قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

حاول مسعد اللحاق بتلك السيارة التي سمع منها صوت حبيبته المختفية منذ سنوات..
لم يكن وهماً أو سراباً كما قد يظن غيره، بل هو متيقن تماماً مما سمع..
ولحسن حظه أن السيارة التي تقودها كانت سرعتها إلى حد ما بطيئة فتمكن من الاقتراب منها حتى أصبح مجاوراً لها، وسلط أنظاره بالكامل عليها، نعم لقد كانت هي سابين ، هو لم ينسَ ليومٍ واحدٍ ملامحها التي حفرت في ذاكرته..

تسارعت دقات قلبه لرؤيتها، وتجمدت تعابير وجهه حينما رأها تزيح خصلات شعرها ليظهر جانب وجهها بوضوح كامل..
نعم هي هنا بالقاهرة..
هي حقيقة ظاهرة أمامه..
هي حلم حياته الضائع..
أفاق من تحديقه بها حينما رأى ما صدمه أكثر..
اتسعت عيناه في ذهول كبير عندما وقعت أنظاره على تلك الطفلة الصغيرة التي تقفز بمرح بالمقعد الخلفي وتلوح بكف يدها له وكأنها تلقي عليه التحية..

وقع قلبه في قدميه، وزاد اتساع مقلتيه أكثر، وانفرجت شفتيه بصدمة..
في نفس التوقيت كانت سابين قد استدارت تلقائياً للجانب وهي تبتسم عفوياً، فرأته..
تلاشت ابتسامتها فوراً، وصدمت بشدة، وحل عليها التجهم والذهول، وفي لمح البصر كانت تضغط على دواسة البنزين لتزيد من سرعة السيارة لتبتعد عنه..
صرخ مسعد بإسمها عالياً يحمل القوة:
-سابين!
ولكنها نجحت في الفرار منه بحرفية تاركة إياه عالقاً في إشارة مرورية..

ضرب بيده المقود بعصبية كبيرة لأنه فقدها، لكن لم يغب عن ذاكرته التقاطه لثلاثة أرقام من لوحة سيارتها، حتى وإن لم تكن كاملة، وكذلك الحروف المطبوعة فوقها، لكنها تعد طرف الخيط الذي سيوصله إليها..
كز على أسنانه قائلاً بإصرار عنيد:
-مش هضيعك تاني مني، هاعرف أوصلك حتى لو هربتي مني لأخر الدنيا!

في منزل باسل سليم،
تحرك باسل نحو صاحبة الصوت الأنثوي المعروف، وإن كان قد خمن هويتها قبل أن يراها إلا أنه لم يكن متأكداً من حضورها لحفل خطبته..
انهارت عهوده ووعوده لنفسه بنسيانها وتجاوز تلك المرحلة من حياته بمجرد سماع ضحكتها التي استفزت مشاعره بشدة، واثارت حنقه، بل إنها ألهبت فؤاده..
لم يظن أن يحدث به هذا، وهو على وشك وضع خاتم خطبته في إصبع من اختارها شريكة حياته..

سؤال لاح بقوة في عقله رغم انكاره له،
أيعقل أنه مازال يَغير عليها حتى وإن كان على وشك الإرتباط بغيرها؟
-مش معقول!
قالها خالد وهو ينظر بإندهاش عجيب نحو إيناس التي تابعت بجدية:
-والله مش بأهزر، أنا فعلاً في كلية سياسة واقتصاد!
رد عليها بتحمس واضح في نبرته:
-وأنا شغال في السلك الدبلوماسي، وخريج نفس الكلية!
ارتسمت علامات الصدمة والتعجب على وجهها، وردت عليه:
-صدفة عجيبة فعلاً!

كان باسل قد استمع إلى جزء من حوارهما، وكتم غضبه الغير مبرر، وسار في اتجاهها، ولكنه لم يحظَ بفرصة رؤيتها بوضوح، فقد حجبها عنه أخيه بجسده..
استشعرت إيناس وجوده، وشعرت بقليل من الرهبة، وارتجف جسدها قليلاً، لكن هناك شعوراً غريباً بل الأحرى مزعجاً بدأ يتسرب إليها..
إحساس قلق ممزوج بالخوف والإرتباك تخلل في ثناياها..
فالذكريات بينهما كان تتضمن الإهانة والعنف وردود الفعل المبالغة..

تشبثت بجانبي فستانها بأصابعها وكأنها تحتمي فيه من عاصفة غضب قادمة ربما تطيح بالجميع..
هتف باسل فجأة بصوت يحمل الغضب أكثر منه الحدة:
-خالد، إنت واقف مع مين؟
رد عليه أخيه بعد أن التفت نحوه برأسه وابتسامة عريضة متشكلة على ثغره:
-مش هاتصدق قابلت مين؟
ثم تنحى جانباً لتظهر إيناس بمظهرها المبهر أمامه..
حدق فيها مصدوماً..
لقد اختلفت كلياً عما مضى.

لم تعد تلك الصغيرة الطائشة ذات الشعر المشعث، بل أصبحت أنثى ناضجة مفعمة بالحياة
أخذت إيناس نفساً عميقاً، وحبسته لثوانٍ في صدرها لتتمكن من السيطرة على ثباتها وهدوئها أمام من تبغضه، ومن ثم زفرته على مهل، ثم رسمت ابتسامة متسلية على شفتيها الحمراوتين وهي تهلل قائلة بسعادة مصطنعة:
-ابيه باسل! ألف مبروك على الخطوبة، بجد فرحت من قلبي ليك!
( أبيه ) تلك الكلمة المستفزة التي دقت ناقوس الخطر في كيان باسل..

هي تتعمد التصريح بها جهراً لتعذبه أكثر بها..
عجز للحظة عن الرد عليها مرغماً، أيفضح نفسه أمام أخيه الأكبر في ليلته المميزة تلك بردة فعله نحوها أم يتماسك ويحافظ على جموده ويظهر لها عدم تأثره بها؟
اشتعلت نظراته، وبدى وكأنه ينفث دخاناً من أذنيه..
انتبه لحديث أخيه وهو يضيف:
-عاوز أقولك يا باسل إن أخر حاجة كان ممكن أتوقعها إني أشوف الآنسة هنا في البيت عندنا، صدفة غريبة فعلاً!

صر باسل على أسنانه متساءلاً بحنق:
-وهو انت تعرفها؟
أومأ برأسه إيجاباً وهو يقول:
-اه، فاكر لما حكيتلك عن سوء التفاهم اللي حصل من كام يوم مع آآ...
تذكر باسل الموقف الذي سرده عليه أخيه قبل يومين، وزاد حنقه أكثر..
هو كان يخاطب إيناس ويتبادل الحديث معها بأسلوبه المنمق الذي يجذب النساء..
لم يشعر بإرتفاع نسبة الأدرينالين في دمائه، ورد عليه بنبرة مغلولة متعمداً الإساءة فيها إلى إيناس:.

-البت اللي أعدت تشتم فيها وتقول قليلة الذوق ومش متربية ومعندهاش دم ولا ريحة الاحترام!
ارتفع حاجبي إيناس للأعلى في صدمة مما لفظه تواً، وصاحت مشدوهة:
-نعم!
تشكلت علامات الإندهاش العجيبة على وجه خالد الذي تفاجيء بما قاله أخيه، وللحظة استنكر أسلوبه الفظ في وصف الأمر والإدعاء كذباً عليه، فهو لم يتجرأ على وصف الأمر هكذا..
تابع باسل قائلاً بغيظ:.

-تقصدها هي صح؟ البت اياها اللي كنت هتشتمها وأنا قولتلك تكبر منها، مظبوط؟!
تلون وجهها بحمرة مغلولة ظاهرة، واصطبغت عيناها بحنق جلي..
تشفى هو فيها قليلاً بعد أن رأى انعكاس ما قاله على تعابير وجهها، ونظر إليها ببرود، وتكون على ثغره ابتسامة ماكرة..
احتدت نظراتها المشتعلة منه، بينما أكمل هو بإستخفاف:
-اصل خالد أخويا صريح ومش بيحب ينافق في حاجة مش عجباه!

لم ترغب هي في إعطائه الفرصة للسخرية منها والإساءة إليها بتلك الصورة المهينة، فردت بابتسامة مجاملة بعد أن تنحنحت برقة:
-احم، حصل خير، وزي ما الأستاذ خالد أخو سيادتك يا أبيه باسل قال كان سوء تفاهم وانتهى!
اتسعت مقلتيه بغيظ أشد، وتمتم من بين أسنانه:
-برضوه أبيه!
أكملت هي قائلة بحماس وهي تتحرك خطوة للأمام لتنظر مباشرة إليه:
-المهم إنك خلاص قررت تتجوز، فرحنالك كلنا، وعقبال أخويا!
رد عليها خالد بلؤم:.

-وعقبالك انتي كمان يا آنسة آآ..
وضع اصبعيه على طرف ذقنه، وأردف متساءلاً بنبرة ماكرة:
-تعرفي لحد دلوقتي انتي مش قولتيلي على اسمك، أظن مافيش مانع، احنا نعتبر في حكم القرايب!
تصنعت العبوس الزائف، وردت بنعومة وهي تضع يدها على فمها:
-أوه، سوري!
ثم مدت كفها لتصافح خالد وهي تكمل برقة:
-أنا إيناس، أبيه باسل شغلنا وكده!
صافحها هو الأخر، واحتضن كفها براحتي يده، وربت عليه برفق وهو يرد:.

-اهلا يا آنسة إيناس، أنا سعيد بالمعرفة دي
شعرت إيناس بإحراج شديد من حركته المبالغة تلك، فهي لم تقصد سوى المصافحة العابرة، لكنه حولها إلى شكل حميمي بطريقة ما، فازعجها هي منه،
وبصورة جدية سحبت يدها سريعاً، وردت مجاملة:
-وأنا كمان، وزي ما بيقولوا ما محبة إلا بعد عداوة
أضاف مبتسماً بعتاب:
-وهو كان في عداوة! احنا ننسى اللي فات ونبدأ من جديد!

لمحت هي بطرف عينها النيران المتأججة في باسل، فتحركت للجانب وهي تقول:
-صح، عن اذنكم، هاروح أبارك للعروسة، ولا هي لسه مش جهزت؟
التفت خالد نحو أخيه وسأله بجدية وهو يشير بيده:
-عروستك فين يا باسل؟
اجابه أخيه بضيق وهو مكفهر الملامح:
-لسه جوا، بتجهز نفسها!
أومأت إيناس برأسها بإيماءة خفيفة وهي تقول بخفوت:
-أها، مبروك ليكو، عن اذنكم.

ثم أسرعت في خطاها لتبتعد عنهما، فوجدها معهما محرجاً لها، وأصبح غير مقبولاً بالمرة..
كادت أن تتعثر في خطواتها حينما داست على ذيل فستانها، فمد الاثنين ذراعيهما نحوها لمساعدتها، وهتف باسل بلا تردد:
-حاسبي
ثم تمالك نفسه بسبب تصرفها، وتراجع بحذر، وازدرد ريقه بإرتباك قليل وهو يتابعها..
بينما اعتدلت هي في وقفتها، وتشبع وجهها بحمرة خجلة من تعثرها الأهوج، وهمست بحرج:
-ميرسي.

ثم رفعت طرفه بيدها، وأكملت خطاها للداخل..
لاحقتها أنظار باسل المتقدة، ولكن قطع تحديقه بها صوت أخيه وهو يعنفه بحدة:
-إنت بوظت الدنيا بكلامك ده
استدار باسل برأسه نحوه، ورد عليه ببرود:
-عادي يعني، مش هاتفرق معاك!
استشاط خالد غضباً من رده، وهتف بتذمر:
-انت عارف إن أنا مش باحب كده، وخصوصاً مع آآ...
قاطعه باسل قائلاً بجدية شديدة وهو يشير بإصبعه محذراً:
-خالد، إيناس نص عمرك، واخت صاحبي، فبلاش جو ال، آآآ...

قاطعه خالد بهدوء مستفز:
-أنا معملتش حاجة معها، فمافيش داعي من جو ولي الأمر وناظر المدرسة ده معايا! وبعدين إنت مش عندك عروستك، افرح معها، وركز في اللي جاي احسن!

في نفس التوقيت ولج مسعد إلى منزل رفيقه وعلى وجهه وجوم غريب..
أراد اخفاء ما يشعر به حتى تنتهي تلك الليلة بسلام، ولكنه لم يستطع، فتأثير ظهورها بعد كل تلك الغيبة – وكذلك الطفلة التي رأها معها – انعكس عليه كلياً..
تنفس بعمق، واستعاد جزءاً من جموده، وعاهد نفسه بالبدء في مسعاه الجدي وإيجاد سابين فوراً..
تدارك باسل نفسه حينما رأى مسعد أمامه، وهتف مرحباً:
-حبيبي، كل ده!
رد عليه مسعد مبتسماً:.

-هاعمل ايه في الزحمة، مش بإيدي!
ثم نظر إلى الواقف إلى جواره بنظرات سريعة، فقدمه باسل إليه متعمداً الإشارة إلى كبر سِنه:
-أعرفك، ده خالد، أخويا الكبير أوي! أكبر حد في العيلة!
تعجب خالد من أسلوب أخيه العجيب، ونظر له بغرابة، ثم عاتبه قائلاً بضجر:
-انت محسسني إني عندي 60 سنة
برر باسل ما قاله بإبتسامة سخيفة:
-مش بأديك وضعك مع مسعد صاحبي!
انتبه خالد إلى اسمه، ونظر له بإمعان وهو يرد متساءلاً:
-انت مسعد بقى؟

تعجب مسعد هو الأخر من تصرفات خالد، وهتف مازحاً:
-هو أنا فايمص ( مشهور )، وأنا مش عارف؟!

في إحدى الزوايا بالمنزل،
مالت صفية على زوجها لتسأله بفضول وهي تترقب ظهور العروس المنتظرة:
-هو صحيح ينفع ضابط يتجوز أجنبية زي ما باسل عامل كده، أصل أنا سمعت من مسعد إنها من آآ...
قاطعها زوجها اللواء محمد قائلاً بصوت خفيض:
-اه ينفع بشرط تصريح مباشر من رئيس الأركان، ولازم يكون معاها جنسية مصرية
زاد فضولها أكثر، وتأهبت حواسها لمعرفة المزيد، وتابعت تحقيقها قائلة:.

-يعني العروسة ن، آآ، نانا باين، والله ما فاكرة اسمها معاها جنسية مصرية؟
أجابها بنفس النبرة الرزينة:
-ده المفروض، ولو مش معاها وهو عاوز يتجوزها ومصمم عليها بيقدم استقالة وينهي خدمته، ويكون مواطن عادي فيتجوز براحته من غير أي تصاريح أو موافقات رسمية!
ردت عليه صفية بتفكير متمعن:
-ده الموضوع مش سهل زي ما آآ...
قاطعها قائلاً بإستغراب من إلحاحها الفضولي:.

- وبعدين إنتي شاغلة بالك ليه بالأمور دي يا صفية، اللي بيعمله مايخصناش في حاجة!
ردت عليه وهي تشير بيدها في الهواء:
-أصل دماغي عمالة تودي وتجيب في موضوعه من بدري، ومكانش داخل مخي! بت أجنبية، وهايموت عليها، وابنك بيقول شكلها مش أد كده، وانت بتقولي لسه على التصاريح، معنى كده كل حاجة عندكم في الجيش وليها نظامها وقوانينها..!
-ايوه، هي مش سويقة يا صفية!

التفتت زوجته برأسها عفوياً للجانب لترى ابنتها وهي تتجه نحوهما، فهتفت بنزق:
-نوسة ظهرت أهي، كانت مختفية فين دي!
ضغطت صفية على شفتيها، وأشارت لها وهي تهمس:
-بيست! نوسة تعالي!
وقفت إيناس إلى جوارها، وردت بتلعثم:
-ايوه يا ماما!
سألتها والدتها بإهتمام وهي تنظر إلى وجهها بتفرس:
-كنتي فين؟
أجابتها إيناس بإرتباك شبه ملحوظ:
-موجودة يا ماما، بس بأدور على العروسة!

اهتمت السيدة صفية بالجملة الأخيرة، فهي تريد أن ترى تلك الخطيبة الأجنبية السمراء التي سيخطبها باسل الليلة، فنظرت أمامها، واختطفت نظرات شمولية سريعة وهي تغمغم:
-دلوقتي تطلع ونشوفها!
نظر اللواء محمد في ساعة يده، وهتف بتوتر:
-مسعد اتأخر أوي!
أضافت إيناس قائلة بتعجب:
-كل ده ومش لاقي أي ركنة! حاجة غريبة
رد هو عليها بجدية:
-الغايب حجته معاه!
هتفت صفية بعد أن شعرت بالتوجس مما قاله الاثنين:.

-ما تطلبه يا محمد تشوف هو فين!
كان على وشك الرد عليها حينما لمح ابنه وهو يصافح زميله، فهتف بإرتياح:
-أهوو طلع هناك واقف مع صاحبه!
وجهت إيناس أنظارها تلقائياً نحو مسعد وباسل، ثم أبعدتهما سريعاً قبل أن يراها الأخير وتمسك بها عينيه الثاقبتين، بينما هتفت صفية بإبتسامة راضية:
-الحمدلله، ربنا ما يحرمني من دخلة ولادي عليا أبداً...!

أوقفت سابين السيارة في أحد الطرق الخاوية من الحركة المرورية لتلتقط أنفاسها اللاهثة بعد أن صدمت لرؤية مسعد أمامها..
لم تتوقع أن تراه بعد كل تلك المدة..
كانت تظن أنه نسيها مثلما حاولت هي نسيانه..
لكن خابت كل توقعاتها، وبدا عليه متعلقاً أكثر بها..
ضربت بيدها المقود بإنفعال، وأطرقت رأسها للأسفل، وتنهدت بحزن وهي تردد:
-ليه موسأد، ليه تظهر تاني؟!
قفزت الصغيرة أمامها، ومسحت على شعرها، وهتفت ببراءة:.

-مامي، مامي!
رفعت سابين رأسها بيأس نحوها، ونظرت إليها مطولاً بأعين لامعة، ثم ابتسمت لها ابتسامة باهتة، ومسدت على رأسها قبل أن تسحبها إليها، وتضمها بقوة إلى صدرها، وهمست من بين شفتيها بصوت متهدج:
-أوه، جينا!
وانهمرت العبرات الأسفة من مقلتيها بغزارة لتبلل وجنتيها، وكتف الصغيرة..
تمتمت بإستياء مرير:
-فراقك صعب موسأد!

ظلت على تلك الوضعية تحاوط الصغيرة بذراعيها لبرهة من الوقت حتى غفت في أحضانها، فبحذر شديد مددتها على المقعد الخلفي، ثم التفتت أمامها، وكفكفت عبراتها، وأخذت شهيقاً عميقاً، وأدارت المحرك لتقود السيارة إلى منزلها...

في منزل باسل سليم،
أصاب أحمر الشفاه الملون لشفتيها بطريقة مغرية - والملفت في نفس الآن للأنظار- باسل بالضيق..
وجاب بذاكرته وميض صدام عنيف حدث بينهما بسببه..
كانت وقتها مراهقة، لا تعي أي شيء، فشعر بأنه غير ملائم لها لتضعه في تلك السن الصغيرة..
واليوم نفس أحمر الشفاه تضعه فزادها أنوثة وإغراء، ربما به ستسلب عقول الرجال إن رأوا جمالها الحقيقي مثلما يراها هو..

أرغم نفسه على تجاهله حتى لا يتهور، وظل يردد لنفسه أنه وجد لنفسه فتاته المنشودة، ناتالي الفريدة بشخصيتها والتي حازت على إعجابه، واليوم سيحظى بها كخطيبة رسمية بعد أن حصل على الموافقة الرسمية لذلك الإرتباط..

وقف مسعد بين الحاضرين بجسده لا بعقله الذي ظل يفكر في سابين..
ردد بين جنبات نفسه أرقام لوحة السيارة التي كانت تقودها سابين..
تلك الأرقام التي ستقوده إليها..
ولكن ماذا عن الطفلة؟ من هي؟ هل تزوجت غيره وأنجبت واستقرت في حياتها ونسيته تماماً؟ وكان هو مجرد محطة عابرة تخطتها بمرور الزمن؟

أنكر تلك التساؤلات، وركز تفكيره حالياً في وضعالتصورات والتخيلات لما سيقوم به لاحقاً حينما يعثر عليها، فلن تختبيء منه للأبد...

بنظرات دقيقة ودارسة تابع خالد إيناس بإهتمام واضح..
راقب إيماءاتها، وكذلك شرودها ونظراتها الحادة، والتواءة فمها، وزفيرها المتتابع، فأثار فضوله لمعرفة لماذا كل هذا الضيق الواضح عليها..
وبخبرته التي اكتسبها لسنوات وضع اعتقاداً بوجود شيء ما بينها وبين أخيه..
فنظرات الاثنين – وإن كانت حذرة – إلا أنها تحمل الكثير..

ربما لم يخفَ عليه أنها تصغره بسنوات كثيرة، بل هي تصل إلى نصف عمره تقريباً، ومع ذلك تمتلك جاذبية فطرية، وشخصية محببة، وكذلك ذكاءاً اجتماعياً، لكنها لا تصلح لأن تكون خطيبة مثالية له، بسبب ظروفه الحالية وفارق السن بينهما..
نفض تلك الفكرة عن عقله، وابتسم لنفسه بسخرية..

واستنكر تفكيره في الإرتباط بمن رأها لمرتين فقط، وأبعد نظراته عنها ليحدق فيمن حوله بنظرات عامة وهو يرسم تلك الابتسامات المجاملة التي اعتاد عليها في هذه النوعية من المناسبات..

ترقب الجميع خروج الخطيبة المنتظرة بفارغ الصبر، وكان أكثرهم فضولاً وتلهفاً السيدة صفية ، فقد طال بقاؤها بالداخل، وهي ترغب في رؤيتها والتطلع إلى جمالها ال ( خارق ) الذي ظل مسعد يتحدث عنه لأيام...
وها هي قد حانت اللحظة حينما هدأت الموسيقى تماماً، وصدح بدلاً منها موسيقى أخرى كلاسيكية ناعمة، فالتفت الجميع نحو مدخل الغرفة مترقبين دخولها..

حل الوجوم والصدمة ونظرات التعجب والذهول على وجه كلاً من صفية وابنتها حينما رأت كلتاهما هيئتها..
كتمت والدتها شهقة مذهولة بصعوبة بالغة، وجابت بنظراتها تلك الخطيبة لتفحصها بتمعن، وهمست لنفسها بعدم تصديق:
-يا لهوي بالي يا باسل، هي دي خطيبتك؟ عيني عليك يا نضري!
تفرست إيناس في ملامحها بدقة وكأنها تضعها تحت عدسات المجهر...
انفرجت شفتاها للأسفل في عدم تصديق، وبدت كالبلهاء وهي تتطلع إليها..

كانت كما قال مسعد ذات بشرة سمراء، بل سمراء للغاية كأغلب الأفارقة، وخصلات شعرها مجعدة بصورة واضحة، ومع ذلك لم تغير في منظره، أو حتى تستخدم مثبتات الشعر أو مواد لفرده، بل تركته على وضعه المنفوش ليصدم الجميع أكثر، ويصيبهم بالحيرة والذهول، ووضعت حوله طوقاً من الورد..

ما كان مميزاً بها هو لون عينيها، فقد كانتا خضراوتين تحاوطهما أهداباً كثيفة، ووضعت على جفونها ألواناً عجيبة لتظهر لون عينيها، وأكثرت من وضع أحمر الشفاه الصارخ ليبرز فمها الممتليء..

أما فستان الخطبة فقد كان حريرياً قصيراً ضيقاً من اللون الفضي يبرز ساقين رفيعتين، وذو حملات رفيعة أظهرت كتفيها وذراعيها الدقيقين، وفتحة صدر مثلثة أوضحت مفاتها بطريقة شبه منفرة، وبالطبع إرتدت حذائاً عالياً من نفس اللون ليزيد من طولها..
تأبط باسل ذراعها بعد أن رفع كفها إلى فمه ليقبله فأصاب بفعلته تلك إيناس بالنفور والضيق..

ابتسم بتكلف وهو يصطحبها للداخل، ورفع عينيه ليختلس النظرات نحو إيناس ليرى ردة فعلها، فشعر بغصة قوية في نفسه، وبآلم رهيب يجتاح صدره..
لم يتصور أن يؤثر ما فعله على نفسه قبلها..
بل إنه استحقر نفسه لدناءته..
وعاتب نفسه بقسوة لإيلامها، فيكفيه تلك النظرات لمعرفة شعورها الداخلي..
حافظ على ثبات ابتسامته، وتحرك بها نحو الجميع، فأفسحوا له المجال. وتراجعوا للخلف..
أجلس باسل عروسه إلى جواره، ونظر لها بفتور وضيق..

فقد تعمدت تبديل فستان الخطبة بأخر غير الذي اتفقا عليه لتصدمه..
ولم يرد هو أن يحدث جدلاً في هذا الوقت الحرج، فاكتفى بالعبوس..
وقفت أمامه والدته لتحجب عنه وجه إيناس المصدوم، وهنأت ابنها وخطيبته..
تمتمت صفية بإستنكار وهي تميل برأسها ناحية زوجها:
-وهي دي محتاجة تصريح للجواز؟ يا ساتر يا رب!
-شششش، اسكتي يا صفية
همس بتلك العبارة اللواء محمد محذراً زوجته للمرة الأخيرة، فامتثلت مضطرة لأمره..

صفق الحاضرون للعروسين فيما عدا إيناس التي كانت في حالة صدمة..
كانت تتخيل أن أخيها يمازحها بشأن تلك الخطيبة السمراء، لكنه كان صادقاً في وصفه لها ولم يبالغ..
ما آلمها حقاً أنه كان يهينها بطريقة تجرح الفؤاد والروح في وقت لم تفعل له أي شيء..
لسنوات عانت من عقدته، وكافحت لكي لا يؤثر هذا على أحلامها..
ترقرقت العبرات في عينيها – دون سبب محدد – لمجرد التفكير في الأمر..

وتساءلت مع نفسها بحسرة، أتلك التي فضلها على جميع الفتيات الجميلات؟ وفي نفس الوقت كان يحط من شأنها ويحقر من مظهرها ليدمر ثقتها بنفسها؟
ألهذا الحد كان يبغضها؟ ويريد أن يراها محطمة وهي لم تفعل له أي شيء..
شعرت بالإختناق، وبصعوبة في السيطرة على انفعالاتها..
فاستدارت برأسها باحثة عن الشرفة لتهرب من ذلك الجو الكئيب الذي يخنقها أكثر، وبالفعل وجدتها، فتوجهت نحوها..

مرت الأجواء هادئة في الخطبة، وارتدى العروسين الخواتم..
مصمصت صفية شفتيها وهمست بإستهجان:
-ايه اللي رماك الرمية السودة دي يا بني؟ هو بنات البلد خلصوا عشان تجيب دي، حسرة عليها أمك، تلاقيها مفروسة من عمايلك!
نهرها زوجها عما تفعل قائلاً:
-كفاية تقطيم يا صفية، هو احنا من بقية أهله! ما يخطب ولا يتجوز اللي هو عاوزها
ردت عليه بتهكم:.

-هي دي فيها حاجة تتشاف، استغفر الله العظيم، يا رب سامحني، بس في أحسن من كده!
حذرها زوجها قائلاً بصرامة:
-مالكيش دعوة! هو حر، الله!
لم يكن باسل راضياً عن الوضع، فقد انكشف جزء كبير من ساقي خطيبته، فمال عليها ليهمس لها باللغة الانجليزية:
-من فضلك، اجلسي بحرص أكبر، وغطي جسدك المكشوف
نظرت له بضيق، وردت بصوت خفيض:
-ألا يعجبك ما ارتديه؟
رد عليها بتهكم وهو عابس الوجه:.

-إنه جيد، لكن في غرف النوم فقط، وليس أمام عائلتي وأصدقائي
نظرت له بقوة، وهتفت بصرامة:
-باسل لقد اتفقنا منذ البداية ألا تتدخل في اختياراتي!
لم يجبها واكتفى بالنظر شزراً إليها، ثم أدار وجهه للناحية الأخرى فلم يجد إيناس بين الحاضرين..
انقبض قلبه نوعاً ما، وجاب بنظراته المكان باحثاً عنها، وشعر بالإحباط لاختفائها..
اقترب خالد منه وسأله مهتماً:
-شكلك مش مبسوط يا عريس
رد عليه بفتور:
-عادي!
ابتسم قائلاً بمزاح:.

-واضح إن العروسة بدأت النكد بدري بدري
حذره باسل قائلاً بجدية وقد انعقد ما بين حاجبيه:
-خالد، أنا مش ناقص!
أشار له خالد بعينيه، وهتف بهدوء:
-طيب اهدى بلاش العصبية!
قاطع حديثهما صوت ناتالي وهي تقول بنعومة:
-باسل، سأذهب للحظة!
اكتفى بالابتسام وهو يهز رأسه ايجاباً، بينما تركه خالد وابتعد..

استغل هو فرصة نهوض ناتالي وذهابها للمرحاض لتهندم من نفسها لتستعد لالتقاط بعض الصور التذكارية لحفل الخطبة حتى يخرج للشرفة ويلتقط أنفاسه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة