قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثامن والعشرون

(((الألم يغادرنا باكراً، نحن فقط جبناء نظلّ نبكي على الأطلال، ونتمسك بالذكريات الموجعة كطفل خائف يخشى مفارقة أمه. ))).

نفقٌ طويل معتم، و في نهايته بصيص نور ضعيف، وقف أويس مكانه وأنفاسه تخرج من بين شفتيه ساخنة، كان خائفاً ولا يعرف لماذا؟

سار في الممر فشعر بأنّ لخطواته صوت صدى كأنه يسير على سطح حديديّ، لم يأبه فقط أراد الوصول الى نهاية النفق، صارت خطواته أسرع ثم أسرع حتى بدأ بالجري، وكلما اقترب من النهاية كان النور يبتعد ويتضاءل أكثر، همهمات غير مفهومة يسمعها من بعيد، وأطياف غريبة لا يعرفها لكنها مخيفة بدأت تلاحقه، وكل لحظة تنقضّ إحداها عليه تريد اختطافه لكنه قاومها بيديه، شعر كأن النفق يستطيل ويبعد المخرج عنه أكثر فزاد من سرعته حتى تمكن التعب منه، توقف لاهثاً بقوة وقد انحنى مستنداً على ركبتيه ثم هبط راكعاً وخطوط الآسى ارتسمت على محياه، شعر باليأس يتسرب إليه لكن فجأة شعر بوجود أحدٍ آخر معه، هبّ واقفاً في لحظة ليتطلع إلى الخلف فرآى خيال شخص ما يتحرك متقدماً نحوه، ومن حوله كانت فراشات مضيئة.

لكن مهلاً!

اتسعت عيناه عن آخرهما حين أضاء نور الفراشات وجهها ليدرك أنها مياس، محياها تزيّن ببسمة بشوشة جذابة، تحجر مكانه حتى وقفت هي بجواره ثم مدّت يدها صوبه، فأخفض نظره المدهوش نحو كفها، امتدت يده مترددةً ليمسك بيدها ثم تحرك معها ولم يستوعب وجودها بعد، انتبه أنّ الظلام من حوله بدأ يتبدّد، ومخرج النفق بات أقرب، ظلّ أويس يتطلع نحوها مرة وإلى المخرج مرة أخرى حتى أخرجته مياس إلى جنةٍ غنّاء، أغمض عينيه بقوة ورفع كفه ليحجب عن وجهه ضوء الشمس الساطع، وحين فتحهما مجدداً لم يجدها، تلفت حوله باحثاً عنها إلا أنها اختفت كحبة ملح في حوض ماء...

انتفض أويس بعد هذا المنام الغريب، تطلع حوله باستغراب فاستغرقه الأمر بضع دقائق حتى استوعب مكانه وتعرف على غرفته، مسح على وجهه نافخاً بصيق ليتنبه للتوّ إلى أنه مايزال مرتدياً ملابسه، بل وحتى حذاءه، تجعد وجهه بضيق سافر حين توارد إلى ذهنه ومضات سريعة مما حدث معه خلال الأيام القليلة الماضية، مسح على خصلاته الحليقة بقسوة ثم انتفض متجهاً إلى الحمام، يلزمه حمام ساخن ليستفيق ويحضر نفسه للقادم من المصائب...

صدق ظنها وهاهي قد مرضت بالفعل، احتقن أنفها وزحف إحمرار طفيف ليغزو وجنتيها المجعدة، كانت ميادة كرجل آليّ مبرمج تكتفي بنقل الأطباق إلى الطاولة التي توسطت الصالة المغطاة، أثناء هبوط مازن بخطوات بطيئة عن الدرج، فهو الآخر رغم أنه لم ينم سوى ساعتين أو ثلاث لكنّ مشكلة أخاه و منظر والدته صباحاً أقلقا منامه، فاختار أن يحضر ليشاركهم الطعام.

كان رامي قد جلس مكانه للتوّ فبدأت منى بمضايقته حين علّقت أنها لا تصدق بأنه غسل وجهه، أخرج لها لسانه لتبدأ مناوشاتهما المعتادة فزجرهما مازن بغلظة: ألم تكبرا على هذه الحركات؟ اجلسا بأدب.
لم تكفّ منى عن حركاتها فهتف مازن بصرامة: منى، يكفي لعباً.

غاصت في مقعدها رغماً عنها عندما سمعت نبرتها شقيقها غير المازحة، نقل مازن نظره إلى أمه التي تقدمت حاملةً في يدها طبقاً كبيراً من الفول المخلوط مع اللبن والطحينة، ابتسم مازن باتساع وهو يتقدم ليأخذ الطبق منها هاتفاً بحنان: سلمتْ يداكِ أمي.

اكتفت بأيماءةٍ صغيرة وطيف ابتسامة شاحبة كردّ عليه مما زاد من استغرابه، وضع الطبق في الوسط لينادي جهينة التي حضرت خلفها حاملةً الخبز وإبريق الماء فقال: جهينة، مالها أمي؟
تطلعت جهينة إلى باب المطبخ لتتأكد من عدم سماع والدتها لها، ثم عادت إليه لتهمس بخفوت لايسمعه إلاهما: لا أعلم، لكنها لم تتحدث أبداً منذ الصباح.

زوى مابين حاجبيه متطلعاً إلى المطبخ بغرابة، ثم نقل نظره تالياً إلى منى التي سمعت سؤاله فهتفت: يبدو أنها حزينة بسببك يا مازن.
تجعد جبينه بعدم فهم لتردف الأخرى بمكر خبيث: بالطبع، فحضرتك بعد كل تعبها ليلة أمس لأجلك لم تحضر عيد ميلادك، وهذا أحزنها.
زمجرت جهينة بتوبيخ: اصمتي ياقردة، ماهذا الكلام الذي تتفوهين به؟

رفعت منى كتفيها بلا مبالاة لتعلق بعدم اكتراث: أليست هذه الحقيقة؟ ألم تتصل بمازن أكثر من مرة وحتى طلبت منك أن تهاتفيه ولكنه لم يرد؟ حتى أبي لم يكن معنا ليلة أمس.
أصاب حديثها وتراً حساساً في ميادة التي سمعت ماقالته حين لم ينتبه لها أحد منهم، إلا أنها رسمت اللامبالاة على محياها وهي تتقدم منهم لتضع مابيدها قائلة بأمر: يكفي حديثاً، اجلسوا وتناولوا إفطاركم.

شعر مازن بتأنيب الضمير لأنه السبب في إحزان أمه فتحرك حتى ركع أمام الكرسي الذي جلست عليه ميادة متحدثاً بأسف: أمي، أعلم أنني أحزنتك لكني كنتُ مجبراً صدقيني، آسف.
تلألأت العبرات في عينيها وهي تجترع مرارة الموقف برمته، ضمّت شفتيها بقوة وهي ترفع يدها لتضعها على وجنته تحاول الابتسام بشحوب، قائلة بصوت مبحوح: لا تعتذر عزيزي، يكفيني أنك بخير.

تبسم مازن بضعف ليمسك بيدها يقبلها من باطنها، سرعان ما انقبضت ملامحه حين استشعر حرارتها فهتف بوجل: أمي حرارتك مرتفعة!
لم تغب البسمة الشاحبة عن مُحيّاها وهي تشير له نافية مجيبة بوهن: لا تقلق مازن، أنا بخير حبيبي.
كاد يعترض على إدّعائها إلا أنها لم تمهله وهي تسحب يدها لتربت على كتفه مضيفة: هيا لتتناول طعامك.
ثم التفتت إلى أولادها الباقين تحادثهم فيما هي توزع قطع الخبز عليهم: وأنتم ابدؤوا هيا.

تحدثت منى باستغراب: نبدأ؟ ألن ننتظر والدي؟
لوهلة ارتجفت يدها قبل أن تعاود الثبات قائلة بجفاء: لا، لن ننتظره، هيا ابدؤوا.

بعينٍ متمكنة استشعر مازن غضباً ضمنياً من أمه على والده، كما لاحظ جفاءها معهم وإن ادّعت العكس، على غير عادتها لم تهتمّ ميادة لحضور عثمان على رأس طاولة الطعام ونهي أولادها عن البدء بتناول إفطار يوم الجمعة المتأخر دون حضوره، كذلك لم تبادلهم الضحكات أو تعبر عن سعادتها لاجتماعهم هكذا، ولم تترافق جمعتهم تلك بدعواتها المتتالية.

هذا كله جعل مازن يستشفّ أمراً عظيماً من خلفه، بدأ أشقاؤه بتناول الطعام فعلاً وحين حاول الوقوف ليعود مكانه لاحظ عثمان وهو يهبط من الدرج، وعلى غير المعتاد أيضاً لم تنتفض ميادة من مكانها لاستقبال زوجها ولم تأبه به حتى، فيما توقف عثمان في منتصف الدرج وقد انقبضت ملامحه بدهشة عندما رأى أن ميادة والأولاد لم ينتظروه كالعادة، لاحظ مازن تجمد والده وتوقع سبب استغرابه فهتف محاولاً تلطيف الوضع: صباح الخير أبي، تفضل وشاركنا الإفطار؟

طالعه عثمان بجبين منعقد ثم تطلع تالياً إلى ميادة يرمقها بنظرة غريبة يراها مازن للمرة الأولى، أجاب بعد لحظة بنبرة جافة: تناولوه أنتم، لستُ جائعاً.

ارتفع حاجبي مازن بدهشة شاركته بها جهينة التي التفتت نحوه بعينين متسعتين، كليهما لاحظ الغضبة المدهوشة التي سيطرت على والدهما وعدم اهتمام ميادة كما كانت قبلاً، تابع عثمان هبوطه ليغادر المنزل ترافقه عيونهم المستغربة، تنبه مازن إلى صوت ميادة وهي تخاطبه ببرود مفتعل: اجلس قبل أن يبرد الفول مازن.
لحظة واحدة!

كل مايجري اليوم سببه أمر جلل وليس هيّناً البتة، طوال سنواته الخمس وثلاثين لم يشاهد هذه المعاملة الجافة من ميادة، ربما اعتادها من عثمان لكن ميادة؟
لا، لن يسكت أكثر من ذلك، هنالك سر، وسر عظيم أيضاً قلب حالها، وهو لن يرتاح إن لم يعرفه، لكنه الآن مضطر لتأجيل البحث خلفها فأمر أويس مستعجلٌ أكثر، يجب أن يبدأ معه العلاج في أسرع وقت ممكن...

هذه الامتحانات التي يمرّون بها موجعة، صعبة، لكنهم مجبرين على اجتيازها بشكلٍ أو آخر.
خرجت سعاد من المشفى أخيراً بعد أن حددتْ لهم هويدا موعد الجراحة في اليوم التالي، استقلّ ثلاثتهم سيارة كمال التي كان يقودها أحد عماله، شقت السيارة عباب الطريق، وفي داخلها ثلاثة قلوب تحترق وتذوي ألماً، جروحها الطرية مازالت تئن وجعاً سقيماً، وفي داخل كل منهم حكاية و وعذاب لا يُحتمل...

، كانت سعاد تريح رأسها على نافذة السيارة المغلقة تطالع الطريق بمقلٍ شاردة، هي فعلياً لم ترَ شيئاً خارجاً فالتخبط داخلها أعماها عن كل شيء حولها، القلق، الخوف، التردد كلها مشاعر جعلت نفسها المهشمة أصلاً تتمزق أكثر دون أن تجد للخلاص من سبيل.

جاورتها عليا تلك التي لا تعرف حقيقة مايجري داخلها، إنها فقط تشعر كأنها تجلس وسط حفل زفاف والضجيج حولها يجعلها صمّاء فعلياً، مقلتيها أخذت من الدم لونه ومن الجمر حرارته، وذهنها تعطل عن التفكير أو حتى القلق، ببساطة عليا قد زهدت في كل شيء، حتى نفسها.

التفت كمال إلى الخلف ليرى كلتيهما على هذا الشرود المريب، وللحق حاله لم يكن بأهون من حالهما، إنما ولأنه الرجل فيجب أن يظلّ صامداً، لا يُسمح له بالانهيار أو حتى أن يُبدي حزنه وأساه، لأنه ببساطة ضعفه إثمٌ عظيم، فهو ربّ البيت وأساسه المتين.
اصطفت السيارة أمام المنزل منذ لحظات إلا أن أحداً منهم لم يتنبّه حتى تحدث حازم بتردد: لقد وصلنا سيد كمال.

التفت الأخير صوبه فبدى للوهلة الأولى كأنه لم يفهم مقاله، انتبه تالياً إلى باب المنزل الذي بات أمامه، فأشار برأسه ثم حادث الشاردتين خلفه بصرامة متعبة أثناء فتحه للباب: وصلنا، تفضلا.

كانت عليا أول من يستفيق على صوته لتترجل ببطء تسحب قدميها بضعف، تبعتها سعاد التي وجدت يد كمال تمتدّ لتساعدها، رفعت رأسها إليه فقرأت في مقلتيه عتاباً طويلاً، ضغطت على أجفانها للحظة ثم أودعت كفها في يده لتترجل من السيارة، حاوط كتفيها بحنان فأسندت رأسها على صدره، وصوت نبضاته الثائرة تقتحم حجاب رأسها لتصل إليها واضحة، كان فؤاده يصرخ وجعاً وقد أدركت سعاد هذا إلا أنها لا تستطيع شيئاً، فأمر الله نافذ...

فتحت عليا الباب بمفتاحها الخاص لتدلف بتعبٍ بادٍ على ملامحها فاستقبلتها سارة مما أدهشها، قبلتها سارة من وجنتيها بينما هتفت عليا بدهشة: سارة؟ مالذي تفعلينه هنا؟
تراجعت الأخيرة عنها وهي ترمقها ببسمة لطيفة مجيبة: لم يقبل سعيد بأن يترك والدته وحدها في المنزل، فأتينا أمس لنبقى معها، أساساً اليوم جمعة ولا عمل لديّ فالمدرسة مغلقة على أية حال.

هزت عليا رأسها بتفهم وهي تزفر بثقل، تلقائياً انتقلت نظراتها لتتطلع إلى الأعلى حيث غرفة ابنتها فتحدثت سارة فيما هي تمسّد على مرفقها: مياس نائمة، أعطتها أروى دواءها وتأكدت من تغطيتها جيداً.

رمقت عليا زوجة أخاها بنظرات فارغة لتتحرك الأخرى لاستقبال سعاد وكمال، كان التعب قد تمكن من عليا فتحركت بخطوات ثقيلة لتصعد إلى غرفتها، مرّت أمام غرفة مياس فحدّثتها غريزة الوالدة داخلها بأن تدخل لتطمئنّ عليها، امتدت يدها إلى مقبض الباب لكنها أوقفتها في اللحظة الأخيرة حين تدخل كبرياؤها لينهرها، فمياس أخطأت في حقها وهي لن تسامحها بهذه البساطة، رفعت ذقنها بعناد رغم العبرات التي تلألأت في عينيها ثم تابعت مسيرها إلى غرفتها دون الالتفات للخلف...

بمساعدة سارة وكمال، استلقت سعاد على سريرها فقالت سارة بلطف: سأحضر لك كوباً من اللبن، ارتاحي أنتِ.
شكرتها سعاد ببسمة شاحبة فتابعتها بنظراتها حتى اصطدمت بمقلتيّ كمال، تشابكت نظراتهما بمشاعرٍ اختلطت بين اللوم والرجاء والخوف، تقدم كمال حتى جلس بجانبها فأمسكت بكفه لترفعها الى فمها فتقبلها، دون حساب سقطت عبرة من مقلتيها سارع كمال ليمسحها هامساً بعتب: منذ متى يا سعادتي؟ منذ متى وأنتِ بهذه الأنانية؟

أجابته بنشيج هامس: أنا ياكمال؟ ألأنني لا أريد أن أضحي بابني تتهمني بالأنانية؟
قَست نظراته وهو يضيف بتقريع مستنكر: فتضحين بنفسك وحياتك بالمقابل؟
لأجلك يا كمال..
قالت بضعف فتشنج كمال أكثر هاتفاً ليقاطعها بصرامة: لا تتعذري بي يا سعاد فأنا لم أطلب منك هذا.

سالت عبراتها متلاحقة دون جواب منها، في حين ظلّ كمال للحظات يطالعها بقسوة لم تعتدها منه، إلا أنه انهزم أخيراً أمام دموعها المتوجعة فالتفت للجانب الآخر زافراً بهمّ عظيم مدمدماً بكلمات لم تتبينها تحت لسانه، تطلع إليها تالياً وهمّ بمراضاتها إلا أنها لم تسمح له حين استدارت إلى الطرف الآخر، توسّدت فراشها لتعطيه ظهرها سامحةً لدموعها تهبط دون رادع، امتعض من فعلتها لكنه عذرها وأشفق عليها، يدرك كمال أن حبيبته ذات الضفائر حمقاء ولا ترى أبعد من أنفها، ولم تفكر في أبعاد فعلتها، زفر بقوة لينتفض مغادراً غرفتها يسحب خلفه هموماً وأفكاراً أوجعت رأسه لدرجة الانفجار.

شعرت بمغادرته لكنها بقيت على حالها، كوّرت كفها تعضّ عليه و تنتفض كل حين بقهر لايوصف، كمال يحملها المسؤولية كاملة لكنه لايعرف أن الأمر ليس بإرادتها، لقد اختار جنينها الحياة وهي لن تسلبه هذا الحق بيدها، أيحسبُ أنّ الأمر هيّنٌ عليها؟

لا والله! إنها كالقابض على جمرةٍ في يده، لا هو بقادرٍ أن يفلتها ولا هي ترأفُ به فلا تحرقه، لا يدرك كمال عِظَمَ المخاطرة التي تقبلتها بأن تجري عملية الاستئصال، غرورها الأنثوي سيُبتر وكمال سيراها ناقصة مهما حاولت المكابرة، لكن أن يأتي إلى الحياة ابنٌ لها يعوضها وفاة ورد ويكن سنداً لابنتها، نتيجة تستحق كل مخاطرة قد تقدم عليها دون ذرة ندم واحدة...

مهما كبر الرجل وقسا عوده، يعود في أحضان أمه وليداً صغيراً، يبحث بين ذراعيها عن رداءٍ يأويه من برد الظلام والوجع.

دلف كمال إلى غرفة والدته فوجدها جالسةً على كرسيها، واضعة في حِجرها القرآن الكريم، شعرت به رائدة فصدّقت لتغلق المصحف ثم تعيده الى المكتبة المجاورة لها، رفعت رأسها إليه لتقرأ الأسى الكئيب الذي سيطر على محياه، واستشعرت عِظمَ الهمّ الذي يحمله كمال فوق كتفيه، أشارت له بيدها فاقترب كمال بثقل متزايد وكتفين محنيين حتى ركع أمام كرسيها، أسقط رأسه في أحضانها مخرجاً آهاً طويلة بصوت مسموع، مُثقلةً بالشجن والهواجس والوساوس فسألته رائدة بتوجّس: كمال، مالأمر؟

كمن ينتظر سؤالها أجاب كمال بضعف: آهٍ يا أمي، قلبي موجوع..
نبرته المختنقة أوحت لها بأنه على وشك البكاء مما استرعى زيادة قلقها عليه، رفعت رأسه بسبابتها لتواجه عينيه المحتقنة بالدموع فاستهجنت رائدة منظره هاتفة باستنكار: أتبكي يا كمال؟
لم يخجلْ من ذرف العبرات أمامها مجيباً بنشيج: المصاب هذه المرة عظيم يا أمي.
ابتلع غصته التي كتمت أنفاسه ليتابع بشفتين ترتجفان: كل الاختيارات مرة، كلها بطعم العلقم.

تخولت نبرته للهمس حين أضاف: أنا خائف يا أمي، أخاف أن أفقدها.
رغم الشفقة التي أثارها فيها حديث كمال المتوجع، لكن تجهم وجهها وهي تنهره بقسوة: ماهذا الذي أسمع ياكمال؟
أغمض عينيه بضعف وهو يحرك رأسه بضعف فيما تابعت سعاد توبيخها الحاد: لا يمكنك أن تضعف ياكمال، أتسمعني؟ لا يمكنك أن تضعف.
انتحب كمال باستنكار: لماذا لا يمكن؟ ألأنني رجل؟ ألستُ إنساناً يا أمي؟ ألا يحقّ لي بلحظات أضعف فيها وأبكي وأتألم؟

لم تتبدل ملامحها الصارمة أثناء إجابتها الحازمة: بلى، يحقّ لك بلحظات ألم وضعف، لكن لا حق لك بالانهيار المخزي هكذا، أتعلم لماذا؟
ظلّ يتطلع إليها بمقلتيه الباكية فيما تتاابع هي بتعقل صارم: لأنّ من خلفك أضلاع قاصرة تعتمد عليك، إن أنت انهرت فمن سيقوّم وحدتهن؟

بدى وكأن تقريعها الغاضب قد أتى بثماره مع كمال، أحنى نظره الحزين عنها وهي يجترع مرارة حديثها رغم صدقه، لاحظت رائدة هذا فأضافت بحنوّ حازم: كمال ياولدي، كلها ابتلاءات من الله، وإنَّ إظهار الذعر عند حلول النوائب مكروه ومنبوذ، ولاتنسى مقالة السلف الصالح، إنَّك إنْ صبرت، جرى عليك القلم وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعت، جرى عليك القلم وأنت مأزورٌ، فلا تعجز فتكن مصيبتان.

نزل حديثها على قلب كمال نزول الدواء على السقم، وجد في كلماتها حلاوةً لم يستعذبها منذ أن تلاحقت عليه المصائب.
أسدل جفنيه باستسلام أمام الرضا الذي اعترى خافقه العليل، وإن شابه بعض الخوف لكنه ارتضى بكل ما يأتيه من النوائب، عليه الأمل و الدعاء بإلحاح، وكله ثقة بأنّ من قصد بابه الكريم فلن يردّه خائباً، بل سيرجع مجبور الخاطر والفؤاد...

رغم سخونة المياه لكنها لم تنفض عنه شيئاً من الهموم التي حجبت غيوم الأمل في حياته، بالكاد وجد أويس في نفسه بعض الطاقة ليرتدي بذلته الرياضية الرمادية، خرج من الحمام يجرّ قدميه قسراً ليلقي بجسده جالساً فوق السرير، تنهدّ بثقل بالغ وأسدل أجفانه حين سمع طرقاً على بابه، توقع بداية أن تكون والدته وهو حقاً ليس في مزاج رائق لسماع أسئلتها اللامتناهية فاختار عدم الرد، لكنّ الطرق ذاته عاد بقوة أكبر فنفخ أويس بامتعاض هاتفاً بانزعاج: ادخلي أمي.

انشقّ اللوح الخشبي ليمدّ مازن رأسه ببسمةٍ صغيرة قائلاً بمزاح: هل كانت طرقاتي خفيفة إلى هذه الدرجة لتظنّني أمي؟
لم تتغير تعابير أويس المنزعجة وهو يرى شقيقه يدخل إلى غرفته، اكتفى بأن نظر إلى الناحية التانية ربما لأنه توقع سرّ حضور مازن، بينما كان الأخير يهمّ بالجلوس قربه تحدّث أويس بصرامة جافة: لا أريد التحدث عن شيء مازن.

رفع الأخير كوباً من الحليب بالقرفة والزنجبيل لاحظه أويس تواً حين اقتحمت الرائحة القوية أنفه، التفت صوب شقيقه بحاجبين منعقدين ومن مقلتيه قفزت نظرات متسائلة، في حين قال مازن ببسمته اللطيفة: لقد جلبتُ لك الحليب بالقرفة والزنجبيل كما تحب أويس.

رغم عدم تصديقه إلا أن أويس تناول الكوب منه، و قد تنبه لتوّه إلى جوعه إلا أنه لم ينبس بحرف، التفت إلى مازن الذي رفع كتفيه بلا اكتراث فرفع أويس الكوب ليشربه دفعةً واحدة، في هذه اللحظة دلفت جهينة من الباب الذي لم يغلقه مازن خلفه، وبين يديها حملت طبقاً متوسطاً وضعت فيه بعض أطباق الطعام، اعتلى محياها ابتسامة بشوشة وهي تتقدم هاتفة بسعادة مازحة: أهلا أهلا بحضرة النقيب الذي لا يتذكرنا إلا في المناسبات.

سحب مازن طاولةً صغيرة بجوار السرير ليضعها أمام أويس، فوضعت جهينة الطبق من يدها فوق الطاولة لتستقيم واضعة يديها على خصرها، رمقت شقيقها المدهوش بنظرات جانبية قائلة بعتاب: أهكذا تطيل الغياب علينا يا أويس؟ ألا تشتاق لاجتماعنا سوياً ياأخي؟

دائماً ماكان فاشلاً في علاقة الأخوّة خاصة مع شقيقاته البنات، فلم يعرف أويس بمَ يجيبها، أخفض وجهه المتجهم دون إجابة نحو أطباق الطعام لتضيف جهينة بمرح وهي تناوله رغيف الخبز: طبعاً لم يعجبك حديثي فلن ترد، لكنك ستخبرني برأيك بطبق الفول فأنا من حضره.
تحدث مازن بمزاح ليحرك كتلة الجمود الماكث بجانبه: أنتِ لا تعرفين كيف تقلين بيضة يا جهينة، فكيف تركتكِ أمي تحضرين الفول هذا اليوم؟

تجعدت ملامحها بانزعاج من حديثه فاعترضت بنبرة طفولية: قل رأيك بصراحة يامازن، ألم يكن الفول لذيذاً؟
أراح كفيه للخلف ليسند جسده على الفراش متابعاً مزاحه الثقيل: ادعِ فقط ألا نطلب الإسعاف بعد قليل.

ضمّت جهينة شفتيها بقوة وبمقلٍ حادة رمقته إلا أنه لم يتزحزح عن موقفه، فيما كانت رائحة الطعام قد دغدغت معدة أويس الفارغة منذ يومين، فبدأ فعلاً بتناول الطعام دون أن يكترث لشجار أخويه قربه، وضع لقمةً كبيرة من الفول في فمه ومضغها بسرعة من فرط الجوع، لاحظته جهينة فكسى وجهها القلق وهي تنتظر رأيه، لكن لم يبدُ على وجهه أية علامة سواء كانت رضا أم سخط وهو يرفع لقمة أكبر من سابقتها، ضمّت كفيها أمامها وهي تسأله بمكر: حبيبي أويس، أخبرني مارأيك؟

رفع رأسه إليها وبدى كأنه لم يفهم مقصدها فتابعت بتوسل ومقلتيها تكاد تبكي حقا: أرجوك أخبرني أن الفول أعجبك وأن مازن يظلمني..
ثم رفرفت بأهدابها برجاء بريء فما كان من أويس إلا أن استدار إلى مازن مجيباً باعتراض: لا مازن، لقد ظلمت جهينة فالفول لذيذ جداً.
صفقت الأخرى بسعادة وهي تتقافز كطفلة فازت بلعبتها المفضلة للتو، ثم رمقت مازن بحاجبين يتراقصان بانتصار قائلة بهدوء الواثق: رأيتْ؟ أخبرتك.

قلب مازن عينيه بعدم رضا ولم تكدْ تنهي جملتها المنتصرة حتى تطلع أويس ناحيتها مضيفاً بجبين متجعد بجد ونبرة باردة: فقط ينقصه بعض الملح والليمون، والزيت أيضاً.
تعالت ضحكة مازن تشفياً بإحراجها قائلاً بتشفي: لو كنتُ مكانكِ لغطيتُ رأسي بكيس أسود.

امتعضت جهينة التي رسمت ملامح باكية وقد سقط ذراعيها بخذلان، سرعان ماتحولت تعابيرها إلى الغضب فصاحت بهما فيما هي تهمّ بأخذ الطبق من أمام أويس: تعلمان؟ الذنب ذنبي أصلاً لأنني ارتضيتُ أن أُذيقكما طبخي أساساً، هات الطبق.
اعترض أويس بتذمر: لكني لم أشبع بعد!
كشرت بابتسامة صفراء قائلة بتهكم: ألم تقلْ أن طبخي لا يعجبك؟
زوى مابين حاجبيه مُستنكراً: أنا؟ لم أقل هذا.

قهقه مازن ساخراً: لم تقله مباشرة، لكنك قصدته ضمنياً.
نكزه الآخر بكوع ذراعه مدمدماً: اصمتْ أنت، ستأخذ الطعام ولم أشبع بعد.
تركت جهينة الطبق مكانه ثم وقفت قبالة أخويها سائلة بتوجس: حقاً أويس؟ أقصد أن الفول أعجبك؟

هز رأسه موافقاً فارتخت تعابيرها ثم تطلعت بملامح منتصرة صوب مازن الذي جعّد وجهه ساخراً منها، لم تعبئ به بل تحركت لتمشي بثقة وخيلاء وهي تنفض شعرها بلا مبالاة فهتف أويس بمزاح يستشعره في نفسه للمرة الأولى: هيا، واثقة الخطوة تمشي ملكة!

وقفت جهينة عند الباب لترمي له قبلة هوائية، ثم تخرج لسانها لمازن الذي حاول رميها بكوب الحليب الفارغ، قبل أن تهرب بعد أن أدّت مهمتها على أكمل وجه كما اتفقت مع مازن، فيما حرّك أويس رأسه بيأس متمتماً بسخرية أثناء تغميسه قطعة الخبز بطبق الفول: مازالت بلهاء كما هي..
تحدث مازن بنبرة ذات معنى: جيد أنك تذكر أنها كانت بلهاء!

فهم تلميحه الضمني فتجمد فكه عن المضغ لثانية، قبل أن يعاود التحرك ليهمس أويس بجفاء: لا تحاول مازن، طريقتك لن تنفع معي.
رفع كتفيه لا مباليّاً وهو ينفي برأسه، فيما تابع أويس طعامه رغم التجهم الذي كلّل تقاسيمه، انتظر مازن حتى فرغ من الطعام تماماً فقال: بالمناسبة اليوم جمعة.
ناظره بحاجبين متلاقيين بعدم فهم فأضاف الآخر: وقد اقترب وقت الصلاة، سأذهب مع رامي بعد قليل، تعال معنا.

لوهلة تجمد كلّ مافيه حين سمع مقالة أخيه، حاول التهرب قائلا بتأتأة طفل أمسكه والده يسرق متلبساً: لا مازن أنا...
قاطعه الأخير بلا اكتراث فيما هو يستقيم واقفاً: لا تقلق سأرسل لك ثوباً أبيض من خاصتي مع جهينة.
كان قد وصل عند الباب فالتفت إليه مردفاً بمزاح ساخر: صحيح أنني أطول منك وأنت بطول الغرسة
الحديثة لكن لا بأس، أظنّ أنّ ثيابي قد تليق بك.

خرج مباشرة عقبها تاركاً أويس بصدمته من تقريع شقيقه، أشار بسبابته إلى نفسه فيما هو يجول بنظره على جسده العضليّ مستهجناً: أنا قصير بطول الغرسة الحديثة؟

كانت جهينة تنتظر في الممر خارج غرفة أويس، مستندةً بذراعها على السياج الحديدي حين هبّت تعتدل في وقفتها عندما لاحظت مازن يخرج بدوره، تقدم حيالها حين سألته بنبرة شابها التوتر: ها أخبرني؟ مارأيك بي؟
أجابها مازن متهكماً: وتسألينني؟ ماشاء الله ممثلة من الطراز الرفيع!
رفعت ذقنها بإباء قائلة بثقة: بغض النظر عن سخريتك، إلا أنني فعلا ممثلة ممتازة.
سحبها من ذراعها لتمشي معه فتذمر: لا وقت لهذا، تعالي معي.

أدخلها إلى غرفته ثم تركها ليتجه هو إلى خزانة ملابسه، عبث فيها للحظات ثم أخرج منها ثوباً رجولياً طويلاً باللون الأبيض الناصع، توجه به إلى جهينة يناولها إياه ليردف بجد: خذي هذا الثوب إليه ونفذي ما اتفقنا عليه.
أشارت إلى عينيها قائلة ببسمة صغيرة: من عيوني.
ظلّ مازن واقفاً مكانه حتى خرجت فزفر بسرعة، وفي نفسه يأمل فقط بأن تنجح خطته مع شقيقه العنيد.

أويس شخصية سوداوية مغايرة لكل من عالجهم من قبل، خاصة وأنه قد أدرك جزءاً كبيراً من مرضه وتفاصيله، لذا كان عليه أن يتبع معه طريقة مختلفة، وليس أفضل من خلق جوّ من المرح فالهدوء فالسكينة تباعاً ليستدرج أويس، فيخرج الظلام الكامن داخله.

الجيد في كل ماحدث أنّ والدته ميادة قد نامت بعد أن تناولت دواءً وجدته في صيدلية المنزل، هذا سيساعد مازن بإخراج أويس دون أن تؤخره بأسئلتها وتحقيقاتها، مع شكه المقدّم بأنها قد تفعل هذا أساساً...

في كل الضوائق يبقى التوجه إلى الله هو الأفضل بين كل مايُقترح من حلول.

بخطىً مترددة متعثرة في بعضها، تقدم أويس رفقة أخويه مازن ورامي ناحية مسجد الحي، هذا المكان الذي لم يزره منذ زمنٍ طويل جداً، شعر برهبةٍ عظيمة حين أقبل عليه، سرط ريقه بوجل وهو يطالع هذا الصرح البديع بروّاده وليس بشكله، إحسّاس بالغرابة المختلطة بالتوتر طغى عليه وهو يطالع ثوب مازن الأبيض الذي ارتداه، لوهلة لم يتعرف أويس على نفسه بهذا الرداء الطاهر، أجفل حين سحبه مازن من يده عندما لاحظ توقفه فتقدما حتى دخلا إلى باحة المسجد، مال مازن على شقيقه يسأله: هل توضأت؟

بدى أويس بدايةً كأنه لم يفهم مقصده، إلا أنه خاف من التجربة برمتها فحاول التهرب قائلاً بارتباك وتقطع: مازن، أنا، لن أستطيع.
وهمّ بالتحرك بنية المغادرة بالفعل لكنّ مازن كان أسرع حين قبض على ذراعه مردفاً برجاءٍ ليّن: لو سمحت أويس، أنا احترمتُ رغبتكَ عندما رفضت الحديث عن أي شيء، فحقق لي رغبتي هذه أرجوك؟

احتلّت الحيرة والتردد محياه فلم يكن منه إلا أن يرضخ لرجاء مازن الواضح، وقد أدرك الأخير قبوله فسحبه من جديد من ذراعه كأنه طفل قد دخل إلى المسجد للمرة الأولى، ووالده يمسك بكفه ليدلّه على أجزائه، وصلا إلى حيث يتوضأ البقية فشعر أويس بالحرج إذ أنه نسي طريقة الوضوء أصلاً، وقد أدرك مازن هذا فشمّر عن ذراعيه وبدأ بأداء خطوات الوضوء بتمكن وإيمان فقلّده أويس في كل مافعل حتى فرغا كليهما، عاد مازن أدراجه ليقف عند الباب ليخلع حذاءه فقلّده أويس، دلفا للداخل حين كان المقرّئ ينادي على الصلاة فاصطفّ كليهما إلى جانب رامي الذي سبقهما، تسارعت نبضاته لدرجة لم يعد يسيطر عليها، وسكينة رهيبة شعر بها أويس حين كبّر الشيخ تكبيرة الإحرام ليبدأ بتلاوة الفاتحة، أغمض عينيه بسلام وهو يردّد آيات أم الكتاب ليدرك لتوّه أنه لم ينساها أبداً، بل اكتشف أنه مازال يحفظ تجويدها بطريقة صحيحة جداً...

لم تدرك حقاً كيف انتهى بها الأمر نائمةً في سريرها بأريحية، بل وقد غطاها أحدهم، آخر ماتتذكره هو انهيارها ببكاء صامت بطعم مر، وقد احتضنتها أروى بدفءٍ افتقدته مياس حقاً.

استفاقت منذ بعض الوقت، إلا أن روحها منهكة لدرجة لم تجد داخلها الرغبة لفتح مقلتيها فغدره أحدث فيها شرخاً لا يُجبر، حتى عندما شعرت بدخول أحدهم إلى غرفتها لم تُبدِ أية ردة فعل، كانت أروى وقد لاحظت نَفَسَها غير المنتظم فأدركت أنها مستيقظة بالفعل وتتظاهر بالعكس، هزت رأسها بعدم رضا ثم وضعت الطبق الذي تحمله على طاولة قريبة، اتجهت بعدها لترفع الستائر فيقتحم النور الرباني الغرفة مما أجبر مياس على الضغط على أجفانها بضيق، تشكلت ابتسامة لطيفة على مبسم أروى أثناء جلوسها بجانبها على السرير متحدثة بلطف: أعلم أنكِ مستيقظة مياس، هيا اجلسي.

فتحت مقلتيها لتقابل السقف دون أن تأتي بحركة، ثم تنهدت بعمق مجيبة بنبرة خاوية: لا طاقة بي للحديث أروى، دعيني وشأني.
لم تتراجع الأخرى ولم تخبو بسمتها حين اقتربت بجسدها قائلة بتلاعب: ومن قال أنني أتيتُ للحديث معك؟
بالكاد أدارت مياس رأسها صوب ابنة عمتها التي أردفت برفق: جلبتُ معي الطعام، هيا لتتناوليه قبل أن يبرد.

حاولت مياس الاعتدال في جلستها لكنّ آلاماً حارقة في متفرق نواحي جسدها انتابتها أثناء محاولتها، عضت على شفتيها وقد تجعد محياها بعدم راحة
وهي تتمتم بصوت باهت: لا أريد، لا شهية لديّ لشيء.
رمقتها أروى بنظرة جانبية غير مُصدّقةٍ لمقالها، ثم انتفضت لتجلب الطبق وتعود لتجلس مكانها واضعة إياه في حِجرها، رفعت ملعقة ملأتها بحساء العدس لتقربها من فم مياس أثناء تحدثها بصرامة مُضحكة: هيا افتحي فمك بلا دلال.

فعلاً لم يكن لديها رغبة في تناول الطعام، لكنها كذلك لم تَشأ أن تكسف أروى بعد كل مجهوداتها، تبسمت بشحوب ثم فتحت فمها لتأكل محتوى الملعقة، فابتسمت أروى برضا ورفعت ملعقة ثانية قائلة بمزاح لكأنها تحادث ابنة الخمس سنوات: أحسنتِ عزيزتي، والآن ستنهينه كله كفتاة مهذبة.

أنهتِ الطبق كله بالفعل كما طلبت منها أروى، أخرجت الأخيرة منشفة ورقية من جيبها لتمسح شفتيها المُلطخة بحركات هزلية فضحكت مياس رغماً عنها وهي تدفع يدها عنها قائلة بتذمر: يكفي أروى، لستُ صغيرة..

قهقهت بمرح عليها لتستقيم من جديد، أعادت الطبق مكانه لتفتح درجاً صغيراً جوار السرير مخرجةً كيس الأدوية، عادت مكانها لتحلّ عقدة الكيس وتخرج علبة دواء أخرى، ليس ذاته الذي تناولته مياس قبل أن تسقط غافية مكانها، ناولتها أروى كبسولة وكوب الماء فأخذتهما مياس لتتناول الكبسولة، أعادت أروى الدواء مكانه قبل أن يلفت انتباهها أنبوبة الدواء، أخرجتها قاصدةً فتنبهت الأخرى إليها، لم تتعرف مياس إليها بداية إلا أن سؤال أروى جعلها تدرك وظيفتها: مياس، هذا الدواء لمعالجة الرضوض والجروح، لكن وعلى حسب ماعلمتْ فإن الحادثة لم تسبّب لكِ أية جراح، فلماذا...؟

قطعت سؤالها بطريقة موحية فتجهم وجه مياس تلقائياً، ظلّت صامتة للحظات ولم يكن لديها نية في استعماله، لكنها تذكرت الألم الذي تستشعره مكان جلد السوط على جسدها، تطلعت صوب أروى كأنها تتأكد إن كانت أهلاً للثقة أم لا، حتى استسلمت في النهاية فالشك في جميع من حولك متعب للأعصاب، تنهدت بتعب ثم همست تخبرها فيما هي تعبث بكفيها: بلى أروى، لقد تسبّبت الحادثة بالعديد من الرضوض في جسمي، لكن الطبيب على مايبدو لم يرغب بإخباركم الحقيقة.

صمتت لثانية قبل أن تتابع بهمس يكاد لا يسمع: وحسناً فعل.
لم تفهم أروى حرفاً مما قالته مياس فتساءلت بشك: مالذي تقصدينه مياس؟ لم أفهم!
ظلّت للحظات تطالع كفيها وهي تلاعب أصابعها، أردفت عقبها بصوت حازم شابه الاختناق: سأخبرك، لكن عديني بألا تخبري أحداً.
استرابت أروى في أمرها أكثر فأكدت بصبر نافذ: أعدك لن أخبر أحداً مياس، أخبريني ماذا تقصدين؟

لم ترفع عينيها إليها بعد لكنها شعرت بغصة موجعة في حلقها، نفضت الغطاء عنها لتجلس بجوار أروى موليةً إياها ظهرها، بحركة سريعة خلعت سترتها الرياضية لتبقى بملابسها الداخلية، شهقت أروى لتغطي فمها بيدها بفزع وقد تلألأت مقلتيها بالدموع، المنظر الذي رأته ليس هيّناً ولا بسيطاً، خطوط طولية وعرضية احتلّت جانب مياس وظهرها، تدرجت مابين الأزرق الداكن والأحمر والأخضر، ظلّت مياس تتطلع إلى نقطة فارغة أمامها تجزّ على فكيها بغضب كامن، وهي تقاوم دموعاً كاوية أحرقت مقلتيها، أسدلت أجفانها بقوة وهي تنتفض بخفة حين حاولت أروى ملامسة أحد الآثار على كتفها، اعتذرت الأخيرة بسرعة وقد اختنق صوتها: آسفة آسفة، هل آلمتك؟

هزت رأسها بنفي ضعيف وهي تضمّ شفتيها بقوة، استغرقت أروى بضع لحظات حتى تمالكت نفسها لتسألها بشفقة: هل كان هذا السبب في انهيارك مياس؟
فتحت مقلتيها الخاوية لتجيب بنبرة خالية من أية علامة للحياة: هذا كان المقدمة، لكن ما تبعه فيما بعد كان أقسى من هذا أروى.
بدت أروى كالحائرة وهي ترى المنظر الموجع أمامها وتسمع حديث مياس غير المفهوم، بلعت ريقها متسائلةً بنشيج باكٍ: ما الذي تقصدينه مياس؟ لا أفهمك؟

لم تستجب لها فأردفت الأخرى برجاء صادق: أرجوك مياس لا تكتمي داخلك، أفرغي ما يؤلمك عزيزتي.
تنهدت مياس بتعب بالغ وقد أنهكها الصمت وافترس جزءاً من تماسكها وقوّتها، وجدت في داخلها بعض الرغبة لمشاركة أروى بما يؤلمها، فإيجاد شريك في الألم قد يخفّف من هول الأوجاع، اجترعت غصة مريرة ثم طفقت تتحدث بضعف، لتسرد لأروى ماتلقته من طعنات الخيانة، وما اجترعته من مرارة الخذلان والخيبة...

ما أبهاه من سكون وسلام!
كانت هذه الجملة يرددها خافق أويس بعد انتهاء الصلاة وتفرّق المصلّين، اقترح مازن بأن يخرجا ليتمشيا على الرصيف البحري، وعلى عكس ماتوقع لم يعاند أويس أو يرفض بل كان الهدوء هو المسيطر عليه منذ أن فرغ من الصلاة، ارتاب مازن في أمره بداية ولا ينكر بعض القلق الذي تسلّل إليه، خشي أن يكون هذا الهدوء هو ذاته ماقبل الانفجار.

بينما كان يفكر في أمر شقيقه كان هناك أمر آخر يشغله، فهو لم يرَ عثمان في المسجد مع المصلين، وهو يعلم بأنّ والده لن يُفوّت الصلاة مهما كانت الظروف، فأين عساه ذهب؟

أما أويس، فشعر ببرود غريب يغزو أحشاءه، يشعر وكأنه فقد القدرة على الإحساس بأي شيء، وزاد هذا الفراغ نسيم البحر العذب رغم ملوحة أمواجه، توقف فجأة. ليستند إلى الحاجز الحديدي أمامه مما استرعى انتباه مازن الذي جاراه بالفعل، شبك كفيّه ببعضهما وظلّ للحظات طوال دون أن ينبس بحرف، الغريب في كل هذا أن عقله قد توقف نهائياً، عن التفكير والذكريات وحتى عن جلد الذات، لم يعد يُحمل نفسه أي ذنب أو خطيئة، باختصار كان أويس خاوياً تماماً في هذه اللحظة...

راقبه مازن بطرف عينه دون أن يبعث فيه الشك، وقد ساد صمتٌ هادئ لا يقطعه سوى ارتطام أمواج البحر بالصخور المجاورة بقسوة كأنها تعاقبها على ذنبٍ لم تقترفه.

شعر أويس بهدوء نفسي غريب لم يستشعره منذ أمدٍ طويل جداً، فاختار مازن الصمت للحظات احتراماً لهدوء أخيه لكنه لم يطق السكوت أكثر، تنهد بصوت مسموع ثم قال بنبرة مقصودة: أصعب شعور قد تعايشه هو أن تئن بصمت، لاتجرؤ على إظهار عبراتك حتى أمام الأقرب إليك، تخاف أن يرى فيك ضعفاً أنت تحاربه وتحاول اغتياله.

سمعه أويس منذ بداية الحديث لكنه لم يحرك ساكناً، حتى تابع مازن باهتمام: المعضلة أن أحدنا يعتقد بأنه يجب أن يظلّ قوياً ولا يضعف مهما حدث، وهذا اعتقاد خاطئ للغاية، فنحن بشر في النهاية.
كان قد فقد الأمل من مشاركة أويس له، لكنّ الأخير خيّب ظنّه حين أردف بنبرة نفذ فيها رصيد الحياة: ليست كل لحظات الضعف متشابهة يا مازن، بعضها قد يودي بك إلى الهلاك.
تنهد بقوة مسموعة مضيفاً ببرود: حتى الثقة أحياناً ضعف.

يعترف بأنه لم يفهم مقصده، لكن تشكلت بسمة انتصار على محياه فقد التقط خيطاً يوصله الى خبايا أويس، فتابع برفق يحاول استدراجه ليخرج من حالة العزلة: ربما، هذا إن لم نحسن اختيار الشخص الذي نضع ثقتنا فيه.
علق نظراته عليه حين أضاف بنبرة ذات معنى: مثلاً ثقتك في مياس كانت في محلها، صحيح؟ أنت تسرعتَ في الحكم عليها فقط.

التفت حتى قابله بجسده ليردف بتوضيح: لاداعي لأن تخفي الأمر عني أويس، فقد أخبرني طارق بكل شيء، وما رأيته في عينيك تلك الليلة لم تكن مجرد مشاعر عابرة في نفسك لمياس..
رغم ماقاله لكن أويس لم يبدِ أية ردة فعل، فقال الآخر بجد: أنا على يقينٍ مما رأيتُ أويس، لكنك آذيتها يا أخي.

أسدل الآخر أجفانه باستسلام فمازن قد لمس داخله وتراً حساساً، خاصة حين اقترب مازن ليربت على كتفه، ثم أكمل حديثه بنبرة هادئة ذات مغزى فتحت عينيّ أويس على أمرٍ نساه، أو ربما تناساه غباءً: أويس، عندما يصبح حبك مؤذياً تراجع، خذ استراحة محارب، لا تكن كصغيرٍ يرفض العلاج لإنه مر، ففي بعض المرار يكمن الشفاء...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة