قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

في الجراج الملحق بمشفى الجندي الخاص
جلس أوس خلف عجلة القيادة، وعَدَل من وضعية المرآة الأمامية ليرى أثار تلك الكدمات أسفل عينيه، وكذلك بقايا خدوش قديمة على عنقه، فزفر في ضيق..
لقد استعاد في ذاكرته ما حدث معه بداخل غرفة العناية المركزة، فصر على أسنانه بغضب.. ثم إلتفت برأسه ناحية المقعد المجاور له ليرى قطرات الدم الجافة مطبوعة على الجلد.. فمد يده ليتحسسها بحذر.. نعم هي دماء تقى التي تركت أثارها لتذكره بجريمته البشعة معها..

أغمض أوس جفنيه، وأخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره لعل قلبه الثائر يهدأ قليلاً.. ثم زفره مرة واحدة، ورفع رأسه للأعلى بعد أن فتح عينيه، وحدث نفسه قائلاً بإصرار:
-هاوصلك يا تقى، إنتي مراتي، ومش هاسيبك للكلاب دول ياخدوكي مني..!
فهو مازال رغم صلابته يعاني من الآلم والإنهاك.. فهو أمامه معركة حامية.. وعليه أن يستعد لها..
فلو أراد إستعادة زوجته، عليه أن يكون قادراً على فعل هذا وهو بكامل قواه الجسمانية حتى لا يسقط مرة أخرى، ويفقدها للأبد..
وضع أوس المفتاح في مكانه المخصص، وأدار المحرك، وبحذر شديد قاد السيارة نحو الخارج..
أفسح له رجال الأمن الطريق ليمر، وتبادلوا نظرات الحيرة والفضول حوله.. ولكن لم يجرؤ أحد على السؤال علناً...

في قصر عائلة الجندي
إنتفضت ناريمان مذعورة من على مقعدها الوثير بغرفتها على إثر صوت مهاب الصارخ وهو يدلف لداخل القصر..
ثم نهضت عنه، وسارت بخطوات حذرة خارج الغرفة، واتجهت نحو الرواق، ووقفت بجانب الدرج، وتسائلت بإستغراب وهي تنظر نحوه:
-في ايه يا مهاب بتزعق كده ليه ؟
أجابها بصوت منفعل وهو يصعد عليه:
-يعني مش عارفة بأزعق ليه يا هانم
نظرت له ببرود وهي تجيبه بعدم إكتراث:
-لأ معرفش!

وقف قبالتها، ورمقها بنظراته الساخطة قبل أن يتابع قائلاً بحدة:
-ماهو إنتي لو بتحسي ولا عندك دم كنتي عرفتي إيه اللي بيجرى من وراكي!
لم تعرف ناريمان ما الذي أصاب زوجها لكي تثور ثائرته بتلك الصورة الغير معقولة، لذا سألته بحيرة بادية على قسمات وجهها:
-حصل ايه لكل ده ؟
تحرك خطوة نحوها حتى تقلصت المسافة إلى بوصتين، ونطق بشراسة من بين أسنانه:
-أوس!

لوت فمها في تأفف، وسألته بإنزعاج وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-أووف، ماله ؟!
هدر مهاب عالياً وهو يلوح بكف يده في الهواء:
-البيه اتجوز يا هانم وإنتي مش دريانة!
إرتسمت علامات الإندهاش على وجهها، وفغرت شفتيها مصدومة وهي تنطق ب:
-نعم ؟ بتقول ايه ؟ أوس اتجوز!
رمقها بنظرات محتقنة وهو يسألها متهكماً:
-يعني مش عارفة ؟!

نفخت في ضيق، وأجابته ببرود وهي تسير في إتجاه غرفتها:
-لأ معرفش، هو ابنك بيقولي حاجة!
لحق بها وأضاف متهكماً وهو ينظر لها بإحتقار:
-على رأيك، هايقولك ليه أصلاً، هو أنتي كنتي أمه!
إستدارت بجسدها لتواجهه، فرأى نظرات الغضب جلية في مقلتيها، بينما صاحت هي محذرة مشيرة بإصبعها:
-مهاب، خد بالك من اسلوبك معايا، مش أنا اللي تكلمها بالشكل ده!

أعاد رأسه للخلف وهو يرد عليها ساخراً:
-اه صح، بنت الحسب والنسب
زفرت بغضب وهي تلوح بيديها:
-يوووه، هو كل مصيبة ابنك يعملها تحاسبني عليها، ما تحاسبه هو!

في نفس الوقت كانت ليان قد ولجت إلى داخل بهو القصر بعد أن استقبلتها المدبرة عفاف بالأحضان والقبلات الدافئة لرؤيتها إياها..
وضعت هي يديها على كتفيها، وقالت بحماس:
-نورتي القصر يا ليان هانم
إبتسمت لها ليان وهي تجيبها بنبرة مرحة:
-ميرسي يا ناني عفاف!
سألتها عفاف بإهتمام عن زوجها قائلة:
-أخبار العريس ايه ؟

أخذت نفساً عميقاً، وزفرته على عجالة، ثم قالت بفتور واضح وهي تتحاشى النظر في عينيها:
-عادي.. مافيش جديد
شعرت عفاف من طريقتها في الحديث عن زوجها بأن هناك خطب ما بها، فحاولت أن تستشف منها ما الذي حدث، فسألتها بحذر:
-هو.. هو عدي بيه مش هايجي ؟
ردت عليها بإيجاز قائلة وهي عابسة الوجه:
-لأ..!

سألتها مجدداً بإهتمام أكبر وهي تتفرس تعبيرات وجهها:
-يعني معملش حسابه معانا في الغدا ؟!
زفرت ليان بضيق واضح وهي تنطق بنبرة منزعجة:
-ناني عفاف، بليز، أنا مخنوقة ومش حابة اتكلم كتير عنه!
أخفضت عفاف نبرة صوتها وهي تجيبها ب:
-زي ما تحبي..!

تنهدت مجدداً وهي ترفع بصرها للأعلى متسائلة:
-قوليلي هو مامي هنا ولا دادي ؟
-الاتنين موجودين، تحبي أديهم خبر
هزت رأسها نافية وردت عليها بجدية وهي تتجه نحو الدرج:
-No ( لأ )، أنا هاطلع أسلم عليهم بنفسي
صعدت ليان عليه برشاقة تتناسب مع جسدها النحيف.. فهي مشتاقة للعودة إلى القصر وحياتها السابقة بعيداً عن تلك الصدمات المؤلمة في حياتها..
سريعاً وصلت للطابق العلوي، ولكنها تسمرت في مكانها حينما سمعت أصوات مشاجرة ما تصدح خارج غرفة والديها.. فسارت بحذر شديد – وعلى أطراف أصابعها – لتتصنت عليهما..

ظلت ليان على مسافة قريبة لتتمكن من الإستماع بوضوح لما يقولان.. خاصة وأن باب الغرفة كان موارباً..
هتف مهاب بصوت منفعل وهو يلوح بيده:
-لأ والبجاحة إنك سايبة الشغالة هي اللي تتابعه
نظرت له بقسوة وهي تجيبه ببرود مستفز:
-يعني عاوزني أعمل ايه ؟ هو مش بيطقني أصلاً!
صاح قائلاً بعصبية وهو يحدجها بتلك النظرات المحتقنة:
-تقفي جمبه، وتفضلي معاه!
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تجيبه بنفاذ صبر:
-والله ده ابنك مش ابني!

أمسك مهاب بذراع زوجته، فأرخته رغماً عنها، وسألها بحدة وهو يهزها منه:
-ومن إمتى بنقول الكلام ده يا ناريمان ؟
نزعت هي ذراعها من قبضته، وأولته ظهرها وهي ترد عليه بصوتها المنفعل:
-من زمان، وانت عارف كويس ده، مش شرط أقوله عشان تتأكد، كفاية تصرفات أوس لوحدها!
-ده طبعه، والمفروض كنتي آآآ..
قاطعته بصوت محتد وهي تصر على أسنانها بعد أن استدارت بجسدها نحوه:
-ماتقوليش ايه المفروض معايا أنا بالذات، ابنك عمره ما حبني ولا أنا حبيته، فأموره كلها متفرقش معايا!

هتف محتجاً على أسلوبها المستفز ب:
-وأنا مطالبتش منك تحبيه، كل اللي طلبته إنك تاخدي بالك منه!
نفخت من الضيق، وتحركت للجانب، وأردفت قائلة ببرود قاتل:
-أووف، وهو مش صغير عشان أنا أهتم بيه
استشاط مهاب غضباً من ردودها المثيرة للإنفعال، وصاح بهياج:
-انتي عمرك ما إهتميتي إلا بنفسك وبس
زفرت بضيق وهي تجيبه بإنهاك:
-مهاب، بليز، أنا زهقت وقرفت من كل حاجة هنا.

اتجه نحوها وجذبها من ذراعها وهو يصرخ مهتاجاً ب:
-انتي استحالة تكوني أم عاقلة، وواخدة بالها من بيتها وعيالها
أشاحت بذراعها، وتراجعت خطوة للخلف وهي تجيبه بغضب هادر:
-أيوه، أنا مش عاوزة أكون أم لولاد تهاني! سامعني، أنا مش بأحب ولادها
هنا إتسعت مقلتي ليان في صدمة كبيرة عقب تلك الجملة الأخيرة.. وشهقت بذهول واضح ولكنها سريعاً ما وضعت يدها على فمها لتكتم صوتها حتى لا ينتبه أحدهما لوجودها.. وأصغت بإهتمام كبير للبقية.. فهي لم تستوعب بعد المغزى من حديثهما هذا..

تابع مهاب حديثه الساخط قائلاً بعصبية:
-ولما انتي مش بتحبيهم وافقتي ليه تربيهم، ووافقتي على تزوير شهادة ميلاد ليان، ورضيتي إنك تكوني أمها ؟
ردت عليه بنزق وهي ترمقه بنظرات إحباط:
-كنت مفكرة انهم هايطلعوا زيي، شبهي، أخدين صفاتي، لكن كل حاجة بيعملوها فيها نفس تهاني، فيها شكلها وطريقتها!
صمت كلاهما للحظة ليسترجعا ما حدث قبل سنوات من جرائم فادحة، وكيف شجعته ناريمان على الخوض في مخططاته الدنيئة وتنفيذها دون تردد، وباركت أفعاله وساندته..

إذن هي لم تعترض من البداية على ما يريد، بل كانت الداعم الأول له، والآن تنكر كل هذا ببساطة، وتبرر فعلتها.. لذا قطع مهاب هذا الصمت قائلاً بصراخ:
-إنتي السبب في ضياعهم، وفي اللي وصلوله!
صاحت محتجة على إتهاماته لها وهي تنظر مباشرة في عينيه دون أن يرتد لها جفن ب:
-لأ، مش أنا، هما عمرهم ما كانوا ولادي، وإنت عارف ده كويس!
صر على أسنانه قائلاً بغلظة:
-بس لو كان أوس معرفتيش تربيه، فليان شاربة منك كل حاجة، وضاعت بسببك!
هتفت قائلة بصوت مسموع إرتد صداه للخارج:
-مش بنتي قولتلك، مش بنتي، أي حاجة هايعملوها إنت اللي هتتحاسب عنها مش أنا، إنت اللي خططت لكل حاجة، وإنت اللي وقعتنا في كل ده!

كانت ليان تتلقى الصدمة وراء الأخرى في صمت تام وهي تصغي لمصارحتهما المؤسفة..
إزداد شحوب لون بشرتها، وتسارعت دقات قلبها.. وحبست أنفاسها داخل صدرها حتى لا يسمع أحدهما صوت شهقاتها المريرة
نعم هي أدركت أنها لا تتوهم ما تسمعه، إنها الحقيقة المشينة..
ناريمان ليست والدتها، وهي لم تكن يوماً إبنتها.. ولم تكن لتعبأ بها لولا المظهر الإجتماعي..
هي لم تحاسبها لخطيئتها، ولم تنصحها لتكن الابنة المثالية، ولم تكن لها القدوة الحسنة لتصير على خطاها..
هي مجرد أكذوبة في حياتها.. إذن فمن هي أمها الحقيقية ؟

أردف مهاب قائلاً بإنفعال وهو يشير بيده:
-جاية الوقتي تقولي الكلام ده بعد السنين دي كلها
ردت عليه بقوة وهي تنظر بشراسة له:
-ايوه، وأكتر من كده كمان لأني جبت أخري معاك
-مممم.. فعلاً
أضافت قائلة بإمتعاض وهي تلوي شفتيها ناظرة إليه بإزدراء:
-أيوه، احنا الحياة بينا بقت مستحيلة
سألها مستفهماً بعد أن قبض على ذراعها:
-معناه ايه كلامك ده ؟

اقتربت منه لتنظر له بقسوة، ولم تهتم بأصابعه الضاغطة عليها، وقالت بصوت أشد صلابة وقوة:
-طلقني يا مهاب
سألها بصوت محتد وهو يحدجها بنظراته الملتهبة:
-أطلقك ؟
ردت عليه بجموح وهي ترمقه بنظرات غير مبالية:
-ايوه، عاوزني أعيش معاك وأنا كارهاك
صرخ فيها غاضباً وهو يعتصر ذراعها:
-أطلقك عشان تروحي ترمي نفسك في حضن عشيقك ؟
تلوت بذراعها محاولة تحريره، وإبتلعت ريقها متوترة، ثم أشاحت بوجهها للجانب وهي تجيبه بخفوت:
-هه.

هزها بعنف وهو يسألها بصوت غاضب:
-ما تردي يا هانم ؟ ولا مفكراني مش واخد بالي من اللي بتعمليه!
ثم دفعها بقسوة للخلف، وظل يرمقها بنظراته المهينة.. بينما أخذت هي نفساً عميقاً، وزفرته على عجالة وهي تهدر قائلة:
-والله أنا مش فارق معايا تفكر في ايه بالظبط، كل اللي يهمني تطلقني وبس
كز على أسنانه وهو يجيبها بقساوة واضحة:
-وماله، هاطلقك
ثم صمت لثانية قبل أن يتابع بصوت قاتم وهو يرمقها بنظراته الشيطانية:
-بس نصفي حسابتنا الأول كلها!
ابتلعت ريقها وهي تسأله بإرتباك واضح:
-قصدك ايه ؟
-إنتي فهماني كويس.

وصلت عفاف إلى الطابق العلوي، فوجدت ليان تقف على مقربة من باب غرفة مهاب الجندي، فقطبت جبينها في إندهاش، وتسائلت مع نفسها بريبة:
-الله! ليان واقفة هنا ليه ؟
ثم خطت بثبات في إتجاهها، وسألتها بصوت شبه مرتفع:
-ليان هانم، إيه اللي موقفك كده ؟

توقف كلاًهما عن شجارهما المحتد، وأصغى بإنتباه شديد لصوت عفاف.. ثم تحركا خارج الغرفة..
صُدم مهاب حينما رأى ليان تقف في حالة ذهول غريبة بجوار باب الغرفة، فإبتلع ريقه بخوف، وهو ينطق قائلاً:
-هاه ليان!
إهتاجت ليان حينما رفعت عينيها نحوه، وهدرت صارخة ب:
-كفاية بقى، إنتو الاتنين كدابين ؟
عجزت ناريمان عن النطق، وإكتفت بمتابعة ما يحدث في صمت.. فقد ألجمت المفاجأة لسانها..
تابعت ليان صراخها العنيف قائلة:
-أنا أبقى بنت مين ؟ بنت مين ؟

اقترب منها مهاب، وأمسك بها من كتفيها، وحاول أن يضمها إلى صدره وهو يقول بحنان:
-إنتي بنتي يا ليان، ماتصدقيش أي حاجة سمعتيها!
نظرت له بأعين مغرورقة بالعبرات وهي تسأله بصوت مختنق:
-لييييه أنا ؟ ليه عملتوا فيا كده ؟ من أهلي الحقيقيين ؟
ضم وجهها بكفيه، ورفعه نحوه وهو ينظر لها بندم، ثم هتف بإصرار:
-احنا اهلك اللي ربوكي، صدقيني يا بنتي، واسألي أوس أخوكي، إنتي بنتنا!

هزت رأسها رافضة لكل كلمة يقولها.. وأغمضت عينيها في خزي واضح متجنبة النظر إليه..
اعتصر قلبه آلماً وهو يراها على تلك الحالة، وإلتفت برأسه نحو زوجته، وصرخ فيها بقوة:
-اتكلمي يا ناريمان، وردي عليها، قوليلها هي بنتك، وأوس أخوكي!
حاولت هي أن تجيبها، ولكن خرج صوتها متقطعاً، وبدت أكثر إرتباكها وهي تقول:
-أنا.. آآ..
هتفت بها عفاف قائلة بذعر بعد أن رأت حالة الهياج التي أصابتها:
-ليان هانم!

تشنجت ليان بجسدها، وحاولت إبعاد نفسها عنه، فتمسك بها مهاب أكثر، واحتضنها بذراعيه متوسلاً:
-اهدي يا حبيبتي، أنا بابي حبيبك!
إستجمعت قوتها، ودفعته بشدة للخلف، فأفلت ذراعيه عنها، ونظر لها بأسف حقيقي، في حين ظلت هي تصرخ فيه بعنف:
-ابعدوا عني محدش يلمسني، أنا بأقرف منكم، مش تلمسوني!
أشار لها مهاب بيده محاولاً تهدئتها وهو يقول بنبرة حذرة:
-حاضر، مش هاقرب منك، بس انتي بنتنا، وأوس أخوكي، دي الحقيقة اللي لازم تسمعيها، وآآآ..

قاطعته بصراخها الحاد قائلة:
-ابعدوا عني
ثم تراجعت بظهرها للخلف، وظلت تهز رأسها مستنكرة كل شيء وهي تبكي بحرقة.. فالحقيقة أكبر من طاقتها على التحمل..
كل شيء قد إنهار في لحظة.. كيان الأسرة وعمادها كان مجرد وهم كبير.. ولم يتبقْ لها إلا أوس لتعرف منه الحقيقة كاملة..
استمرت في تراجعها وهي تكتم شهقاتها وحسرتها، مبتعدة عن الجميع، فحاول مهاب أن يلحق بها وهو يقول بصوت مرتفع:
-ليان استني، ليان، اسمعيني الأول!

ركضت مهرولة على الدرج والدموع تنساب بغزارة من مقلتيها.. فشعورها بالنفور من تلك العائلة أصبح بديهياً..
دار في خلدها فكرة واحدة، والتي ترسخت الآن في عقلها، أنها لم يعد لها أي ملجأ أو مهرب من هذا المكان لتعيش فيه سوى مع زوجها الذي تبغضه.. والذي تظن إن عرف حقيقتها فسيتخلى عنها ويتركها في الطرقات.. فزواجهما حُكم عليه منذ بدايته بالنهاية المأساوية.. وما حدث لها سيدمر الباقي من حياتها..
أسرعت ليان خارج هذا القصر الكئيب، وركبت سيارتها، وقادتها دون تفكير نحو بوابة القصر الرئيسية..

ظلت تضغط على البوق بصورة هيسترية حتى يستجيب الحرس لها، ويفتح البوابة..
كان مهاب في طريقه إليها، ولكنه لم يتمكن من إيقافها، فوقف غاضباً في مكانه، ولعن ذاك الحظ العثر الذي جعلها تصغي لفضائحهما..
أدارت هي عجلة القيادة في إتجاه الطريق الرئيسي، ومنه زادت من سرعة السيارة لتتجه نحو مقر الشركة..
فهناك ستجد الجواب الحاسم لحقيقة نسبها من أوس.. شقيقها الأكبر!

في منزل أوس بمنطقة المعادي
صف أوس سيارته أمام مدخل البناية، وترجل منها بحذر شديد، ولم ينتبه لوقوع هاتفه المحمول من جيب بنطاله على مقعد قائد السيارة..
ثم رفع بصره للأعلى لينظر إلى واجهة شقته العلوية..
كم يكره هذا المكان الذي شهد على فُحشه وأفعاله المخزية.. وأخيراً على ذبح تلك الروح النقية دون ذرة ندم وقتها..
أطرق رأسه في أسف وحسرة، وسار بخطوات متمهلة في إتجاه المدخل بعد أن صفق باب السيارة بعنف..
وما إن رأه حارس البناية جابر حتى نهض من على مقعده الخشبي، ونظر له بتأفف وهو يتفحصه من رأسه لأخمص قدميه، ثم سأله ببرود:
-عاوز مين يا أخ ؟!

حدجه أوس بنظرات نارية مخيفة وهو يجيبه بشراسة ك
-نعم! انتِ مين أصلا ؟
إلتوى فم جابر وهو يسأله بإمتعاض:
-أنا اللي بسألك الأول، هاترد على سؤالي بسؤال يا راجل إنت ؟!

تفاجيء حارس البناية بقبضة أوس تمسك به من عنقه، وبأظافره الحادة تغرز فيه، ثم دفعه الأخير بعنف نحو الحائط، وضغط على رقبته أكثر، فحاول أن يصرخ مستغيثاً بأي شخص، ولكنه كان مشلولاً أمامه، وتحشرج صوته وإختنق..
هدر به أوس قائلاً وهو يحدجه بتلك النظرات المحتقنة:
-محدش يسأل أوس باشا الجندي هو مين، إنت فاهم!
-آآآآآ..
تابع هو بنفس القوة، والشرر يتطاير من عينيه:
-ده أنا أدفنك مطرح ما انت واقف هنا
-آآآ.. أنا..

ثم أضاف قائلاً وهو يتعمد الضغط أكثر على عنق جابر ليزيد من صعوبة تنفسه:
-ولو مش عارف أنا مين، أنا بأعرف أهوو
تحول لون وجه جابر إلى الأزرق، وبدت علامات الإختناق جلية على وجهه وهو يتوسل له قائلاً:
-آآ.. ه.. هاتخنق آآآ..أسف يا بيه.. آآ..
أرخى أوس قبضته عنه.. ولكنه لم يكف عن رمقه بنظراته المميتة.. سعل جابر بشدة محاولاً إلتقاط أنفاسه المقطوعة، وتحاشى النظر في إتجاه هذا الرجل القوي..
ثم إتجه بعدها نحو المدخل، ومنه إلى المصعد..

بعد دقائق قليلة، كان أوس الجندي يقف عند عتبة باب منزله..
أخذ نفساً عميقاً، وزفره ببطء شديد، وأطرق رأسه للأسفل وهو يتذكر كيف سحب تقى في الأمس القريب إلى الداخل ليذبحها بلا رحمة ظناً منه أنه ينال بذلك راحته..
وبحذر شديد وضع المفتاح في مكانه المخصص، وبأنفاس متقطعة أداره لينفتح الباب مصدراً صريراً واضحاً..
شعر هو بثقل كبير يجثو على صدره وهو يستنشق ذلك الهواء المكتوم الذي إندفع إلى الخارج محملاً برائحة العذاب والقسوة..
دلف إلى الداخل بخطوات بطيئة، وتحسس موضع مصباح الإنارة ليضاء المكان بالكامل..

عض على شفته السفلى، وأطرق رأسه في ندم وهو يرى تلك المواضع التي نهش فيها لحم تقى بلا شفقة..
أغلق الباب خلفه، وسار بخطوات ثقيلة نحو الرواق، حيث غرفة النوم المتواجدة في نهايته، و التي شهدت على لحظة اغتيال تلك الروح النقية..
كان كل شيء كما تركه، وكأنه يؤكد له بقسوة أنه السبب فيما وصلت إليه، أنه ذئباً وحشياً إفترس ضحيته بلا رحمة..
تلاحقت أنفاسه وهو يقترب من باب غرفة النوم..
بدأت يصدر أنيناً مكتوماً وهو يسلط عينيه على بقايا الزجاج المحطم في الأرضية، وثوب عرسها..

رفع عينيه تدريجياً للأعلى لينظر إلى الفراش.. الذي كان كالمقصلة حيث نفذ حكم الإعدام في سجينته..
رأى قطرات دمائها – والتي جفت – مازالت مطبوعة على الملاءة..
وضع يده على فمه ليكتم تلك الشهقة القوية التي خرجت رغماً عنه..
فهناك قيدها، وتمكن منها، وأخذها رغماً عنها، محطماً إنسانيتها وإنسانيته..
هناك أثبت أنه ذئباً لا يغفر ولا يعرف الحب..
لم تقوْ قدميه على حمله، فإنهار على الأرضية، وطأطأ رأسه مخزياً، وإنتحب بأنين خافت قائلاً:
-أنا أسف يا تقى، أنا أسف.. أنا اللي دبحتك بإيدي!

ثم إرتفع صدره وهبط بعد أن تركه لنفسه العنان في البكاء الآسف ندماً على فعلته النكراء..
وإزداد نحيبه وهو يتابع قائلاً:
-بس غصب عني، كنت معمي، يا ريتك تسامحيني يا تقى، وتنسي اللي عملته.. آآآآه..
تنهد بحرقة وهو يضيف قائلاً بمرارة وقد تلونت عينيه بالحمرة:
-أنا عارف إنه صعب عليكي ده، بس.. بس عندي أمل إنك تسامحيني، آآآآه!
ظل لبعض الوقت جالساً على تلك الوضعية.. متأملاً ما خلفه من أثار إعتدائه الوحشي، ومستعيداً في ذاكرته كل لحظة أساء فيها إلى زوجته البريئة..

أرجع رأسه للخلف ليحدق في سقفية الغرفة، وقال بعزم جلي:
-مش لازم أستنى في المكان ده تاني، كل حاجة هاتتغير للأحسن!
ثم أخفض رأسه قليلاً، ومسح عبراته بكف يده، وتلفت حوله بإشمئزاز واضح على محياه قائلاً بحسم:
-أوعدك يا تقى إني هأبدأ من أول وجديد، وفي مكان تاني خالص غير ده!
ثم إستند على مرفقه لينهض عن الأرضية، ونظر للفراش بنظرات أسفة وهو يتابع قائلاً بصوت متحشرج:
-اللي حصل هنا لازم يدفن، يتمحى من الوجود، المكان النجس ده ماينفعش لملاك زيك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة