قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل التاسع والعشرون

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل التاسع والعشرون

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل التاسع والعشرون

(( وَبَات اللقاءُ بَيّنَنا مُحَال
لنْ تَأتِي أَبَداً إِليّ
حَتَى وَإِن الزَمَان طَال
فَكُل شِيءٍ بَعدُكَ أَبِي أَصبَحَ فِي زَوَال ))
هكذا شيعت إيثار والدها إلى مثواه الأخير بعبرات حارقة، كانت تعتقد أنه سنوات عمره ستمتد إلى سنوات وسنوات، ولكن لكل أجل كتاب، وها قد حان وقت رحيله..
جرجرت تحية قدميها وهي مستندة على سيدتين من أقاربهم ممن أتوا لتأدية واجب العزاء.

شارك عمرو في حمل جثمان أبيه، وتعهد له بتنفيذ وصيته الأخيرة في حق أخته الصغرى..
نعم سيصبح سندها، ظهرها الذي تحتمي فيه من غدر الزمان، من تلجأ إليه في أصعب الأزمات، سيعوضها عما فات..

جلس مالك في الحديقة يترقب وصولها بعد أن قرر عدم الذهاب إلى عمله اليوم، ولكنها تأخرت على غير عادتها..
طالع ساعته لأكثر من مرة، وزفر بإنزعاج واضح..
هز ساقه بعصبية، وارتشف أخر ما تبقى من فنجان قهوته..
مل من إنتظارها، وعقد العزم على مهاتفتها..
أمسك بهاتفه، وعبث بأزراره ليتصل بها، ولكنها لم تجب على اتصاله..
ظن أنها تتجاهل إياه عن عمد، فتجهمت قسماته، وتوعدها بالتوبيخ اللاذع..

عاود الإتصال بها، لكن لا جديد، فزاد حنقه منها، وتمتم بنبرة محتدة:
ماشي يا إيثار!
ثم نهض من مكانه، وتوجه إلى الفيلا وهو يصيح بصوت منفعل:
راوية، جهزي ريفان، أنا هاخدها وخارج
ردت عليه الخادمة راوية بنبرة خانعة:
حاضر يا مالك باشا!
ثم توجه بعدها إلى الدرج ليصعد إلى غرفته ويبدل ثيابه..

توقفت لتلتقط أنفاسها في جانب الزقاق الضيق بعد أن ركضت بأقصى سرعتها هاربة منهم، إنهم يطاردونها الآن بسبب عجزها عن سداد الدين..
لم تعد تتحمل تلك الضغوط القاسية، بل هي لم تتخيل أن تتحول حياتها إلى جحيم لا ينتهي..
كانت تبحث عن الثراء والراحة، ناقمة على حياتها الماضية، وظنت بزواجها من رامز ستتحقق جميع أحلامها، لكن مع أول ليلة لهما بعيداً عن وطنها، اكتشفت أن وعوده بالكامل كانت مجرد أوهام..

اعتدلت سارة في وقفتها، ثم أكملت ركضها وهي تدعو الله في نفسها ألا تطالها أيدي الشرطة..
لكن هيهات، ها قد حاصرها رجال الشرطة في زاوية ما، وألقوا القبض عليها لتبدأ مرحلة جديدة من عذابها الذي لا ينتهي..
قادوها إلى السيارة وهم يسبونها بألفاظ تدنى لها الجبين، فبكت بمرارة على حالها البائس..
ثلاث سنوات مضت وهي تتجرع نتيجة إختيارها الخاطيء، لم تشعر بالراحة أبداً وكأنها تعاقب على جريرتها في حق إيثار..

صف مالك سيارته على مقربة من البناية القديمة، فقد تعذر عليه ركنها بجوارها بسبب ذلك السرادق الذي يقام أمامها..
ترجل من السيارة، والتفت بجسده للخلف، ثم فتح الباب الخلفي ليخرج صغيرته بعد أن أرخى حزام الأمان عن مقعدها..
حملها برفق على ذراعه، وعلق حقيبتها الخاصة على كتفه الأخر، ثم صفق الباب بهدوء، وتحرك صوب مدخلها..
لاحظ هو حالة الحزن والوجوم البادية على أوجه الحاضرين..

لم يتعرف على معظمهم، فقد كانوا غرباء عنه..
تساءل بجدية وهو يقترب من أحد العمال المسؤلين عن نصب السرادق:
هو ده عزا مين؟
أجابه شخص ما من الخلف بنبرة حزينة:
ده الحاج رحيم عبد التواب تعيش انت!
خفق قلبه بقوة بعد سماعه لذلك الخبر المؤسف، وتجمدت تعابير وجهه من أثر الصدمة..
إرتفعت عيناه عفوياً للأعلى لتتعلق بنافذتها المغلقة..
هكذا إذن، هي لم تتخلَ عن موعدها اليومي معه إلا بسبب وفاة أبيها..

يا إلهي كيف هو حالها؟ هي منهارة أم صامدة أمام هول الفاجعة التي عصفت بها؟
أدمعت مقلتيه تأثراً برحيله، وتحرك سريعاً للداخل..

أجلست العمة ميسرة الصغيرة ريفان على حجرها، وأخذت تداعبها بلطافة، ثم حدقت في مالك وتابعت قائلة بجدية:
هو بقاله فترة تعبان، مكوناش حتى بنشوفه لا طالع ولا نازل!
أضافت روان قائلة بهدوء:
حتى إيثار كانت بتجيله كتير الفترة اللي فاتت
أثارت عبارتها الأخيرة حفيظة مالك، فتساءل بإهتمام:
ليه هي مكانتش أعدة هنا؟
هزت روان كتفيها وهي تجيبه بنبرة حائرة:
مش عارفة بصراحة، أنا ماليش كلام معاها من زمان.

أضافت ميسرة بجدية وهي تحكم ذراعها حول الصغيرة:
احنا المفروض نعمل واجب العزا بغض النظر عن أي حاجة كانت بينا، الموت ليه حرمة!
وافقتها روان الرأي فهتفت مدعمة:
صح يا عمتو
ورد مالك بإيجاز وهو يفرك طرف ذقنه:
أكيد
ثم تحرك بعدها إلى داخل غرفته ليختلي بنفسه..
ألقى بجسده على الفراش، وشبك يديه خلف رأسه، ثم حدق في السقفية، وتنهد بعمق..
شعور مؤسف ممزوج بالضيق والإنزعاج يسيطر عليه كلياً، لا يعرف سبب غضبته..

هل هو لوفاة ذلك الرجل أم لرغبته في رؤية إيثار والاطمئنان عليها؟
إيثار، حلمه البعيد عنه والقريب منه، لا يتقبل على الإطلاق أن تستحوذ على تفكيره وهي زوجة لغيره..
لكنها كالمخدر تشتاق إليها روحه دوماً...
أغمضت عيناه بقوة ليخفي صورتها المتجسدة أمامه، ولكن أبى طيفها ألا يفارق حتى خياله..

أنهى المقريء ترتيل آيات القرآن، فاصطف المعزون في صف طويل إلى حد ما ليأدوا واجب العزاء في الحاج رحيم..
وقف ابنه عمرو في المقدمة يصافح الموجودين بنظرات شاردة ووجه عابس للغاية..
فالخسارة كبيرة، والراحل لا يعوض
ووقف إلى جواره عمه مدحت الذي لم يتمالك نفسه، فإنهار باكياً على فراق أخيه..
اقترب مالك بخطوات ثابتة ولكنها ثقيلة من عمرو ليعزيه..
تفاجيء الأخير بوجوده، ومد يده ليصافحه..

ساد بينهما صمت هاديء ظاهر للعيان، ولكنه كان هائجاً مليئاً بالمشاعر المشحونة و المختلطة ولا يفهمه سواهما..
فعمرو أخطأ في حق أخته، وأبعد عنها من أحبها بصدق من أجل كاذب مخادع أوقعه ببساطة في شرك الزواج..
ومالك يكنْ له مشاعر عدائية بسبب مواقفهما السابقة معاً..
شيد حيلك
قالها مالك بصوت هاديء وآجش ليقطع هذا الصمت الخطير، فأجابه هو بجمود:
الشدة على الله، سعيكم مشكور!
تحرك بعدها مالك للداخل ليجلس ضمن المعزين..

إنزوت إيثار في ركن بمنزلها، تبكي بلا توقف – وفي صمت – على رحيل أبيها..
ربما لم تكن على وفاق معه، لكن فراقه أحدث هوة كبيرة في حياتها..
ساعدت إيمان تحية في الترحيب بالمعزيات، فالخطب جلل، والمصيبة تشمل الجميع..
ولجت ميسرة ومعها روان إلى داخل صالة المنزل، وبحثت الاثنين بأعينهما عن تحية وابنتها..

ضغطت روان على كتف عمتها حينما لمحت تحية وهي تجلس على المقعد تتحسر على موت زوجها، سندها في الحياة..
فتحركت كلتاهما نحوها..
دنت ميسرة منها، وانحنت لتقبلها وهي تقول بنبرة مواسية:
البقاء لله يا ست تحية، قلبي عندك
رفعت تحية عينيها المتورمتين لتنظر لصاحبة الصوت المألوف، فهزت رأسها بآسى وهي ترد قائلة:
الدوام لله وحده، سابني وراح، سابني لوحدي، آآآه
ردت عليها ميسرة بهدوء:
اذكري الله، كلنا رايحين بس هي مواقيت!

جابت روان بعينيها المكان بحثاً عن إيثار فرأتها، فمالت على عمتها لتهمس لها وهي تضع يدها على ذراعها:
عمتو، أنا هاروح أعزي ايثار!
ربتت ميسرة على كفها المسنود عليها، وهمست:
طيب يا بنتي!
اتجهت روان نحوها حتى وقفت قبالتها، فأردفت قائلة بصوت خفيض:
إيثار
التفتت لها الأخيرة لتجد رفيقة أيامها الخوالي، وذكرياتها الجميلة أمامها، فردت عليها بصوت مبحوح وباكي:
بابا، راح!

أشفقت روان على حالها، وبلا تردد انحنت لتحتضنها بذراعيها، وقبلت أعلى رأسها وهي تقول بأسف:
ربنا يرحمه ويصبركم يا ريري!
همست إيثار بلا وعي وهي تبكي بمرارة:
راح قبل ما يسمعها مني، مات يا روان قبل ما أقوله إني مسمحاه!
أجهشت بالبكاء وهي تتابع بندم:
والله مسمحاك يا بابا، صدقني يا بابا، أنا راضية بكل اللي حصلي في حياتي، أيوه ده مقدر ومكتوب، وأنا مسمحاك
مسحت روان على ظهرها، وبكت وهي تقول:
اهدي يا إيثار.

نظرت لها الأخيرة بأعينها المنتفخة وهي تسألها بخوف:
تفتكري هايحس بده، ولا خلاص معدتش ينفع؟
ردت عليها بصوت مختنق وهي تمسح أنفها:
اكيد هايحس بيكي، انتي بس ادعيله بالرحمة!
تنهدت إيثار بحرارة وهي ترد:
بأدعيله من زمان، آآه يا بابا!
هزت روان رأسها في حزن لتهمس قائلة:
لا حول ولا قوة إلا بالله!

ناولت روان أخيها مالك صغيرته ريفان ليسندها على كتفه بعد أن غفت ليعود بها إلى فيلته، وتابعت قائلة بنبرة أسفة وهي تستدير برأسها ناحية عمتها:
حالها يصعب على الكافر، مكانتش خالص في وعيها
ردت عليها ميسرة بحزن:
أبوها يا بنتي كان ليه تأثير كبير في حياتها
تابعت روان قائلة بفضول وهي قاطبة جبينها:.

اللي مستغرباه إنها غلبت تقول كذا مرة انها مسمحاه على اللي عمله فيها، أنا مش عارفة بالظبط التفاصيل، بس واضح إن الموضوع كان كبير!
تابع مالك الحديث الغامض عما يخص إيثار دون أن ينطق بكلمة، ولكنه استرعى إنتباهه بشدة..
وتساءل مع نفسه عن السبب القوي الذي يجعلها تردد مثل تلك العبارات، أللمسألة علاقة بخطبتهما السابقة أم بزيجتها الحالية، أم هناك أمر خفي لا يعرفه؟

هتف ميسرة محذرة وهي ترمق ابنة أخيها بنظرات منزعجة:
مالناش دعوة يا روان، إحنا عملنا الواجب وخلاص!
ردت عليها بإمتعاض:
طيب
تردد هي في سؤال أخيها عن شقيق إيثار، فهي لم تتمكن من رؤيته مطلقاً طوال اليوم، وأرادت الإطمئنان على حاله، ربما لاعتقادها أنه يحتاج إلى دعم معنوي كبير في تلك المحنة..
عضت على شفتها السفلى بإرتباك، وتساءلت بحذر:
على كده إنت شوفت عمرو يا مالك؟

ضيق نظراته وهو ينظر نحوها، وسألها بجدية وقد تشكلت على قسمات وجهه تعابير حادة:
بتسألي ليه؟
هزت كتفيها في عدم اكتراث وهي تجيبه:
عادي يعني
أضاف هو قائلاً بنبرة شبه ساخطة:
أكيد هاكون شوفته، وعزيته كمان
بررت روان سؤالها قائلة بهدوء:
أنا فكرت إنك يعني ممكن تعزي عمه بس!
حرك رأسه نافياً وهو يوضح لها:
لأ، الواجب مالوش دعوة بأي مشاكل كانت موجودة!
هتف إبراهيم بصوت متحشرج:
عندك حق يا بني، ربنا يلطف بعباده!

تنحنح مالك بصوت خافت، ثم أردف قائلاً بجدية:
طيب هستأذن أنا بقى، يدوب ألحق أروح!
وقفت ميسرة إلى جواره، ومسحت بنعومة على ظهر الصغيرة النائمة، ثم ردت عليه مقترحة:
طب ما تبات النهاردة هنا؟!
أجابها معترضاً بهدوء:
لأ مش هاينفع
عاتبته عمته قائلة بضيق:
يا بني كفاية شحططة وبهدلة لليتيمة اللي معاك دي!
رد عليها بإبتسامة باهتة:
اطمني يا عمتي، أنا جايبلها واحدة كويسة واخدة بالها منها!

تساءلت بعدم اقتناع وهي تحدق فيها بنظرات مطولة:
هي فين يا بني؟ مش بتجيبها معاك ليه؟
ارتبك مالك من سؤالها المباغت، فلا أحد يعلم بكون إيثار تعمل لديه كمربية لطفلته، وهو لم يرغب في إبلاغهم بهذا الأمر حالياً، لذا حافظ على هدوئه، وعلى تعابير وجهه الجامدة، وأجابها بنبرة شبه ثابتة:
عندها ظروف عائلية اليومين دول!
ردت عليه روان مستنكرة غيابها:
من أولها كده، طب ما تشوف واحدة تانية ملتزمة؟!

التفت برأسه نحوها، وهتف مدافعاً:
هي ممتازة على فكرة، بس ده ظرف طاريء اللي حصلها!
أضافت روان قائلة بتحمس:
على فكرة أنا أعرف حد آآ...
قاطعها مالك بصرامة وقد احتدت نظراته:
روان خلاص، أنا مش عاوز كلام في الموضوع ده، أنا أدرى بالمناسب لبنتي!
حركت كتفيها بلا مبالاة، وهتفت بإمتعاض:
براحتك، أنا كنت عاوز أخدم
ابتسم لها مجاملاً وهو يقول:
متشكر يا ستي، يالا تصبحوا على خير!
ردت عليه ميسرة بنبرة أمومية حانية:.

تلاقي الخير يا حبيبي
بينما أضاف إبراهيم بصوت هاديء:
وانت من أهله يا بني
وهتفت روان بإبتسامة رقيقة:
باي يا مالوك!
ودعهم مالك، ثم انصرف عائداً بصغيرته إلى فيلته، وعقله لم يتوقف لحظة عن التفكير في إيثار، معذبته!

مر أسبوع على وفاة رحيم، وبدأت إيثار في استعادة حياتها من جديد، فلن يقف الزمن برحيل أحدهم، بل سيستمر في حركته..

دعمتها مديرة مكتب الرعاية وكذلك زميلاتها في العمل في ظروفها الحزينة، واقترحت أن تحل محلها مربية أخرى لرعاية الصغيرة ريفان حتى تستعد نفسياً للقدام لكنها تفاجئت برغبتها في العودة لعملها، والتي لم تختلف كثيراً عن دهشتها في عدم قبول مالك ببديلة عن إيثار طوال الأيام الماضية، بل على العكس أصر هو على حصول إيثار على راتبها كاملاً دون أن يختصم منه جنيهاً واحداً، فشكرته المديرة ممتنة لذوقه ورقي أخلاقه..

وبخطوات ثابتة تحركت إيثار نحو الحديقة الواسعة في ميعاد نوبة عملها المعتاد..
كان وجهها ذابلاً حد الشحوب، و عيناها دامعتان لا تتوقفان عن البكاء إلا حينما تجف عبراتها، فتنتحب بلا دموع..
كما نحف جسدها نوعاً ما بسبب قلة تناولها للطعام، هي لم تكن تأكل سوى لقيمات معدودة تجعلها تصمد فقط، لكنها لم تكن كافية لتمدها بالقوة التي تحتاجها...

رأتها راوية وهي تلمع زجاج البهو، فتهللت أساريرها، وهتفت بحماس وهي تتجه لباب الفيلا لتفتحه:
إيثار!
ابتسمت لها إبتسامة باهتة وهي تهز رأسها بإيماءة خفيفة..
احتضنتها راوية بقوة وقبلتها من وجنتيها، ثم أخفضت رأسها لتعزيها بحرج:
البقاء لله يا إيثار، أنا أسفة والله، معرفتش اجيلك، بس زعلت أوي لما عرفت
ردت عليها إيثار بفتور:
الدوام لله وحده، ولا يهمك، أنا مقدرة!
هتفت راوية بتحمس وهي تحسبها من كف يدها:.

تعالي ده ريفان هتفرح أوي لما تشوفك
تساءلت إيثار بهدوء:
هي صاحية؟
ردت عليها راوية بتردد وهي تعقد ما بين حاجبيها:
مش عارفة، بس تعالي نشوفها سوا!
تعجبت هي من ردها الغامض، ومع ذلك تحركت بإنصياع معها..
سمعت وهي تصعد على الدرج صوت ضحكاتها البريئة وهي ترن بين الجدران، فابتسمت عفوياً..
تلك الصغيرة دوماً تؤثر فيها إيجاباً..

تحركت نحو غرفتها بهدوء، ولكن تباطئت خطواتها نسبياً وهي تسمع صوت مالك الضاحك ينبعث من الداخل..
اعتصر قلبها آلماً، ودار في خلدها ذكرى ضحكه مع زوجته، وتساءلت مع نفسها بحزن، هل كل يحبها، هل كانا يضحكان معاً كما هو الحال الآن مع ثمرة حبهما؟ هل شعر يوماً بها وبمعاناتها أم أنها كانت مجرد صفحة طواها من حياته السابقة؟ ولم يبقى منها إلا ذكريات موجعة؟

نعم ذكريات جمعتها مع محسن، وما ذاقته على يديه من تعذيب نفسي قبل الجسدي، من خسارة لروحها، وإرهاق لفؤادها، من خصام لأحب الأشخاص إلى قلبها..
تنهدت بيأس وهي ترمقه بنظراتها الملتاعة..
هي تحن كثيراً إليه، تشتاق لتلك الفترة في حياتها، والتي أصبحت بالنسبة لها منذ زمن بعيد..
لم تشعر بنفسها وهي تقف على عتبة الغرفة في حالة شاردة و محدقة بهما بنظرات واجمة مليئة بالحزن والإنكسار..

استشعر مالك وجودها بقلبه قبل أن تراها عيناه، فالتفت برأسه للخلف ليجدها واقفة أمامه..
ابتسم عفوياً لرؤيتها، ولكن أزعجه حالتها تلك..
اقترب منها بحذر وهو يهدهد صغيرته التي صاحت بتحمس وسعادة بكلمات مبهمة حينما رأتها..
استطرد مالك حديثه متساءلاً بإيجاز ليجذب انتباهها بعد أن لاحظ حالتها الشاردة:
ازيك؟ آآ، عاملة ايه الوقتي؟
أفاقت من شرودها على صوته الذي انتشلها من ذكرياتها البعيدة..

نظرت له بغرابة، حدقت فيه دون أن تطرف عينيها..
أرادت أن يرى فيهما حزنها الدفين، آلمها الذي يحاصرها منذ سنوات، وجعها الذي ظل ملازماً لها لليالٍ طوال..
إنتابت مالك حالة من الإستغراب حينما رأها تطالعه بتلك النظرات الغير معتادة منها..
شعر وكأنها تود إخباره بشيء ما يعجز لسانها عن البوح به..
طال صمتهما، وطالت نظراتهما الصامتة، وحتى ضحكات الصغيرة وكلماتها العابثة لم تحول دون حديثهما الغير مقروء..

همس مالك بصعوبة وهو يحاول السيطرة على ثورة مشاعره المتأججة في صدره:
انتي كويسة؟
أغمضت عيناها دون أن تجيبه، هي ليست بخير على الإطلاق، هي تعاني، وبشدة..
هي تموت كل يوم مائة مرة من ذكرياتها التي تأبى أن تفارقها..
هتف مجدداً بنبرة متوجسة ونظراته قد تحولت للقلق على حالها:
إيثار، إنتي سمعاني؟ إنتي كويسة
ابتسمت بشحوب قبل أن تستسلم لخدر صوته الذي وجدت فيه بلسم جراحها..

لاحظ ترنح جسدها، فأسرع بمد يده ليمسكها من ذراعها، ففتحت عينيها على إثر لمسته، ورمقته بنظرات معاتبة وهي تهمس بصعوبة بكلمة مقتضبة ولكنها تحمل بين طيات حروفها الكثير والكثير:
ليه؟
لم يفهم المغزى من كلمتها المقتضبة، وقبل أن يسألها مستفهماً أغمضت عينيها بإرهاق لتسبح بعقلها في ظلام تعرفه جيداً..

انتفض مالك مذعوراً حينما رأها تفقد الوعي أمامه، ولف ذراعه حول خصرها محاولاً منعها من السقوط على الأرضية، وحافظ على وجود ابنته في ذراعه الأخر...
ضم الاثنين معاً إلى صدره، وتمسك بهما جيداً، ثم مال برأسه ناحية إيثار لينظر لها بنظرات مرتعدة، وصاح بهلع وقلبه قد قفز في قدميه من فرط خوفه عليها:
إيثار...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة