قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل السابع عشر

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل السابع عشر

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في الحارة الشعبية
أوقف عدي سيارته بالقرب من مدخل الحارة لكي يوصل السيدة تهاني بعد أن اطمأن كلاهما على حالة أوس الصحية ..
تنهدت تهاني في إرتياح وهي تردد:
-الحمدلله، عدت على خير
هز عدي رأسه، ولم يحرك شفتيه .. بينما تابعت هي بقلق:
-الخوف من اللي جاي
رج عليه بجمود وهو ينظر نحوها:
-اطمني، أوس مش هايعدي أي حاجة حصلت، أنا عارفه كويس.

مطت شفتيها لتضيف بقلق:
-وده اللي مخوفني، مش هايسيب حقه ولا حق تقى
زفر بصوت مسموع، وتابع قائلاً بنبرة شبه منزعجة:
-انتي عارفة إن اللي حصل مش سهل
أغمضت عينيها لوهلة، وأخفضت نبرة صوتها قائلة:
-ايوه .. ربنا يلطف باللي جاي ..!
ثم سألته بإهتمام:
-المهم ليان عاملة ايه ؟ طمني عليها يا بني
هز رأسه بخفة وهو يجيبها بجدية:
-تمام .. الجلسات بتجيب نتيجة، وفي تحسن ملحوظ!

ابتسمت له بسعادة وهي تردد:
-ربنا يجمعكم على بعض قريب!
أطلقت تهاني تنهيدة مطولة لتضيف بحذر:
-نفسي اشوفها
رد عليها عدي بصوت جاد وهو ينظر لها:
-هارتب مع الدكتور وأبلغك بالميعاد المناسب
ربتت على كتفه، وهتفت بإمتنان:
-ربنا يكرمك يا بني، ويبعد عنك وعن ابني أي سوء
ابتسم لها مجاملة وهو يقول بإيجاز:
-شكرا.

أشارت بكف يدها للباب قائلة:
-عن اذنك، هاتوكل أنا على الله
أومأ بعينيه وهو يرد بهدوء مختصر:
-اتفضلي
ترجلت من السيارة، وأغلقت الباب خلفها، فتابعها بنظراته حتى ولجت إلى داخل بهو البناية، ثم أدار رأسه للخلف ليستدير عائدا بالسيارة، ولكنه تفاجيء بوجود شخص ما يحمل في يده عصا غليظة أو ما يطلق عليه باللغة الدارجة ( شومة ) .. يضرب بها كفه، ويحدجه بنظرات نارية ..

ضيق عدي عينيه، وضغط على بوق السيارة صائحاَ بنفاذ صبر:
-وسع يا اخ!
رد عليه منسي بنبرة غليظة، ونظرات عدائية:
-مش قبل ما أعلم على الأنجاس اللي وسخوا الحارة
-نعم!
أوقف عدي محرك السيارة، وفتح التابلوه ليلتقط منه شيئاً أسود اللون كان يحتفظ به لإستخدامه في حالة الطواريء، ثم اندفع كالثور الهائج ليترجل منها وقد سيطرت عليه عصبية مقلقة ..

ضرب منسي بعصاه الغليظة على الأرضية الأسفلتية، وهتف بتحدي:
-تعالوا يا حارة اتفرجوا عليا وأنا بأطهرها من الرجالة القذرة اللي ..آآآ...
لم يكمل منسي عبارته الأخيرة حيث أشهر عدي مسدسه في وجهه، وحدجه بنظرات مميتة، وصاح به بصوت جهوري مخيف:
-عيد تاني اللي قولته!

ابتلع منسي ريقه، ونظر له بتوجس شديد ..
وللحظة ارتجف أمامه، وارتعشت يده الممسكة بالعصا الغليظة .. وبدى منزعجاً من ردة فعله القوية والغير متوقعة ..
لم يهتز عدي للحظة، وسحب صمام الأمان للخلف، فأصبح قاب قوسين أو أدنى من إطلاق النيران عليه ...

في مشفى الجندي الخاص
منع الطبيب مؤنس كبير الأطباء من الإتصال هاتفياً بمهاب الجندي حتى لا يعكر صفو الأجواء الهادئة بينهما، ولكن اعترض الأخير قائلاً بغلظة:
-اتحمل انت المسئولية كلها، انت فاهم كويس إن د. مهاب مش بيحب حاجة تحصل من وراه، ومايكونش عنده علم بيها!
كز الطبيب مؤنس على أسنانه قائلاً بحنق:
-ده راجل ومراته، هايفيد بإيه انه يعرف أو مايعرفش ؟
رد عليه كبير الأطباء بإمتعاض:
-لما يكون ده ابنه هتفرق أوي.

رمقه مؤنس بنظرات محتقنة وهو يردد بضيق:
-انت غاوي مشاكل
أردف قائلاً بصوت قاتم:
-لأ .. بس مش غاوي وجع دماغ معاه، وانت عارفه مش بالساهل يسامح حد!
نفخ مؤنس من الضيق، وحك عنقه بتوتر .. وصمت للحظات يفكر في حل سريع، ثم هتف قائلاً على مضض:
-طب استنى للصبح، ده كلها كام ساعة يا سيدي
-مممم..

أضاف بهدوء حذر وهو يشير بيده:
-مش هاتخسر حاجة، وابقى ساعتها قوله انك مكونتش عارف
تشدق كبير الأطباء قائلاً بإمتعاض:
-اخرك معايا الصبح، بعد كده هابلغه، وانت تتحمل المسئولية
تنهد مؤنس بصوت مرتفع ليرد عليه على مضض ب:
-ماشي!

في غرفة العناية
لم يغمض لأوس أي جفن، فقد ظل يراقب زوجته التي أحبها بشغف واضح في عينيه ..
كم اشتاق لقربها، ولوجودها معه .. ولإستكانتها في أحضانه ..
وأراحه نوعاً ما استجابة الطبيب مؤنس لطلبه بتخدير زوجته حتى تحصل على قسط من الراحة دون الحاجة للجوء لإستخدام القوة معها .. فقد كانت منهكة للغاية .. وتحتاج للنوم ..

راقب انتظام أنفاسها بهدوء .. وتلمس بأطراف أنامله وجنتها، وأرنبة أنفها .. فتشنج وجهها قليلاً مردة فعل طبيعية، فإعتلى ثغره إبتسامة ناعمة ..
همس لها معاهداً نفسه:
-هاعوضك عن اللي فات كله، مش هاسمح لحاجة تانية تأذيكي، حتى .. حتى لو كانوا أقرب الناس ليكي ..!
ثم ضمها أكثر إليه، وطبع على جبينها قبلة حانية مطولة ..

في الحارة الشعبية
ازدرد منسي ريقه بتوتر جلي .. وأرخى قبضته عن عصاه فسقطت منه، وهتف بتلعثم:
-أنا .. أنا آآآ...
تجمع أهالي الحارة حولهما، وصاح أحدهما بحذر:
-يا باشا فوكك منه، ده واحد مش دريان بيقول ايه
أضاف أخر بنبرة قلقة:
-ايوه، هو بس الدم كان حامي عنده، فحب يبعبع بكلمتين
وأكمل أخر:
-اعتبره عيل وغلط!

نظر لهم منسي شزراً، وصاح بصوت منفعل:
-اسكتوا خالص، أنا ليا لي لسان وأعرف اتكلم!
ضيق عدي نظراته ليرمقه بشراسة، وأردف قائلاً بتهديد صريح:
-انت هتندم على كل حرف قولتله، ولسانك ده هايتقطع!
حاول منسي أن يخلق أي عذر يبرر فعلته الهوجاء، فهتف بنزق:
-انتو مش خلاص طلقتوا البت بنت عوض، ج... جايين هنا ليه ؟

اقترب منه عدي بشجاعة أشد، وسلط الفوهة على جبينه، وهتف بنبرة عدائية:
-انا هاخرس لسانك ده خالص
هتف رجل ما بتلهف محاولاً الدفاع عنه:
-يا باشا ده واد لسانه طويل ومش متربي، وحاشر نفسه في اللي مالهوش فيه!
لم يعبأ عدي بما قاله الرجل، وإلتوى فمه بإبتسامة خطيرة وهو يردد بتوعد:
-انت هتتحاسب بس مش على ايدي، هاسيبك للي يربيك صح! أوس الجندي، احفظ الاسم ده كويس!
جف حلق منسي تماماً بعد سماع اسم من يعرف شره، وفغر فمه ليردد بذعر:
-هاه .. آآ ..أوس!

مال عدي على رأس منسي، وهمس له بنبرة محذرة تحمل الوعيد:
-أوس الجندي مش بيسيب تاره أبدا، وخصوصا لو حد قرب من اللي يخصه، فما بالك بمراته ؟!
جفل منسي لوهلة، ودبت قشعريرة قوية في جسده .. ولكن باغته عدي بضرب فكه بمقدمة سلاحه بقوة بالغة، فنزف دماً على الفور، وصاح متأوهاً وهو ينحني للأسفل..

اعتدل عدي في وقفته، وحدجه بنظرات عدائية، وتابع بشراسة:
-ده يعلمك كل كلب يلزم حدوده!
ثم ضربه بركبته في أسفل معدته مرتين متتاليتين، فسبب له آلماً أشد، ولكمه في صدغه بضراوة أسقطته أرضاً ..
وأكمل مستهزئاً منه:
-ولما تيجي تناطح ناطح على أدك!

لم يجرؤ أحد على التدخل، فقد ظنوا أن عدي رجل ذو سلطة وصلات قوية .. فتركوه يفعل ما يشاء بمنسي حتى طرحه أرضاً ..
نفض عدي يديه، ودس سلاحه في بنطاله، ثم أولاه ظهره، وقبل أن يركب سيارته، التفت برأسه نصف إلتفاتة ليضيف بإبتسامة قاسية:
-واستلقى وعدك من أوس باشا!
ثم ولج إلى داخل سيارته، وقادها وهو يمسح عن كفيه أثار دماء ذلك المقيت.

في منزل تقى عوض الله
فتحت فردوس الباب لتجد أختها تدلف إلى الداخل ووجهها يكسوه علامات الإجهاد ..
سألتها بتلهف بعد أن بحثت عنها خارج المنزل:
-البت فين ؟ عملوا فيها ايه ؟ قولي يا تهاني
ردت عليها تهاني بنبرة منهكة:
-اطمني، هي بخير، وسابوها
سألتها بنبرة شبه محتدة وهي تقف خلفها:
-اومال مجتش معاكي ليه ؟

أجابتها تهاني بخفوت:
-مشيت مع جوزها
اتسعت حدقتيها في إندهاش، وهتفت غير مصدقة:
-جوزها، طب ازاي ؟ مش طلقها وآآآ...
قاطعتها تهاني بصوت شبه منفعل:
-لأ محصلش، أبوه كدب وقال الكلام ده!
هزت فردوس رأسها في حيرة، وهتفت بضجر:
-أنا مش فاهمة حاجة.

لوحت لها تهاني بذراعها، وسارت في إتجاه الغرفة وهي تقول بنبرة متعبة:
-بعدين هافهمك يا فردوس، سيبني الوقتي أرتاح
لوت فردوس فمها لتقول بإزدراء وهي متجهمة الوجه:
-والله ما هيضيع البت دي إلا انتي يا تهاني!

عند مشفى الجندي الخاص
وصل حارس الأمن أحمد عند بوابة الاستقبال، كان قد حسم رأيه بزيارة أوس الجندي في المشفى، خاصة بعد أن تعذر عليه مقابلته في الشركة ..
تردد للحظة قبل الدخول للسؤال عنه، ولكن لا مجال للتراجع الآن .. فمصير انسانة بريئة على المحك ..
وقبل أن تطأ قدميه بهو الإستقبال أوقفه حارس ذو جسد ضخم سائلاً إياه بصرامة وهو يتأمل هيئته:
-رايح فين ؟

نظر له أحمد بهدوء، واجابه بحذر:
-داخل جوا
فحص الحارس الضخم هيئة أحمد، ورمقه بنظرات دقيقة وهو يسأله:
-عاوز مين يعني ؟
اضطرب أحمد وهو يجيبه قائلاً:
-أنا .. أنا كنت جاي أقابل أوس باشا الجندي
لوى الحارس الضخم فمه قائلاً بتهكم:
-نعم! بالساهل كده
ابتلع ريقه وهو يرد عليه ببساطة:
-أيوه، هو .. هو في مشكلة.

رد عليه بنبرة جافة محدقاً إياه بنظرات إزدراء:
-اه طبعاً، ممنوع أي حد يقابله
هتف فيه أحمد بجدية وهو عابس الوجه:
-بس الموضوع مهم!
ضربه الحارس في كتفه بكفه الغليظ، وصاح بصوت فيه نبرة عدائية:
-اتمشى من هنا
فغر أحمد فمه مندهشاً ليقول بصدمة:
-نعم، بتقول ايه ؟!

لكزه في كتفه بحدة، وأعاد قائلاً على مسامعه بصوت مهدد:
-امشي من هنا بدل ما أعمل معاك اللي يزعلك!
اغتاظ أحمد من طريقه الفظة في التعامل، وهتف معترضاً وهو قاطب جبينه بشدة:
-في ايه يا أخ، أنا كنت شغال زيك، يعني آآ...
قاطعه الحارس الضخم قائلاً بجمود:
-لا زيي، ولا غيري، امشي بالذوق أحسنلك!
أدرك أحمد أنه دخل في جدال لن يفيد مع ذلك الحارس متحجر العقل، والذي لن يسمح له بالمرور تحت أي ظرف .. لذا تدارك الأمر، وقرر التراجع .. وعاود أدراجه للخلف ليحدث نفسه بضجر:
-برضوه مش هاسكت، وهاوصلك يا باشا!

في السجن النسائي
عقدت ناريمان كفيها خلف رأسها بعد أن مددت جسدها على الفراش، وحدقت بالسقف بنظرات فارغة .. وبقيت على وضعيتها الجامدة لفترة مطولة ..
كان من ينظر إليها يظن أنها من الموتى، ولكن عقلها كان يعمل بلا توقف ..
إعتصرت ذاكرتها بشدة لتتذكر أدق التفاصيل التي تخص مهاب من أجل الإعداد للإنتقام منه، وإيقاعه في شر أعماله ...
إلتوى فمها بإبتسامة خبيثة، وإرتخت تعابير وجهها نوعاً ما، وغمغمت بتوعد:
-بس .. هي دي الطريقة!
أدارت جسدها لتنام على جانبها، وتابعت بثقة:
-هو أنا ورايا غير إني ادمرك يا مهاب!

انقضى الليل بهدوء على الجميع ليبدأ صباح يوم أخر مليء بالأحداث الغير متوقعة ...
في مشفى الجندي الخاص
هاتف كبير الأطباء مهاب وأبلغه بما حدث مع ابنه بالأمس، فصاح الأخير بغضب جم:
-وانت ساكت، كنت عاوز تبلغني امتى ؟
رد عليه كبير الأطباء بتردد وهو يحاول إمتصاص غضبه:
-يا دكتور مهاب، الدكتور مؤنس أصر انه آآ...

قاطعه مهاب بصوت مهتاج:
-مؤنس مين ده عشان يمنعني أعرف اللي يخص ابني، أنا جاي فوراً المستشفى!
تنحنح بخفوت وهو يكمل بحذر:
-في انتظار حضرتك!

في غرفة العناية
تململت تقى في الفراش، وإستدارت بهدوء لتضع كفها عفوياً على وجه أوس .. وظلت مغمضة العينين ..
أفاق هو على حركتها تلك .. فأدار رأسه بحذر ليقبل أصابع يدها بشفتيه ..
شعرت بسخونة على أصابعها، ففتحت عينيها ببطء ..
استغرقها الأمر عدة ثوانٍ ليستوعب عقلها ذكريات الأمس ..
فتحت عينيها أكثر، ونظرت له مندهشة، فأخر ما تذكره هو نومها بمفردها على الفراش، وحديثها عن حملها من طفله .. ودخوله في غيبوبة، فكيف جاء إلى فراشها، وكيف أصبحت هي في أحضانه ..

وفجأة هبت معتدلة في نومها لتتلفت حولها بهلع، وتسائلت متوجسة:
-هو .. هو انت جيت هنا ازاي ؟ مش .. مش كنت هناك وآآ...
مازحها قائلاً بصوت ناعس وهو يعتدل في جلسته:
-أصلي بأمشي وأنا نايم
ضيقت عينيها بإستغراب أكثر من مرحه الغير معتاد ..
ولاحظت يديه وهي تمتد نحو بطنها لتتلمسها، وهمس لها معاتباً:
-كنتي عاوزة تبعدي عني وانتي حامل، هونت عليكي ؟!
ابتلعت ريقها بهدوء، ورمشت بعينيها ..

لقد ارتبكت وشعرت بخجل شديد من كلماته تلك .. وأسبلت عينيها .. وعضت على شفتها السفلى بتوتر ..
راقبها بشوق واضح في عينيه ..
ثم أردف متسائلاً بخفوت:
-مالك ؟ خايفة من ايه ؟
احنت رأسها للأسفل متحاشية النظر إليه، فمال عليها بجسده ليلتصق صدره بكتفها، ثم أمسك بكفها الرقيق، واحتضنه بكفه ..
وهمس لها بنعومة وهو يداعب أصابعها:
-أنا مش هاعملك حاجة! أنا .. أنا اتغيرت يا تقى عشانك!
تنهد تنهيدة مطولة ليضيف بصدق:
-نفسي تحسي بده!

ثم قرب كفه المعقود في أصابع كفها، وألصقه بصدرها، وتابع بصوت هامس:
-وتصدقيني بقلبك!
لم تنبس ببنت شفة .. ولكن توردت وجنتيها خجلاً منه ..
أخفض كفه، وحرر أصابعها .. ثم وضع يده على بطنها ليتحسسه مجدداً، وأردف قائلاً بنبرة تحمل الحزن:
-وتحبيني أنا وابني! وماتتخليش عننا
رفعت رأسها لتنظر له بإستغراب يعلو تعابير وجهها، وسألته مندهشة:
-هو .. هو في أم مش بتحب ابنها ؟
ابتلع تلك الغصة المريرة في حلقه، وحدق أمامه في الفراغ وأجابها بجمود:
-ايوه في!

فهمت هي المقصد من كلماته المقتضبة .. هو يعني ( خالتها تهاني ) التي ظن أنها تركته وتخلت عنه ليصبح ضحية قبل أن يتحول إلى أبشع جلاد ...
كانت على وشك الحديث، ولكن تجمدت الكلمات على شفتيها بعد سماعها لصوت دقات خافتة على باب الغرفة ..
فأدارت رأسها في اتجاهه، ونظرت إلى الطارق ..
دلف الطبيب مرنس وهو يرسم على محياه ابتسامة هادئة، وتشدق قائلاً بحماس وهو يرمق كلاهما بنظرات مرحة:
-واضح إني جيت في وقت مش مناسب.

فرد أوس كتفيه، ورد عليه بهدوء:
-تعالى يا دكتور
أردف الطبيب مؤنس قائلاً بإبتسامة هادئة:
-صباح الخير عليكم، ازيك النهاردة يا باشا ؟
أجابه أوس بإيجاز:
-كويس
أدار رأسه في إتجاه تقى، وسألها مهتماً:
-اخبارك ايه يا مدام ؟ إن شاء الله تكوني أحسن
ردت عليه بخفوت وهي ترمش بعينيها:
-أنا بخير
رسم ابتسامة عريضة على وجه، ولوح بيده قائلاً بحماس:
-عظيم .. هستأذنك هاخد الباشا أوس شوية.

سأله أوس بإمتعاض وهو يرمقه بنظرات قوية:
-ليه ؟ في حاجة ؟
رد عليه بهدوئه المعتاد:
-هانعمل شوية فحوصات وأشعة
-مممم..
ثم رسم مؤنس ابتسامة سخيفة على فمه ليقول بمزاح:
-اطمن مش هأخرك على المدام
رمقه أوس بنظرات حادة قبل أن يشير له بعينيه وهو يقول بصرامة:
-روح وأنا هاحصلك
تنحنح بخفوت قائلاً بإصرار:
-أنا منتظر سيادتك برا، ومعايا الممرضين، وماينفعش آآ...
قاطعه بصوت جاد للغاية وهو يشير بعينيه الحادتين:
-ماشي، اسبقني وأنا جاي.

هز رأسه موافقاً ليردد بإختصار:
-اوكي
سلط أوس أنظاره عليه حتى خرج من الغرفة، فإستدار برأسه نحوها، وابتسم لها قائلاً:
-حبيبتي .. عاوزك تغسلي وشك وتفوقي، وشوية وراجعلك
بادلته ابتسامة باهتة وهي تفرك أصابع كفيها، ولم تعقب عليه ..
نهض أوس بحذر من على الفراش .. وسار بخطوات بطيئة إلى حد ما في إتجاه الباب، ثم أدار وجهه نحوها، وتابع قائلاً برومانسية لم تعتادها بعد منه:
-على فكرة .. هتوحشيني الشوية دول!

أجفلت عينيها بإرتباك، ورفعت يدها لتحك جبينها بتوتر .. فإبتسم لها، وولج إلى الخارج ...
نهضت هي الأخرى عن الفراش، ولكن أصابها دوار خفيف، فترنح جسدها قليلاً .. فتمسكت سريعاً بطرف الفراش، وأسندت جسدها عليه .. وانتظرت لبرهة حتى يذهب عنها الدوار، ثم اعتدلت في وقفتها وسارت بحذر ناحية المرحاض ..
دلفت تقى إلى الداخل، وتأملت المكان بإعجاب ..
فرغم كونه مرحاضاً ملحقاً بالمشفى، إلا أنه كان مصمماً بطريقة تشعرك بالإرتياح
شهقت مصدومة حينما نظرت عفويا نحو المرآة ورأت إنعكاس هيئتها ..

كان شعرها مشعثاً، يبرز معظمه من أسفل حجابها المنزلي الذي تحرك من مكانه بسبب نومها ..
كذلك كان وجهها باهتاً ومرهقاً للغاية .. والهالات السوداء متجمعة بكثافة أسفل عينيها المنتفخين من أثر البكاء
أما قميصها المنزلي الذي يظهر من أسفل سترة أوس فلا يليق على الإطلاق
دفنت وجهها في راحتي يدها بخجل كبير .. وتمتمت بحرج:
-ده منظر عفريت مش بني آدمة، يادي الكسوف!
تنهدت بعمق، ثم رفعت رأسها، واتجهت نحو الصنبور لتبدأ في غسل وجهها، وتعديل هيئتها ...

في نفس التوقيت وصل مهاب إلى المشفى، وعصف بكل من قابله في طريقه بسباب لاذع أو بتوبيخ حاد ..
أسرع كبير الأطباء ليستقبله، فهتف فيه بصوت غاضب:
-لسه بتفتكر إني موجود!
برر كبير الأطباء موقفه قائلاً:
-يا دكتور مهاب أنا آآآ...
قاطعه مهاب بصوت منفعل:
-بس متقولش حاجة، هما فين ؟
أشار بإصبعه للأعلى وهو يجيبه قائلاً:
-فوق في العناية!

لم يضفْ مهاب كلمة أخرى، بل إنطلق كالثور الهائج في إتجاه المصعد ..
دلف معه داخله كبير الأطباء، واختلس النظرات نحوه بحذر ..
تمنى في نفسه ألا يتسبب ما فعله مؤنس في إلحاق الضرر المادي له ..
كانت تعابير وجه مهاب توحي بشرٍ مُستطر، ونظراته تشير إلى نية لئيمة لإفساد أي شيء .. فابنه مُصر على عصيانه بلا ندم، وتحديه بطرق سافرة للغاية .. وهو الآن يضمر له ما يستحقه ..

أمسكت تقى بالمنشفة القطنية، وجففت وجهها وذراعيها، ثم وضعتها في مكانها، وأعادت ربط حجاب رأسها .. وسحبت سترة أوس، وأسندتها على ذراعها، واستعدت للخروج ..
لم يخطر ببالها حينما وطأت قدميها الغرفة وجود مهاب الجندي بوضاعته وخسته أمامها ..
تسمرت في مكانها .. واتسعت مقلتيها لا إرادياً، وشهقت مذعورة من رؤيته ..
إرتجف جسدها بشدة، واجتاح كيانها برودة لا تعرف مصدرها ..
نظر لها شزراً، وصر على أسنانه قائلاً بحنق وهو يتحرك صوبها:
-كويس أوي انك لسه بتخافي!

تلاحقت أنفاسها بخوف، وتراجعت بسيقانها المرتجفة بهلع للخلف ..
استمر هو في التحرك نحوها .. وحدجها بنظرات مميتة، وتابع صارخاً بشراسة وهو يلوح بذراعه:
-لأن اللي هاعمله فيكي آآ..
-دكتور مهاب!
قاطعه أوس بصوت جهوري وغاضب للغاية اهتزت على إثر قوته أركان الغرفة ...

إلتفتت تقى نحوه بوجهها الشاحب، ورمقته بنظرات مستغيثة، فبادلها بنظرات مطمئنة، وإقترب منها، ثم سحبها من ذراعها لتقف خلفه، ووقف شامخاً بجسده متحدياً أبيه بصلابة عجيبة ..
استشاط مهاب غضباً مما يفعله ابنه، وهتف فيه بإنفعال متعمداً إهانتها:
-لسه متمسك بالبيئة دي!
تلونت عيني أوس بحمرة الغضب الشديدة، ورد عليه أوس بصوت محتقن وهو يصر على أسنانه بشراسة:
-اسمها تقى يا د. مهاب، ولو هي بالنسبالك بيئة، فعاوزك تعرف إنها أنضف منك مليون مرة!

ثم لف ذراعه للخلف ليلصقها بظهره، وتابع بنبرة أشد قوة:
-وشرف ليا إن واحدة زيها تبقى مراتي!
استشاط مهاب غضباً، وبدت عروقه النابضة بالدماء التي تغلي واضحة للعيان، وهتف بجنون:
-فكرك أنا هاسمح إنك تكمل معاها، تبقى بتحلم
لوى أوس فمه ليتابع بصوت محتد:
-تسمح أو ماتسمحش مايخصنيش، مراتي معايا وفي حضني!
ثم ضيق عينيه لتصير نظراته أكثر عدائية، وأكمل بنبرة تهديد:
-وهاحميها من أي حد بس يفكر يتعرضلها، حتى لو كنت انت ذات نفسك يا .. يا دكتور مهاب...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة