قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الحادي والأربعون

(((بابتسامة مرة قالت: أنا قلبي قد مات وقسى. ليأتيها صوت مبهم يخبرها: القلوب الميتة لاتقسو، فقط البريئة حين تُجرح ))).

قلة الاهتمام هي المرض الوحيد الذي قد يغزو شريان القلب العاشق، لتجعل حبه يتلاشى و نار غرامه للحبيب تخمد رويداً رويداً، و ما يؤلم المرأة فعلاً حين تشعر بتبدل معاملة زوجها لها، حين تفتقد لمعة الشوق في مقلتيه الخاملة، عندما لاتشعر باشتياقه لأحضانها، حينما تستشعر بروده في كل ما يخصها، هذا الأمر فقط ما قد يقصم قلبها المغرم ويرميه في متاهات الأشواق الحارقة...

قرر فعل ما أخبرته به هويدا لكنها لم تعطه الفرصة، فور عودتهما من المستشفى أغلقت بابها عليها، هي حتى لم تأبه لنداء ابنتها ولا أسئلتها المتلاحقة، ليظلّ كمال خارجاً يعضّ على شفتيه بندم، أسدل جفنيه ليظلّ يدور في الصالة بلا هدف حتى عادت عليا، أخبرته شقيقته الحقيقة كاملة فأثنى على فعلتها، فابنة الكرام لا تنسى العشرة ولا تقابل الإساءة بالإساءة، رغم هذا كان متخوّفاً من رد فعل مياس ومالذي ستفعله في القادم من الأيام.

أسدل الليل ستائره مصحوبةً برذاذ لطيف من المطر فلم يتمكن كمال من البقاء خارجاً، فكر في الهرب إلى إحدى الغرف المغلقة لكنه اعتزم الحديث مع سعاد، فقلبه قد انكوى بنار الهجران واكتفى...

طرق الباب ليجده غير مقفلٍ فدفع اللوح المصقول ليجد زوجته غارقة في النوم الزائف، تطلع إلى الطبق الذي جلبته لها عليا قبل قليل فوجده كما هو كأنها لم تمسّه، اكتفت بكوب الحليب بالعسل كمعينٍ لها فقط، تنهد بثقل ليتجه تالياً إلى علبة الأدوية الجديدة التي جلبها معه، تبسم بخفة على الأقل فقد أخذت الأدوية...

خرج بعد قليل من الحمام بعد أن أبدل ملابسه لينسلّ بجانبها على الفراش، لم تتحرك سعاد قدر أنملة عن مكانها لكنه يستطيع الشعور بها، رغم الإضاءة الخافتة استطاع كمال الإحساس بادّعائها النوم وأنها تمثل...

كان ظهرها مواجهاً له فمدّ يده ليسحبها ناحيته من خصرها، لم تمانع لكنها أيضاً لم تتجاوب، لم يعرف كمال كيف يبدأ الحديث معها فاكتفى بقبلة طبعها على رقبتها فارتعد جسدها فشعر بها، أدارها ناحيته بلطف لتقابله بوجهها الذي فقد رونقه ومقلتيها الحمر، بباطن كفه الكبيرة احتضن وجنتها فاستشعر ملمس الدموع تحت أصابعه، يبدو أن سعاد مكتئبةٌ بالفعل و لم يدرك هذا إلا تواً...

تلاقت المقل بحديث طويل لم تنطقه الألسن، عتاب رقيق واعتذار صادق، الشفاه ترتجف دون القدرة على الكلام، المشاعر القاتلة التي عايشتها سعاد طويلاً تضاءلت لكنها لم تختفِ، تطلّ من خلفه كشبحٍ مرعب يلوّح لها بسكينه المخيفة، طفلته المدللة ذات الضفائر كبرت في ليلة فأصبحت شبح عجوز هرمة، همس كمال بندم و محياه مقابلاً لوجهها الذابل: أنا في بعدك عليل، لا يشفيني طبيب، ولا تعوضني نساء العالمين.

نفرت الدموع بانسياب من عينيها وحديثه يسترضيها لكنه لم تكتفِ بعد، فتابع كمال اعتذاره المؤنب لنفسه: عاهدتكِ أن أكون نصفكِ الثاني، حاميكِ وحماكِ، لكني فشلت فلم أمنحكِ سوى عشقاً أبتر، لوحة صمّاء تخفي خلف ألوانها الزاهية حقارة رجل يختار الانعزال بأحزانه بعيداً عن رفيقة الروح..

ارتعشت شفتاه حين انقطع سيل الكلمات من فمه فتحسرت سعاد بصمت، وعتابها الطويل لم ينتهِ مع انقطاع حديثه فأردف باستجداء: يقولون على قدر البعد يكون الاشتياق و الحب، لكني أحمق غبي أسرفتُ في البعد وتركتكِ وحيدة، سامحيني ياحبيبة أرجوكِ.
زفرت بخفة وهي تستبسل في مجاهدة ضعفها لتسأله بانكسار بان في مقلتيها: ألا زلتَ تراني جميلة كما السابق؟

ابتسم بخفة ويده تمتدّ لتبعد خصلة تمردت فوق جبينها فترتعش سعاد تحت لمساته الحنون، طالعها بحب خالص لا يدنسه الخداع أو الزيف، مجيباً بصدق ينهمر من مقلتيه: بل لا زلتِ في نظري أجمل امرأة تراها عينيّ، المرأة الوحيدة في نظري التي تجمع بين دلال طفلة وروح فاتنة، لم أهتمّ يوماً لشكلك الخارجي قدر عشقي لشخصك أنتِ يا سعاد، روحي تآلفتْ مع روحك منذ الأزل وما زالتا.

همسه المغرم واعتذاراته الكثيرة أرضت غرور الأنثى داخلها، تضاءل اكتئابها شيئاً فشيئاً حتى جاءت عبارته الأخيرة فقصمت ظهر حزنها فطرحته بعيدا عن قلبها الرقيق، سألت بدلال أنثوي فتاك: ما زلتَ تحبني، أليس كذلك؟
أجابها كمال وهو ينقر بسبابته فوق أنفها: كلمة أحبكِ صغيرة عليكِ يا سعاد، حروفها القليلة لا تخبركِ بصدق عمّا أشعر به حيالك.

أمسك بكفها ليضعه موضع قلبه مضيفاً بنبرة أثقلها الغرام: هذا لا ينبض إلا بك، فيه شريان موصوم باسمك أنتِ، إن أنتِ غبتِ عني فهذا معناه هلاكي...

لم تجد أمام هذا السيل من المشاعر الفيّاضة وردّ الاعتبار سوى الصمت والدموع السخية، لكنها هذه المرة دموع سعادة، دموع أمل، الآن تيقنت سعاد مهما غامت دنياها فلا بدّ لليل أن ينجلي، مهما عشعشت الأحزان في قلبها ستشرق عليه شمس الحب لتزيل خيوط التعاسة، خفق فؤادها ببأسٍ شديد وهي تجاهد لتتبسم بضعف فبادلها كمال أخرى أكثر اتساعاً، مسح الدموع من وجنتيها متمتما: لا أريد أن أرى دموعك من جديد يا سعاد، أنتِ لا تستحقين الكدر، أنتِ ملكةٌ متوجة لا يليق بكِ إلا وشاحٌ منسوج بخيوط السرور و الفرح، أنت شمسي وهنائي، أنتِ سعادتي...

وصمتت الشفاه فالكلام في حضرة الغرام الحلال حرام، هنا تصمتُ كل الكائنات، لتبقى فقط القلوب الناطقة بالحب تنشد معزوفة الهيام، وترتل تراتيل الغرام على أرواح مكبلة بالعشق...

حين عادت مساءً وجدت الجميع قد غطّ في النوم، دلفت مياس بإرهاقٍ شديد بالكاد تسحب قدميها قسراً وأقصى أمنياتها الآن أن ترتمي بين أحضان فراشها الدافئ المريح، لكنّ أملها ذهب أدراج الرياح حين دلفت إلى غرفتها لتجد والدتها بانتظارها، طالعتها بدهشة لم تدم طويلاً وقد استذكرت لتوّها أنها نسيت محادثتها، اكتسى وجهها بعلامات الندم فتقدمت من أمها التي وقفت قبالتها قائلة بتعب: أعتذر أليكِ أمي، لقد انشغلتُ كثيراً لدرجة نسيت معها أن أحادثكِ مجدداً.

تبسمت والدتها بحنان وهي تحاوط وجنتها مجيبة بحنوّ عطوف: لا بأس حبيبتي لا تهتمي، حين لم تتصلي علمتُ أنكِ مشغولة فطلبتُ سيارة أجرة وعدتُ إلى المنزل.

تنفست الأخرى بارتياح طفيف ومن مقلتيها قفز سؤال تمنّت لو أنّ والدتها تقرأه فتجيبها دون إحراجها، وببراعة التقطت عليا التوسل الخفيّ فعادت لتجلس فوق سرير مياس متحسرةً بزفير طويل لتردف: والدكِ ليس بخير يا مياس، يجب أن يخضع لجلسات العلاج لكنه لم يقبل معي، والطبيب يخبرني بأن حالته النفسية السيئة تؤثر عليه.

حاولت إلقاء جملتها بلا مبالاة مصطنعة كأنها لا توجه نداءً خفيّاً لابنتها التي غلف القلق قسماتها، لإدراكها ذكاء مياس تعرف أنها ستفهم مقصدها، ازدردت الأخرى ريقها بصعوبة فيما تابعت عليا حديثها بانزعاج طفيف: يقول أنه نادم للغاية، ولا يطمع بشيء سوى أن نسامحه، أخبرته أنني أسامحه لكنه لم يكتفِ.

سكتت عليا لتطلق تنهيدة متعبة وهي تسترق النظر إلى وجه ابنتها الواجمة، أدركت أن مياس فهمت فأردفت أثناء وقوفها مبتسمةً بهدوء: سأحضر لكِ العشاء حبيبتي، مؤكدٌ أنكِ جائعة جداً و...
قاطعتها مياس ببسمة مدعية ونبرة خافتة: لا تتعبي نفسكِ أمي، تناولتُ عشائي في المركز.

لم تصدقها و تدرك كذبها لكن لم يسعها إلا الرضوخ لها، تعلم أنّ مياس ستستغرق الآن في التفكير حتى تحسم قرارها، ربتت على كتفها بلطف لتعقب: كما تشائين حبيبتي، سأترككِ الآن فلا ريب أنكِ منهكة.
رفعت يديها للأعلى ثم أردفت: حفظكِ الله لي وأراح قلبكِ يا ابنتي.

مرة جديدة ينفذ دعاء أمها إلى صدرها فيخفف من لهيبه المشتعل، حقاً لا تدرك حتى الآن كيف لبضع كلمات أن تريحها وتنير عتمتها بهذه الطريقة، شهقت مياس نفساً عميقاً وهي تسدل أجفانها بهدوء، إلى متى ستظلّ في خضمّ هذه الحروب والصراعات؟ متى ستجد السلام والسكينة؟ متى يا الله؟!

قطعتْ عهداً لمياس وأبرّت به لكن بشقّ الأنفس، بصعوبة بالغة مرّت هذه الليلة على أروى دون أن تخرج إلى الحديقة، حاولتْ مراراً الغرق في النوم لكن ما إن تغمض جفنيها حتى يقفز وجهه ليحتلّ أحلامها، تتأفف بضيق وتدفن وجهها في الوسادة تناجي النوم لكن عبثاً، هجرها الوَسنُ كما غاب عن عينيه هو، هكذا أخبرها قلبها الذي ثار عليها وأعلن عصيانه عليها، لكنها اعتزمت مغالبته إلى النهاية حتى لو هلكت، لن تخاطر بنكث وعدها لمياس فيحدث ما لا يحمد عقباه.

أطلّ الصباح أخيراً و أروى ماتزال تنازع خافقها الأهوج، و ظلّ النوم يجافي جفونها، اعتدلت جالسةً فوق سريرها متأففةً بسخط منزعج، تثاءبت و تمطت بجسدها و لم تعد تطيق البقاء بين أربعة جدران، قررت أخيراً الهبوط إلى الأسفل فخرجت بثوب نومها الطفولي ذي الرسومات اللطيفة وخصيلاتها الهفهافة، تتهادى فوق الدرج بهدوء والتعب أخذ مأخذه من محياها البهيّ، وصلت إلى نهاية الدرج فلم تجدْ أحداً لكنها سمعت جلبةً خفيفة مصدرها المطبخ، ظنّتها عمتها عليا فسارت ناحية الصوت، سرعان ماتوسعت مقلتيها باستغراب و هي ترى والدتها تعمل في المطبخ، محياها هذا الصباح نضرٌ وعينيها تلتمعُ سعادة، شعرها مرتبٌ و شكلها مختلفٌ عن أمس كلياً كأنها انقلبت مئة وثمانون درجة!

ظلّت أروى على وقفتها المذهولة تراقب والدتها تتحرك برشاقة وخفة حتى شعرت بفمها المتدلي قد وصل الأرض إلا قليلا، عينيها مفتوحة عن آخرها بدهشة لانقلاب حال أمها كانقلاب الشتاء إلى ربيع في ليلة، شعرت سعاد بمن يراقبها فالتفتت لتجدها ابنتها المتفاجئة، تبسمت بلطف فانتبهت الأخيرة إليها لتقول باستغراب: صباح الخير أمي؟

سارت ناحيتها وابتسامةٌ عريضة شقت ثغرها أثناء إجابتها السعيدة: يا صباح الفل والياسمين والورد على أجمل وأحلى بنت في هذا العالم.
تضاعفت دهشة أروى أكثر حين جذبتها سعاد لتقبلها من جبينها، ثم ابتعدت لتعود إلى عملها مضيفةً بحماس غريب: هيا أروى تعالي لتساعديني، أريد أن أحضر لوالدكِ إفطاراً ملكياً قبل أن يستيقظ.

ارتفع حاجبي الأخرى بذهول فيما والدتها تتابع حديثها بإسهاب، ما لبثت أن ابتسمت بسعادة فعلى ما يبدو أنّ أمها قررت أخيراً نبذ عزلتها، اندفعت أروى لتعانق والدتها من الخلف وهي تتمتم بثناء: كم اشتقتّ لكِ أمي..
نسّت جملتها قلب سعاد التي استدارت لتقابلها بملامح راضية، دفعت خصلة ثائرة خلف أذنها متحدثة بتنهيدة طويلة: وأنا اشتقتُ لكِ يا قلب أمك، سامحيني على تقصيري بحقك يا حبيبتي.

اتسعت بسمتها وهي تقبل ظهر كفها مضيفة بسرور بادٍ في نبرتها: لا تعلمين مدى سعادتي بعودتك أمي، أحبكِ كثيراً.
أمالت سعاد رأسها إلى الجانب لتردف أروى بحماس طفولي أثناء تراجعها للخلف: سأغسل وجهي وأعود لأساعدك فوراً..
قهقهت سعاد على شقاوة أروى وهي تتابعها تختفي من أمامها، زفرت بسعادة بالغة لتعود إلى عملها وقلبها يزهر بالأمل والحب، والشوق لأيام سعيدة تعيد للعائلة ترابطها...

الأحلام التي تراودها منذ فترة مزعجة للغاية، لكن حلم يوم أمس كان يبعث على السكينة في النفس فقررت مياس أن تساعد نفسها، لم يكن قرارها وليد الأمس بل كان نتيجة تقلبات كثيرة ألمّت بها، ولم يكن سهلاً ولا هيّناً أيضاً، لكنها اكتفت، تقسم أنها أُنهكت وطاقتها على الكراهية نفذت، قناع القسوة الذي ترتديه تلقى ضربات كثيرة كانت كافية ليتصدع وينكسر.

بتردد عظيم وقفت أمام الباب، لا تعرف مالذي ستفعله ولا ماستقول حقاً، و لا تدري كيف وصلت امام بابه، المهم أنها الآن هنا..
شهقت نفساً عميقاً ثم طرقت الباب لتدلف قبل سماع الإذن، كان عمار يحاول الجلوس بصعوبة بالغة لكنه ابتسم باتساع حينما رآها هامساً بحنان مدهوش: مياس!

بجمود تام لا يُظهر ما خلفه دلفت مياس متجهةً ناحيته حتى وقفت أمامه تماماً، كالعادة أخفت كفيها في جيبي سترتها لتداري ارتباكها عنه، مهما بلغت صلة القرابة ما بينهما لكنها مازالت تراه غريباً عنها، استغرقها الأمر لحظات عدة حاولت خلالها الابتسام لكنها تعجز أمام ضعف جسده، حتى نطقت أخيراً ببرود مصطنع: كيف حالك؟
ابتسم بوهن يجيبها بهمس خافت: الآن صرتُ أفضل.

هزت رأسها بتفهم ثم التزمت الصمت وهي تتهرب بعينيها منه، فعل عمار المثل مكتفياً بتواجدها حوله، نطق بعد حين بنبرة سؤال كأنه يحادث نفسه: لم أرَ رائد منذ فترة، أتراه مشغول إلى هذا الحد لينساني؟
اختفت ملامحها المترددة ليحلّ الحزن محلّها، أدركت لتوّها أن عمار لا يعرف بما حدث مع رائد، فيما تابع الآخر بمزاح: أم أنّ خطيبته أخذت كل وقته فشغلته عني...
رائد ليس مشغولاً.

بجمود قاطعته ليعقد ما بين حاجبيه بدهشة حين رآى الكَدر يخيّم عليها، اجترعت ريقها بصعوبة جمّة ثم عقبت بتردد هامس: رائد، رائد استشهد.
سيطر الذهول على قسماته وتوسعت عيناه عن آخرهما، لم يصدق ما قالته فهمس بدوره: ماذا؟
تطلعت إليه فأوجعتها ملامحه الحزينة لكنها أكدت ما قالت بإيماءةٍ بسيطة، اغرورقت مقلتاه بالدمع وهو يحرك رأسه للجانبين بعدم تصديق هاتفاً: معقول؟ يا آلهي!

ضمت شفتيها بقوة و كادت تتحدث لكنها فوجئت به يبكي بحرقة وينعي بنحيب: آه، حرام، والله حرام ياربي، شابٌ بعمر الورد كرائد يموت وأنا، وأنا أظلّ حياً، لماذا يا آلهي لماذا؟
ضاقت ذرعاً بحديث الموت، أليس بالإمكان أن يمرّ يوم عليها دون ذكر تلك السيرة القابضة للنفس؟
حاولت التحلي بالهدوء لكنها زمجرت في وجهه بحدة فشلت في مداراتها: لا فائدة ترجى منك، ستظلّ أنانياً كما كنت دوماً.

لم يسعفه عقله فوراً في تفسير سر غضبها، فيما تابعت مياس موبخةً إياه بعنف وعبراتها تسري على عرض خدودها: ألا تفكر للحظة قبل أن تتحدث؟ ألا تسأل نفسك عن تأثير كلماتك تلك عليّ قبل أن تنطقها؟ ألا تفكر أبداً فيما قد يفعله تشاؤمك هذا فيّ؟

تفطن عقله الآن لمرادها فحاول التحدث لكنها لم تسمح له حين تابعت تقريعها الساخر بمرار: طبعاً أنت لا تفكر إلا في نفسك، تريدني أن أسامحك وأعاملك كما تعامل الفتيات والدهن، وفي الوقت ذاته تريد الموت، صحيح؟ ما هذا التناقض الذي تحيا به؟
رغم عبراته الجارية لكنه ابتسم ما إن سمع عبارتها، كبرياؤها يمنعها من الاعتراف صراحة لكنها اعترفت للتوّ، ارتعشت شفتيها بجزع وهي تضيف بهمس باكٍ: تريد الموت؟ وأنا؟

رفع كلتا ذراعيه ببطءٍ وهو يفتحهما كأنه يناديها بمواربة، ترددت للحظات لكنها سارت نحوه أخيراً بتهادٍ متذبذب حتى جلست قربه، احتواها بذراعيه بهدوء فارتمت باكيةً على صدره بحرقة، قبّلها فوق رأسها بتلذذ، يا الله! ما أبهى هذا الشعور!
كم أنت أحمقٌ يا عمار، حرمتَ نفسك من أجمل الأحاسيس في الدنيا، ندمتْ؟ لكن الآن ما عاد ينفع الندم...
بصوت خافت ترجاها: سامحيني يا مياس، أرجوك يا ابنتي سامحيني..

رفعت عينيها الدامعة إليه سائلة بغيظ طفولي: إن سامحتك، هل تعدني أنك لن تموت؟
ابتسم على سؤالها البريء لكأنها طفلة بعمر خمس سنوات، هزّ رأسه بالإيجاب مبتسماً على شقاوتها فأردفت وهي تدفن وجهها في صدره: أسامحك، والله أسامحك فقط لا تتركني مجدداً...
قبلها عمار من جديد بسعادة، ثم أسند ذقنه فوق رأسها قائلاً بصوت مبحوح: لن أتركك مجدداً، أعدك...

أحياناً يستوجب عليك التخلي عن كبريائك وغرورك لترضي روحك المحترقة، كن دائماً موازناً لمشاعرك، فلا تكره من كل قلبك، و لا تعشق من كل قلبك، اترك مسافة أمان دائماً، لربما احتجتها يوماً لتنظر إلى اختياراتك من بعيد، حينها سيتراءى لك الصواب من الخطأ بشكل واضح.
لا تتبع عقلك دائماً ولا تطاوع قلبك دوماً في اختياراته، ضعهما على كفة الميزان وحاول الموازنة بينهما، فإن غلبت كفة أحدهما تأكد حينها ستكون النهاية...

أسبوعٌ كامل قد مرّ، سبعة أيام كاملة و هي تحارب في ذات الجبهة وحيدة...
أهكذا هو الغرام حقاً؟

ألا تطيق البعد عن مدار المحبوب لساعات معدودة؟ أن تتعذر بأية حجة فقط لتلتقيه فيسقيها عذب الكلمات وتتمتع بالنظر إلى محياه الذي تراه أجمل ما قد تلمحه على وجه البسيطة؟ أن يعترف لها بحبه فيطرق القلب ضلوع الصدر يريد الخروج ليرتمي بين أحضانه؟ تلتقط حروف الغزل من بين شفتيه لتخفيها في الوتين وحين تختلي بنفسها تنثرها على وجهها كأنها عطرٌ عربي نادر الوجود؟

إن كان هذا فهي إذاً مغرمة، غارقة من رأسها حتى أخمص قدميها...
اقترب موعد الامتحانات النصفية في جامعتها، ورغم استقرار أحوال عائلتها نسبياً لكنها لم تستطع الدراسة بالشكل المطلوب، بالكاد تمكنت من تعويض جزءٍ يسير مما فاتها مع هذا مازال أمامها الكثير لتدرسه.

أمسكت أروى الكتاب بين يديها تحاول الحفظ فتشكل طيفه أمامها، أصبحت الكلمات سراباً فلم تعرف قراءتها فأغلقت الكتاب بامتعاض، أصبح غريب كالإدمان يسري في عروقها، أصدقت وعدها مع مياس فلم تعد تخرج ليلاً، لكنها تتخذ الحجج نهاراً فقط لتراه، مرة لتسقي الزرع ومرة لتتفقد الأشجار وتقلمها، إلا أن الحجج نفذت منها هذا اليوم فبمَ ستتعذر؟

كان الطقس في الخارج غائماً مع نسمات شتوية باردة فلن تنطلي خدعة سقاية الأزهار على والدتها، خرجت أروى إلى شرفتها الصغيرة تحاول استراق النظر إلى الحديقة الخلفية علّها تراه يتمشى هنا أو يجلس هناك، لوت فمها كما الأطفال حين لم تجده في الخارج، تهدل كتفاها بإحباط وهي تقضم إظفر إبهامها بفمها، تفكرت في حجةٍ تتخذها لتخرج إلى الحديقة دون إثارة ريبة والدتها، فقررت الهبوط إلى الأسفل لتجد سعاد التي عادت إلى طبيعتها تعمل في المطبخ، تجلس إلى الطاولة وأمامها طبق تنظف فيه الأرز، افترّ ثغرها عن ابتسامة صغيرة حين دلفت إليها لتحادثها سعاد بدهشة: أروى! هل أنهيتِ دراستكِ حتى أتيتِ؟

نفخت بتعب طفيف وهي تلقي بجسدها على كرسي قريب مجيبةً بلا مبالاة: لقد مللتُ من الدراسة أمي، فقررتُ أخذ فاصلٍ منشط.
رغم عدم اقتناعها وهي تراقب تبدل حال ابنتها لكنها اختارت التغاضي عمداً، هزت سعاد رأسها وعادت إلى عملها بينما سمعت ابنتها تردف: هل أساعدكِ بشيء؟
فأجابتها بلا مبالاة: لا حبيبتي، لقد أنهيتُ عملي كله فقط سأنظف الأرز وأطبخه.

حركت أروى رأسها ببسمة زائفة وبأصابعها راحت تطرق على الطاولة بملل وهي تدور برأسها حولها بعدم اكتراث، حتى استقرّت نظراتها على السكين اللامع فوق طاولة الرخام، ضيقت عينيها وقد خطر في ذهنها فكرة ماكرة، التفتت ناحية والدتها لتراها منشغلةً بتنقية الأرز من الشوائب، فاستقامت بخفة من مكانها قائلة أثناء توجهها ناحية السكين: أتعلمين أمي؟ سأخرج إلى الحديقة الخلفية لأنظف حوض الزهور من الحشائش الضارة.

استغربت سعاد التوقيت الذي اختارته ابنتها فاستنكرت: الآن؟
أجل أمي الآن، سأنظفها بسرعة وأعود إلى الدراسة لا تقلقي.
نطقتها أروى بسرعة وهي تخرج من المطبخ بخطوات متلاحقة قبل أن تعترض أمها، تاركةً سعاد تنظر في إثرها بشكٍ بدأ يتعاظم داخلها، بطريقةٍ ما عاد حديث عليا ذلك اليوم يطرق عقلها، أيعقل أن تكون ابنتها...

نفضت رأسها إلى الجانبين وهي تنهر نفسها، عادت إلى عملها محاولة إقناع عقلها بأن أروى ابنتها وتربية كمال، وهي واعية كفاية لئلا تخطئ بالتأكيد...

بلهفةٍ حمقاء خرجت إلى الحديقة الخلفية وعينيها على نافذته، ابتسمت باتساع حين وجدته يستند بذراعه على حافة النافذة وفي يده كتابٌ ما، يبدو أنه محبٌ للقراءة، لم تدرِ أنه يلهي نفسه بالكتب ليكبح أشواقه إليها كأنه مراهق في الحب، هبت نسائم باردة حملت رائحتها لتنبأه بتواجدها في محيطه، رفع ناظريه ليرى فاتنته البريئة تتحرك فوق الأرض بدلال غزالة بهية وغنج الملائكة، وقد ارتدت فستاناً أبيض وفي وسطه خطوط بنية مع حجاب ماثله لوناً، ابتسم تلقائياً وهو يطوي الكتاب ليخرج إليها بسرعة، لاحت منها نظرة للخلف لتتأكد من عدم لحاق أمها بها، ثم تابعت مسيرها إلى حوض أزهار الإقحوان، جلست فوق حجرها الصغير تزعم تنظيفها للحشائش الصغيرة التي نبتت بين الأزهار، ومن فوق كتفها تسترق النظرات ناحيته لتصطنع المفاجأة بملامح مدهوشة وهو يتقدم منها، كذبتها وجنتيها التي ازدانت بحمر جذابة فابتسم غريب بحب لحركات الدلع الفطريّ منها.

جلس مكانه ليسألها بتلاعب: مالذي تفعلينه في هذا الوقت أروى؟
حاولت عدم النظر ناحيته لكنها فشلت فمقلتيها الخائنة تتحرك وحدها دون التأثر بأوامر عقلها المغيب خلف سحابة الغرام، فأجابت بهمس متأثر بانفعال نبضاتها المتضاربة: أنظف الحشائش من الأزهار الضارة...
انتبهت لخطئها في الكلام فحاولت تصليح جملتها وهي تتلعثم: أعني، أنظف الأزهار من الحشائش الضارة.

تعالت ضحكات غريب بتسلية على لبكتها فزفرت بانزعاج وانقلب وجهها كثمرة تفاح ناضجة، لاحظ تذمرها الخفيّ فقطع قهقهته معتذراً بصدق: أعتذر أروى لم أقصد.
ضمت شفتيها بقوة مالبثت أن هزت رأسها بعدم اكتراث، ساد الصمت بينهما فحاول غريب فتح أي حديث معها، خطر في باله سؤال لطالما رغب بمعرفة إجابته فأجلى حلقه قبل أن يسألها بحذر شديد: هل لي أن أسألك شيئاً أروى؟

رسمت بسمة لطيفة على محياها ناظرةً إليه وهي تومئ بخفة فأردف بعد أن لعق شفتيه: في أول ليلة لي هنا، حين أتيتِ منتصف الليل لتحادثي الأزهار تحدثتِ عن شخصٍ ما..
غابت بسمتها ما إن فطنت إلى مقصده فتطلعت ناحية زهورها بتأثر فيما تابع هو بتأنٍ: أعتقد أنه شخصٌ توفي أو...
ورد.
قاطعته بهمس خافت فتلاقى حاجباه باستغراب لتتابع أروى دون أن تنظر نحوه: إنه شقيقي الوحيد، كان يصغرني بعامين، وقد توفي قبل شهرين تقريباً.

نطقت أخر عباراتها بصعوبة كبيرة محاولة اجتراع الوجع الذي آلم حلقها، أدرك غريب أن سؤاله أتى في غير وقته تماماً فحاول استدراك الأمر قائلاً بتذبذب: أنا آسف أروى لم أقصد أن...
رفعت عينيها الدامعة إليه قائلة بصوت مختنق وابتسامة حزينة: لا تعتذر غريب، وفاة ورد حقيقة واقعة مهما حاولنا تناسي مرارتها.
هز رأسه بتفهم عندما شعر بحاجتها للحديث فأردف: حدثيني عنه قليلاً، كيف كان وكيف توفي؟

لم تستطع الإجابة للحظات حتى تمالكت نفسها ثم أسهبت بلهجة متفاخرة: ورد، شاب كامل الأوصاف، خلوقٌ ومهذب، بارٌ بوالدينا ويحبه الجميع، رباه والدي على الخصال الحميدة ونصرة المظلوم مهمن كان، لهذا كان يحب أن يكون في المستقبل محامياً.
تنهدت بآسى وقد أحنت رأسها لتعقب برنة ألم غريبة حرقت أنفاسها: لكنّ الزمن لم يمهله الوقت ليحقق حلمه.

سالت الدموع رقراقةً فوق وجنتيها فأوجعه منظرها لكنه لم ينبس بحرف، ارتأى أنها إن تحدثتْ لأحدهم عن وفاته لربما يسهم في تخفيف الألم عن قلبها الرهيف، أمهلها الوقت الكافي الذي تحتاجه حتى تابعت من تلقاء نفسها وهي تكفكف عبراتها: شقيق أحد أصدقاء ورد كان يدعى بسام وهو صحفيٌ عاطلٌ عن العمل، اعتقله رئيس المخفر على خلفية مقالٍ كتبه على مواقع التواصل، وحين خرج بكفالة كتب عن ظلم رئيس المخفر وماتلقاه من تعذيب على يده، فقام الآخير بتلفيق قضية زائفة ضده واعتقله من جديد.

منذ أن ابتدأت حديثها الأخير شعر غريب بشيءٍ مريب، ماتحكيه أروى سبق وأن رآه وعايشه لكنه لا يذكر أين بالضبط، زوى مابين حاجبيه وانقبضت ملامحه بعدم ارتياح فيما تابعت أروى بنشيج باكٍ: ورد لم يسكت، جمع أصدقاؤه وخرج في مظاهرة نصرةً لبسام أزعجت رئيس المخفر، فنصب له فخاً واستدرجه حتى أمسك به و...

نهنهة بكائها قاطعت حديثها لم يهتمّ لها غريب عندما عاوده ذلك الصداع القاتل كطنين النحل، استغرقت بضع ثوان حتى تابعت بضعف: ورد كان مريض قلب، لم يحتمل الضرب الذي ناله من ذلك الظالم فمات، تحت التعذيب.

انخرطت في بكاءٍ صامت لم تجرؤ خلالها على النظر ناحية غريب الساكن تماماً رغم الألم الذي باغته، فالوجع الذي يشعر به الآن أقسى من الصداع في رأسه، مسحت أروى دموعها ثم رفعت ناظريها الدامعة ناحيته تسأله باستغراب: غريب؟ مالأمر؟

ببطء مميت رفع رأسه إليها وقد احمرّت عيناه بشدة واضطربت أنفاسه، استغربت حاله ولم تكدْ تسأله حتى سمعت صرير مكابح سيارة أبيها خارجاً، لم تحبذ أن يراها هنا ففزعت أثناء وقوفها فجأةً لتستأذن بلجلجة: عاد أبي، أراك لاحقاً...

جرت راكضةً صوب منزلها تاركةً غريب يلملم شظايا نفسه التي انسلخت عن روحه قبل لحظات، غادرت وبقي طيفها الجالس أمامه بملامح مبتسمة أحدثت داخله شرخاً غائراً، نسيت سكينها أمام الحجر فثبت مقلتيه الدامعة فوقها وهو يجلد نفسه، يا للمصيبة
، لقد وجدها، وجد نفسه التائهة، وياليته ما وجدها!..

أتاه اتصالٌ انتظره منذ أيام، أجاب بلهفة، بضع كلمات مقتضبة ثم اندفع خارجاً من المستشفى ليلاقي صديقاً له، سلّمه ملفاً ما ثم غادر ليعود مازن أدراجه إلى مكتبه، بالكاد تمالك نفسه حتى استقرّ خلف الطاولة ثم فضّ الظرف الورقي الأبيض الذي حمل شارةَ مختبرٍ مشهور، استخرج مازن ورقتين من داخل الظرف، بكفين مرتعشين ومقلٍ تتحرك بعدم ثبات شرع مازن في قراءة نتيجة التحاليل أمامه، صدمته النتيجة الأولى إلا أنه أمسك عقله بالإجبار وهو يجذب الورقة الثانية بعنف لتتضاعف صدمته، سقطت الوريقات من يده وهو يستند بظهره إلى الخلف، ثبت نظراته المصدومة على نقطة فارغة أمامه وهو يستعيد الموقف برمته...

عاد من مستشفى الأورام السرطانية إلى منزله فوراً، في رأسه فكرة سينفذها الليلة مهما كلفه الأمر، استقبلته جهينة شقيقته أثناء خروجها من المطبخ، تساءلت باستغراب فيما هي تجفف يديها بمنديل قماشي: مازن؟ أراكَ عدتَ سريعاً؟
لوت فمها لتتابع بامتعاض: لا تخبرني أنك جائع أرجوك لأن الغداء لم يجهز بعد...
قاطع ثرثرتها الفارغة قائلا بصوت جاد: أين أبي و أمي جهينة؟

أجابت الأخيرة وهي تضمّ كفيها أمام بطنها بانزعاج بائن: أمي لم تعدْ من مشوارها بعد، و أبي خرج قبل قليل و لم يخبرني إلى أين هو ذاهب...
لم تكمل عبارتها حين اندفع مازن من أمامها متمتماً: هذا أفضل..

راقبته بذهول أثناء صعوده الدرج بسرعة فهتفت باسمه عدة مرات لكنه لم يجب، اندفع أولاً ناحية غرفة والدته ليجدها مفتوحة، بخطوات مدروسة توجه إلى مرآتها المعلقة في حجرة منفصلة عن غرفة النوم، و على طاولة صغيرة أمام المرآة وجد مراده، مشط والدته، رفعه أمام عينيه ليتأكد من تواجد بضع شعيرات من ميادة عليه وقد وجدها، بحث بعينيه عن كيسٍ ما فرآى كيساً صغيراً أخفته ميادة خلف المرآة فسحبه سريعاً، وضع المشط داخله ثم خرج وهذه المرة هبط للأسفل اتجه ناحية الغرفة التي ينام فيها والده منذ وقت قريب، سار ناحية الحمام ليجد فرشاة الأسنان القديمة الخاصة بعثمان، لحسن الحظ كانت هناك أخرى جديدة فلن يفتقدها عثمان وهذا المطلوب، استلّ الفرشاة من مكانها ثم خرج لتقطع جهينة طريقه هاتفة بذهول: ما الذي تفعله مازن؟

لم يأبه بأن يجيبها بل دفعها بيده و هو بالكاد يرى أمامه، دُهشت جهينة من فعلته و هي التي لم تعتد على معاملة خشنة منه هو بالذات، لم تشعر و هي واقفة مكانها بالمطارق التي تطرق في رأس شقيقها، ولا بالغضب الذي اشتعلت جذوته في صدره لمجرد شكوك، قرر مازن قطع الشك باليقين، وإن صدقت ظنونه فلن يحدث ما هو خير أبداً...

شغلها أمر سعاد كثيراً خلال الأيام الفائتة فقررت أخذ استشارته في أمرها، فهي تهتمّ لأمر مرضاها بشدة صحيح؟
لا والله إنها كاذبة، ما كان موضوع سعاد سوى عذراً بالياً اتخذته هويدا لترى مازن وتتحدث معه، خلال الأيام المنصرمة ابتعد مازن عنها فجأة و دون سابق إنذار وهذا جعلها تفكر فيه تلقائياً، لم تهتدِ للسبب الذي جعله يجافيها فجأة هكذا لكنها لا تنكر اشتياقها للحديث معه...

طرقت على بابه بتهذيب ثم فتحته مبتسمةً برسمية، رأته يجلس هناك وظنّت أنه يتطلع نحوها، تقدمت هويدا ناحيته قائلة بنبرة لطيفة: جيد أني وجدتكُ هنا طبيب مازن، كنتُ أريد استشارتك في أمر ما.
لم يتجاوب معها ولم يحرك ناظريه مقدار أنملة مما جعلها تستريب في أمره، بدى كما لو أنه لم بنتبه لتواجدها نهائياً فحركت يدها أمام وجهه هاتفة باستغراب: حضرة الطبيب؟

أجفل بخفة ناظراً إليها بعينين غائمتين باتساع، تلاقى حاجبيها بذهول وهي تراه لأول مرة على هذه الحال، فتساءلت بذهول: هل أنت بخير؟
رفرف بعينيه مرات عدة حتى نطق بنبرة فارغة جعلت ملامحها تنقبض بعدم فهم: أنا لستُ أنا، أنا مجرد كذبة، من أنا؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة