قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الأربعون

((( أنا لستُ وحيدةً، معي خيبتي وخذلاني، معي أحلام سقيمة وقلب مكسور، معي أنفاسٌ مسروقة مشبعة بعطره الذي لم يغادر مخيلتي، معي ملامح وجهه التي باتت حلماً بعيد التحقق ))).

تأخرت عن موعد المراجعة عند طبيبتها لثلاثة أيام كاملة، ولولا اتصال هويدا بكمال الناسي هو الآخر لما تذكره أحدهما، لم يثر عليها كمال ولم يعاتبها حتى فحالتها أسوأ من أن تحتمل كلمة توبيخ فراعى نفسيتها، لكنها لم تحسب الأمر بهذه الطريقة، بل ظنت أنه لم يعد يهتمّ لأمرها ولا يعنيه إن راجعت طبيبتها أم لا، ببساطة تفكير سعاد آخذٌ بالانحدار بغباء وقوة...

بجسد نحيل ووجه شاحب وروح منطفئة، رقدت سعاد فوق السرير الطبي المخصص لتقوم هويدا بفحصها، بالكاد بادلتها بضع كلمات لتجيب على أسئلتها الطبية، لاحظت هويدا تبدل حال سعاد المريب، هي حتى لم تسعد عندما أخبرتها بأن الخلايا السرطانية قد اختفت، ولا فرحت حين سمعت نبضات قلب طفلها، ولم تهتم لحضور كمال من عدمه وقتها، اكتفت ببضع عبرات ذرفتها لم تعرف هويدا كنهها، لكنها بعيدة كل البعد عن دموع الفرح.

أنهت هويدا الفحص فتركت سعاد برفقة ممرضة لتساعدها على ارتداء ملابسها، ودون انتباه سعاد غمزت للممرضة بأن تؤخرها قدر المستطاع لتسنح لها الفرصة بالاختلاء بكمال، خرجت هويدا من غرفة الفحص لتجده ينتظرها في الرواق، أقبل عليها بلهفة حاول مداراتها لكنه فشل: أخبريني حضرة الطبيبة، كيف حال سعاد الآن؟

حاولت هويدا ادّعاء الابتسام لكنها لم تستطع أمام مارأته من حال سعاد فأجابت: السيدة سعاد بخير جسديا ياسيد كمال، أما نفسياً فلا أظنّ هذا.
لم يدرك كمال مغزى حديثها فأردفت الأخرى بصراحة مستهجنة: نفسية السيدة سعاد متدهورة بشكل كبير، ألم تلاحظ هذا ياسيد كمال؟
تلجلج الأخير اثناء إجابته المتقطعة: أجل لاحظت هذا ولكن، لكن سعاد لم تحادثني بشيء!

رفعت حاجبيها بذهول من إجابته الساذجة من وجهة نظرها فعقبت باستنكار: هل كنتَ تنتظر السيدة سعاد لتتحدث؟
ألجمته كلماتها فالتزم الصمت المطبق لتتراجع هويدا خطوة للخلف هامسةً بتأنيب: لم أتوقع منك إجابة كهذه ياسيد كمال، مما رأيته منك في غرفة العمليات اعتقدتُ أنك تفهم السيدة سعاد جيداً، وأنك مدركٌ لما أنتم مقبلون عليه، لذا لم أحدثك بشيء.

أحنت رأسها لتتعلق بالأرضية بخزي لتضيف بتوبيخ لنفسها: لكني أتحمل جزءاً من الذنب أيضاً، كان يجب أن أخبرك بما ستواجهه مع السيدة سعاد.
ساهمت كلماتها الهامسة في زيادة قلق كمال الذي ضاق صدره، فزمجر بحدة بسيطة: هلّا أفهمتني ماتقصدين حضرة الطبيبة؟
رفعت رأسها لتبادله الحدّة ذاتها: أقصد أنك يجب أن تجلس مع زوجتك لتفهم مالذي تعانيه.
بشبح عصبية بان في نبرته أردف: هي لا تريد التحدث...

قاطعته بدورها بإصرار: حاول معها مرة واثنتين وعشرة، أجبرها على التحدث لو اضطر الأمر، المهم ألا تظلّ على حالها هذا، فالحالة النفسية التي تعانيها زوجتك قد تضر بالجنين لا قدر الله.
تراجع للخلف مع تقريع هويدا والتي تابعت بنبرة أهدأ: إن ثقتها بنفسها مهتزة وأقل كلمة قد تؤثر بها، أرجوك حاول أن تحادثها بلطف وابتعد عن الانفعال قدر المستطاع.

تراجعت عنه لتقول أخيرا وهي تناوله ورقة صغيرة: كتبتُ لها على أدوية مقوية وبعض الفيتامينات، احرص على أن تتناولها في وقتها ولا تنسَ موعد المراجعة بعد أسبوعين.
أخذ منها الورقة لتغادر هويدا وقد فتحت عيناه على حقائق كثيرة كان يتجاهلها طول الوقت، زوجته متعبة نفسياً وبحاجة وجوده قربها، لكنه كالأبله ابتعد معتقداً أنه يمنحها مساحة خاصة، يا لحماقته فعلاً...

في أقصى اقصى أحلامه لم يتخيل أن يراها بهذا القرب، حلم كثيراً بلحظة تجمعهما لكنه ظنها مجرد أضغاث أحلام، إلا أنها الآن هنا، أمامه مباشرة ومعه في نفس الغرفة.

اعتدل عمار جالساً ليرى الوجه الذي سكن أحلامه متمثلاً أمامه حقيقة، تقدمت عليا حتى جلست على طرف السرير محافظةً على مسافةٍ جيدة بينهما، كلّ ماأعدته من حديث مسبقاً تبخر الآن أمام هزال جسده الواضح ووجنتيه المحدودبتين، وقد أخذ المرض منه مأخذاً عظيماً حتى بات جسمه عبارة عن مجرد عظيمات متهالكة وجلد شاحب يغطيها، ضغطت على شفتيها لتنظر إليه قائلة بهمس خافت: كيف حالك؟

تشوش نظره محاولاً الابتسام ثم أجابها بصدق وصوت متأثر: الآن أصبحتُ بخير، الآن فقط ياعليا.

قال اسمها وكأنه يتلذذ به، كأنه ترياق شافٍ لكل الأوجاع والآلام التي تعصف بجسده الضعيف، تصنعت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تتهرب من نطاق أنظاره، جلوسها هكذا على استحياء بقربه بعث داخله الحنين لذكريات كثيرة، يوم أن كانت أجرأ من هذا بأشواط لتسترضيه، أدرك عمار الآن حجم خسارته الحقيقية، أمثال عليا بنات الأصول خسارتها مخزية لا تعوض، الحب يتمثل أمامه كمعلم يمسك عصاً طويلة فيصفعه على ظهر يده معاقباً، بكل ماأوتي من مشاعر صادقة أخبرها: أنا آسف ياعليا، آسف على كل دمعةٍ ذرفتها بسببي، على كل ليلةٍ تركتكِ فيها وحدك، على كل وجع سببته لك وكل لحظة ألم، سامحيني أرجوكِ.

منذ أن ابتدأ اعتذاره الصريح تطلعت عليا ناحيته، ساد صمتٌ تام لبضع ثوان وهو يحاول ترتيب كلماته ثم تابع بصدق ونشيجٍ باكٍ: عرفتُ هذا متأخراً جداً ولكني...
اجترع غصة عظيمة في حلقه ثم أردف: لكني أحبكِ ياعليا صدقيني...

منذ أن فجر قنبلته المدوية أغلقت الاتصال في وجهه و قررت المغادرة الى مركز المكافحة، لكن كان عليها بداية أن تخبر والدتها برحيلها فحاولت محادثتها هاتفياً لكن على مايبدو كان الاتصال رديئاً عند عليا، فقررت مياس العودة إليها لتخبرها بنفسها، وصلت إلى جانب الباب الذي تركته مفتوحاً قبل قليل لتسمع اعتذار والدها الصادق، شعرت مياس بعظم الندم الذي يعايشه من خلال حديثه، لكنها انتظرت حتى تسمع ردّ عليا التي أطالت الصمت حتى نطقت أخيراً بلين رغم قسوة كلماتها: أسامحك ياعمار، لكني لن أستطيع مبادلتك للأسف، فالحب والمشاعر التي تأتي بعد وقتها تكون عديمة النفع والتأثير.

رعشة عظيمة سَرَتْ في جسدها وذات الكلمات تتكرر في أذنها لكن بصوتها هي، وبنبرة أكثر قسوةً وإيلاماً وجهت ذات العبارة لأويس، الآن فقط أدركت كم كانت قاسية عليه حينها، أسدلت مياس جفنيها وهي تميل لتستند على الحائط، ثم سمعت عليا تواسي والدها الذي أوجعته: لا أريد أن أقسو عليك ياعمار، لكني أيضاً لا أريد أن أخدعك، وبغضّ النظر عمّا حصل بيننا في الماضي فأنت والد ابنتي، أريدك أن تُشفى لأجلها، أما نحن فأظن أننا خسرنا فرصتنا.

جَزِع عمار في بداية حديثها إلا أنه لا يستطيع الإنكار، ربما طمع بأكثر مما يستحق فعلاً، رغم الدموع التي تترقرق داخل عينيه حاول الابتسام قائلا بنبرة متأثرة: أتعنين أن مياس سامحتني كذلك؟
بادلته بسمة رقيقة وهي ترفع كتفيها أثناء إجابتها بجدية: هي لم تقل هذا مباشرة ولكن، أعتقد أنها فعلت.
تنهد براحة وهو يسند ظهره إلى الخلف هامساً برضى: وهذا يكفيني لأموت مرتاحاً.
حقاً! هل كان عليه انتزاعها بقسوة هكذا!؟

زفرت بضيق لتعود إلى محياها جامد الملامح، ثم دفعت الباب الموارب لتحادث والدتها بصلابة: أنا مضطرة للرحيل حالاً أمي، تريدين أن أوصلك في طريقي؟
انقلابها المباغت كان مفاجئاً لهما فطالعاها باستغراب، إلا أن عليا شكّت في السبب فأجابتها برفق: سأبقى قليلاً بعد مياس، لاتقلقي عليّ حبيبتي.
هزت رأسها بتفهم وهي تتحاشى النظر نحوه فسارع عمار قائلاً قبل أن ترحل: هل ستعودين مجدداً مياس؟

كانت نبرته متوسلة لاتخطئها الأذن، ناظرته بعينين غاضبتين وفي خلفيتهما التمع دمع الخذلان، جزت على أسنانها بكمد قبل أن تجيب ببرود مُقتضب: لا أعلم.
غادرت من فورها دون انتظار كلمة أخرى من أيٍّ منهما، رحلت والتخبّط داخلها يتزايد، متى ستتخلص من هذه الحيرة والضياع؟ إلى متى ستظلّ مكانك راوح لاهي تتقدم ولا هي تنسى؟ متى ستذوق طعم الراحة؟ بحق الله متى؟

حاولت قدر المستطاع تنفيذ وعدها لكن الأمر ليس سهلاً، كنحلة تائهةٍ عن سربها راحت أروى تدور في المنزل بحيرة، حاولت في البداية إشغال نفسها في الدراسة لكنها فشلت، فترجلت إلى الأسفل لتحاول إلهاء عقلها عن التفكير فيه لكن محاولتها أيضا كان نصيبها الخيبة، بطريقة لم تتخيلها استحوذ غريب على تفكيرها، وتعلق فؤادها به بشكل غريب للغاية.

وقفت أروى تجفف طبقاً بمنديل خاص لكنها علقت نظرها على نقطة فارغة، شردت في حديث مياس لكن عقلها تلقائيا أخذها من يد قلبها إلى اعتراف غريب، نعم هي لم تعرفه إلا منذ أيام قلائل لكنه نجح بتكوين كيان خاص به لديها، استطاع خلال هذه الفترة القصيرة أن يطبع بصمةً خاصة في روحها، ابتسمت بلا وعيّ وحين تنبهت لهذا نفخت بحنق وهي تضع الطبق مكانه بلا مبالاة، تطلعت حولها لتجد نفسها قد أنهت كل الأعمال المنزلية المتعلقة، فبمَ ستشغل نفسها الآن؟

رمت المنديل القطني من يدها لتخرج إلى الصالة الكبيرة، أصابها الملل ولا أحد في المنزل ليخرجها من هذه الحال، فوالدتها لديها مراجعة عند الطبيبة هويدا وجدتها في بيت عمها سعيد، حملت أروى مرشة المياه الصغيرة وتوجهت إلى بركة الماء وسط الصالة المكشوفة، ملأت المرشة ثم شرعت بسقاية الزرع والورود التي ملأت زوايا المنزل، بتلاعب طفولي ذكرها عقلها بأنّها لم تسقي أزهارها اليوم، تطلعت ناحية البوابة المؤدية الى الحديقة الخلفية فالتمعت عينيها بالأمل، سرعان ماوأدته وهي تنهر قلبها بغلظة مذكرة نفسها بوعدها لمياس، عادت إلى سقاية النباتات لتعود تلك الحجة البالية إلى الظهور بشكل أقوى، هي لن تذهب إليه ولن تحادثه، ستذهب لتسقي زهورها ومياس لن تعترض بالتأكيد...

لم يهجع من الليل إلا قليلا، كلما ادّعى النوم تراءى له طيفها ليحتلّ أحلامه فيحرمه السُّهاد، قضى ماتبقى من ليلة أمس إما تائهاً بين صفحات إحدى الروايات التي جلبتها له، أو أنه يتقلب على جمر الهوى والقلق، خاصة وأن وجه تلك الضابط لم يرحهْ، ماذا لو أنها أخبرتْ كمال فتتسبب بمشكلة لأروى؟ أو الأدهى أن يقوم كمال بطرده من منزله؟

عند هذه الخاطرة انتفض فؤاده بين ضلوعه بكمد، مجرد التفكير في الابتعاد عنها جعله كطفل يخاف أن يفقد حلواه المفضلة، ظلّ غريب ينتظر شروق الشمس ومقلتيه معلقةٌ على البوابة الفاصلة بين الحديقة والمنزل ينتظر المجهول، لكن لم يظهر أحد حتى سمع صرير سيارة كمال تتحرك فوق الطريق فأدرك أن غادر دون خسائر فتنفس براحة...

شعر برأسه يكاد ينفجر بسبب قلة النوم، أسند رأسه إلى إطار النافذة فرآى زهرة الياسمين تتفتح برقة كأنها تلقي عليه تحية الصباح، تبسم بخفة متنهداً بعمق كأنه يودع تلك الرائحة في ذاكرته، وطيف تلك الفاتنة البريئة يرتسم أمامه.

هذه الطفلة الجميلة سيطرت عليه، صوّبت سهامها الخفية إليه لتصيب خافقه الأسود، أزالت الحشائش الذابلة فيه ورممتْ طرقه المتشققة فأحالته قلباً طبيعياً ينبض بمشاعر مقدسة كان لوقت قريب ينكر تواجدها، كيف لها أن تفعل به الأفاعيل من نظرة أو همسة بحق الله كيف؟

تراءى له طيفٌ يتحرك من بعيد فرفع غريب مقلتيه التي التمعت صوبها، كانت هي، أميرته الفاتنة بثوبها البنفسجي، تحاشت النظر نحوه بدايةً وهي تتهادى بمشيتها لكن قلبها خانها فنظرت إليه بوجه يشع ألقا وحياة، واحمرارٌ خجول زحف على وجنتيها ماإن انتفض غريب من مكانه ليخرج إليها، أسرع لينحني يريد حمل المرشة عنها قائلاً بنبرة هادئة بجد: هاتها عنك.

سلمتها له دون أن تتلامس أيديهما، فوقفت للحظة تهدئ خافقها الثائر بنبضات عنيفة كادت تقطع نَفَسها للحظة، لم تستطع التقدم ولا التراجع وعقلها يجلدها لأنها نكثت بعهدها، نفخت بخفة محاولةً إقناع نفسها بأنها لاتفعل شيئاً خاطئاً، راقبته من مكانها وهو يسقي زهرات الإقحوان برفق فابتسمت لا إرادياً، هبت عليه نسائم عليلة فالتفت ناحيتها ليبادلها بأخرى كادت ترديها قتيلة على الفور، أخفضت نظرها عنه بحرج وتلك الحُمرة الجذابة زيّنت وجنتيها فكانتا أشبه بوردةٍ جورية تفتحت صباحاً، تقدمت لتجلس على حجرها وحين أنهى عمله جلس مكانه محافظاً على مسافة جيدة بينهما، ترفع ناظريها نحوه ثم تخفضه مجدداً ببسمة ساذجة، لم تكن تلك الدلالات إلا تعبيراً واضحاً عن مشاعرها النقية، لكنها مبتدئة بأركان الغرام ومجذوبة في تعاليمه، فلم تدرك منه سوى تلك الخفقة المضطربة وحمرة الخجل...

لم يكن ليطمع في أكثر من هذا، لقد عادت وهذا معناه أن مياس لم تخبر أحداً، لمعة عينها أخبرته عن حقيقة مشاعرها ولا يحتاج لاعتراف، عودتها أكبر دليل، ولا ضرورة للحديث، فكلام المقل أعمق وأصدق...

مرّت اللحظات في صفاء تام حتى أجلت أروى حلقها قائلة بلهجة متذبذبة: مياس جعلتني أعدها ألا آتي إلى هنا ليلاً.
تجهمت ملامحه بضيق سرعان ما ادّعى الابتسام وهو يحرك رأسه بتفهم، عاد الصمت قبل تقطعه أروى من جديد متحدثة بحماس طفيف: أخبرني إذاً؟ هل قرأتَ شيئاً من الكتب التي أحضرتها لك؟
اتسعت ابتسامته حين أجاب: بلى، في الأمس أنهيتُ روايةً جميلة، أعجبتني كثيراً ولم أستطع تركها حتى أنهيتها كلها.

كوّرت كفيها أثناء سؤالها: حقاً؟ أيّ واحدة هي؟
اسمها كنان، تتحدث عن شاب عربي يعمل مدرساً في إحدى المدارس الفرنسية، ويلتقي بوالدة إحدى طالباته فيقع في غرامها، كانت أحداثها شيقة وجميلة جدا.
تغضن جبينها باستغراب فقالت ببسمة ودودة: نعم أذكر تلك القصة، قرأتها منذ ثلاث سنوات على ماأعتقد.
سألها بتسلية: ما أفضل المشاهد التي لامست قلبك فعلاً؟

تنهدت وهي توجه نظرها إلى أزهار الإقحوان مجيبة بشرود قليل: أفضل المشاهد حين أنقذ كنان ابنة البطلة من الغرق، حينها مال قلبها إليه رغم كل المشاكل التي تعايشها في حياتها.
التفتت ناحيته لتسأله بدورها: وأنت؟ ما أجمل المشاهد التي قرأتها؟
تنهد الآخر بقوة ليخبرها: أجمل مشهد قرأته كان حين اعترفت وقالت بالفرنسية je t aime.
تلاقى حاجبيها محاولةً تذكر تلك الجملة لكنها فشلت فأردفت: لا أذكر هذه العبارة، مامعناها؟

ببسمةٍ عريضة أجاب والصدق يتقاطر من مقلتيه، ووميض الحب داخلهما كضوء منارة بحرية وسط العاصفة يراه حتى الأعمى: أنا أحبك.

شحب وجهها دفعةً واحدة وجفّ ريقها وهي تستشعر رسالته المخفية، زاد احمرار وجهها حتى شعرت بأنها ستتبخر حرفياً من فرط الخجل، رغم هذا كله ارتسمت ابتسامةٌ مُستحية على ثغرها، وفي لحظة هبّت واقفة لتجري من أمامه كأنها تهرب من غول مخيف، فاستقام بهدوء يراقبها ببسمة سعيدة حتى اختفت، لقد عنى تلك الكلمة حقاً، إنه يحبها بإفراط، لا تسأله متى وكيف لكن غريب يدرك أنه غارقٌ حتى أذنيه، فلا معنى آخر لما يشعر به حيالها سوى أنه عاشق حدّ الثمالة...

أغلقت الباب بقوة من خلفها واستندت عليه، اختلج خافقها بعنف وهي تتنفس بسرعة وعدم انتظام حتى باتت على وشك السقوط مغشياً عليها، شفتيها ترتعش حتى فقدت السيطرة عليهما فرفعت يدها لتغطي فمها المنفرج بذهول، هذه المرة الثانية التي يُسمعها إياها لكن وكأنها أول مرة، استشعرت قرب سقوطها فقدميها أصبحتا هلاميّتان للغاية، سارت بتهادٍ حتى جلست فوق فراشها تحتضن وجنتيها المشعتين بحرارة، أسدلت جفنيها وهي تستلقي فوق الفراش وكفها فوق موضع قلبها تهدئ نبضاته الهائجة، وابتسامةٌ جذلى تزين محياها المحمرّ، أهذا مايدعونه بالحبّ الأول؟ هل تلك المشاعر من يصفونها بأنها مشاعر مراهقة؟

إن كان كذلك فقد ظلموه، تلك ليست مجرد أحاسيس ومشاعر، بل نبضات تنطق باللهفة والحنين لمستقبلٍ واعد، يكون هو رفيق كل لحظاتها وأفراحها.

بأقصى ماتملك من سرعة دلفت مياس إلى المكتب المشترك حيت تواجد ثلاثتهم، هتفت بسرعة أثناء دخولها بلهاث مستجدي: فقط أخبرني أنك قصدتَ ماقلت؟
كانت توجه حديثها إلى أويس الذي وقف قبالتها بابتسامة واثقة، وفي يده صورة ما قدمها إليها أثناء إجابته بجدية: بالطبع عنيته يامياس، بفضلك أمسكنا رأس الخيط الذي أوصلنا إلى هذه النتيجة.

في أثناء حديثه كانت مياس تتأمل صورة المراهق أمامها، طفل ربما لم يتجاوز الخامسة عشر بشعر أشعث وملامح بريئة لا تشي بخطورته، ماإن أنهى أويس حديثه حتى رفعت رأسها ناحيته فأردف بتفاخر: أقدم لكِ خطاب سالم، المشهور باسم الخفاش.

تراجعت مياس للخلف خطوتين لتجلس على كرسي ما خلفها وهي تمعن النظر في تلك الصورة، كأنها لم تصدق بعد أنها استطاعت الوصول إلى هوية الخفاش الحقيقية، وتخشى أن يكون هذا كله وهماً فقط، عادت لتنظر نحو أويس سائلة بحاجبين منعقدين: هل نحن متأكدين من هويته؟
تفهم شكها فأخبرها أثناء عودته جالساً محله: ليس لدينا نسبة كاملة، لكني أؤكد لك هذا الشخص حصل على أعلى نسبة تطابق في الاختبارات الثلاثة.

هزت رأسها بتفهم ثم عقبت: ماجرمه؟

أجاب طارق هذه المرة بتقرير: خطاب سالم، والده سالم سكير عاطل عن العمل، قتل زوجته عقب عودته ذات ليلة من إحدى الحانات أمام ابنه خطاب ذي الخمس سنوات، أُدين الوالد بالقتل غير العمد وتم سجنه لثماني سنوات، أما خطاب فقد تمّ إيداعه في إحدى دور الرعاية بعد رفض عائلة والدته حضانته، حين بلغ ثلاثة عشر عاما خرج أبوه من السجن، فهرب خطاب من دار الرعاية وذهب إلى منزل والده ليقتله هناك، شاهده أحد الجيران فأبلغ عنه وتمّ سجنه في الإصلاحية لخمس سنوات كاملة.

كانت تستمع بانتباهٍ شديد تحاول من خلال حديث طارق التماس أي خيط يؤكد لها أنها تمشي على الطريق السليم، وحين أنهى طارق حديثه أردفت متسائلة باقتضاب: أيّ معلومات أخرى؟

أضاف إيهاب بدوره: في الإصلاحية كان خطاب ولداً مهذباً، نظيف بشكل زائد عن المعقول حتى أن طبيب السجن وصفه بمريض وسواس النظافة، ذكي للغاية و يتعلم بسرعة، لم يتشاكل مع أحد أبداً ولم يزره أحد، حين أتمّ الثمانية عشر من عمره أصدرت المحكمة حكماً بالإفراج عنه لسلوكه الجيد.
عقب أويس بعد انتهاء إيهاب: هذا كل مالدينا من معلومات لغاية اللحظة عن الخفاش مياس، فما الخطوة التالية؟

لم تنظر إليه حين سألها فقد كانت تتمعن في وجه خطاب، بطريقة ما شعرت أنه هو، بعينٍ خبيرة أيقنت أن خلف هذا الوجه البريء يختفي قبح مجرم حقيقي، الخفاش وكل جبروته يقبع خلف وجه طفل لم يتجاوز سن المراهقة بعد، قالت بعد وقت قصير: الخطوة التالية أن نقبض عليه.
رفعت وجهها نحو ثلاثة أزواج من العيون تراقبها باهتمام فتابعت: لكن أولاً يجب أن نتأكد أننا أمسكنا رأس الخيط فعلاً.

تغضن جبينه بعدم فهم فسأل أويس: مالذي تقصدينه مياس؟ كيف ستتأكدين؟
قالت بثقة منقطعة النظير: ستعرف عما قريب.

الانتظار مهلك، أن تنتظر المجهول أمر صعب، كيف إن كان ماتنتظره يعتمد عليه كل شيء عملت عليه في قضية كاملة؟
، مازالت على جلستها في المكتب المشترك ترقب اتصال الخفاش، يقين داخلها أخبرها أنه سيتصل، عاجلاً أم آجلا سيفعلها وحينها ستنصب له الفخ.

لكن انتظارها طال كثيرا حتى شعرت بالملل يسيطر على الشباب الثلاثة الجالسين معها، لقد انتهى الدوام منذ بعض الوقت ورحل الجميع باستثنائهم هم، أشفقت عليهم من التعب الذي يكابدونه برفقتها فبدت في عين نفسها كملكة ظالمة تستعبدهم، ربما أخطأت بحساباتها والخفاش لن يتصل اليوم؟

لاحظت إيهاب يدلك رقبته من الخلف وطارق يتثاءب بنعاس، أما أويس فقد كان يتأملها تارة ثم يدعي انشغاله ببضع أوراق أمامه، ربما يظنّ أنها لم تنتبه أثناء مراقبتها الهاتف الموضوع فوق الطاولة، لكنها متيقظة تماماً لكل ماحولها، إلا أن عقلها الآن مشغول بإمساك الخفاش، لذا قررت إرجاء التفكير في كل شيء إلى حين القبض على ذلك المحتال المختال.

أصابها اليأس حين تذكرت أمر والدتها، لم تحادثها مذ أن خرجت من المستشفى ولاتدري إن كانت قد عادت للبيت إم انها ماتزال عند عمار فقررت الرحيل، وقفت بغتةً لتحمل هاتفها محدثةً إياهم: برأيي يكفي هذا اليوم ياشباب، دعونا نذهب.
انتفض أويس واقفاً قائلا باستهجان: تريديننا أن نرحل مياس؟
أدركت عجلته فأجابت بتبرير: ربما لن يتصل الخفاش هذه الليلة أويس، لذا أرى أن الانتظار هنا بلا فائدة.

توجهت بنظرها إلى الاثنين الباقيين فتابعت وهي تشير ناحيتهم: من ثمّ أنتم متعبون للغاية، فلنرحل الآن ولنعد في الغد.
همّت بالتحرك بالفعل حين تعالى رنين هاتفها فأجفلت باستعداد، شملتهم بنظرة سريعة وهي تخبرهم بمفاجأة واضحة على نبرتها: إنه هو.
قال أويس بسرعة: هيا أجيبي فورا.

شهقت نفساً لتهدئ نفسها، وهي تشعر كأنها طالبة على وشك تقديم أصعب امتحان في دراستها، في حين التفّ الشباب الثلاثة حول طاولتها فقال أويس: افتحي مكبر الصوت.
عادت مياس لتجلس مكانها ووضعت الجهاز فوق الطاولة، استقبلت الاتصال وفتحت المكبر لتجيب بنبرة هادئة: نعم؟
تبسم خطاب على الناحية الثانية ماإن تهادى صوتها القوي إلى أذنيه، هل سبق وأن هام أحدهم بحبيب من صوته؟ هل سمعت بأن الأذن تعشق قبل العين أحيانا؟

قال خطاب بنبرة استفزازية: دعيني أهنئك وأعبر لكِ عن دهشتي، لم أتخيل فعلاً أن تصلي إلى صلاح قبلي.
ثبتت نظرها على هاتفها وهي تجيبه بثقة دون غرور: لقد قطعتُ عهداً على نفسي ألا يُدفن رائد قبل أن آخذ بثأره، وقد بررتُ بعهدي.

توسعت بسمته فيما هو يستدير بجسده ناحية النافذة الزجاجية الكبيرة ليقابل المنظر البهيّ قبالته، ثم أجابها بإعجاب بائن: تعلمين؟ في كل مرة تثبتين لي أنكِ خصمٌ لا يُستهان به، ولم أخطأ أبداً حين وافقتُ على اللعب مع شخص قوي مثلك، إنها تسليةٌ لاتعوض صدقيني.

رفعت عينيها إلى الثلاثة الواقفين فوقها حتى ثبتت أنظارها على وجه أويس، وقد قررت إلقاء الطعم له فقالت ومقلتيها متشابكة مع عيني الآخير: أخبرتكُ بهذا من أول اتصال بيننا ياخفاش.
صمتت للحظة قبل أن تردف بمكر: أم، تحب أن أناديك يا خطاب؟

ألقت سنارتها وقلبها يخفق بهلع لم يتوضح على محياها، ردة فعل خفاش التالية ستحدد لها الطريق الصحيح، لكنّ صمته طال عن المتوقع، تلاقى حاجبيها بغرابة وهي تخفض نظرها ناحية الهاتف المسنود فوق الطاولة، ولم يكن الثلاثة الباقون بأقلّ استغراباً منها، لم ترَ مياس وهي جالسةٌ مكانها مقلتيّ الخفاش وهي تتوسع بمفاجأة، لم تشعر بقلبه الميت وهو يخفق إعجاباً ودهشة، منذ الوهلة الأولى أدرك مدى ذكائها، تمكنت من إبهاره عدة مرات وقد غلبته في أكثر من جولة، لكنه لم يتوقع ذات مرة بأنها قد تصل إلى اسمه الحقيقي، على الأقل ليس بهذه السرعة.

أخفض الهاتف عن أذنه وعينيه المفتوحة على وسعها مسلطةٌ على منظر المدينة أمامه، وقد استشعر الخطر جدياً هذه المرة، تلك الذئبة الشرسة ألقت عليه سحراً أسود، استحوذت عليه دون أن يراها حقاً، و استقبل كل مابدر منها بصدرٍ رحب وذراعين مفتوحين، لكن أن تشكل خطراً فعلياً عليه فهذا لا مالا يستطيع قبوله، في هذه الحال يتعين عليه استخدام الخطة البديلة وهي القضاء عليها.

المعضلة الحقيقية ليست هنا، بل تتمثل بقلبه الذي انتفض لينهره بقسوة، يتخلص من مياس؟
والأحلام الوردية التي رسمها في خياله ماذا يفعل بها؟
تدخل عقله في الحوار قائلاً: لا أنت بوساختك تليق بها، ولاهي بنقائها ستقبل بتلك الأمنيات الساذجة.

هنا وقد ومضت في ذهنه فكرة حقيرة، نعم هو لن يستطيع التخلص من دنسه ليصبح لائقاً بها، ربما استدراجها سيكون أسهل بكثير إذاً، هو لن يستطيع أن يصعد إليها وهي كأنها أميرة في برجها العاجيّ، فلتنزل هي إليه إذاً...

ابتسامة خبيثة شقت ملامحه الباردة وهو يغلق الاتصال دون أن يتطلع إلى الشاشة، وفي عقله توضحت خطة دنيئة لجذبها إلى مستنقعه، متاهة الخفاش، لن يُهزم أمامها، سيفوز في الجولة الأخيرة من اللعبة والجائزة ستكون هي، مياس!

أيقنت أثناء صمته أنها أصابته في مقتل، بالفعل اسمه خطاب، لكنه أثار قلقها وريبتها حين لم ينبس بحرف حتى سمع أربعتهم صفير الهاتف معلناً عن قطع الاتصال، تبادل الشباب الثلاثة النظرات المستغربة قم عادوا لينظروا إليها حين سألها أويس بهدوء: إذاً مياس؟
رفعت ناظريها ناحيته لتجيب بوجهٍ شاحب: إنه هو حقاً، هو نفسه خطاب.

صفق طارق كفه بكف إيهاب مفتخرين بما وصلوا له من نتيجة، وابتسم أويس باتساع لكنها لم تبادله، أطلّ القلق من مقلتيها فسألها الآخر بشك: مالأمر مياس؟ لمَ لا أراكِ سعيدة؟
بللت شفتيها وأهدابها ترفرف بفزع طفيف، قالت بعد لحظة صمت: الخفاش أدرك أنني توصلتُ إلى هويته الحقيقية لكنه لم يقلْ شيئاً.
رفع حاجباه بذهول دون أن يفهم مغزى ماتقوله فقال ببسمة مستهجنة: ربما تفاجأ الرجل فقط مياس؟

هزت رأسها بإنكار تجيبه بنبرة جادة: لا أويس، أمثال الخفاش لا تُلجمهم المفاجأة لوكان هذا السبب الحقيقي لصمته، لكنه الآن شعر بالخطر.
قال طارق مقترباً منها: مالذي تقصدينه مياس.؟
أردفت ومازالت عينيها معلقة بمقلتي أويس كإنها تحادثه: استعدوا للقادم، فالخفاش الآن يحضّر أسوأ مخططاته.

ألقت عبارتها الأخيرة بوجوم جاد استشعره الباقون، لم يسبق وأن خابت نظرتها فيه، رغم أنها لم تقابله ولا مرة في حياتها لكنها تعرفه أكثر من أي أحد، الصمت عادة علامة الرضا، لكن عند الخفاش دليل على أنّ الإعصار المدمر قادم...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة