قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والأربعون

في منزل مسعد غراب،
زفرت إيناس بضجر بعد الإلحاح المستمر من عائلتها للضغط عليها للموافقة على خطبتها من باسل.
وكالعادة لم تترك إسراء المسألة تمر مرور الكرام دون أن تضع لمستها الخاصة.
جلست مع أختها في غرفتها، ودافعت عنه قائلة:
-يا نوسة هتندمي، ده فرصة حلوة!
ردت عليها إيناس بنبرة منفعلة:
-ما تدوني أنا فرصة أختار عاوزة ايه بنفسي، بلاش الكماشة اللي عملينها عليا!
تابعت إسراء قائلة بجدية:.

-ماهو لو انتي بتفكري بعقلك هتلاقيه مناسب جداً ليكي، بس انتي كرهاه من غير سبب مقنع بصراحة!
لوت ثغرها، وكتفت ذراعيها أمام صدرها، ثم ردت عليها بنبرة شبه محتدة:
-أنا حرة!
اعترضت إسراء على ردها، وهتفت قائلة:
-لأ مش حرة لو رأيك ده غلط
نفخت إيناس بنفاذ صبر، وحلت ذراعيها، ثم صاحت بضيق:
-إسراء لو سمحتي آآ...
قاطعتها أختها قائلة بنبرة رزينة:.

-اسمعي يا نوسة كلنا بنحبك، واحنا أهلك وعاوزين مصلحتك، ولو في شيء معين مخليكي مش طايقة باسل قوليه دلوقتي!
ارتبكت من حصارها اللامتناهي من المبررات والدفاعات عن موقف باسل، وردت عليها بتعلثم:
-أنا، آآ، أوف، بجد تعبت!
لاحظت إسراء اضطرابها، وذلك التوتر الظاهر في نبرتها فأنبئها حدسها أنها تخفي شيئاً ما عنها، أو ربما لديها ما يمنعها من الحديث.
حافظت هي على هدوء نبرتها، وتابعت بحنو:
- أنا سمعاكي!

وكأن طاقتها على التحمل قد نفذت، فهتفت منفجرة بحدة:
-بصي انتي مش عارفة ده كان بيتريق عليا زمان إزاي وكان اسلوبه قليل الذوق، وفيه إهانة وآآ..
قاطعتها إسراء متساءلة بجدية:
-قصدك جلنف ( فظ )؟
ردت عليها إيناس بحنق متذكرة قسوته:
-دي أقل كلمة توصفيها بيه، إنتي مش متخيلة طريقته كانت إيه!

أصغت إسراء لما قالته بإنتباه، وفكرت للحظات فيما تفوهت به، وتركت لها العنان لتكمل بأريحية تامة دون أن تقاطعها، وما إن انتهت حتى سألتها بجمود:
-بس اتغير، صح؟
توترت وهي تجيبها:
-هه، آآ، شوية بس
ردت عليها إسراء بصوت جاد:
-ماتقدريش تنكري ده، شكلك بيقول كده، واللي أنا شايفاه بعيني إنه بيحبك!
صمتت ولم تعقب، فتابعت إسراء بحماس محاولة إقناعها:.

-نصيحة من أختك الكبيرة، ماتضيعش حد كويس وبيحبك بجد لمجرد مواقف بايخة حصلت زمان بينكم، وافتكري إن محدش بيفضل على حاله!
جلست إيناس مستسلمة على طرف فراشها، وحدقت أمامها في الفراغ بشرود..
أضافت إسراء بمزاح وهي تلف ذراعها حول كتفي أختها الصغرى:
-وبعدين يا هبلة مش يمكن كان بيرخم عليكي عشان بيغير
التفتت إيناس ناظرة نحوها بنظرات مصدومة، وشهقت بإندهاش
-نعم بيغير؟!
حركت إسراء رأسها بالإيجاب قائلة:.

-ايوه، الراجل مش بيتحمأ أوي إلا لما بيغير، وهو شكله واقع لشوشته
تحولت نظرات إيناس للين بعد الحدة، وارتخت تعابير وجهها المشدودة لتفكر في كلمات أختها التي راقبتها بنظرات الخبيرة، فهي ببساطة أزالت – بحديثها العقلاني - تلك الغشاوة عن ذهنها، ربما هي محقة في هذا، وتصرفاته المبالغة وقتها قد تكون دليلاً على غيرته عليها.

بدأت تستعيد في ذاكرتها بعض من كلماته الخاصة بأن الوقت غير ملائم، وأن تحتفظ بقالبها الذكوري المظهر حتى تنضج وكلمات مشابهة من هذا القبيل في وقت عجزت عن تفسير معناه العميق..
نعم كان التفسير المنطقي المقنع والموضح لشدته وقسوته معها وقتها هو الغيرة...

في اليوم التالي،
تأمل مسعد انعكاس هيئته في المرآة بداخل صالون الحلاقة الرجالي بإعجاب واضح بعد أن ارتدى بدلة عرسه، رمش بعينيه عدة مرات ليتأكد أنه لا يحلم، وأنه بالفعل يوم زفافه المنشود..
تساءل بإهتمام كبير وهو يمسح برفق على خصلات شعره المثبتة:
-ها إيه رأيك؟
ابتسم باسل له، فقد لازمه منذ الصباح الباكر، ولم يتركه للحظة حتى تأكد من انتهاء كل شيء حسب رغباته.

ربت هو على ظهره برفق مردداً بنفس الابتسامة المطمئنة:
-أحلى عريس!
تنفس مسعد بعمق، وأخرج تنهيدة حارة من صدره، والتفت كلياً بجسده نحو رفيقه، ثم هتف بنبرة شبه مرتبكة:
-ادعيلي الليلة تعدي على خير، لأحسن قلقان أوي!
رد عليه باسل بنبرة عابثة وهو يوميء بعينيه:
-دي زي شكة الدبوس، هو أنا اللي هاقولك ولا ايه؟
هتف مسعد بحدة خفيفة:
-يا عم انت دماغك راحت فين، أنا خايف من اللي ممكن يحصل في الفرح!

حافظ رفيقه على ابتسامته الواثقة وهو يضيف:
-كل خير، اطمن، أنا في ضهرك!
رد عليه مسعد بتوجس قليل:
-يا خوفي تخلع وتكشف ضهري!
ضحك باسل من ارتباكه البائن وردوده المرحة، ثم رد عليه بثقة:
-مش أنا يا مسعد!
-ماشي يا باشا
تساءل بعدها بجدية:
-ها، مش هانروح للعروسة، زمانتها خلصت!
نظر مسعد في ساعة يده التي إرتداها، ورد عليه بنبرة جادة:
-اه، يدوب نلحق وقتنا!
أضاف باسل بهدوء:
-تمام، العريبة متزوءة برا وجاهزة.

رفع مسعد كفيه للأعلى، وهتف بتضرع وعلامات التوتر تكسو وجهه:
-يا ميسر يا رب، كملها بالستر معانا!

في مركز التجميل النسائي،
أمسكت سابين بجزء من ثوب زفافها بعد أن نهضت عن المقعد لتعتدل في وقفتها، وعاونتها إيناس في ضبط طرحتها لتنسدل على الثوب الجميل الذي بدا كأنه صمم خصيصاً لأجلها فقط.
تأملتها إيناس بإنبهار واضح، وجابت بعينيها تفاصيل الثوب بنظرات دقيقة لتتأكد من خلوه من أي عيوب.
امتاز الفستان ببساطته مع أناقته، كان يغطي جانباً كبيراً من كتفيها، كاشفاً لعنقها، ومبرزاً لرشاقتها.

خصره كان ضيقاً، ومعلناً عن نحافتها، وتنسدل البقية في صورة تموجات متراصة كطبقات فوق بعضها البعض لتشبه الجزء السفلي من ثوب السندريلا في تصميمه.
ظهر الارتباك والاضطراب على وجه سابين وهي تلتفت لترى صورتها الكلية في المرآة، وتساءلت بتردد:
-أنا شكلي good ( جيد )؟
أجابتها إيناس بإعجاب وهي تشير بإبهامها:
-رووووعة!
وثبت الصغيرة جينا في مكانها بمرح، ورددت ببراءة:
-مامي!

التفتت سابين نحوها لتتأمل ثوبها الذي كان مماثلاً لها بدرجة كبيرة فيما عدا أنشوطة حمراء كبيرة تزين منتصفه، وردت عليها بنعومة:
-جينا! ماي جيرل ( ابنتي )!
هتفت إيناس معجبة لمظهرهما الأنيق:
-ماشاء الله عليكم، قمرات بجد!
عضت سابين على شفتها السفلى، ونهجت أنفاسها وهي تهمس بتوتر:
-أنا هايف ( خايف ) كتير!
ردت عليها إيناس بعبث:
-ده العادي، كل عروسة بتكون خايفة ليلة فرحها!

مدت سابين يدها لتمسك بكف إيناس، وضغطت بأصابعها عليه، وتابعت هامسة برجاء:
-بليز إيناس، خليكي معايا!
بادلتها إيناس بابتسامة مطمئنة، ورددت بهدوء:
-مش هاسيبك، اهدي بس وماتفكريش في حاجة!
أومأت برأسها بحركة خفيفة قائلة:
-أوكي
ثم تعالت فجأة أبواق السيارات بالخارج معلنة عن وصول سيارة العريس، فهتفت إيناس بنزق:
-باينهم جوم برا
ارتبكت سابين أكثر، وتسارعت أنفاسها، فهي عروس اليوم، ومحط الأنظار للجميع..

هتفت إيناس بحماس كبير موجهة حديثها للفتيات المتواجدات بمركز التجميل:
-هو مافيش زغروطة، دي عروسة يا بنات
تعالت الزغاريد بالداخل، وكذلك الصيحات المهنئة، كنوع من المجاملة للعروس، ثم أعقبها دخول مسعد للمركز..
أمسك هو بباقة الورد في يده، واتجه نحو حبيبته التي كانت في انتظاره في منتصف الصالة الخارجية للمركز..
انفرجت شفتاه بإنبهار جلي حينما وقعت عيناه عليها.

كانت كالأميرات المتوجات، جميلة الجميلات، حورية من الجنة هبطت على الأرض.
لم يجد من العبارات ما يستطيع بها وصف جمالها الآخاذ، لكن يكفيه أنه قد ظفر بحبها في النهاية..
هتف متنهداً بعشق كبير:
-اللهم صلي على النبي، هو في كده؟
تساءلت إيناس بدلال وهي تسرع في خطواتها لتقف إلى جوار أخيها:
-ايه رأيك يا مسعد!
أجابها دون تردد بكلمات متغزلة في حبيبته دون أن يحيد بعينيه بعيداً عنها:
-ده أنا جار القمر!

لم تنتبه إيناس إلى وجود باسل خلف مسعد، فشهقت بتوتر حينما رأته يتأملها بنظرات متفرسة..
واكتسى وجهها سريعاً بحمرة بائنة، فأبعدت أنظارها عنه، وحافظت على هدوئها الزائف.
التوى ثغره بإبتسامة شبه متباهية، فقد بات شبه متأكداً من أحداثه لتأثير عليها، ومع ذلك فتأثيرها عليه لا يضاهيه أي شيء..

كانت ترتدي إيناس ثوباً ملائماً لتلك المناسبة من اللون الذهبي، يلامس ذيله الأرضية، وكتفيه يغطيان ذراعيها بقماش شفاف من طبقتين، وفتحة صدره تشبه ياقة القميص وبالطبع كان خالياً من أي فتحات مثيرة أو لافتة للأنظار بطريقة مبالغ فيها.
أما شعرها فحافظت على تموجاته ولم تفردها، واكتفت بتزينه وعقصه بطريقة تناسب الليلة، وعمدت إلى تثبيته بالرش الخاص بالشعر..
تحرك هو للأمام، ووقف قبالتها.

تأملها بنظرات مباشرة أحرجتها نوعاً ما، ثم التفت برأسه ناحية سابين، وأردف قائلاً بابتسامة مهذبة:
-مبروك يا سابين، ربنا يتمم بخير
شكرته مجاملة، وبعدها استدار ليحدق بإيناس مرة أخرى، وأكمل بثقة:
-وعقبالك يا إيناس
ردت هي عليه بإقتضاب:
-إن شاء الله!
هتفت الصغيرة جينا بمرح وهي تجذب بنطال مسعد:
-دادي!
التفت برأسه نحوها، وأخفض نظراته إليها، وردد بضجر هامس:
-مش وقتك خالص!
هتف باسل بجدية ومشيراً بيده:.

-يالا يا جماعة، الناس زمانهم منتظرينا في القاعة!
تحرك بعدها الجميع في اتجاه الباب الخاص بالمركز مصحوبين بالزغاريد والتهنئات، وتأبط مسعد في ذراع حبيبته، وتأملها بعشق قائلاً ومسبلاً عيناه نحوها:
-مبروك يا صابرين قلبي!
ردت عليه برقة خجلة وهي تتحاشى النظر إليه:
-موسأد!
أخرج تنهيدة مشتاقة وهو يتابع بتلهف متحمس:
-آآآخ، يا مهون يا رب!
أمسكت إيناس بكف الصغيرة جينا ولم تفلتها منها، وتحركت خلف العروسين..

سار باسل بجوارها متعمداً التغزل بها:
-على فكرة إنتي حلوة النهاردة!
نظرت نحوه بطرف عينها، وأجابته بنبرة متغطرسة:
-طول عمري كده!
رفع حاجبه للأعلى معجباً بثقتها بنفسها، وأضاف بحنكة:
-بس انتي النهاردة حلوة بزيادة، الصراحة تتخطفي!
شعرت بإنبعاث سخونية حارة من وجنتيها، فجاهدت لتبدو صلبة، جامدة، غير متأثرة بوهج كلماته المتغزلة بها، وردت عليه بحدة قليلة:
-هو مسموحلك تعاكسني كده عادي!

ضم قبضة يده، ورفعها بالقرب من فمه ليتنحنح قائلاً بخفوت:
-احم، لأ، بس آآ...
قاطعته قائلة بجدية دون أن تتبدل تعابير وجهها رغم احتفاظه بحمرته الخجلة:
-يبقى مشيها ميري أحسن!
مط فمه ليرد عليها بهدوء:
-ميري! مممم، حاضر!
ثم أكملوا سيرهم نحو الخارج..
وقف مسعد في مكانه ليلتقط مع زوجته صوراً تذكارية، بينما بقيت إيناس مع جينا في الخلف تتابعهما بنظرات حانية..

رغب باسل ألا تضيع عليه الفرصة للحديث معها، فهتف بصوت جامد:
-على فكرة ليكي عندي حاجة
تملكها الفضول لمعرفة ما الذي بحوزته، فسأله بنبرة يشوبها عدم الاكتراث:
-حاجة ايه؟
نظر نحوها مطولاً، وأجابها بغموض:
-هي كذا حاجة بس محطوطة في علبة في العربية، هتاخديها قبل ما تمشي
ردت عليه بتهكم ساخر:
-ايه حاططلي قنابل ولا أسلحة؟
ابتسم قائلاً بجدية:
-مش للدرجادي، أتمنى بس إنها تعجبك!

زاد فضولها أكثر لمعرفة ما الذي أحضره لها، وقبل أن تنطق بالمزيد هتف مسعد بنبرة عالية:
-نوسة خلي جينا تركب قدام معاكي!
حدقت في أخيها، وردت عليه على مضض:
-طيب!
سلط مسعد أنظاره على سابين، وفتح لها الباب الخلفي للسيارة لتجلس بداخلها قائلاً بسعادة:
-اتفضلي يا عروسة!

اكتفت بالإبتسام وركبت في السيارة، وأزاح ما تبقى بالخارج من ثوب زفافها ليضعه بالداخل، وصفق الباب برفق، ثم استدار مسرعاً ليركب إلى جوارها، وهتف في رفيقه بحماس:
-يالا يا باسل، طير بينا يا بني!
نظر هو إلى كلاهما في انعكاس صورتهما في المرآة الأمامية، وردد بجدية:
-على طول!

في قاعة الأفراح،
رفضت السيدة صفية التواجد بصحبة العروس في مركز التجميل وتوجهت للقاعة فوراً لإستقبال الأقارب والمعارف.
وبالطبع كان وجهها يعكس رأيها في تلك الزيجة.
حضرت معها إسراء وولديها وزوجها، وأشرفت هي على كل شيء لتتأكد من وجود كل شيء.
انطلق سيف وفارس في القاعة يلهوان بعبث، وجاهد والدهما خلفهما لمنعهما من تخريب أي شيء.

صافحت صفية المدعوين بفتور ممزوج بالعبوس على عكس زوجها الذي كان يستقبل الجميع بفرحة أبوية ظاهرة على محياه وتصرفاته..
مالت هي عليه، وهتفت بتبرم:
-شايف ابنك وعمايله، بقالنا ساعة مستنين جنابه!
رد عليها غير مكترث بغضبها الغير مبرر:
-هو متأخرش أوي، وبعدين انتي عارفة الزحمة!
أضافت قائلة بسخط وهي قاطبة لجبينها:
-كان لازمتها ايه التكلفة دي، ما احنا عارفين اللي فيها!
نظر لها مستنكراً تجهمها، وأكمل بعتاب:.

-ما تفرحي يا صفية وتسبيه يفرح، هو حد يكره إنه ولاده يكونوا مبسوطين؟!
-بس آآ...
وقبل أن ترد عليه زوجته قاطعها صوت حفيدها سيف مهللاً:
-خالو جه، خالو جه!
رد عليها اللواء محمد بجدية:
-اهو ابنك وصل، افردي وشك شوية
مطت فمها للجانبين، وهتفت من بين أسنانها بتذمر:
-مش لما يخلص الزفة الأول!

انضمت إسراء إلى أخيها بالخارج لتشاركه فرحته، وتم الترحيب بالعروسين باستقبال عسكري رسمي، أعقبه زفة مرحة تشارك فيها الجميع الحركات الراقصة بالأذرع مع كليهما.
ورغم انشغال المدعوين بالعروسين إلا أن عقل إيناس لم يتوقف للحظة عن تخمين تلك الهدية التي أحضرها لها.

انتهى الاستقبال الخارجي لهما، وولجا بعدها لداخل القاعة مصحوبين بالزغاريد والتصفيقات والموسيقى المميزة، ثم انخفضت الأضواء تدريجياً حتى اعتلى كلاهما المكان المخصص لجلوس العرائس، وبعدها أضيئت القاعة بأسرها وسلطت الأضواء البراقة عليهما.
هتف منظم الحفل بصوت جهوري عبر الميكروفون الداخلي:
-بنرحب بالعروسين ونتمنى ليهم حياة زوجية سعيدة!

صفق الجميع مجدداً، وبدأت فقرات الحفل كما هو معتاد في حفلات الزفاف المصرية..
استدار مسعد برأسه للجانب، ومال على سابين ليهمس لها في أذنها متساءلاً:
-ايه رأيك؟
أجابته بخجل واضح وهي ترمق القاعة بنظرات شمولية سريعة:
-نايس ( جميل )
استأنف مسعد حديثه بحماس:
-عشان تعرفي الأفراح المصرية عاملة ازاي، لسه أما الدي جي يشتغل وهنصهلل على الأخر، بس نكتب الكتاب رسمي وبعدها هنولعها!
ابتسمت بحياء ورمشت بعينيها في خجل..

أكمل مسعد حديثه قائلاً بمرح:
-ده أنا عازملك القائد ورؤوساء الأركان، مش عاوز أقولك الفرح مرشأ جهات عليا أد ايه!
بدا الاعجاب واضحاً على تعابير وجهها، وتمتمت بخفوت:
-واو.

انتهى المأذون من عقد القران فعلياً أمام الشهود الحاضرين ليصبح زواجه رسمياً منها وتكتمل أركانه..
تلقى هو التهنئات والتبريكات من رفاقه وقادته وزملائه، ونالت سابين حظها من المباركات..
ثم جلس هو بعد ذلك ليريح قدميه قليلاً..
تبادلا حديثاً خافتاً بينهما تخلله ضحكات متسلية وتلميحات عابثة..
رفع مسعد رأسه للأعلى ليجد الصغيرة جينا قادمة نحوه وبصحبتها إيناس فابتسم لها..

أرخت أخته أصابعها عن كفها الرقيق لتركض الصغيرة في اتجاهه مرددة:
-دادي!
نهض مسعد من مقعده لينحني بجسدها للأمام ليحملها، ثم أجلسها على حجره قائلاً بسعادة:
-تعالي يا جينا!
لمح فارس تلك الشقراء الصغيرة الجالسة فيأحضان خاله فتملكه الفضول لمعرفة هويتها وظل يرمقها بنظرات غريبة..
وبلا تردد سار نحوه، وسأله بنزق وقد ضاقت نظراته:
-مين دي آخالو؟
أجابه مسعد بنبرة عادية:
-دي جينا!

سأله فارس بإهتمام ونظراته لم تفارق الصغيرة:
-دي بنتك؟
امتعض وجهه وهو يجيبه بإنزعاج قليل من أسئلته:
-اها، حاجة زي كده!
انضم سيف إلى أخيه بعد أن وقعت عيناه هو الأخر على الصغيرة، وتساءل بفظاظة:
-مين البت الحلوة دي؟
رد عليه أخيه فارس بخبث:
-هي حلوة أوي بصراحة!
بينما أضاف سيف بلؤم وهو يتفرسها بنظرات دقيقة للغاية:
-أه، بيضا وشعرها أصفر وعينيها ملونة!
ثم تساءل بفضول وهو يشير بيده نحو خصلات شعرها الشقراء الناعمة:.

-هي صبغاه؟
بدا مسعد منزعجاً من تصرفات ابني أخته، وأجابه بنزق:
-لأ طبيعي!
تحولت نظرات الصبيين إلى نظرات غريبة، وهمس أحدهما للأخر بخبث:
-الله، وله واخد بالك!
فرد عليه الثاني بغموض:
-اه!
تفرس مسعد في نظراتهما الغير بريئة نحو الصغيرة جينا، وتمسك بها جيداً، ثم ردد مع نفسه بتوجس:
-البصات دي عارفها كويس!
تبادل الصبيان كلمات خافتة ومبهمة لم يستطع خالهما سماعها جيداً، فأكمل حديث نفسه بخوف:.

-شكلها كارف ( مدي ) على حمدي الوزير، مش مريحاني خالص!
هتف فارس قائلاً فجأة بنبرة مريبة:
-ماتجيب شينا شوية آخالو
جحظت عيناه مصدوماً، ورد عليه بحدة:
-نعم يا حبيبي
تابع فارس قائلاً بإصرار وهو يشير بعينيه:
-شينا، البت دي!
تجمدت تعابير وجه مسعد، وسأله بغلظة:
-عاوزها ليه!
أجابه بإبتسامة غير مريحة على الإطلاق:
-تلعب معايا آخالو!
وأضاف سيف قائلاً بعبث وهو يحاول اخفاء ابتسامته:
-اه عريس وعروسة يا عم!

صاح مسعد فيهما بصرامة وقد تشنج وجهه وتحولت نظراته للشراسة:
-وله احترم نفسك!
اقترب فارس من جينا، ومد يده ليمسك بها من كفها، وهتف قائلاً:
-تعالي يا مزة معايا
زاد اتساع حدقتي مسعد، وتمتم مع نفسه مذهولاً من تصرفاتهما:
-دول بيتحرشوا بيها عيني عينك كده!
وقبل أن تستجيب الصغيرة ليد ابن أخته وتذهب معه، أبعد كفه عنها، وحدجها بنظرات مشتعلة للغاية..
استغرب فارس من تشبث خاله بالصغيرة، فهتف بإنزعاج:
-هاتها آخالو بقى!

صاح فيه مسعد بعصبية وقد أحكم قبضتيه على الصغيرة:
-على جثتي، جينا مش هاتقوم من جمبي النهاردة خالص!
التفتت جينا برأسها نحو مسعد، وهتفت ببراءة وهي ترمقه بنظراتها السعيدة:
-دادي، بلاي ( ألعب )!
رد عليها بصرامة:
-شششش، انتي متمسمرة هنا!
تعجبت سابين من رفض زوجها لطلب ابني أخته بإصطحاب الصغيرة للهو معهما في القاعة، وهتفت برقة:
-سيبها موسأد!
رمقها هي الأخرى بنظرات محذرة، ورد عليه بصلابة:.

-بس انتي مش فاهمة حاجة، دول ممكن يغتصبوها، دول ولاد ****!
وضعت سابين يدها على فمها لتكتم شهقة مصدومة صدرت رغماً عنها عقب سبابه اللاذع، وعاتبته قائلة:
-أوه! موسأد!
لم يعبأ باستنكارها، ورد بعبوس كبير:
-اسكتي اسكتي!
ثم التفت برأسه ناحية الاثنين، وصاح بهما بغلظة:
-يالا يا بابا من هنا، اتمشوا!
حرك فارس رأسه بإنزعاج، ورد على خاله قائلاً بصوت يحمل الوعيد
-كده آخالو، ماشي، لينا يوم!

وقبل أن يثور فيهما بحدة محدثاً فضيحة ما خلال الحفل تمالك أعصابه في أخر لحظة، وتابع هاتفاً بصوت متعصب:
-امشي ياله انت وهو، أل أنا ناقصهم!
ثم راقبهما وهما يبتعدان عنه، فتنفس الصعداء ومسح على وجه الصغيرة برفق، وقبلها من وجنتها، ورفض تركها تذهب من جواره...
-مبروك يا باشا، فرحتلك والله، تستاهل!
هتف بالعبارة السابقة فادي وهو يمد يده لمصافحة مسعد، فالتفت الأخير له، وصافحه قائلاً بفتور:.

-شكراً يا فادي، مع إني معزمتكش يا جدع!
رد عليه فادي غير مكترث:
-وهو أنا محتاج عزومة، ده أنا صاحب فرح!
التوى ثغر مسعد بتأفف، وردد بإقتضاب:
-ايوه
تابع فادي قائلاً بتهكم خفي:
-كمان انت عارفني فاهم في الأصول كويس!
رد عليه مسعد على مضض وقد ضاقت نظراته:
-متشكر يا سيدي!
وجه فادي حديثه تلك المرة إلى سابين، وابتسم لها بتصنع وهو يردد:
-مبروك يا عروسة!
ولكنها لم تجبه، واكتفت ببسمة مجاملة كتعبير رمزي عن شكرها لتهنئته..

هتف مسعد فجأة بنزق:
-مش كفاية سلامات وتحيات وتروح تلحق الأكل قبل ما يخلص
فهم فادي أن وجوده غير مرحب به، فرد بهدوء:
-ماشي، ربنا يهنيكم!
حدجه مسعد بنظرات شرسة تحمل الإنزعاج، وأردف قائلاً:
-يا رب!
تابعه بعينين حادتين حتى اختفى عن أنظاره، فمال بجسده ناحية سابين، وهتف ساخراً:
-عارفة يا حبيبتي في ناس كده تشوفيها لازم تستغفري ربنا بعدها، وده واحد منهم!

ضحكت سابين من دعابته الطريفة، فابتسم لها بود وهمس لها بكلمات متغزلة في حسنها البهي..
اقترب باسل من رفيقه، ووقف إلى جواره، ثم انحنى عليه وسأله بجدية:
-ها يا عريس، ايه الأخبار معاك؟
رد عليه مسعد بإيجاز:
-كله تمام!
أضاف باسل قائلاً بمرح:
-احنا هنوصلك بعد الفرح ونقعد شوية معاك، مش هانسيبك الليلادي
رد عليه مسعد بتهكم:
-انت ماسمعتش عن المثل اللي بيقول يا بخت من زار وغار!
-نعم!
وأكمل محذراً:.

-فيا ريت تخف الزيارة، أو أقولك ماتجيش خالص!
ضحك باسل قائلاً:
-ههههههه، حاضر!
ثم تركه بصحبة عروسه وجاب بأنظاره المكان باحثاً عن إيناس التي كانت تتنقل بين الطاولات..
وبالطبع فرح كثيراً لعدم حضور وائل للحفل، فقد كان ينتوي شراً له إن رأه هنا..

كذلك لم تعلم هي بتحرياته الخفية عن ذلك السمج الذي ادعت ارتباطها به، وتأكده يقيناً من عدم وجود أي صلات أو ارتباطات بينهما، وأنها كانت مجرد أكذوبة حمقاء منها تفوهت بها فقط لإغاظته وإشعال نيران الغيرة به، وهو لم يتوارَ للحظة عن التحقق من صحة إدعائها.

تخلل إليه شعوراً عظيماً بالإرتياح لكون المسألة مجرد كذبة عابرة، وبات شبه متأكداً من أن الطريق أمامه ممهداً للوصول إلى قلبها وتحطيم الحصون الموضوعة حوله ليقتحم فؤادها ويسكن وحده بداخله...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة