قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في منزل تقى عوض الله
جلست ليان على إستحياء على الأريكة الموجودة بالصالة الخارجية .. وتأملت المكان حولها بنظرات متفحصة ..
ورغم البساطة الشديدة – وربما الفقر المدقع البادي على غالبية الأثاث – إلا أنها شعرت بألفة عجيبة به ..
خرجت تهاني من المرحاض بعد أن غسلت وجهها، وريمت على ثغرها إبتسامة بشوشة، وهمست بسعادة:
-نورتي بيتك يا بنتي
هزت ليان رأسها دون أن تنبس ببنت شفة، وإكتفت بإبتسامة مهذبة ..

جلست تهاني على الأريكة المجاورة لها .. ورمقتها بنظرات أمومية حانية، واستطردت حديثها قائلة:
-أنا عارفة إنك مش فاهمة حاجات كتير من اللي بتحصل حواليكي
ردت عليها ليان وهي تفرك أصابعها بتوتر:
-أنا بس آآ... حاسة إني تايهة!

أخذت تهاني نفساً مطولاً، وزفرته على مهل، ثم تابعت بهدوء نسبي:
-شوفي يا بنتي حكايتي بدأت من زمان، مش من النهاردة، واللي حصل قدامك وشوفتيه بعينيكي مايجيش نقطة في بحر من اللي أنا فيه
عضت ليان على شفتها السفلى وهي تحاول التعبير قائلة:
-أنا .. آآ...
رفعت تهاني كفها أمام وجه ابنتها، وقاطعتها بجدية:
-اسمعيني للأخر وهاتفهمي كل حاجة!
هزت ليان رأسها إيجابا، وتطلعت إليها بإهتمام، في حين بدأت تهاني في سرد ذكريات ماضيها بكل ما فيه من مرارة وظلم وخداع وقهر حتى تتضح الصورة كاملة أمام ابنتها ...

في غرفة تقى
ربتت فردوس على ظهر ابنتها، ورسمت ابتسامة زائفة على ثغرها وهي تهتف بعتاب:
-بقى كده يا بت، أهون عليكي! ماوحشتكيش امك
أمسكت تقى بكف يدها، ورفعته إلى فمها لتقبله، وأجابتها بنعومة:
-غصب عني يا ماما!
زمت فردوس شفتيها، وتابعت بتنهيدة:
-يالا، أديكي أعدة هنا معايا
حركت تقى رأسها بخفة، فسألت والدتها بجدية وهي ترمقها بنظرات متفحصة:
-أخبار الحَبَل ايه ؟

ردت عليها تقى بهدوء:
-الحمدلله!
ثم إشرأبت بعنقها للأعلى، وأضافت متسائلة بإستغراب:
-أومال احنا ليه مش أعدين مع خالتي ؟
لوت فردوس فمها لتجيبها بتهكم صريح:
-ياختي، يعني هاتقعدي مع الأمَلَة، خليكي مع أمك حبيبتك
إنزعجت تقى من رد والدتها الفظ، وبدت شبه مستنكرة لهذا، فغيرت مجرى الحوار، وتسائلت بهدوء:
-وبابا عامل ايه ؟ بياخد علاجه ولا لأ ؟

أصدرت فردوس صوتاً ممتعضاً من إحتكاك شفتيها معاً، وأجابتها بتذمر:
-يعني .. أديها ماشية بالستر!
ابتسمت تقى إبتسامة راضية وهي تهمس شاكرة:
-الحمدلله ..
رفعت فردوس حاجبها للأعلى، وهتفت بتشفي:
-صحيح شوفتي اللي جرى مع الولية حماة البت بطة!
قطبت تقى جبينها بإهتمام وهي تتسائل قائلة:
-مالها ؟

أشارت بكفي يدها وهي تجيبها بجدية:
-البيت وقع عليها وماتت
وضعت تقى يديها على فمها، وشهقت مصدومة:
-يا ساتر يا رب
أضافت فردوس قائلة بتبرم:
-ياخوفي البيت يقع على دماغنا احنا كمان
هزت تقى رأسها معترضة وهي تهمس برجاء:
-ربنا مايجيب حاجة وحشة
تنهدت فردوس وهي تقول بإمتعاض:
-ايوه ..!

ثم صمتت للحظة قبل أن تضيف بجدية:
-المهم أنا عاوزاكي معايا أخر النهار في مشوار كده
رددت تقى قائلة بإستغراب يكسو ملامح وجهها:
-مشوار!
أجابتها والدتها بهدوء مصطنع:
-ايوه، واحدة ست غلبانة كانت معايا في المصنع حالتها صعب أوي راقدة في المستوصف هنا جمبنا!
-هاه
تابعت بنبرة حزن زائفة:
-أنا بأروح أشأر عليها، هي يا حبت عيني مالهاش حد يسأل عليها، شكلها يصعب على الكافر!

أومأت تقى برأسها موافقة، ورددت بنعومة:
-حاضر يا ماما!
برزت ابتسامة خبيثة من بين أسنانها وهي تربت على كتف ابنتها، ثم هتفت بحماس:
-يباركلي فيكي يا رب!
ظلت ابتسامة تقى الصافية تعلو ثغرها وهي تطالع والدتها بنظرات حنونة للغاية ...

في المسجد الموجود بالحارة
دفن أوس وجهه بين راحتي يده بعد أن أجهش بالبكاء وهو منزوي في أحد أركان المسجد بعيداً عن أعين المصلين ..
كانت تلك هي المرة الثانية التي يترك فيها العنان لنفسه ليبكي بلا مقاومة ...
نعم، بكى ليستريح ..
بكى ليتطهر ..
بكى ليبدأ من جديد ...

جلس الشيخ أحمد إلى جواره، وتركه يخرج ما يكنه صدره حتى هدأ تماماً، فربت على فخذه، وشرع حديثه قائلاً بصوت هاديء:
-مهما كان عظم الذنب مش هايكون حاجة جمب رحمة ربنا
غمغم أوس مع نفسه بتحسر وهو يرمق الشيخ أحمد بنظرات بائسة:
-يا ريتني لاقيت اللي ياخد بإيدي من زمان
أكمل الشيخ أحمد حديثه قائلاً بنفس النبرة الرخيمة التي تبعث الهدوء على النفس:
-يمكن تمر عليك لحظات تحس فيها بالضعف، ونفسك تخذلك وتخليك ترتكب المعصية تاني والشيطان يسد طريق التوبة قدامك، فأوعى تيأس، وتستسلم، ارجع تاني وتوب وجدد إيمانك!

إلتوى فم أوس ليستطرد جملته قائلاً بسخط:
-عارف يا شيخ، أنا عمري ما صليت، أصلاً .. مافيش حد في عيلتي يعرف يعني ايه صلاة ولا آآ...
قاطعه الشيخ أحمد بهدوء وهو يهز رأسه متفهماً:
-(( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ))، ربنا فتحلك باب للهداية وللتوبة، أوعى ترده، وامشي فيه لأخره .. وصدقني هتلاقي احساس بالبركة والنعمة في حياتك كلها.

حرك أوس رأسه موافقاً إياه، فتابع الشيخ أحمد بصوت هاديء ورزين:
-تعالى يا بني أنا هاعلمك إزاي تصلي، بس قبلها نجدد وضوءنا سوا
صُدم أوس من اقتراحه، واعترض قائلاً:
-بس آآ...
قاطعه الشيخ أحمد قائلاً وإبتسامة ودودة تلوح على وجهه:
-متقلقش، الحمامات نضيفة وزي الفل، وفي واحد خصوصي جوا في مكتبي
ثم إستند على مرفقه لينهض عن الأرضية وهو يردد بنبرة سَمِحة:
-بسم الله، يا قوي يا رب!

وبالفعل اصطحب الشيخ أحمد أوس إلى غرفة المكتب الجانبية و الخاصة بإمام المسجد حيث يوجد بها مرحاضاً صغيراً، وبدأ يُريه كيفية إسباغ الوضوء، وراقبه وهو يحاكيه حتى انتهى الاثنين منه، فأعطاه مناشف ورقية ليجفف بها نفسه ..
ثم خطى كليهما عائدين إلى محراب الصلاة، واسترسل الشيخ أحمد في شرح طريقة أدائها بصورة مبسطة، وإجتهد في إيصال فكرة أن يكون المرء في حالة تضرع وخشوع حينما يتحدث مع ربه بكلماته المقدسة حتى يحقق من صلاته الغاية المنشودة ..

استوعب أوس ما قاله بحماس واضح، وأقبل على أدائها بروح جديدة، ووقف خلف الشيخ أحمد .. واختبر بخوف كيف يكون المرء ذليلاً لرب العباد وليس لشخص فاني، وفَهِم الآن لماذا لم تهابه تقى وهي في أضعف حالاتها وأكثرها إحتياجاً للحماية من بطشه .. ولماذا كانت لديها صلابة وعزيمة غريبة وهي تواجهه وتتحدى جبروته ..
نعم .. لقد كانت تلك هي لحظة ميلاده الفارقة ..

لحظة بَعثْ روحه النقية من جديد ..
لحظة أدرك فيها أنه فوت الكثير على نفسه بإبتعاده عن طريق الصواب ...
بعد دقائق انتهى الاثنين من أداء الصلاة، فإلتفت الشيخ أحمد بجسده للخلف ليتأمل ذلك المولود الذي وُلد من جديد على يديه، ورمقه بنظرات مشرقة .. ودعاه سراً بالهداية، ثم ربت على ظهره بعد أن صافحه، وهنأه قائلاً:
-تقبل الله منك
رد عليه أوس بإيجاز وجسده ينتفض من التوتر:
-شكراً.

تابع الشيخ أحمد قائلاً:
-أنا موجود هنا لو عوزت أي حاجة، مش بتأخر عن أي حد!
ابتسم أوس مجاملاً، ولم يعقب ..
اعتدل الشيخ أحمد في جلسته، ورفع رأسه قليلاً للأعلى فلمح عوض وهو يقترب منهما بعد أن فرغا من الصلاة، فهتف بحماس وهو يفرك مسبحته:
-تعالى يا راجل يا بركة اقعد معانا!
جلس عوض إلى جوارهما، وأردف قائلاً بصوت خافت:
-أنا قولت أسيبكم تاخدوا راحتكم!
ابتسم له الشيخ أحمد قائلاً بسعادة وهو يرفع كفيه للأعلى:
-احنا راحتنا في رضا ربنا
هتف عوض برضا:
-ونعم بالله.

ثم سلط أنظاره على أوس، وسأله بإستغراب وهو يتفرس وجهه بدقة:
-قولي يا بني هو انت .. انت كنت بتتخانق مع الست تهاني ليه ؟ دي طيبة وفي حالها، وزي أمك و.. آآ...
قاطعه أوس بصوت هادر وقد تحول وجهه للعبوس والتجهم:
-ماتقولش أمي!
ارتبك عوض من كلماته الغاضبة، وبرر موقفه بحذر ب:
-أنا آآ.. أنا بس كنت آآ...

هدر أوس بنبرة مهينة وهو يحدجه بنظرات جارحة:
-الموضوع مايخصكش، وأنا مأذنتلكش تتكلم فيه، مين انت عشان تسألني فيه!
ابتلع عوض تلك الإهانة، وهمس بصوت واهن معتذر:
-حقك عليا يا بني، أنا مقصدش
ثم إتكأ على عكازه لينهض مبتعداً عنهما، فنظر إليه الشيخ أحمد بتعجب، وسأله بتوجس:
-رايح فين يا عم عوض ؟
أجابه عوض بحزن وهو منكس الرأس:
-آآ.. هاروح أقرى في المصحف الورد بتاعي
تنهد الشيخ أحمد بصوت مسموع وهو يردد:
-ربنا يجازيك خير.

وما إن انصرف عنهما حتى إلتفت إلى أوس، وعاتبه بهدوء:
-عم عوض مغلطش عشان تكلمه بالشكل ده وتحرجه قدامي
تشنجت تعابير وجه أوس للغاية، وبدت نظراته قاتمة، وهتف بشراسة:
-أنا حر، هو مالوش الحق يدخل في حياتي
برر له الشيخ أحمد موقفه:
-هو بينصحك!
تقوس فم الأخير قائلاً بتهكم واضح:
-نصيحة! ده على أساس إن اللي بنتكلم عنها تستاهل ؟!

أشار له الشيخ أحمد بإصبعه محذراً بصوت هاديء:
-لأ يا بني، مايصحش تتكلم بالسوء عن الست تهاني، احنا كلنا في الحارة هنا عارفين ظروفها، ومعاشرينها بقالنا سنين، و آآ...
قاطعه أوس بصوت شبه منفعل:
-انت متعرفش هي عملت ايه!
زادت نظراته شراسة وهو محدق أمامه، وأضاف بغل:
-هي مفكراني هانسى بالساهل اللي عملتيه فيا وأرميه ورا ضهري، واقولها مسامحك!

راقبه الشيخ أحمد بنظرات متأنية .. وبفراسة سأله:
-متأخذنيش في السؤال، هي .. هي تبقى أمك ؟
إلتفت أوس برأسه نحوه، وضاقت عينيه بحدة وهو ينفى بغضب:
-مش أمي!
أشار الشيخ أحمد بإصبعيه قائلاً بهدوء ثابت:
-طيب .. اهدى!

ساد صمت متوتر لعدة لحظات تخللها صوت تحريك المسبحة بين أصابع الشيخ أحمد الذي أردف قائلاً بإحتراز:
-أنا عاوز أقولك على حاجة، وده مش كلامي، ده كلام ربنا سبحانه وتعالى!
انتبه أوس لحديثه، وزفر بصوت مختنق وهو يضغط على شفتيه بقوة .. فتابع هو قائلاً بتريث:
-ربنا أمرنا بحسن معاملة الأب والأم، ونصاحبهم بالمعروف، ونحسن إليهم ونطعهم إلا في حالة واحدة وهي والعياذ بالله الشرك به!
هتف أوس بإحتجاج:
-دي ميتقالش عليها أم!

هز الشيخ أحمد رأسه مستنكراً قسوته، واستطرد قائلاً بصوت عذب:
-ربنا جل وعلى بيقول: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
كز أوس على أسنانه قائلاً بصوت محتقن وقد برزت عروقه الغاضبة من عنقه:
-مش لما يكونوا ربوني أصلاً، يا شيخ خلي الماضي مدفون، بلاش أفتح في القديم!

أيقن الشيخ أحمد أن المناقشة معه وهو في تلك الحالة العصبية لن تأتي بثمارها المحمودة، فأثر ألا يطيل معه في المجادلة فيضيع مجهود اليوم في إستمالته لطريق الصواب .. فإبتسم له قائلاً بهدوء:
-طيب يا بني أنا مش هاضغط عليك، بس حابب إنك تعرف حاجة، ساعات الإنسان بيعميه الغضب، ومابيشوفش اللي قدامه كويس .. ربنا يصلح حال عبيده!
تنهد أوس بحرقة وهو يهتف بإقتضاب:
-أنا قايم
وبالفعل إستند على مرفقيه ليقف على قدميه، وسار بخطوات أقرب للركض، فهتف فيه الشيخ أحمد بحماس:
-خليني أشوفك تاني
أدار أوس رأسه للخلف، وغمغم بصوت شبه منزعج:
-يمكن لو جيت هنا تاني!
صاح الشيخ أحمد بتفاؤل وهو يرمقه بنظرات مطمئنة:
-إن شاء الله هاتيجي، أنا مستبشر خير!

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
إستند عدي على حافة مقعده بقبضة يده، ورفع الأخرى للأعلى ليضع هاتفه المحمول على أذنه، وغمغم مع نفسه بضيق:
-مش بترد ليه يا أوس ؟
زفر بنفاذ صبر وهو يعيد وضع هاتفه على سطح المكتب:
-عاوزين نركز في اللي جاي! ونفوق من كل المشاكل اللي احنا فيها.

رن هاتفه، فإلتقطه سريعاً ظناً منه أنه أوس، ولكنه وجد رقم عيادة طبيب أمراض الذكورة المعالج له .. فإنقبض قلبه لوهلة، وتسارعت أنفاسه .. واستطرد قائلاً بتوتر:
-نتايج كورس العلاج بانت، أنا كنت ناسي الموضوع ده خالص!
إبتلع ريقه بقلق واضح، وضغط على زر الإيجاب وهتف بتلهف:
-ألو .. ايوه أنا!
انصت لثوانٍ لما يقال على الطرف الأخر، ثم تابع بجدية:
-تمام .. أنا جاي دلوقتي!

خارج المسجد
وقف رجال الحراسة عند باب المسجد متأهبين لإستقبال رب عملهم الذي خرج مسرعاً من المسجد ووجهه به شيء غريب لم يستطيعوا تفسيره ..
بكلمات مقتضبة أردف حديثه الآمر قائلاً:
-خليكوا هنا مع الهوانم، وواحد بس يجي معايا
رد عليه أحدهم بنبرة رسمية:
-أوامرك يا باشا
أسرع أوس في خطواته نحو سيارته، وفتح حارس أخر الباب له، فإنزلق بجسده للداخل، وأشار للسائق لكي ينطلق مبتعداً ..
حالة الصفاء النفسي التي كانت متمكنة منه تعكرت بذكر والدته ..
هو لم ينسْ للحظة أنها كانت أول من ألقى به في براثن الذئاب، وتخلتْ عنه حينما كان في أمس الحاجة إليها .. وسلمته لزوجها ليغتال طفولته، وتركته لأبيه ليقضي على ما تبقى منه ..فأصبح ما عليه الآن .. جاحداً لها، مستنكراً لأمومتها، ناقماً عليها ..
ضرب بعنف على مسند السيارة، واحتقن وجهه بشدة وهو يطالع بنظرات حادة الطرقات من حوله ...

في منزل تقى عوض الله
إتسعت حدقتي ليان في صدمة واضحة بعد أن سردت لها والدتها تفاصيل كل شيء .. ورغماً عنها ذرفت العبرات وهي مستنكرة تلك الأفعال المشينة التي عرفتها ممن ظنت أنهم عائلتها .. وحُرمت من عطف وحنان والدتها الحقيقية ..
هي تذكر تلك المعاملات الخالية من الحنو من قبل ناريمان، والقاسية في بعض الأحيان، كذلك نظراتها الغريبة لها، وعدم إهتمامها بما يمكن أن يحدث لها إن أساءت التصرف، أو إرتكبت حماقات ..

كما لاح في عقلها ذكرى القبلات العابثة مع ممدوح .. ولكنها لم تكن تتخيل أنها ترتكب المحرمات مع أبيها الحقيقي وهي على علم بهذا ..
شعور أصابها بالتقزز والغثيان ..
فقد تمكنت الآن من فهم ما كان يدور حولها، وبررت تصرفات أوس الفظة والقاسية مع العائلة .. فهو من عرف بحقيقة الأمور منذ نعومة أظافره، وأبَىَ أن يكون ضعيفاً خانعاً، فتمرد عليهم جميعاً .. ولم يكترث بأي فرد من تلك العائلة المعيبة ..
احتضنت تهاني ابنتها بحنو بالغ، ومسدت على رأسها برفق وهي تهمس لها بصوت مختنق:
-أنا اتظلمت يا بنتي، واتبهدلت، واتحرمت من كل حاجة حتى حضن ولادي!

هتفت ليان بصوت متشنج وهي تخفي وجهها براحتيها:
-دول .. دول استحالة يكونوا بشر! أنا .. أنا كنت عايشة ازاي معاهم!
-ربك مابيسيبش، وقريب أوي هناخد حقنا منهم كلهم
قالتها تهاني بنبرة واثقة وهي تنظر إلى ابنتها
تعجبت ليان من حديثها، وكفكفت عبراتها وهي تسألها بعدم فهم:
-يعني ايه ؟

أجابتها تهاني بصوت شبه هاديء:
-بصي يا بنتي، أنا في ايدي أعمل خطة توصلني للدليل اللي يقضي على مهاب ويفضحه قصاد الكل، بس .. بس ده يتوقف على آآ...
قاطعتها ليان بإهتمام وهي محدقة بها:
-على ايه ؟ كملي!
ابتلعت تهاني ريقها، وأجابتها بحرص:
-عليكي انتي!
هتفت ليان بصدمة وقد إرتفع حاجبيها للأعلى:
-أنا ؟

هزت رأسها قائلة بجدية:
-أيوه .. أنا محتاجة منك مساعدة عشان أقدر أوصل للأوراق اللي عاينها مهاب في القصر
إنعقد ما بين حاجبيها في إندهاش، وتسائلت بحيرة:
-مش فاهمة
أخذت تهاني نفساً عميقاً، وزفرته على مهل، واستطردت حديثها بحذر:
-أنا عرفت إن مهاب بيخبي كل أوراقه المهمة والملفات اللي تثبت جرايمه واللي عمله زمان في الخزنة بتاعته في أوضة النوم
حركت ليان رأسها إيجاباً وهي تهتف قائلة:
-أها .. انا عارفة مكانها
تابعت والدتها قائلة بقلق:
-مشكلتي عشان الخطة دي تنجح في إني ازاي ادخل القصر بدون ما حد يشك فيا.

مطت ليان شفتيها لتقول بإعتراض:
-بس انتي مش هاينفع أصلاً تدخليها!
قالت تهاني بإحباط:
-ما أنا عارفة!
ثم صمتت للحظات قبل أن تكمل بيأس:
-وفكرت في مساعدتك عشان يرجع الحق لأصحابه بس .. بس ده هايعرضلك للخطر، وأنا مش هاستحمل حاجة تحصلك!

ثم إحتضنت ابنتها بذراعيها، وضمتها إلى صدرها، وتابعت بصوت حزين:
-تغور أي حاجة إلا سلامتك يا بنتي، كفاية عندي وجودك في حضني ومعايا، أنا كنت بتنشأ على أي حاجة من ريحتك إنتي وأخوكي، وربنا كرمني بيكي، ده عندي بالدنيا!
أرجعت ليان رأسها للخلف، ونظرت إلى والدتها بنظرات غريبة استشعرتها الأخيرة بتوجس، ثم هتفت بجدية:
-أنا هاجيبلك الورق ده
جحظت تهاني بعينيها مصدومة، بينما تابعت ابنتها بإصرار:
-مش هاسيب حقك يضيع
إعترضت تهاني بخوف:
-لألألأ .. مش عاوزاه خلاص.

تبدلت نظرات ليان للنعومة، وأخفضت نبرتها وهي تقول:
-لأ يا مامي، أنا .. أنا هاقف جمبك
احتضنت تهاني وجه ابنتها براحتيها، وهتفت بعدم تصديق وهي تطالعها بنظرات شغوفة:
-إنتي .. انتي بتقولي مامي ؟!
ردت بإبتسامة رقيقة:
-ايوه ..!
قبلتها من وجنتيها وهي تبكي بسعادة:
-حبيبتي يا بنتي.

لم تردْ تهاني إفساد تلك اللحظات بالعبارات المنمقة، فإكتفت بمشاعرها الصادقة لتبوح عما يكنه فؤادها .. وظلت تقبل ابنتها بعاطفة قوية ..
استشعرت ليان صدق إحساس والدتها، نعم ذلك الإحساس الذي اختبرته من قبل فأراحها .. واليوم تعيشه من جديد ..
أحست في أحضانها بالآمان والسكينة ..
وجدت في نظراتها اللهفة والحب النقي ..
خرجت فردوس من الغرفة وتبعتها تقى، فتسائلت الأولى بفضول وهي تتفحص الاثنتين بدقة:
-مالكم قالبينها محزنة ليه ؟
ابتسمت تقى بعذوبة فقد عرفت سبب تلك العبرات الباكية دون الحاجة إلى معرفة أسبابها ...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة