قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

جفل جسد آنيا برعب حينما رأت بأعينها المنهكتين مربيتها السابقة فاليري وهي تجرجر قسرا نحو تلك الأفاعي السامة، فهتفت بتوسل للسلطان أسيد:
-أرجوك، لا تقتلها، اتركها!
التوى فمه بإبتسامة متهكمة، وأجابها بقسوة: -أتركها؟ أتمزحين! ستلقى ما تستحق!
استعطفته أكثر بنبرة شبه باكية: -لا تقتلها، إنها كأم لي!
رمقها بنظرات باردة، ورد عليها بجمود: -إنها خائنة.

ثم زادت نظراته قسوة، وهتف بتهكم وهو يشير عليها بإصبعه: -أتغفرين لأمثالها؟!
صرخت فاليري بإهتياج وهي تحاول تحرير نفسها: -دعوني، اتركوني، لقد فعلت ما أمرت به!
اعتصر قلب آنيا أسفا على حالها، وهتفت مجددا برجاء: -دعها تذهب، أنا مسامحة إياها!
حدجها السلطان أسيد بنظرات احتقارية قبل أن يضيف بسخط: -أنتي حمقاء.

تشنجت تعابير وجهها، وتحملت إهانتها على مضض، ولكن لا يهم أي شيء الآن في مقابل إنقاذ حياة من قامت بتربيتها. لذا استجمعت رباطة جأشها، وهتفت بعصبية:
-ادعوني كما شئت، حمقاء، بلهاء، أو حتى غبية، المهم لا تقتلها!
صدمت فاليري من دفاع أميرتها المستميت عنها، فشعرت بفداحة جرمها، فقد كانت أكثر رحمة منها عليها، وهي المذنبة التي خانتها ببساطة.

فبكت بندم واضح، وصاحت مستغيثة: -أميرتي. أنقذيني!
ابتلعت آنيا ريقها، وهتفت بإصرار: -دعها لشأنها، اتركها ترحل!
شاهد عقاب ما يحدث بذهول، فلم يكن يتوقع أن تعفو شقراءه عمن خانتها بتلك البساطة.

بدى متخبطا في أراءه ومعتقداته، فهو الذي يذبح بلا أدنى ذرة شفقة من يتجرأ عليه بنصل سيفه، ويقف بشموخ على جثمان أعدائه. فأتت تلك الأميرة ودمرت مبادئه بالكامل، وجعلته يتردد، يرتبك. فقط بعفويتها، وقلبها النقي آلانت قلبه، وجعلته ينظر للأمور بمنظور مختلف.

ما آلمه أكثر هو رؤيتها تتوسل والده القاسي، وهو يقف عاجزا أمامها ومتابعا في صمت ما تفعله.

هو لا يستطيع تفسير ذلك الإحساس الغاضب الذي يسيطر عليه لرؤيتها على تلك الحالة، ولكنه يقاوم وبشدة تلك الرغبة العارمة في إيقاف كل شيء من أجل منع عبراتها من الإنهمار.

تلك العبرات التي تحرق فؤاده وروحه قبل أن تلهب وجنتيها...
زادت تعابير وجه السلطان أسيد شراسة، ودنا من آنيا، وحدجها بنظرات حادة، ثم أشار لها بإصبعه، وكز على أسنانه قائلا ببرود قاتل:
-لأجلك سأرحمها، وادعها تموت سريعا
شهقت آنيا مفزوعة، بينما صرخت فاليري بجنون قائلة: -لا. انقذيني أميرتي، أنا مخطئة، ولكني لا أريد الموت، ساعديني، لا تدعيه يقتلني!

ازدردت ريقها، وتوسلته بإستعطاف أشد: -أنا سامحتها، فدعها ترحل!
رق قلب عقاب، ولم يستطع تحمل الوقوف كمشاهد أكثر من هذا، فهتف بخشونة: -مولاي!
حذره أبيه قائلا بغلظة وهو يحدجه بنظرات مخيفة: -لا تتدخل
ثم إلتفت برأسه ناحية الحارسين، وصاح بنبرة آمرة: -ألقو بها في الهوة
إهتاجت المربية فاليري بعنف، وصرخت بفزع جلي وهما يسحباها نحو الهوة المليئة بالأفاعي المميتة.

تقوس فم السلطان أسيد بإبتسامة شيطانية، واستطرد حديثه قائلا بقسوة: -استمتعي بالمشهد، فهو لن يتكرر إلا مع أبيك.

تلاحقت أنفاس آنيا بشدة، واتسعت مقلتيها بهلع، وتسارعت دقات قلبها، وهزت رأسها مستنكرة، وتساءلت مع نفسها برعب، أسيلقى أبيها الحنون نفس المصير المؤلم، أسيموت هكذا، حاولت مقاومة تلك الهواجس والتخيلات، وركضت مسرعة في إتجاه مربيتها لعلها تحول دون قتلها، فقد تخيلتها كأبيها، ولكن لحق بها عقاب، وقبض على ذراعيها بشدة، وأمسك برسغيها بكفه، وتراجع بها للخلف.

التفتت آنيا برأسها نحوه، فرأها عن كثب.
كانت كالمغيبة، وتعلقت أنظاره بها فرأى فيهما إنكسارة عجيبة، في حين نظرت هي إليه بعينيها الباكيتين، وهمست له بنبرة مذلولة أحس فيها بحرارة أنفاسها اللاهثة:
-انفذها، أرجوك، لا أريد موتها! سأفعل أي شيء لكن لا تقتلوها.!
ظلت تتوسله وكأنها تجد فيه الأمل الأخير، والنجاة من بطش أبيه القاسي.

خفق قلبه بشدة لأجلها، وقتلته نظراتها المستغيثة به، فابتلع بصعوبة واضحة تلك الغصة المريرة العالقة في حلقه، وحاول الرد عليها، ولكن تجمدت الكلمات على شفتيه. فبدى عاجزا أمامها، ليس بيده أي حيلة. فأسبل عينيه خزيا منها.

رأت آنيا في عينيه نظرات غريبة. فأدركت أنها تستعطف الشخص الخاطيء. شخص سيخذلها على أي حال.

أفاقت من شرودها على صوت صراخ فاليري الأخير والمفزع، فجزع قلبها أكثر. ولم تتحمل هول المشهد أو حتى تخيله فخارت قواها، ورفض عقلها أن يظل مستيقظا، وتراخى جسدها وفقدت وعيها بين ذراعي عقاب...

حمل الأمير عقاب آنيا إلى مخدعها، وأسندها برفق على فراشها، وتحسس جبينها بأصابعه فوجده ساخنا للغاية، فقفز قلبه في صدره، وأرسل في طلب الطبيب فورا.

لاحقا أخبره الطبيب أنها أصيبت بالحمى، وتحول جسدها لكتلة من اللهب. لم يستطع هو إيجاد أي تفسير لما أصابها، ولكنها كانت رافضة للحياة بأي صورة.

لقد غرقت آنيا في أحلام عميقة مليئة بالمشاهد الدموية التي لم تعهدها من قبل فزادت من سوء حالتها. وأصابتها بالوهن الشديد.

ظل عقاب إلى جوارها، وشعر بتأنيب الضمير، بل إن شعوره الحقيقي قد تجاوز هذا بكثير. شعور يقتله في كل لحظة يراها على تلك الحالة البائسة.

لم يتحمل رؤيتها تضيع من بين يديه دون أن يتصرف، فصرخ بإنفعال في الوصيفة داليدا:
-افعلي أي شيء، لكن لا تتركيها هكذا
ازدردت ريقها بتوتر، وأجابته بنبرة مرتجفة وهي ترتعش أمامه: -مولاي، أنا فعلت ما بوسعي وكذلك الطبيب لكن آآ...
قاطعها عقاب بنبرة مهددة وقد تحولت نظراته للقتامة: -لو حدث لها مكروه، رأسك سيكون معلقا على باب القلعة
هزت رأسها عدة مرات وهي ترد بخوف: -سأتصرف فورا.

راقبت الجواري ما يحدث بتهكم واضح على وجوههن، وتهامسن بإزدراء عن وجود علاقة آثمة بين كليهما.

لم تستطع إحداهن تمالك نفسها وهي تتخيل أميرها الذي تعشقه حد الجنون في أحضان غيرها، وهي التي كانت تمني نفسها بأنه ستظفر به في نهاية المطاف. فتحركت نحوه بشجاعة امرأة عاشقة حتى النخاع، ووقفت أمامه بحسنها الآخاذ، وهتفت بنبرة شبه حادة:
-أرى أن مولاي وجد من تلهيه حقا!
تفاجيء من إقتحامها السافر لمخدع آنيا، فحدجها بنظرات نارية مخيفة، والتوى فمها بإبتسامة ساخرة وهي تتابع متسائلة بإحتقار:.

-أتلك هي حبيبتك الجديدة التي أثرتها علينا؟
لم يجبها بل أطبق على عنقها ورفعها للأعلى منه، فلم تعد قدميها تلمسان الأرض، وكاد يخنقها حتى الموت وهو يجيبها بنبرة مخيفة:
-أتجرؤين! ستنالين ما تستحقين
ركلت بقدميها بهلع وهي تحاول إلتقاط أنفاسها. ثم قذف بها بعنف في إتجاه الحائط، وكز على أسنانه قائلا بنبرة عدائية وهو يشير بإصبعه:
-ستنال جميعكن عقابي الأشرس على الإطلاق!
-عقاب.

صاح به السلطان أسيد بصوت جهوري غاضب وهو يتحرك صوب ابنه
انتصب الأخير بجسده. وضغط على شفتيه بقوة غليظة.
كان وجه السلطان عابسا للغاية، ونظراته مزيج بين الغضب والحنق.
ركضت الجارية إلى الخارج لتنجو بحياتها، وأخلت الوصيفة داليدا المكان من جميع من فيه ليظل عقاب مع أبيه السلطان على انفراد.

وقف الأخير قبالة ابنه، ونظر له مطولا قبل أن يستأنف حديثه متسائلا بتهكم: -أرق قلبك يا عقاب؟
أطرق الأخير رأسه قليلا، ولم يجبه، فأضاف أسيد قائلا بسخط يحمل العتاب: -أم سحرتك تلك الشقراء فنسيت دماء أخويك؟
أخذ عقاب نفسا عميقا، وحبسه في صدره للحظات قبل أن يطلقه دفعة واحدة ليجيبه قائلا بحذر وهو يتحاشى النظر نحوه:
-مولاي، أنا آآ...

رفع أسيد كفه أمام وجهه ليمنعه عن الحديث، وأردف قائلا بصلابة: -لقد آن وقت رحيلك عن المملكة! أعد نفسك للذهاب فورا!
اتسعت حدقتي عقاب في صدمة من جملته الأخيرة، ورفع رأسه في مواجهته، وهتف معترضا:
-ولكن يا أبي آآ...
قاطعه أبيه بغلظة أشد وهو يحدجه بنظرات خاوية: -أتعارضني يا عقاب؟
كور عقاب قبضة يده، وأجابه بصعوبة: -لا! ولكن أظن أني أحب.
-لا تنطقها.

صاح به السلطان أسيد مقاطعا إياه بصوت محتج، وأكمل بشراسة: -هي ابنة عدونا الأول، من قتل أخويك، مصيرها سيكون كمصيره، الموت بشهد الأفاعي!

ثم وضع يده على كتفه، وضغط عليه بقوة، وأضاف بجدية: -أنسيت وعودك يا عقاب؟ لقد عاهدتني أن تقتص لمن ذرف دماء أخويك، أهكذا تنسى ببساطة؟

هز أسيد رأسه بحركة خفيفة وهو يقول بسخرية: -أتظن أنها ستسامحك إن تراجعت عما تفعل؟ أنت واهم يا بني! هي تقودك إلى حتفك، هكذا هن النساء يسلبن عقول الرجال الأشداء بجمالهن، وما إن يتمكن منهم يطعنوهم في ظهورهم بلا رحمة!

وكأن والده يتعمد إيلامه أكثر بتذكيره بما عقدا النية عليه من قبل حتى لا يتناسى عهده له، ويتراجع عنه بدافع الحب الأعمى الذي بات متأكدا منه دون الحاجة للإفصاح عنه.

ثم أضاف مستنكرا بهدوء: -أنت بنفسك تمنع الجواري عنك، رغم استعدادهن لفعل ما تريد، فقط لتتجنب ألاعيبهن الخبيثة، هكذا تستسلم ببساطة لواحدة منهن؟!

أخفض عقاب عينيه، وتجهم وجهه أكثر، وبدى في حالة حيرة جلية.
أدرك السلطان أسيد أنه نجح في إرباك ابنه، فهدر به بصوت آمر: -تحرك الآن، وقم بما تجيد فعله! اغزو الأراضي، وزد من حجم مملكتك، أنت السلطان من بعدي! أسمعت!

في النهاية اضطر عقاب أن يمتثل لأوامر أبيه، فهذه هي الحقيقة هو مقاتل شرس كوالده، وسلطان قادم، لا حاجة له للحب، فهو مجرد وهم يضعف الرجال الأشداء.

حاول أن يقنع نفسه بتلك الحجج حتى يقاوم إحساسه الذي يعذبه. ورغم هذا حانت منه إلتفاتة أخيرة نحو آنيا التي كانت تتقلب على جانبيها بصورة تقطع نياط القلوب.

لمعت عينيه لفراقها، وشعر بآلام ووخزات أشد وطأة عليه في صدره وكأن روحه تنتزع رغما عنه.

تنهد بعمق ليسيطر على إنفعالاته، وتحرك بخطوات ثقيلة إلى الخارج.

وصل الركب الخاص بالملك شيروان إلى أبواب القلعة الخارجية، فأسرع أحد الحراس بالركض في إتجاه قائد الحرس لإبلاغه بوصوله، ومن ثم إبلاغ السلطان أسيد والأمير عقاب.

تأهب الجميع لإستقباله، وفتحت البوابات الخارجية، وسمح له بالدخول.
رفع الملك شيروان رأسه للأعلى بعد أن أزاح الستائر التي تحجب نافذته للجانب لينظر إلى نوافذ القلعة لعل قلبه يرشده إلى مكان ابنته.

تفاجيء هو بضخامة القلعة، وبما فيها من عدد هائل من المقاتلين الأشداء.
بدى صلبا أمام ما يراه رغم الهشاشة التي تعتلي روحه.
تسائل مع نفسه بخوف أبوي واضح. هل تأذت ابنته؟ هل تعذبت؟ كيف حالها الآن؟ هل ستفرح لرؤيته؟ وهل سيسمحوا له بمقابلتها؟

هو مستعد للتخلي عن كل شيء من أجل سلامتها.
ترقرقت العبرات في عينيه، فأسدل الستائر، ومسحها بأنامله، وهمس لنفسه بعزم: -لن أخسرك تلك المرة يا بنيتي!

في نفس التوقيت، نجح القائد جاد نيجرفان في التسلل إلى داخل القلعة بعد أن تخلص من فريسته المنشودة وارتدى درعه الخاص بالحراسة الداخلية.

سار بحرص شديد في الأروقة، وتمكن بمهارة ودهاء من إختراق صفوف الحرس المسئولين عن الأمن الداخلي وكأنه فرد منهم.

حاول بحذر شديد ألا يلفت الأنظار إليه، وراقب بدقة التحركات من حوله دون أن يثير الشكوك حوله، واهتم بشدة بمعرفة الطريق المؤدي لقاعة الإجتماعات الخاصة بالسلطان أسيد. حيث فرصته الوحيدة ليتمكن من إغتياله، فهو يكون بمفرده في تلك القاعة، وبالتالي سيظفر بلحظة لا تعوض للإنتقام ممن قتل حبيبته وأميرته الغالية حتى لو كلفه الأمر حياته بعدها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة