قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل العاشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل العاشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل العاشر

وقفت الحاجة صفية عند باب غرفة سيرين المفتوح، حدقت في مريم الجالسة إلى جانب سريرها لتأمرها بالخروج بنظرة من عينيها جعلت مريم تقفز من الرعب، تأملت بحزن صديقتها الشاحبة المستلقية باستسلام بينما تحول وجهها إلى لوحة من الشحوب والتعب...

أمسكت بيدها محفزة إياها على الصمود، وكأنها بتلك الحركة البسيطة تمنحها القليل من قوتها الداخلية لدفعها على الاستمرار ومجابهة الساحرة التي كانت في أتم الاستعداد للحصول على المزيد منها بل وإنهاء ما بدأته كليا هذه المرة...

لم يصدر عن سيرين أي ردة فعل إزاء دخول حماتها، استمرت بالنظر إلى النافذة التي فتحت بأوامر من الطبيب، والذي شدد على أن حالتها تحتاج عناية من نوع خاص. وجهها متصلب وعيناها متحجرتان فاقدتان للحياة، مستسلمة بهدوء مريب...

للحظات. وحتى بعد خروج مريم السريع من الغرفة تفاديا لأي انتقام آخر قد يصيبها. فالحاجة صفية لم تكن خصما رياضيا. كانت تصب جام حقدها على جميع من يتعاطف مع مصاب سيرين. بداية بتحطيم حلم مريم بالتخرج من الجامعة وانتهاءا بطرد محمد من عمله لأن سيخه المحمي لم يشوه سيرين بالدرجة التي كانت تتمنى. أخيرا منعت الكل من الاقتراب منها وكأنها مصابة بمرض معد وتركتها لتذوي في تلك الغرفة المتعفنة منبودة، مشوهة ووحيدة. لكنها وحتى بعد أسبوعين من الحصار والنفي لازلت سيرين حتى وهي مستلقية باستسلام فوق ذلك السرير تستفز حماتها للقيام بالمزيد. وتحديها الصامت يزيد من تأجج غضب غريمتها ويجعلها أكثر تطرفاً وكرهاً لتلك النائمة هناك...

زفرت بحنق وحذائها ذو الكعب العالي يطرق أرضية الغرفة المجردة من السجاد برتابة مزعجة، اقتربت من السرير لتحتل مكان مريم وتنحني إلى أن أصبح وجهها مقابلا لسيرين وكأنها ترغب في أن يظهر كرهها جليا في كل حركة تقوم بها لتنفث حقدها الدفين:
- إذاً هل تحتضرين سيرين؟
للحظات عم الصمت الغرفة فلم يكن يسمع غير صوت تنفس الحاجة صفية العنيف...

لوهلة ظنت الحاجة صفية أن سؤالها لن يقابله أي رد وهي ترى استسلام سيرين الغريب، لدهشتها حين أدارت سيرين رأسها لتنظر في عينيها مباشرة. تلك النظرة. نظرة مشبعة بالأسى بكره الذات بألم شديد وانهزام لم تشهده من قبل. هل تمكنت أخيرا من كسر روحها هل وصلت إلى انتقامها المنشود. حتى حين ارتقت الدرجات نحو غرفتها كانت تنتظر مقاومة عنيفة، كلمات شديدة اللهجة أو ربما لعنات. لكن أن تنظر إلى عيني غريمتها فترى ذلك الانهزام التام. جعل فرحتها ناقصة فاقدة لطعم النصر وأي نصر لها وهي ترى سيرين تدوي في شهر واحد بينما عانت منار من بطش عادل لسنوات...

لم تستطع الحاجة صفية البقاء أكثر وعينا سيرين تحدقان بها. تخبرانها بانتصارها، ثأر بدا الآن دون طعم...
حين وصلت أخيرا إلى الباب جاء صوت سيرين المتوسل كالقطرة التي أفاضت الكأس...
- دعيني أرحل أرجوك. اسمحي لي بالرحيل، وأعدك أنه لن يجدني هذه المرة مهما فعل...

ضغطت يد الحاجة صفية على اطار الباب بقسوة. جسدها يرتعش بينما ارتفع الغضب سريعا بداخلها. أعادت نظرها نحو سيرين المستلقية بخنوع غريب لتقول بلهجة حملتها كل الكره الذي تكنه لتلك الفتاة:.

- تظنين أن ما عانيته طوال هذا الشهر هو كل ما تستحقينه يا ابنة بنجلون؟ أنك حصلت على عقابك وصرتي مستعدة للرحيل؟ دعيني أخبرك كم أنت مخطئة إذاً! لسنوات. لسنوات عانت ابنتي من الخوف وسوء المعاملة والتهديد. أتظنين أنني كنت جاهلة لمعانتها. لخوفها وهي تحاول بث الاطمئنان الزائف إلينا حتى لا نعرف بما كان يفعله ابن عمك الوضيع بها! لسنوات عانت منار. أتذكرينها؟! صديقتك الغالية. تلك الصديقة التي بعتها بأبخس الأثمان!

زفرت بقوة محاولة كبت مشاعرها لتضيف ببرود: - الاجابة هي لا! ستظلين هنا إلى أن يعود نادر. متسلحا بحقده الذي سلبته منذ عودتك، وهذه المرة كوني متأكدة أنه سيرد لك الصاع صاعين!
مدريد، اسبانيا.

تحرك زياد على سرير المستشفى الصغير غير قادر على النوم. مر شهر كامل دون أن يسمع أي جديد عنها. حتى نادية بإجاباتها المقتضبة لم تشرح له السبب الحقيقي الذي جعلها تترك مشروعها وحياتها وترحل إلى المغرب بتلك الطريقة المفاجئة. هي حتى لم تخبره بأنها راحلة. فتح هاتفه ليتصل بها، للمرة كم؟ هو حتى لم يعد عدد الاتصالات مند أن تعدت المئة ولا عاد يطيق صبرا لسماع صوتها...

كل ما أخبرته به نادية أن سيرين قد ذهبت إلى المغرب لحل مسألة عالقة وانقطع الاتصال بينهما منذ ذلك الحين.
لكن أين ذهبت يا ترى؟ رباه هل أصابها مكروه. تلك الفكرة جعلت الدم يندفع بقوة في شرايينه ليضج به رأسه مسببا له ألما حادا...
مستحيل أن يظل جالسا بينما لا يعلم أي شيء عنها. قفز من مكانه بسرعة نحو المكتب الصغير الملحق بغرفته. عليه العودة إلى المغرب لن يستطيع البقاء هنا والشك يتلاعب به...

فتح حاسوبه النقال. ليكتب طلب اجازة مرضية على عجل أرسلها إلى مدير المستشفى حيث يعمل ليتجه بعدها مباشرة إلى منزله ليأخد جواز سفره ويستقل سيارته في اتجاه بلده الأم...
في المستشفى النفسي بالدار البيضاء...
علا طرق باب مكتب معاذ ليخرجه من شروده، نهض من على كرسي مكتبه ليفتح لتتحول ملامحه لدهشة شديدة وهو ينظر إلى آخر زائر يمكنه توقعه، نادر الصفريوي شقيق منار.

للحظة وقف واجما يجيل نظره بين نادر والشخص الآخر والذي لم يكن سوى مروان. قبل أن يقطع مروان الصمت المشحون بصخب.
- دكتور معاذ، أخيرا تخرجت وأصبحت طبيبا نفسيا كبيرا! ألن تدعونا للدخول؟
تنبه معاذ لوقوفه سادا المدخل أمامهما. تبادل ونادر النظرات. كانت عينا نادر مسلطتين عليه كالصقر، حادة مليئة بالاحتقار. قبل أن يزيحه مقتحما المكتب وكأنه مكتبه الخاص...

جلس كل من نادر ومروان مقابل لمعاذ الذي عاد إلى كرسيه واضعا يديه أمامه بطريقة عملية ليسكن قناع البرود ملامحه. أيا ما اتى بهما إلى مكتبه بعد كل تلك السنوات لن يكون في صالحه. هل تراهما علما بخطته الجديدة في معالجتها؟ أهو السبب الذي جعل النادر ينزل من برجه العاجي ليشفق على شقيقة مجنونة نفاها إلى أقصى مكان في ذاكرته؟

هل سيتهمانه صراحة بممارسة أعمال منافية لمهنة الطب وربما يشتكيانها إلى نقابة الأطباء؟ لكن إذا كان هذا هو الغرض من الزيارة ما الذي أتى بهما في المقام الأول لماذا لم يذهبا إلى رئيس المصلحة أو هيئة الأطباء. لماذا يأتيان لزيارته أولا؟ ضج رأسه بالكثير من الأسئلة مستمرا في إلتزام الصمت كأفضل طريقة وموجها نظراته الثاقبة نحوهما يحاول قراءة ملامحهما.

اللعنة هو طبيب نفسي يقف عاجزا عن معرفة ما يدور في خلد زائريه! لكن كيف وأحدهما معلمه واللآخر انسان عديم المشاعر يغطي قلبه الجليد!
ابتسم مروان محاولا التخفيف من الجو العدائي الذي بدأ يسود الغرفة وهو يجيل النظر بين معاذ ونادر لا أحد فيهما كلم الآخر، لكن نظراتهما لبعض كانت كافية ليعرف أنهما لم يتخطيا أبدا ما حدث...

أخيرا قرر نادر تبديد الصمت موجها كلامه إلى معاذ الذي ظل ينظر إليه بدوره رافضا الانحناء أو السماح لخصمه بفرض أي نوع من السيطرة عليه. هو لم يعد ذلك الطالب البسيط الذي حاول رشوه لطرده من حياة شقيقته ثم تهديده حين رفض بتدمير مستقبله بجرة قلم لا أكثر...
- أتيت للإطلاع على حالة منار الصحية...

ضحك معاذ محركا رأسه بسخرية ليعود ويركز في عيني مخاطبه وهو يقول: - تريد أن تعرف إلى أين وصلت حالة منار الصحية؟ أليس الأمر متأخرا قليلا؟! لنقل بضع سنوات والقليل من الشهور!
انتفض نادر وظهرت عروق عنقه بارزة وهو يقترب من مكتب معاذ لينحني وينفث كلماته بتهديد أمام وجه معاذ الساخر والذي لم يكلف نفسه عناء الوقوف. متأملا غضب نادر وكأنه ليس موجه نحوه.

- إياكَ والتشكيك في اهتمامي بشقيقتي! ولا تستفز غضبي! وإلا. هدر نادر بقوة وترك تهديده معلقا
- وإلا ماذا؟ سأل معاذ بنفس البرود المستفز هل ستقوم بابتزازي أم تهديدي هذه المرة؟! لأنه في كلا الحالتين، يؤسفني اخبارك أن طرقك الخسيسة ماعادت تجدي نفعا معي!
كز نادر على أسنانه وهو يقول: - سأجعلك تسف ترابا وأنت تبحث عن عمل حين تطرد من هذه المستشفى كالكلب الوضيع إلى الشارع!

وقف مروان مقتربا من المكتب وقد علم أن هذه المواجهة ستتحول من مشادة كلامية إلى تعارك بالأيدي، خصوصا وهو يرى يد نادر تتحول إلى قبضة قاسية، بينما وقف معاذ ينظر إلى تهديد نادر باستفزاز وكأنه يدعوه لخرق الخط الأحمر وضربه بداخل مكتبه وأمام العاملين بالمستشفى، وهو ما كان نادر ليقوم به عن طيب خاطر غير عابئ بالنتائج...

أبعد صديقه محاولا فض الأزمة بأقل الخسائر مخاطبا معاذ الذي حول نظراته عن نادر إلى مروان بهدوء وكأن الشحنات السلبية التي ضجت من كل خلية في جسده منذ لحظات محض تخيل:
- نحن هنا لرؤية منار. نريد معاينة تطور الحالة لا أكثر...
علق مروان محاولا اعادة دفة الحديث إلى موضوعها الأصلي. بينما كتم نادر غيظه بحهد بالغ وهو يعود إلى مقعده وينظر إلى معاذ بتوعد...
- حالة منار، ليست حالة سهلة...

قال معاذ وهو يفتح أحد أدراجه ساحبا ملف منار ليضعه بين يدي مروان الذي فتحه يطلع على أوراقه باهتمام. بينما يستمع إلى شرح معاذ المفصل للحالة...
أخيرا توقف معاذ يدعوه للاطلاع على حالتها بنفسه.
للحظة توترت ملامح نادر وظهر ارتجاف بسيط في فكه معلنا عن ضيقه الشديد من تلك الزيارة. انتبه مروان لحالة صديقه ليقول:
- دعني أراها أولا، ثم يمكننا العودة لزيارتها معا في وقت لاحق...
- لا!

قال نادر ووقف قاطعا أمام مروان أي محاولة لثنيه عن موقفه ليرخي الأخير كتفيه علامة على استسلامه. فنادر عنيد ولن يستطيع تغيير رأيه...
لحقا بمعاذ في صمت كل واحد منهم غارق في أفكاره الخاصة. إلى أو وصلا أخيرا إلى الممر حيث غرفتها...

رعشة خفيفة سرت في جسد معاذ وهو ينظر إلى الزنزانة التي شهدت منذ وقت قصير أسوء كوابيسه. لم يكن ينتظر العودة إلى هنا بمثل هذه السرعة خصوصا مع آخر شخص توقع رؤيته. تغلب على خوفه مجبرا لا لشيء سوى أن نادر كان قادرا على طرده واستبداله إذا ما علم بما قام به. وهو يفضل الموت على أن يبتعد عنها...
حرك رأسه نحو الممرض الذي فتح الباب الحديدي أمامهم ليدلف معاذ يتبعه مروان ونادر...
في غرفة سيرين...

ظلت سيرين لمدة طويلة تحدق في السقف بينما الدادا حليمة تمسد شعرها الحريري بحنان أمومي. لتقول بصوت حاولت أن ثبت فيه الاطمئنان لتلك الفتاة التي ربتها منذ الصغر والتي خذلتها في كل مناسبة منذ أن عادت إلى هذا المنزل:
- هل أنت بخير حبيبتي؟ هل أجلب لك شيئا؟

ظلت سيرين على حالتها متخشبة الأطراف رافضة التجاوب مع مربيتها. التي وقفت أخيرا لتنهض مرغمة فأوامر الحاجة صفية كانت واضحة. لا أحد يقترب منها وإلا فالطرد إلى الشارع سيكون مصيره. امرأة في آواخر العمر أين ستذهب إذا ما قررت الحاجة صفية الاستغناء عن خدماتها. مغلوبة على أمرها خرجت الدادا حليمة من الغرفة مقفلة الباب وتاركة سيرين وحيدة...

مع خروج الدادا حليمة من الغرفة، نهضت سيرين من مكانها متجهة نحو الحمام وقد اتخذت قرارها...
غرفة سيرين قبل ساعات...
رفعت سيرين رأسها عن المغسلة لتفاجئ بالانعكاس الغريب. لم يكن انعكاسها فعلا وحتى وهي تنظر إليه. ذلك الانعكاس كان نسخة باهتة عنها، تلك الفتاة في المرآة لم تكن سوى ظل للمراة الواثقة التي كانتها قبل شهر من دخولها حياة نادر من جديد. لقد حطمها، كسرها، ثم نبذها كشيء مستعمل لا قيمة له.

شهر! لقد مر شهر بالفعل على وجودها هنا.

يا إلهي هي حتى لم تفكر في الأمر من قبل. كانت مشغولة بالتعذيب الممنهج الذي كانت حماتها تغرقها فيه لدرجة أنها نسيت، دورتها دائما منتظمة كالقمر، بحساب بسيط مستمرة في نظر إلى انعكاس صورتها الشاحبة صرخت برعب، والادراك يأتي سريعا ليتمثل أشد أنواع رعبها، هي تحمل طفل الرجل الذي تكره بكل قواها. الرجل الذي دمر حياتها وجعلها جحيما. رباه أجعل الأمر مجرد خطأ. لابد أن يكون خطأ وإلا فل يكن الله في عونها...

لكنه لم يكن خطئا والطبيب يقلب جهاز الحمل المنزلي مؤكدا خبر حملها بابتسامة: - كما توقعت مبروك سيدة سيرين أنت حامل!
غامت عينا سيرين بدموع القهر. إنها فعلا تحمل طفله أصبح الأمر واقعا مؤكدا. كيف لها أن تتعامل معه الآن...
- أرجوك لا تقل شيئاً!
أمسكت يد سيرين المرتعشة بذراع الطبيب الذي تأمل نظرات الخوف في عينيها دون فهم...
- لكن لماذا سيدة سيرين؟ إنه خبر سعيد من المفروض أن تشاركيه مع عائلتك...

ابتلعت سيرين الغصة التي تكونت في حلقها لتقول بصوت خافت: - نادر غير موجود، وأنا أريد أن أخبره بنفسي. أرغب في أن يكون أول من يعرف بخبر حملي.
ابتسم الطبيب بتفهم. مبررا طريقتها في التعاطي مع الخبر بأنه مجرد حالة نفسية سببها تقلب هرموناتها...
- حسنا لن أخبر أحدا. وعدها لكن عليك الاسراع بإخباره فهذه الأمور. تكتشف غالبا في وقت قصير...
- أعلم ذلك وأشكرك لتفهمك...

- على الرحب قال وهو ينهض مودعا بعد أن أوصاها بالراحة التامة.

نهضت سيرين أخيرا من سريرها. رأسها يترنح من الدوار لكن بذهن صاف. وقد سمح لها بقائها في السرير من التفكير بروية. لن تسمح لأي شيء بأن يجعلها سجينة هنا إلى الأبد ولو حتى ذلك الطفل الذي لطالما حلمت بإنجابه. هي بالفعل تاقت بكل جوارحها للحصول على أسرة وحياة طبيعية. تلك الصورة الوردية الجميلة تحطمت منذ سنوات تاركة ركاما من الرماد والذكريات المحترقة...

لن تتخلى عن طفل منها له ولن تعيش الباقي من حياتها سجينة انتقامه. ضغطت على كفها بقوة إلى أن شعرت بالألم وأظافرها تحز باطن كفها قبل أن تنهض وقد اتخذت قرارها المصيري. هذا الطفل لن يولد!
في المستشفى،.

دخل معاذ غرفة منار يتبعه كل من مروان ثم نادر الذي توقف للحظة ليفتح ربطة عنقه من الحر الشديد والاختناق الذي انتابه منذ أن خطا أول خطوة نحو زنزانتها. منظر الغرفة الكئيبة جعله يشعر بالألم يضرب روحه. هل كان أنانيا لدرجة ترك شقيقته الصغيرة تعاني في هذا المكان القذر؟

تصلب فكه بقوة وشخصت عيناه حين نظر نحوها. لا يصدق أنهم قاموا بربط شقيقته كالحيوان، مكبلين يديها وقدميها إلى السرير بينما وجهها الشاحب وجسدها النحيل أظهر جليا سوء المعاملة التي تتعرض لها...
- أيها الحقير!

انتفض نادر ليقفز على معاذ الذي كان ساهما يتأمل أي ردة فعل غريبة قد تصدر عن منار. لدرجة لم يتوقع اللكمة القوية التي أتته بغتة لتسقطه على الأرض وسط ذهول مروان الذي اقترب بسرعة دافعا نادر عن طريق معاذ قبل أن يقوم بما هو أسوء...
- دعني!
صرخ نادر وهو يدفع مروان بقوة في صدره. لكنه لم يتزحزح ممسكا بكتف نادر يحثه على هدوء...
- نادر توقف! ما تقوم به خطأ جسيم!

- أحقا؟! صرخ نادر بعصبية وهو ينظر نحو معاذ بنظرات قتل وما يفعلونه بها ليس خطأ؟! تكبيلها بتلك الطريقة الغير آدمية أليست خطأ؟! هدر بعنف وهو يدفع مروان بقوة ليتهاوى عند قدميه وقد فقد القدرة على قول المزيد
رؤيتها مكبلة أصابت أعماقه. نظرة من الكره للذات، احتقار لنفسه. لماذا يشعر بالضعف دائما حين تكون هي في المعادلة؟ اللعنة هو سبب كل ما يحصل لها!

مسح معاذ الخيط الأحمر الذي انساب من فمه دون أن يحاول الهجوم ردا على ما فعله نادر به. لدهشته كان يشعر بالشفقة على هذا الرجل القوي الذي تعرت روحه ليظهر الألم الذي يعانيه جليا في كل تقاطيع جسده المتصلب. لقد كان يتألم لرؤيتها تعاني وهو الذي نظر إليها لثوان. كيف له أن يشعر بما يعانيه هو الذي عاش سنوات من حياته ينظر إليها فاقدة لكل قدراتها. متخشبة غائبة في ملكوت آخر، وحين استيقظت وسعد بسماع صوتها بعودتها إلى الحياة. لم تكن هي بل شيء آخر مظلم مخيف هو من عاد ليجعل ألمه مضاعفا...

أخيرا نهض من على الأرض دون أن يمسك بيد مروان التي امتدت نحوه معيدا معطفه الطبي على كتفيه بحركة متصلبة ليقول دون أن ينظر نحو نادر:
- تأكد أننا نعاملها بكل الطيبة المممكنة. ربط المرضى يكون دائما في مصلحتهم حتى لو أردت تصديق العكس. تبنيك لأفكار خاطئة عن طريقة علاج منار لا تنفي أنها تستنفر كل اهتمامي. اهتمامنا قال محاولا استدراك الخطأ
لم يصدر عن الجسد القوي الجالس بانهزام أي ردة فعل...

ابتسم مروان لمعاذ بتشجيع وهو يقول: - أنا أعرف أنك تهتم بها. لا أحد يشكك في قدراتك كطبيب أو بطريقة متابعتك للحالة. أنت تلميذي وأنا أثق بقدراتك...
ابتسم معاذ دون مرح معيدا اهتمامه نحو الجسد المسجى على السرير دون حياة. كانت عيناها مغمضتان ويظهر عليها التعب الشديد من جراء الجلسة التي قام بها الشيخ الفيزازي منذ ساعات قليلة...

فجأة. ظهر تشنج بسيط على جسدها ترجمه معاذ على أنه حلم أو كابوس جديد. لتفاجئه وهي تفتح عينيها وتصرخ بقوة أصابت كل من في الغرفة بالذهول...
- يا إلهي! ليس الآن. ليس مجددا! قال وهو ينظر نحوها برعب حقيقي
أدارت وجهها لتركز عينيها على وجه معاذ الذاهل وهي تصرخ بصوتها المرعب: - أيها الحقير! أتظن نفسك قادرا على التخلص مني بسهولة؟! سآكل الذباب عن لحمك المتعفن حين أقتلك!

رفع نادر رأسه غير مصدق لما يسمعه. هل هذه منار؟! يا إلهي! مستحيل! ماهذا الصوت؟! ما الذي يفعلونه بها بالظبط؟
نهض من مكانه بسرعة مقتربا من السرير حيث وقف مروان ذاهلا وكأن المفاجئة سمرته. ينظر نحو عيني منار باستغراب. قبل أن يسأل معاذ المتشنج:
- ما الذي يحصل هنا بالظبط؟ مما تعاني منار؟ أنت لم تكتب شيئا عن هذا في تقريرك!

تعالت ضحكات منار الهستيرية المرعبة وهي تقول: - تقارير غبية. كاذبة. مليئة بالتفاهات. فصام. جنون. وساوس قهرية. هل تؤمن بالأساطير المرعبة؟ مرحبا بك مروان فأنت في صدد مشاهدة واحدة على الهواء مباشرة! آه يال قلة ذوقي. دعني أسألك عن حال زوجتك هل هي بخير؟ لابد وأن ندوب الحرق تصيبها بالجنون. وقهقه الصوت مجددا
- لماذا تفعل هذا بها؟ قال معاذ وقد فقد القدرة على التمثيل. لما لا تتركها بسلام؟

- لأن معاناتها حلوة.
قالت منار وهي تعيد رأسها إلى الوراء بانتشاء بينما لسانها يتحرك بطريقة مغرية رافعة ساقيها لتكشف عنهما بسفور أمام شقيقها ومروان اللذان ظلا عاجزين عن الحركة...
- رد ذكي. قال معاذ وهو يقترب منها بتمهل وقد سيطرت عليه مشاعر غضبه
- لا تتحاذق علي أيها الشكاك. لأني أعرفك جيدا! قالت موجهة نظراتها المرعبة نحوه
- لماذا تنعتينني بالشكاك؟

- لأن الكاذب يعرف من هم على شاكلته معاذ! وظهرت ابتسامة تسلية على وجهها
- بما أنني شكاك ما الذي تريدينني أن أؤمن به؟
- ليس هنالك ما تؤمن به! صرخت بصوت مخيف
- إذا في هذه الحالة لا وجود للشيطان، وأنت لست ممسوسة. أنت فقط مريضة جدا وتحتاجين جلسات مكتفة من الكهرباء ليعود لك رشدك أخيرا. مارأيك؟ قال معاذ ببرود
رفعت منار رأسها بقوة لتنظر في عينيه وقد استفزتها كلماته. ليصدح صوتها في كل الغرفة بقوة عجيبة:.

- أنت تخافني أيها البشري الفاني. أنا أشم رائحة خوفك على بعد أميال!
- أخافك؟! قال معاذ باستهزاء لا يناسب الموقف. كيف لي أن أخاف ماهو غير موجود؟
في حركة غريبة حركت منار يديها إلى أن لوت كوعها إلى الداخل محركة جسدها بقوة نحو الأعلى. ليتمزق الرباط الممسك بها بقوة. وتنهض سريعا لتقفز فوق معاذ مطيحة به إلى الوراء ويداها تعصران رقبته.
- مت أيها الكائن الوضيع! مت الآن!

هب مروان والذي شلت الصدمة جسده لمساعدة معاذ والذي كانت روحه تزهق تحت يديها. ليمسكها من الخلف محاولا ابعادها. ضربته منار بيد واحدة لتجعله يرتطم بالجدار فاقدا للوعي قبل أن تعود لعصر رقبة معاذ...

أخيرا اقترب نادر منها ليمسكها. دفعته بقوة لكن بنيته العضلية القوية ظلت متشبتة بها. لتفاجئه بحركة جعلته يتيبس في مكانه ورقبتها تدور إلى أن أصبحت في مقابله ظهرها بين ذراعيه القويتين وجها مقابل لوجهه. سرى الدم باردا في عروقه وانتباته القشعريرة وهو ينظر إلى ذلك الوجه المخيف. لم تكن شقيقته كانت كائنا بشعا بجلد بشرة صفراء وعينين سوداوين تضاهيان سواد ليل اختفت نجومه. ابتسم الكائن ليقول بصوت مخيف:.

- كيف حالك شقيقي؟ هل اشتقت لي؟
انتفض نادر بقوة لتسقط ذراعاه أمام هول ما يراه. استغل معاذ فرصة ارخاء قبضتها عن عنقه ليستل ابرة المخدر من جيبه ويغرسها في جسد منار التي صرخت صرخة ارتج لها المكان قبل أن يسقط جسدها متكوما بينما تعود ملامحها الهادئة الرقيقة للظهور...
في غرفة سرين...

وسط تخبطها العنيف. وخوفها الشديد من المستقبل خرجت سيرين ركضا من غرفتها نحو السلالم متجهة إلى المطبخ. فكرة واحدة ترسخت بعقلها دون تفكير في العواقب. هذا الطفل لن يولد. عليها التخلص منه والآن. دادا حليمة ستعلم ما عليها فعله. عليها فقط أن تقنعها بمساعدتها...

متسرعة ومتلهفة للخلاص من مصيبتها الجديدة. لم تشعر بقدميها العاريتين تنزلقان من على السلم الرخامي وقبل أن تستطيع القيام بأي حركة لمنع نفسها من السقوط. تدحرجت بقوة على السلالم ليسكن جسدها في آخر الدرج متكومة على نفسها دون حياة، بينما انسابت دمائها على الرخام الأبيض اللامع...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة