قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة اثنان

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة اثنان

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي) للكاتبة آية محمد رفعت مقدمة اثنان

امتعضت معالمه وهو يقرأ رسالة من يناطحه العند والغرور، وكأن لا أحدٌ يجرأ على مجابهته سوى شبله الصغير.

«طمنيني عليكي يا حبيبتي، أنا قلقان عليكِ، متخافيش منه قوليلي مكانك فين وأنا هجيلك على طول، أنا فاهم وعارف انه طباعه هي اللي صعبة انتي مغلطتيش، أنا جنبك وهفضل جنبك، مقدرتش أوقفه لما دخل المستشفى وأخدك خوفت أعمل شوشرة والصحافة بتحوم على أي خبر خاص بالجارحي، ده السبب الوحيد اللي منعني اقفله».

جز على أسنانه بغضبٍ، وكأن هذا يستغل نقطة ليست بيده بالنهاية هو ابنه وزوجته التي يعشقها أكثر من روحه أمٍ لذلك البغيض الذي ينافسه على حبها، ربما إن لم يكن غير ذلك لكان استلذ بقتله، فكيف ينعتها حبيبته وهي حبيبة له دون سواه، رفيقة لقلبه وتخصه وحده، لا يرغب في التفكير بأن يتشاركها أحدًا معه حتى وإن كان هذا المعتوه ابنه الشرس!

مرر ياسين يده بين خصلات شعره البنية بتعصبٍ شديد، ومن ثم عبث بأزرر الهاتف ببسمةٍ ماكرة، فأتاه من يتساءل بحيرةٍ:
بتعمل أيه في موبيلي!
والتقطته منه، فعبست بملامحها وهي تردد بصدمةٍ:
بتبلك ابنك يا ياسين!

تجهمت نظرته التي يسلطها تجاهها من طرفي عينيه، وخاصة حينما جلست لجواره وهي تخبره بدهشةٍ:
أنا حقيقي مش قادرة استوعبك، ده ابني!
اعتدل بجلسته وهو يشير لها باستنكارٍ:
مهو عشان كده عايش، ابنك اللي بتتباهي ده بيتعمد يستفزني، عامل بالظبط زي اللي بيجهز حلبة المصارعة وييترجى منافسه يطلع غصب عنه!
فشلت بكبت ضحكتها التي انفلتت لتغزو وجهها وهي تردد بعدم تصديق:
مش معقول اللي بيحصل ده!

رفع حاجبيه بسخطٍ، واعتدل بجلسته ثم جذب حاسوبه ليتجاهلها بعمدٍ، فسكنت الاجواء فيما بينهما قليلًا، إلى أن بدأت آية بالحديث، فقالت بجديةٍ:
متوقعتش ان العلاقة هتبقى بينك ويين عدي بالشكل ده، كنت واثقة انك هتحبه أكتر من عمر لانه بيشبهك في كل حاجة حتى طباعك!
فور سماعه كلماتها القاسية التي استهدفت قلبه بحرفيةٍ ترك ما بيده والتفت تجاهها وهو يردد بحدةٍ:.

مفيش أب بالكون كله بيكره ابن من اولاده يا آية، أنتي فاهمه علاقتي بعدي غلط، تعصبي وتعاملي الحازم معاه حبًا وخوفًا عليه..
دفعتها كلماتها لفتح موضوع معلق ودت الحديث به أكثر من مرة ولم تمتلك الشجاعة، فاستدرجته قائلة:
خوف عليه من أيه يا ياسين!
تعمق بنظراته الساكنة تجاهها لدقائقٍ أثر فيهم الصمت ومن ثم تحرر صوته الرزين ليخبرها بثباتٍ قاتل:
من إنه يبقى شبهي.

زوت حاجبيها بدهشةٍ فاسترسل بنبرةٍ ولأول مرة تعكس حالته وما يشعر به:
مش عايزه يعيش اللي أنا عشته، حابب افهمه اني اتجبرت ابقى ياسين الجارحي ومكنش قدامي اي اختيارات تانية، لكن هو لا معش اللي أنا عشته ولا شاف اللي شوفته، عارف انه شبهي أوي بس ده مش مبرر انه يبقى نسخة مني يا آية..

وفرد قدميه ليستند بأحداهما على الأخرى، ثم ربع يديه أمام صدره القوي ومال بجسده ليستند على طرف المقعد وهو يفيض بما يؤلم جعبته:.

كان عندي تسع سنين لما عرفت بخبر وفاة والدي ووالدتي، الاتنين ماتوا في حادث وسبولي يارا، مكنش عندها غير سنتين ونص وأنا المتكافل بيها، كنت أب وأم وأخ وكل حاجه في حياتها، تقدري تقولي إن كان جوايا حرب بين التلج والنار، ما بين عتمان الجارحي وقسوته عليا وما بين اختي اللي كنت بحاول اكون حنين معاها لانها ملهاش غيري، يمكن كنت بكره جدي وطريقته معايا بس لما كبرت عرفت هو ليه كان بيعمل معايا كده.

واتجهت نظراته إليها وهو يسترسل ببسمةٍ ساخرة:
لما كان اللي في سني بيفكروا وبيحلموا في الالعاب اللي نفسهم يشتروها كنت بفكر ازاي أبقى مؤهل أني استلم مقر آل الجارحي.
منحته نظرة حملت بالكثير من الأسئلة والاتهامات، فأتاها موضحًا بغوصه عما يتعلق بطفولة يفتح أسوارها لها لأول مرة:.

مكنش ينفع أبقى ضعيف وأعمامي موجودين، نظراتهم لوالدي كانت كلها كره لأنه كان قريب من جدي في كل حاجة، ولما مات كانوا مستانينه يختار واحد فيهم يترأس المقر بس الغريب انه فضل يديره لحد ما أنا قدرت استرجعه وبكامل ارادته..

وتعمق بالتطلع إليها وهو يسترسل:
لو كنت ضعيف كانوا اتخلصوا مني من زمان يا آية، الحب اللي انتي شايفاه دلوقتي بينا محدش زرعه غيري أنا ويحيى، يمكن لاننا دوقنا مرارة الحقد والكره اللي عشناه سنين بين أهلنا واتعلمنا منه صح، وللاسف لما ده حصل لقينا نفسنا بنشيل مسؤولية أكبر.
وحرك رأسه بختام حديثه وهو يخبرها:
عمره ما هيبقى شبهي يا آية، مفيش وجه مقارنات..

كانت سعيدة وهي تستمع اليه يتحدث عما كبته لاعوام ولم تستطيع أبدًا مجارته بالحديث.
رفعت كفها لتضعه فوق كفه، فحرر يديه ثم استقام بجلسته وانحنى تجاهها بجسده، ثم وضع يده على خديها الناعم، فاهلكتها نظراته الصافنة بعينيها، وكأنها تلزمها بفك غموض كلماته الساكنة، قربها ياسين منه ثم استند برأسه على رأسها، فألهبت أنفاسه بشرتها:.

حياتي كلها اتغيرت من وقت ما دخلتيها يا آية، دخلتي ألوانك للأبيض والأسود وحولتيه لواقع ملموس.
أي حد كان بيحاول يبعدني عن العالم اللي بنيته لتفسي كان بيتحرق بجحيمه وقسوة جدرانه، الا انتي مش بس.

قدرتي تفصليني عن عالمي الخاص، قدرتي تكسبي قلبي وتسكنيه.
وقربها إليه ليحتضنها بقوة وصوته الرجولي الجذاب يهمس:
أنتي اللي سكنتي جوارحي وعواطفي وكل ما أملك يا ملاكي!
أغلقت عينيها بقوةٍ، وهي تحاول السيطرة على مشاعرها الصارخة بداخلها، وبالنهاية تعامل لمساته الخبيرة معها جعلها تستسلم بين يديه، فاستطرد بصوته الرخيم المميز:
وادتيني أحلى تلات هدايا في حياتي، (عدي، وعمر، ومليكة).

ثم ابتسم وهو يسترسل بحب أبوي جعل نبرته دافئة حنونة:
لسه فاكر اللحظة اللي الدكتور خرج بيها بعدي وعمر، والارتباك اللي حسيت بيه لما شلتهم بين دراعي، عمر كان هادي ومستكين على عكس عدي مكنش مبكل بكى في اللحظة اللي شلته فيها، كأنه كان بيبشرني بالحروب الجاية كتمهيد سابق.

ضحكت بين ذراعيه بسعادةٍ لم تشعر بها يومًا، فأخيرًا زوجها خرج عن صمته المهيب وكلماته المقتصرة ويخرج لها عن ماضيه باستفاضةٍ جعلتها مندهشة، فرفعت رأسها عن أحضانه لتتعمق بعسليةٍ عينيه، علها تستحوذ على كامل اهتمامه وهي تخبره:
عشان خاطري بلاش تقسى عليه أكتر من كده.
اخشوشنت نبرته المشككة:
ده انسان تخافي عليه!

كبتت ضحكاتها بصعوبة، فابتسم لتزداد وسامته، ثم عاد ليقربها إليه مجددًا، ابهامه يفرك أعلى ذراعيها برفقٍ جعلها تذوب عشقًا، فاستطرد بنبرة جافة وحازمة رغم نعومة لمساته:
لازم أبقى معاه كده وخصوصًا بعد اللي عمله من ورا دهري.
حاولت الدفاع عنه بدون إثارة غضبه، فقالت:
يمكن ميقصدش يا ياسين، عدي ظابط شرطة وصعب يتعامل مع الصفقات اللي وكلته بيها.

أغلق عينيه بقوةٍ يحتمل غضبه الذي سيحطم لحظاتهم الرومانسية لا محالة، فأبعدها عنه مجددًا ثم قرب يديه ليبعد عنها خصلاتها المتمردة لتخفي عينيها المتوهجة بشرارة عاطفته، أعادها لخلف أذنيه ثم قال بحنان رغم أهمية ما يقوله:.

حبيبتي افهميني، ابظروف اللي انا عشت فيها غير اللي عدي اتولد فيها، مكنش قدامي حلول تانية غير اني أكون كده، كان لازم أكون صلب وأقدر أواجه حروب أعمامي الباردة، كانوا بيضربوني من تحت لتحت ومن غير ما عتمان الجارحي يحس بحاجة، لو مكنتش صلب وصعب التغلب عليا كان مصيري هيبقى أبشع مما تتوقعي.

واستطرد بكرهٍ شديد:
عمي كان مستعد يعمل أي شيء عشان يتخلص مني، الولد الصغير اللي محسبش حسابه دمرله كل مخططاته واعتلى عرش امبراطورية الجارحي مكانه، طبيعي ان يكونله ردود أفعال خبيثة زي نواياه..
وبنظرة استحسنت دوافعها واهتمامها قال:
لدرجة انه حاول يتخلص مني أكتر من مرة.
جحظت عينيها في صدمةٍ، فكبتت بيدها شهقاتها بصعوبةٍ، ابتسم ياسين ساخرًا وأخبرها:.

مستغربيش يا آية، قولتلك أنا خوضت حروب كتيرة أوي لحد ما بقيت خبير.
وضم شفتيه معًا وهو يضيف بنزقٍ:
وكنت قدام اختيار تاني، اني أعلن الحرب علني عليه وساعتها عتمان الجارحي هيبقى في صفي وهنا هيواجه نتايج عكسية لاني حافظ دماغ جدي أول حاجة هيعملها هيكتبلي كل الممتلكات باسمي صحيح هتبقى حسرة لعمي بس خسارتي ليحيى ولاولاد عمي خلاني أتراجع وأختار الحل التاني، ألعبه من تحت لتحت وياما كنت هجبله ذبحات صدرية..

ثم ضحك باستهزاءٍ:
بس عمي دم الجارحي بيجري بعروقه، مكنش بيستسلم عشان كده فكر بطريقة تانية تضمنله الممتلكات والثروة اللي مش بيفكر بيها، فكانت اول انتصارته حب يارا لعز..
ونفث ما بداخله وهو يردد:.

مكنش عندي شكوك في حب عز لاني عارف أد أيه بيحبها، وبالرغم من عدم رغبتي بالجواز ده الا اني محبتش أقف قدام قصة حبها وأنا وعدتها إني هكون جنبها في كل قرار هتأخده، ويمكن كنت بحاول احميها من شر عمي لما تبقي زوجة لابنه هيضمن ان الثروة مش هتخرج من تحت ايده وهيبعدها عن ساحة الحروب الدايرة بينا.

وبحزنٍ بدى بصوته لأول مرة:
ربنا يرحمه ميجوزش عليه الا الرحمة.
واستدار تجاهها وهو يخبرها بابتسامةٍ صغيرة:
شوفتي ان اللي أنا عشته صعب ومش ممكن عدي يعيشه لاني ببساطة نجحت ازرع الحب اللي فشل جدي بزرعه بين اولاده، وأنا عايز عدي يكمل اللي يديته، يضمهم ليه وميحاولش يشتت جمعهم،.

يكون بدالي بس مش لازم يمشي على نفس طريقتي، مش لازم يكون اسلوبه مشابه ليا، أنا مش حابب أشوف نفسي فيه يا آية مش حابب ده، مش عايزه يعيش اللي أنا عشته، ولا أحرمه من اللي أنا اتحرمت منه، حابب انه يحققلي هدفي بدون ما يبقى نسخة كئيبة مني!

تحررت دمعاتها اللامعة خلف أهدابها، فترقرقت على وجنتها، ودقات قلبها تخفق بعنفٍ، وكأنها تركض لمسافاتٍ مرهقة، انتبه إليها ياسين، فحاوطها بذراعها، ثم أزاح عنها دموعها وهو يتساءل بلهفةٍ:
حبيبتي مالك؟
ارتمت بين ذراعيه وتشبثت به بقوةٍ كادت بتحطيم ضلوعه، فضمها اليه بابتسامةٍ رسمت على طرفي شفتيه الماكرة، فهمس إليها:
أنا جانبك، متخافيش يا روحي.
ومرر يديه على طول خصرها وهو يهمس لها بصوته العذب:.

كل ده من الماضي، أنا كويس قدامك أهو!
رفض عقلها استعاب ما يخبرها به، وبكت بين أحضانه فزاد من ضمها، حتى حملها بين ذراعيه، ومال على رقبتها ينعم برائحتها التي يعشقها حد الجنون، فأغلقت عينيها وهي تنايه باضطرابٍ:
ياسين!

همس لها من بين شفتيه:
ملاكه!
ابتسمت على كلمته، ثم قالت وهي تغفو على ذراعيه:
أنا بحبك وحبي لعدي وعمر متعلق بيك.
ابتسم على خبثها بما تود اخباره به، فابعدها عنه ثم رفع أحد حاجبيه بسخطٍ فتهربت من مواجهته، رفع ذقنها إليه ثم قال بصوت تعمد جعله ثابت:
أنتي مش هتبطلي تفكري بابنك المحروس ده يا هانم ولا أيه!
وبتحذيرٍ أضاف:
هقلب تاني!
صرخت بوجهه بفزعٍ:
لا لا لاااا، أنا مصدقت انك وأخيرًا بعد السنين دي كلها بتتكلم.

ضحك بصوته الرجولي الجذاب، ثم جذبها تجاهه وهو يحاول السيطرة على نوبة ضحكه:
ليه حد قالك إني أخرس!
احتدت نظراتها وهي تخبره:
انت مش بتشوف نفسك ولا أيه؟!

عبث بأحد خصلات شعرها بين أصبعيه وهو يخبره بهدوءٍ رغم حدة ما سيقول:
وهرجع كده بمجرد ما نرجع، بس الأكيد واللي بتنكريه حاليًا قدام عيوني إني معاكي حد تاني غير أي حد.

وتمدد بجسده على المقعد ثم جذب الغطاء ليداثرها بين أحضانه حينما طافتهما نسمة هواء باردة، استسلمت آية للنوم الذي يهاجمها بين دفء أحضانه وحنان لمساته، وكأنه يضم ابنته الصغيرة ويهدهدها لتحظى بنومة هادئة عله ينجز مهامه، فما أن غفت حتى فردها بشكلٍ مستقيم على المقعد، ومدد الغطاء لجسدها بأكمله، وانحنى بقامته ليطبع قبلة حنونة على جبهتها، ثم اتجه للمطبخ الجانبي، فجذب أحد زجاجات العصير ثم اغلقها على مضضٍ، وجذب حاسوبه واتجه للطابق العلوي.

وضع حاسوبه على الطاولة ثم جذب الكوب الذي جهزه مباشرة من زجاجة العصير المنعش، ودنا ليقف على حافة اليخت يتناول عصيره بنظراتٍ شاردة بموجات المياه الشرسة التي تتلاطم بقاع اليخت بقوةٍ، طافته نسمات من الهواء حررت قميصه المغلق على التيشرت الأبيض، فأغلق عينيه بثباتٍ، وكأنه يجابها مثلما اعتاد، وحينما سكنت فتح عسلية عينيه التي تحاوطها أهداب كثيفة وكأنها تحمي سحرها الفتاك، فما أن انتهى من كوبه حتى وضعه جانبًا، وعاد ليجلس بالقرب من الطاولة، فجذب حاسوبه وبدأ بمتابعة العمل بالمقر وخاصة الصفقات التي يديرها عدي و عمر، كان يراقب ما يفعلونه ليضمن تطورهم بمجالٍ شاق عليهما.

ظل ساعة كاملة يعمل ثم أغلق الحاسوب وتمدد على المقعد باريحيةٍ، وفجأة تذكر الدفتر الذي أخفاه، فابتسم بخبثٍ حينما شعر بأن الوقت المناسب لتفحصه قد أتى، فسحبه ياسين ثم رفعه نصب عينيه وهو يردد بنبرته الدافئة:
لحظاتٍ خاصة!
بدى من تاريخ الدفتر بأنه حديث، ربما اختارت أن تدون مشاعرها وذكرياتها معه منذ وقتٍ قريبٍ، فتح ياسين أول صفحاته ليقرأ ما كتبته بصوتٍ خافت.

«تركت يدك مرة فواجهتني الحياة بكل ما امتلكت من قوةٍ، وكأنها تخبرني بأنني مخطئة حينما سحبت قوة أماني من بين أحضانك، فاشتقت لضمة قبضتك القوية التي تساندني حينما اتعرقل بين زقاق أوجاعي، عساك تعلم بأن تلك الفتاة البسيطة ستواجه ما سيجعلها تتوق لوجودك لجوارها، ولكن ترى هل ستجدك تشدد من ضمة يدها مثلما كنت تفعل أم ستبعدها عن جحيمٍ كانت سبب في اقتداد نيرانه!».

انكمشت تعابيره بذهولٍ من قرأت تلك الكلمات الغامضة، ولكن لم يعلق عليها فهو يعلم حبها لكتابة مثل تلك الخواطر، ومازال لا يعلم ماذا يحوي الدفتر، ففتح أول صفحاته وبدأ يقرأ بعينيه المتلهفة لقراءة كل سطرٍ خطى بقلم معشوقة قلبه التي اتصلت بخفقاته فور قراءة أول كلماتها.

«كنت تائهة، حائرة، مشتتة أمام عينيه العسلية التي تتطلع إلي بعمقٍ وغموض، فارتجف جسدي خشية من هيبة ذلك الرجل الغامض، وتساءلت ما الذي فعلته ليمنحني كل ذلك الاهتمام، وفجأة تحررت يده عن معصمي فركضت بكل قوتي تجاه الغرفة التي تقطن بها جدتي، وكأنني حصلت على نجاة وخلاص من مستقبلٌ أجهله، ولكنني كنت مخطئة، ثمة شيئًا غريبًا يربطني به، وعلمت ذلك في المرةٍ الثانية التي رأيته في مقر عملي، حينها علمت بأنني هدفًا يترصده ياسين الجارحي».

طوى ياسين صفحة المذكرة الخاصة بها والابتسامة تغزو وجهه، فمال برأسه وهو يتطلع على غلاف المفكرة ويهمس بثباتٍ رزين:
وكتبتي أيه تاني عني!

اوقفه فضوله عن متابعة قراءة النوت الخاص بها فور تأكده بأنها دونته بقلم يدها، ربما كان يظنه يحمل الخواطر وبالرغم من درجة العشق الخطيرة بينهما الا أنه لم يسمح لنفسه بالنبش خلف خصوصياتها، لم يرغب ياسين بالتخطي على ممتلكاتها، بالطبع ستحزن آن علمت بأنه اقتحم منبع أسرارها وخاصتها الآمن، ربما كان سيقرأ صفحاته بأكملها دون أن يعلمها بذلك، ولكنه يحترمها لأبعد الحدود حتى وإن لم تكن لجواره وتراقبه، كبت فضوله بصعوبةٍ وأعاد الدفتر لحقيبتها، ثم رفع ساعة يده التي حذرته بموعده الذي دونه على سطحها، فانحنى للحقيبة الموضوعة جانبًا ثم جذبها واتجه نحوها، فأبعد عنها الغطاء ثم شمر عن ساعديها، ولف حول ذراعها الحزام الجلدي المتعلق بجهاز قياس الضغط، ومن ثم بدأ بالضخ ليراقب مقياسه باهتمامٍ، فابتسم وهو يهمس برضا:.

عظيم.

ثم أعاد ما يحمله للحقيبة، وانحنى بجذعه تجاهها، فحملها واتجه بها للدرج، لفت يدها حول عنقه والابتسامة تغزو وجهها، فرفع أحد حاجبيه وهو يردد باستنكارٍ:
خلصتي دورك التمثيلي!
سندت رأسها على صدره وهي تهمس له بنومٍ:
همثل لأخر عمري عشان تشيلني بحنان زي ما بتعمل كده.
ضحك بصوتٍ مسموع، ثم هبط بها للأسفل وهو يردد ساخرًا:
هشيلك من غير حاجة مش حوار يعني!
فتحت نصف عين وهي تتساءل بمرحٍ:
يعني العضمة مكبرتش!

حدجها بنظرةٍ ثاقبة، ثم أغلق باب الغرفة بقدميه، خشيت من انقلاب نظراته الدافئة، فابتلعت ريقها بتوترٍ وخاصة حينما تمدد لجوارها بسكونٍ عجيب، مزقه حينما قال بمكرٍ:
بحاول استوعب ده وأخلى اللي حوليا يستوعبوه لحد اللحظة دي، وبستغرب جدًا لما بدخل أي ميتنج وألقى في اعجاب بديهي من الموظفات، حقيقي ببقى نفسي أكتبلهم يافتة عريضة إني جد يمكن يا حبيبتي لانهم على حق أنا لسه شباب وشكلي أصغر من اولادك نفسهم.

نهضت عن الفراش وربعت يدها بمنتصف خصرها وهي تصرخ بغيرةٍ:
نعم بنات مين دول، وقصدك أيه بأخر جزء من كلامك تقصد ان أنا اللي كبرت صح، لا أنا لسه صغيرة وجميلة والكل شايف ده وأخرهم الدكتور اللي كنا عنده أنا وعدي فكرني مراته مش أم...
بترت كلماتها بفزعٍ لما تفوهت به، ناهيك عن رؤياها لنظراته الشبيهة بالجحيم المقتاد، ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، وصوتها الخافت يهمس بخوفٍ:
مقصدش أنا بس آآ...

ابتلعت كلماتها للمرةٍ الثانية حينما رفعت عينيها تجاهه، فتمكنت من رؤية ثورة عينيه القاتلة، وكأنها طوفتها بنيرانٍ واشعلت جسدها بأكمله، فتراجعت زحفًا للخلف حينما رأته يدنو منها بقربٍ خطيرًا لها، وباتت الآن أسيرة بين ذراعيه، لا تبرير سيجدي نفعًا ولا صراخ واستنجاد بنسخته العاتية ستجدي نفعًا، والضرر الوحيد هي الغيرة الحارقة حد الموت!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة