، أتعبناك معنا.

زفر نفساً عميقاً بارتياح وهو يجيب بصوت متأثر: لا تشكريني ردينة، أنا في خدمتكم.
دغدغات جميلة جعلت قلبها يخفق راقصاً بين أضلعها لسماعها لاسمها منه، كيف لا وفيه قد اكتملت كل صفات الرجولة والشهامة الأصيلة؟

الحالة ذاتها انتابت رائد إلا أنه يستطيع السيطرة على مشاعره فلا يزحف احمرار الخجل ليطغى عليه كما هو الحال معها، حين أطال النظر إليها انقلب وجهها كحبة طماطم ندية قُطفت قبل لحظات، أردف هو قائلاً بأمر لطيف: لا تفتحي الباب إن لم تسمعي صوتي، وإياكِ والخروج من هنا تحت أي ظرف كان، فهمتِ؟

إنها ذات الوصايا التي يتليها على مسامعها كل يوم، فهزت ردينة رأسها بطاعة ثم خرج رائد عقبها وانتظر حتى أغلقت الباب ثم قفلته بالمفتاح، اطمأن رائد ضمنياً ثم ارتدى قناع الجفاء وهو يضع نظارته الشمسية فوق عينيه، ثم استدار إلى الحارسين اللذين وقفا باستعداد منذ خروجه، ليوصيهم بضرورة المحافظة على أرواح هذه الشاهدة في قضية هامة وعائلتها دون أن يتطرق لأية تفاصيل كالمعتاد، بعد لحظات كان رائد يخطو خارج البناء المؤلف من طابقين أحدهما. خالٍ، وفي نفسه تشتعل الآمال لخطبة ردينة في أقرب وقت ممكن، رنين طويل من هاتفه أخرجه من تفكيره عنوة، زوى مابين حاجبيه وهو يقرأ رقم مياس يهاتفه فأجاب بلهفة مندفعة: مياس؟ استفقتِ أخيراً ياصديقتي؟ كيف حالك؟

بنبرة جادة تحدثت مياس: أنا بخير رائد، هناك مهمة مستعجلة أريدك أن تقوم بها في الحال.
استرعت كلماتها انتباهه خاصة وأنّ اختصارها معه بالحديث ونبرتها لم تعجبه، تلاقى حاجباه باستغراب ليسمع منها تالياً: شخص اسمه عمار يونس، أريد كل المعلومات عنه في ظرف ساعة.

أصابته الدهشة حين سمع بالاسم، لم يعرف ماحدث بالضبط لكنه أيقن أن هذا السبب وراء جفاء صوتها، حاول ألا تظهر الدهشة على نبرته حين أجابها باقتضاب: حاضر مياس، خلال ساعة سيكون عندك تقرير شامل عنه.
دون كلمة أخرى أغلقت مياس الاتصال، ليظلّ رائد شارداً مكانه للحظات، لاريب أنّ أمراً ما قد حدث دون علمه، دون أن يتأخر أكثر استقلّ رائد سيارته متجهاً إلى مستشفى الأورام السرطانية، ليُعلِم عمار بآخر المستجدات.

لن تبقَ في المشفى أكثر من هذا، هذا ماعقدت مياس عليه العزم وهي تحاول الجلوس واضعةً قدميها على الأرض، لكن أنين جسدها بالألم جعلها تعضّ على شفتها السفلى بقوة مصدرةً تأوهاً خافتاً، وبعض الصداع الذي داهم رأسها بقوة غير مسبوقة، ضغطت على أجفانها بقوة وهي تمسّد على جبينها حين شعرت بالباب ينبلج، كان حسام قد دخل يطمئنّ عليها عندما تفاجأ بجلوسها هكذا، همس باسمها بدهشة فسمعته أروى لتهبّ واقفةً بدورها وتدخل هي الأخرى، في حين جفلت عليا بخفة لكنها لم تتبعها، خشيتها من مقابلة مياس بعد انهيارها ثبتتها مكانها، فقط تنفست براحة لسلامتها.

ابتسامة هادئة ارتسمت على محيا أروى حين دلفت إلى مياس لتجلس بقربها على السرير ثم تضمها بسعادة، بينما اكتفت مياس بتربيتة خفيفة على جانب يدها وظلت تعابيرها كما هي، تقدم حسام واضعاً كفيه في معطفه الأبيض متحدثاً ببسمة عمليّة: حمداً لله على سلامتك مياس، فكرتُ أن آتي لأراكِ قبل أن أرحل، وللحق لم أتوقع أن تستفيقي الآن.
بوجهٍ خالٍ من أية تعابير تحدثت مياس باقتضاب جاف: أريد الخروج من هنا.

رفعت أروى رأسها وقد انعقدت ملامحها باستغراب، في حين لم يكن حسام بأقلّ منها دهشةً فحالها لايسمح لها بالمغادرة، أجابها بجبينٍ منعقد وصوت متذبذب: ولكن مياس يجب أن تظلي تحت المراقبة و...
أنا أدرى بوضعي حضرة الطبيب.
بنبرة باردة قاطعته ليردف باستهجان: ولكن...
قاطعت حديثه مجدداً حين أضافت بصبرٍ نافذ: سأوقع على ورقة إخلاء أية مسؤولية لك حضرة الطبيب، إن كان هذا ماتريده.

لم يعد لدى حسام مايضيفه حين رأى إصرارها فتبادل مع اروى نظرات استنكار، لكن كلاهما لم يملك أن يفعل شيئاً عندما استقامت مياس وحدها، فتحدث حسام بتفهم جاد: حسناً مياس كما تشائين، سأكتب لك ورقة الخروج، كذلك سأصف لكِ بعض الأدوية يجب أن تلتزمي بها.
هزت رأسها ليخرج حسام بعد أن استأذن منهما، فسألت مياس: أروى، هل بإمكانك تأمين بعض الملابس لي؟

بدى على وجه أروى الحيرة ولكنها لم تستطع إلا أن تحرك رأسها موافقة لتخرج عقبها، غابت لبضع لحظات ثم عادت حاملةً في يدها كنزةً سوداء وسروالاً قماشياً، قدمتها لها وهي تقول: أعطتني إحدى الممرضات هذه، لا أعرف إن كانت تليق بك؟

لم تأبه مياس لحديثها فقط تناولت الثياب منها ثم دخلت إلى الحمام لتنزع ثوب المشفى، خرجت بعد فترة قصيرة، تناولت هاتفها ثم خرجت دون أن تنبس بحرف، تبعتها أروى وهي تهتف باسمها لكنها لم تتوقف أبداً، مرت بجانب عليا التي انتفضت واقفة لكن مياس لم تتطلع صوبها حتى كأنها لا تُرى، بل تابعت طريقها تدبّ الأرض بخطوات سريعة، توقفت أروى قرب عليا التي حادثتها برجاء: اتبعيها أروى أرجوك، لا تتركيها وحدها.

هزت أروى رأسها ثم هرولت لتلحق بها، فيما أسقطت عليا جسدها على الكرسي وهي تمسّد على صدرها الذي يكاد يختنق، تدرك أنّ مياس تحملها الذنب وحدها، لكن السؤال الذي ينخر عقلها ويجعلها على حافة الجنون، ما الذي فعلته في حياتها لتستحقّ هذا الحظّ العثر؟

أوصلتهما سيارة الأجرة أمام المنزل، فترجلت مياس من فورها لتبقى أروى التي ناولت السائق أجرته لتلحق بها وتحمل في يدها كيساً صغيراً، طرقت مياس على الباب بقوة كأنها لم تعد تطيق صبراً، لتفتح سارة زوجة خالها سعيد الباب، ابتسمت الأخيرة بسعادة وهي تمسك بطرفيّ غطاء رأسها قائلة بغبطة: مياس! سعيدة لسلامتك...

دون أن تنطق بحرف تجاوزتها مياس تحت أنظارها المستغربة، تطلعت سارة تالياً إلى أروى اللاهثة فسألتها بحيرة: مالها مياس؟
نظرت الأخيرة نظرها إلى مياس التي صعدت من فورها إلى غرفتها، فحركت اروى رأسها بنفي وهي ترفع كتفيها بلا حيلة.

ما إن دخلت إلى غرفتها حتى بدأت تجول فيها كوحشٍ سجين، بالكاد تمالكت نفسها للحظات لتضع هاتفها على مقبس الشحن، وصدرها يعلو ويهبط بتتابع مقلق كأنها كانت في سباق، قضمت شفتيها من الداخل حتى كادت تقتطع منها حقاً، شدّت خصلاتها السوداء كأنها تريد اقتلاعها حتى أجفانها لم تعد تسيطر على حركتها فرمشت لا إرادياً، إلى أن أسقطت جسدها على الفراش، أسدلتْ أجفانها حين دخلت أروى حاملةً في يدها كيس الأدوية، تقدمت حتى جلست بجانبها متحدثة برقة: هل أنتِ بخير مياس؟

لو أنها في موقف آخر لكذبت، لكنّ كل مافيها يصرخ ألماً، مسحت أروى على ظهرها بهدوء كأنما تواسيها على فقدها لشيءٍ لاتعرفه، تحدثت مياس أخيراً باختناق: أريد أن استحمّ.
تبسمت الأخرى بلطف قائلة لتدعمها: هي اذهبي، انا سأبقى هنا في حال احتجتني.

ناظرتها بعيونٍ تحبس خلفها حديثاً لا يُقال، كلمة أروى مسّت روحها الصارخة بعذاب الغدر والكذب، كأنما تتأكد من صدقها، إلا أنها تعلم أن أروى لا تكذب، حافظت الأخيرة على نقاء ملامحها وهي تحثها للذهاب، فتحركت مياس بآلية تجرّ قدميها بالقوة عكس دخولها العاصف منذ لحظات، فقد خارت قواها وتعبت.

راقبتها أروى حتى غابت داخل الحمام فسقطت ملامحها المرتاحة، تطلعت إلى كيس الأدوية الذي أعطاها إياه حسام، كانت في معظمها أدوية مضادة للاكتئاب ومسكن للألم، لكن مالفت انتباهها حقاً كانت أنبوبة دواء خاصة بعلاج الجروح والرضوض، الغريب أنها للآن لم تعرف فيما تحتاجه مياس، فهي وعلى حسب ماعلمت فلم تصب بأي رضوض أو جراح تحتاج لدواء، فما القصة؟

الانتظار قاتل، يسري الوقت ببطء مميت يهلك الروح والفؤاد، كيف الحال إن كان انتظار المجهول؟

لم تهدأ أرواحهما العليلة وهما يرقبان عودة هويدا إليهما لتخبرهما بنتيجة الفحص، شعر كمال بالقلق المُضاعف خاصة وأن سعاد لم تتناول منذ الأمس إلا القليل، فيما كانت الأخيرة تلقي رأسها على الوسادة جالسةً نصف جلسة، وترمي شالها على رأسها بإهمال، قُرِع الباب فانتفض كليهما بقلق لتدخل هويدا بملامح وجه حيادية، وبين يديها حملت مغلفاً من الورق الأصفر الشاحب، شعرت سعاد كأن أنفاسها انقطعت ترقباً لما قد تجود به هويدا من أخبار، في حين وقف كمال بجانب سعاد ليمسك بيدها يشدّ عليها بدعم، أو كان هو من يستمدّ الدعم منها، لا يعلم فعلاً!

وقفت هويدا عند نهاية سرير سعاد وكم بدى عليها عدم الراحة لما سيُقال، تطلعت إلى الظرف الذي تحمله لثانية ثم نقلت عينيها إلى وجه سعاد لتلفظ مالديها دفعةً واحدة: للأسف سيدة سعاد لقد كنتُ محقة، أنتِ مصابة بالسرطان في الثدي الأيسر، هذا النوع يدعى سرطان الثدي القنويّ الموضّع ( DCIS).

سقط الخبر فوق رأسها كصخرة عظيمة فتهدج صدرها بأسىً احتلّ تعابيرها، تلقائياً التمعت العبرات داخل مقلتيها لهول الخبر، لآخر لحظة كانت تأمل سعاد أن تُكذب التحاليل شكوك هويدا، لكن أملها خاب، اجترعت جمرة حارقة في حلقها حتى شعرت بنيرانٍ فعلية داخل جوفها، رفعت رأسها ناحية كمال الذي ارتخت يده عن كفها من فرط الصدمة، فوجدت تعابير وجهه لا تُفسّر، تطلع ناحيتها فتتلاقى النظرات المتألمة من صعوبة القدر على كليهما.

شعور الشفقة ناحيتهما تضاعف لدى هويدا التي استصعبت الأمر هي ذاتها، فكيف الحال بهما؟
أردفت بنبرة عادية: الخبر الجيد أنّ الورم في مراحله الأولى، أي أن احتمال سيطرتنا عليه أكبر، وكلما أسرعنا بالعلاج كلما تغلبنا عليه أسرع.
بالكاد تمالك كمال نفسه ليسألها بصوت مبحوح: مالذي يجب أن نفعله الآن حضرة الطبيبة؟

لم تتأخر هويدا بالرد عليه بتقرير: في الواقع سيد كمال هناك خياران أمامنا، إما أن نبدأ بالعلاج الكيميائي ولكن في هذا خطر على صحة الجنين و...
رغم صعوبة الخبر عليها إلا أن غريزة الأمومة داخلها انتفضت بقلق، فقاطعت هويدا بنبرة باكية: لا حضرة الطبيبة، لا أريد علاجاً قد يؤثر على صحة ابني.

تلاقى حاجبي كمال باستهجان حين التفت نحوها قائلاً باستنكار: سمعتِ ماقالته الطبيبة ياسعاد؟ كلما أسرعنا في العلاج نتخلص من المرض بسرعة.
بمقلتيها الدامعة تطلعت إليه لتمسك لكفه راجية بكل ما أوتيت من قوة: أرجوك ياكمال لا أريد أن أؤذي ابني، ولن أقتله بيدي، أرجوك تفهمني.

ثم انحنت على كفه تريد تقبيله ليسحب يده مسرعاً وقد أصابه الذهول من تفكيرها اللامنطقي، ألهذه الدرجة قد استسهلت الموت والألم في سبيل هذا الجنين؟
تحدثت هويدا أخيراً بليونة: هناك حل آخر نستطيع اعتماده، ولكن يجب أن توافقي سيدة سعاد.
كمن أعطتها الحل السحري تبدلت ملامح سعاد إلى السعادة قائلة بلهفة غبية: موافقة أياً كان حضرة الطبيبة، المهم أنه لن يمسّ ابني أي مكروه.
يا آلهي كم هي عظيمة هذه الأم!

رسمت هويدا بسمة مواسية لتردف بتوجس: لا تقلقي، هذا الإجراء لن يمسّ ابنك، ولكنه يمسّ كيانك أنتي؟
لم يكن كمال مرتاحٌ لنبرة هويدا المُقلقة فقال بريبة: ماذا تقصدين حضرة الطبيبة؟ ماهو هذا الإجراء؟
بتردد عظيم طالعته هويدا مجيبة بشفقة: أن نستأصل الثدي كله.

لم يكن هذا الخبر بأهون من الخبر الأول، لكن إن كان عليها الاختيار بين ابنها وبين معلم من معالم أنوثتها ستختار ابنها بلا ريب، فالموت أحبّ إليها من ان تفقده بعد أن رزقها الله به بعد طول عناء وفقد ورد الحبيب.

خرجت مياس بعد ان اغتسلت وقد ارتدت بيجامة رباضية سوداء كما تحب، او كما أصبحت الحياة في نظرها، كان شعرها المبتلّ مازال يتقاطر ماءً فلم تأبه هي، إلا أن أروى ورغم استغرابها من عدم مبالاتها فهي بهذا الشكل ستمرض لا محالة، استقامت من مكانها لتجلب لها منشفةً صغيرة، جلست مياس على فراشها وكأن قواها قد انهارت تماماً، فيما أتت أروى من خلفها لتتبدأ بتجفيف خصلاتها وعلى محياها الهادئ ابتسامة جذابة، فيما مياس كفاقدٍ لعزيز، ليس كأنها بل هي كذلك فعلاً، لقد فقدت جزءاً من روحها وكبرياءها!

تحدثت أروى بلطف حين لاحظت صمتها: بالمناسبة مياس، أعطاني الطبيب حسام بعض الأدوية لك، وشدّد على ضرورة أن تأخذيها في مواعيدها.
اكتفت بإيماءةٍ بسيطة كعلامة استجابة، رغبت أروى في الاسترسال معها في الحديث إلا أن رنين هاتف مياس منعها، فانتفضت الأخيرة من فورها تحت أنظار أروى المدهوشة لتفصله عن المقبس، كان رقم رائد فأجابت باقتضاب آمر: قلْ مالديك.

بصوت واحد ونبرة جاهد رائد أن تكون صادقة قدر المستطاع أخبرها: عمار يونس مغترب منذ خمس وعشرين عاماً مياس، سجله القديم نظيف إلا من مرة واحدة تم القبض عليه فيها في منزل لتسهيل الدعارة، تم سجنه لأيام ثم خرج بكفالة مالية، غادر بعدها البلاد إلى إيطاليا وهناك سجله نظيف تماماً، عمل في محل للحلويات الشرقية هناك ثم أصبح هو نفسه مالكاً لمحالّ عديدة، كوّن ثروة لابأس بها وعاد منذ وقت ليس بطويل ولكن...

كانت تستمع له بجمود دون أن يرفّ لها جفن، لكن ورغما عنها سرطت ريقها بقلق لاتعرف له سبباً حين نطق رائد كلمته الأخيرة، ببلادة حادة أردفت مياس: ولكن ماذا رائد؟
زفر رائد بقوة قبل ان يتابع بأسى صادق: إنه الآن في مشفى الأورام السرطانية، بسبب إصابته بالسرطان في الكبد، وهو في مرحلةٍ متقدمة من المرض.

لا تدري لماذا أثرت تلك الحقيقة فيها فارتجفت يديها حتى سقط الهاتف من يدها دون أن تشعر، تبسمت في البداية بكبرياء مصدوم، لكن إحساس آخر رهيب أصابها، مختلط بمشاعر غير مفهومة لها كوّن غشاءً هائلاً سدّ مجراها التنفسي، تجهم وجهها بغضب غير مبرر، واحتقنت عينيها بدموع لم تسنح لها الفرصة لتتناثر على وجنتيها فتخفف من لهيب اشتعل في صدرها، غابت عن كل ماحولها وشعرها الليلي المبتلّ ترامى على كتفيها وجانبيّ وجهها، لماذا تأثرت إلى هذا الحدّ؟

أليس من المفترض ألا تهتمّ أبداً؟
نعم هذا مايجب أن يكون عليه الحال، لكن لماذا تشعر الآن وكأن سكيناً اقتحمت نحرها فحزّت عنقها؟ لماذا هذا الإحساس بثقلٍ عظيم على ظهرها؟
لم تدرك مياس حقيقة ماتشعر به لكنها أحسّت بقرب انهيارها من جديد، لولا ذراع أروى التي هزتها عندما شعرت بالريبة حيال وقوفها هكذا، اقتربت لتربت على ذراعها متسائلة بحيرة: مياس؟ مالأمر؟ هل أنتِ بخير؟

استدارت إليها ببطء لتهمس بضعف: أريد أدويتي أروى.

ارتجافة طفيفة بجسدها لاحظتها أروى، كذلك قرأت الأسى الذي ارتسم على محيّاها فخشيت انهياراً جديداً يطالها، أماءت فوراً لتحاول إجلاسها فوق الفراش برفق وقد استجابت لها، سرعان ماجلبت أروى الكيس لتخرج لها كبسولة بيضاء من إحدى العلب، من فوق الطاولة الصغيرة تناولت كوب الماء المسنود هناك فاجترعت مياس حبة الدواء بصعوبة، وظلت أنظارهة معلقةً على نقطة فارغة على الأرض، هدأت تماماً بعد لحظات وقد أقلق منظرها وتقلبها السريع أروى فجلست بجانبها لتضمها بلطف هامسةً بتأثر بائن: مياس، حادثيني أرجوكِ.

لأول مرة في حياتها تتقبل مياس أن يحتضنها أحدهم دون الاهتمام لحقيقة مشاعره حتى إن كانت شفقةً، مددت جسدها على الفراش لترمي بثقل رأسها على قدمي أروى التي استغربت من فعلتها فأيقنتْ أن ماخفي من أمرها كان أعظم، بتردد بسيط مسحت أروى على خصلاتها المشعثة بلطف قائلة برجاء: أرجوكِ مياس لاتكتمي داخلك، أخبريني بما تشعرين، فقط لا تصمتي هكذا.

أحنت رأسها لتقبلها على رأسها لتردف بعدها بحنوّ: الصمت مؤذٍ مياس، أثقل من أن تتحمله أرواحنا مهما كانت قوية، لا ترهقي قلبكِ أكثر من هذا، إبكِ ولا تكابري أكثر، البكاء ليس ضعفاً، بل يبعد عن كاهلك كل مايوجعك.

غبار الحزن يلتفّ حول روحها فتخنقه، كعصفورة سقطت تحت الشجرة التي بنت فيها عشها فانكسر جناحها، فلاهي تستطيع التحليق لتعود إلى العش، ولا العش سيرأف بها وينزل إليها، فتبقى تناجيه حتى يتخطفها الموت، نطقت مياس بتلقائية شديدة ونبرة شجن تعيس: أتعرفين ذاك الشعور؟ عندما يكون داخلك بركان يغلي وعواصف غاضبة؟ عندما تحترقين داخلك حرفيا، مع ذلك ترسمين على وجهك ملامح خامدة ومقل خاملة؟
هذه هي أنا ببساطة...

ارتعش كف أروى التي تجمدت فوق وجنتها حين سمعت عبارتها المؤلمة، تفكرت في السبب الذي أودى بها إلى هذه الحال لكنها لم تقف على الحقيقة، شعرت ببللٍ تحت يدها فتطلعت بمقلٍ متسعة عندما أدركت أن مياس تبكي!
حقاً؟
مياس القوية تبكي؟ من كانت تلقبها بالجبل تذرف العبرات؟ أيعقلْ؟
تيقنت أروى حينها أنّ الأمر أكبر مما قد تتخيله...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة