قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس

(((صغيرةٌ على الحب، بلهاء كفراشة تحلق حول النار، وأنا الطفل الذي أشعل شمعة ظاناً بأنه يضيئ عتمتها، ولم يلحظ احتراق أجنحتها حتى بعدما سقطت))).

خرج أويس أولاً بناءً على طلب مياس والتي كانت تتابع التحقيق مع رُدينة، وللحق فما أخبرتهم به لم يكنْ ذا فائدة كبيرة، لكنّ مياس أصرّت على سماع كل مالديها، وعندما لاحظت تململه أكثر من مرة وامتعاضه طلبت منه الخروج وانتظارها خارجاً ريثما تنتهي، وقف في الممر قرب الباب يتحرك بعدم ثبات لبضع دقائق حتى خرجت وأغلقت الباب خلفها، ضغط على شفتيه بقوة قبل أن يرفع إصبعه مُحذراً أمام وجه مياس هامساً بكل مايعتريه من حنق وغيظ: اسمعي حضرة النقيب، أنا من كان يتولى هذه القضية أولاً ولي احترامي...

قاطعته هي غير عابئةٍ بحديثه ولا ملامحه الغاضبة، قائلة بهدوء جاد: بل اسمعني أنت حضرة النقيب، أنا من يمسك بزمام الأمور هنا، لذا لو سمحت لا تتعدى على عملي، ولا تجبرني على اتخاذ أي إجراء بحقك.
توسعت عيناه مع انعقاد حاجبيه بشراسة لتهديدها فهتف باستنكار: عملك؟ إنها قضيتي قبلك!

زفرت مياس محاولةً التحلي بالصبر لتخبره بلين علّه يستجيب: دعنا نتفق على أمر، نعم التحقيق مع رُدينة قضيتك، لكن قضية الخفاش مهمة الجميع ومهمتي أنا قبلاً، لذا يجب أن نتعاون لا أن نفسد مجهود بعضنا...
قفزت النظرات المستغربة من عينيه دون فهم جملتها فأضافت بنبرة جادة مع مسحة توبيخ: طريقتك حضرة النقيب لا تجدي نفعا مع الجميع، أحياناً عليك أن تتراجع لتعطي دوراً لغيرك، ربما تكن طريقته أنفع.

رمش بأهدابه عدة مرات وشعور طفيف بالحرج تسلل إلى قسماته، رغم صوت باهت في أعماقه يخبره بأنها على حق لكنه سرعان مااغتاله وقد تغلب عليه كبرياؤه، بيدْ أن نظراتها القوية مازالت مثبتتة عليه وقد استشعرت حرجه حتى دون أن يظهره، مسح على رقبته من الخلف وقبل أن يتفوه بحرف قاطعهما صلاح وقد حضر مهرولاً، التفت كلاهما صوبه حتى بات أمامهما مُخاطباً مياس بلهاث: سيدتي، لقد بحثتُ عن صاحب الرقم الذي حادثك.

صمت ولم يكمل وقد بدى عليه التردد فتابعت مياس ساخرةً ببسمة صغيرة على طرف شفتيها: دعني أحزر، صاحبه مجهول الهوية؟
حرك رأسه بالسلب مُردفاً: بل عرفته، ويُدعى رياض عارف، ولكن...
ضيقت عينيها وهي تدير رأسها للجانب متسائلة بحذر: ولكن ماذا؟
ازدرم ريقه بتوتر ليتحدث وأجفانه تتحرك بسرعة: ، سيدتي إنّ الرجل متوفٍّ منذ عام ونصف تقريبا، وطريقة موته ليست عادية. ،.

نقل نظراته الى أويس الذي ضيّق حدقتيه بتذكر، ساورها الشك في حال الرجلين أمامها فتساءلت بريبة: ما الأمر؟ هل تعرفان ذلك الرجل؟

تبادل كلاهما مع مياس نظرات مترددة لثوان معدودة حتى زفر أويس من أنفه، أطرق رأسه لثوان ثم رفعه ليواجه مياس مُتحدثاً أخيراً بنبرة ثقيلة: هذا الرجل كان مشتبهاً فيه قبل عام ونصف، وقد استطعنا إثبات تورطه، عندما ذهبنا لنلقي القبض عليه هرب في سيارته، وفي أثناء المطاردة انقلبت سيارته على الطريق السريع ومات.
قطع حديثه وقد زادت عقدة حاجبيه متابعاً باستغراب وهو يتطلع إلى صلاح: لكن هاتفه كان في قسم الأدلة...

حركت رأسها كمن فطن إلى أمر هام لتقطع مقاله بنبرة غلفها الاستهزاء: لا تخبرني، اختفى هاتفه ببساطة.
أدارت جسدها للخلف وقد غامت حدقتاها بغضب أشوس، فيما شعر كلاً من أويس وصلاح بالضآلة أمام ذكائها، سحبت شهيقا تخمد فيه غضبها المتزايد، الخفاش يلعب معها بقذارة إذاً يجب أن تتحلى بالبرود في تعاملها معه، التفتت إلى رفيقيها عندما تحدث صلاح متسائلاً: والآن مالذي سنفعله حضرة النقيب؟

تغضن جبينها لتخبره قائلة بأمر: بداية حاول أن تصل إلى مكان هذا الرقم وتراقبه.
ثم تابعت وهي تلقي بنظرة عابرة الى ساعة يدها لتقول:
سوى هذا لقد تأخر الوقت اليوم، فليذهب كلاً منكم إلى منزله.
تحدث أويس باستهجان: وماذا بالنسبة إلى رُدينة؟
طالعته ببرود مجيبة: كما رأيتَ حضرة النقيب، ماتعرفه رُدينة ليس ذات قيمة بالنسبة لنا، أطلقوا سراحها.

رغم عدم رضاه لكن مابيده حيلة، لم يستطع إلا أن يخضع لأمرها، راقبها وهي تطلب هاتفها من صلاح ثم غادرت بخطواتها الواثقة، أغمض عينيه لثانية قبل أن يتحدث إلى صلاح ببرود: سمعتَ ماقالته صلاح، أطلق سراح المتهمة.

غادر عقبها دون إضافة كلمة واحدة، كان الليل قد أسدل سُدُله عندما استقلّ سيارته، ماكاد يستقرّ على كرسيه حتى انطلق رنين جهازه، نفخ بإرهاق وهو يسند رأسه إلى المقود، لم يكن بحاجة لينظر إلى الشاشة ليعرف صاحب الاتصال فأجاب وهو على وضعه: نعم أمي؟
أتاه صوت ميادة بحنان الأم الملهوف: أويس يا ولدي، كيف حالك؟
تبسم رغماً عنه وهو يعتدل في جلسته ليجيب أمه: أنا بخير، كيف حالكم جميعاً؟

استمع الى عتابها اللطيف: لماذا لا تأتي وترى حالنا بنفسك أويس؟ إلى متى ستبقى بعيداً و منعزلاً عنا بني؟
مسح على وجهه بكفّ واحدة محاولاً التحلي بالصبر أمام والدته وهو يزفر من أنفه بضيق، فأجابها مراوغاً: كيف حال والدي؟
سيطر اليأس على قسمات ميادة لتقول بتوبيخ طفيف: لو كان يهمك أمره لحادثته بنفسك.

كعادته الدائمة، ورغم معرفته بتقصيره لكنه تحدث بتهرب: أنا مشغول جداً هذه الأيام أمي، سأحادثك لاحقاً، إلى اللقاء.

هكذا أنهى اتصال والدته اليومي معه تاركاً إياها بخذلانها وشعورها الدائم بالذنب نحوه، في كل ليلة تتصل به وتعاتبه لتقصيره في حق العائلة يهرب منها بهذه الحجة البالية، لا مشاغل في الدنيا قد تلهيه عن وصال أهله، هذا إن كان طبعاً يريد وصالهم، لكن أويس اتخذ قرار هجر عائلته منذ أول يومٍ لتسلمه منصبه، وهذا كان يُشعر ميادة دائما بالتقصير نحوه، رغم عدم معرفتها السبب الحقيقي لفعلته، أدار اويس سيارته ثم غادر الى شقته الخاصة، لعلّ غداً يوم أفضل...

خلد كبار عائلة الحكيم إلى أسرّتهم استعداداً للرحيل في الغد إلى قرية الشيخ رمضان، فيما كانت أروى تدرس في غرفتها، أما ورد فقد كان متحمساً للذهاب غداً لزيارة بسام.

لم تستطع عليا إلا الانتظار في الصالة المكشوفة، تضع على كتفيها وشاحاً صوفياً يقيها نسمات الليل الباردة، مرابطةً على كرسيها بانتظار وحيدتها، مياس، تلك الفتاة المشاغبة التي تحمل بين كتفيها صخرة صوان لا رأساً، عنيدة، ذكية كذلك، والأهم أنها سيدة قرار نفسها، فهي عندما تقدمت الى المسابقة لم تخبر أحداً إلا بعد أن تمّ قبولها، لا زالت عليا تذكر كيف ثارت عليها ورفضت لكن مياس لم تستمع لها، بل بقيت تحاول حتى أقنعتها وبقي أمر انضمامها سراً عن الأكثرية، باستثناء أفراد عائلتها المقربين.

انتبهت عليا إلى فتح الباب الكبير، استقامت وهي تقرب طرفي وشاحها إلى صدرها أثناء دخول مياس وإغلاقها الباب، ثم استدارت لتجد والدتها تقف أمامها فتبسمت بلين واقتربت حتى وقفت أمامها مُعاتبة إياها برفق: مالذي تفعلينه هنا يا أمي؟ هل كنتِ بانتظاري؟
تبسمت عليا وهي ترفع كفها تمسح به على صدغ ابنتها مجيبة بصدق: إذا لم انتظرك أنتِ سأنتظر من يا غالية؟

اتسعت ابتسامة مياس وهي تميل برأسها لتستند على كف أمها التي سألتها بحنان: هل أجهز لك العشاء حبيبتي؟
أشارت لها إيجاباً وقد تحولت بسمتها الى قهقهةٍ خافتة مجيبة برجاء: حبذا يا أماه فأنا لم أتناول شيئاً منذ الصباح.

انعكس قلق عليا جليّاً على محياها رغم محاولتها عدم إظهاره لابنتها، لعلمها بأنها لا تحبذ تلك المشاعر وإن كانت صادقة وتصدر عن أمها نفسها، ادعت الابتسام وهي تخبرها بخفوت: أبدلي ثيابك وخذي حماماً ساخناً، سأحضر لك الطعام في المطبخ.

هربت من فورها بعدما ألقت تلك الكلمات على مسامعها، رغم هذا لم يخفى عن مياس الخوف الساكن مقلتي أمها، اختفت ابتسامتها وهي تمسح على جبينها بإصبعيها، تقدر مشاعر والدتها السامية لكن ربما عليها أن تدعها لتتحمل تبعات اختيارها، وإن كان صعباً.

حاولت عليا خنق قلقها قبل أن يستبدّ بها فيستولي عليها، ربما عليها أن تترك مياس لعراك الحياة فابنتها ليست قاصراً بالنتيجة، لكن من ذا الذي يقنع قلب الأم بهذا؟، أشعلت الفرن تحت قدر الطعام وقبل أن تلتفت لتجهز الأطباق لوحيدتها صدح رنين هاتفها، طالعت الشاشة بداية دون مبالاة، سرعات ماتوسعت حدقتيها وهي ترى ذات الرقم الدولي، بصعوبة بالغة ازدرمت ريقها وقد ارتعشت يداها، ما الذي يريده هذا الرجل بحق الله؟! ألا يكفي أنه دمّر حياتها قبلاً؟

رفضت الاتصال بكفين مهزوزتين ثم أغلقت الهاتف نهائياً، عادت لتضعه في جيب جلبابها المنزلي وقد استبدّ بها الخوف، اتصالاته المفاجئة منذ عودة مياس لا تطمئن البتة، والأمر يتعدى كونه صدفة، أدمعت عينيها وهي تفكر في أمر طليقها، ترى ماهي غايتك هذه المرة ياعمار؟ ما الذي تسعى خلفه؟

بعد يومٍ طويل مشحون بالكثير من المواقف والإرهاق، كان لا بدّ من حمام ساخن ينفض عنها تعبها، وقفت مياس أمام مرآتها وقد ارتدت بذلة رياضية ذات لون أسود وخطوط بيضاء على كميها، تناولت منشفةً قطنية تجفف بها خصلاتها الفحمية عندما انطلق جهازها بالرنين، والذي سبق وأن وضعته على طاولة صغيرة قرب فراشها، زوت ما بين حاجبيها باستغراب بادئ الأمر، وهي ترى رقماً آخر غريباً ليس على قوائم اتصالاتها، سرعان ماارتخت تعابيرها عندما أدركت صاحبه، الآن باتت تعرف جزءاً آخر من شخصيته، حريص ومرتاب لدرجة كبيرة، أجابت الاتصال بتنهيدة متعبة: أهنئك، لقد فزتَ في الجولة الأولى.

ابتسم خطاب بظفر من بين عتمة مكتبه، وهو يستدير بكرسيه صوب طاولته السوداء قائلا بسخرية واضحة: لا تخبريني بأنك يئستِ منذ الجولة الأولى حضرة النقيب؟!
انشق ثغرها عن ابتسامة باردة وهي تحرك رأسها بنفي فتحدثت: إذا فكرت حقا في هذا الاحتمال فأنت إذاً لا تعرفني أبداً يا خفاش.

لقد أصابت كبد الحقيقة، ربما يسبقها بخطوة لغاية اللحظة لكنه لا يعرف عنها الكثير، كل ما يعرفه هو مقدار خطورتها، ويعترف داخله بأن بصيص خوف صغير قد تولد داخله، ليس من احتمال كشف هويته، بل من قوة شخصيتها وإصرارها على محاربته رغم أنها في خضمّ معركة غير عادلة أبداً.

طال الصمت حتى قطعته مياس عندما أردفت بنبرة قوية: الحرب ماتزال في بدايتها أيها الوطواط، وأنا لا أيأس بسهولة، فكن متأهباً لأنني لن أتوانى عن استخدام أسلحتي كلها في سبيل هزيمتك.

أغلقت مياس الاتصال هذه المرة قبل أن تسمع منه حرفاً، لتترك خطاب وقد أغرته كلماتها الواثقة لتحديها واستفزازها أكثر، افترّ ثغره عن ابتسامة باردة وهو يحرك كرسيه الأسود إلى الجانبين بحركات رتيبة، طوال سنوات تأسيسه لتلك المنظمة وإدارتها كانت حياته روتينية، عادية ومملة بشكل مفرط، لكن منذ ظهور الذئب على الساحة تغير الأمر، ومذ كشف هويتها وحادثها زاد مستوى الحماس لديه للعب معها، توسعت بسمته أكثر حتى تحولت إلى قهقهةٍ خافتة ثم همس يحادث نفسه بنبرة غريبة: لم نبدأ اللعب بعد أيتها الذئب، فنحن ما زلنا في طور الإحماء فقط...

صدح صوت المُنادي لصلاة الفجر ليريح النفوس المُتعبة، نسمات الصباح العليلة تخمد نيران القلق في القلوب، وغيومٌ رمادية تجمعت في السماء مُبشرةً بقرب فصل الشتاء، بدأ الرجال والشبان وحتى بعض الأطفال بالخروج تباعاً، أيضا خرج كمال من المسجد القريب برفقة ولده ورد، فسارع الأخير بجلب الحذاء لأبيه ليضعه تحت قدميه، ربت كمال على كتفه بابتسامة مُطمئنة في ذات لحظة خروج الحاج عثمان مُصطحباً ولديه مازن ورامي، تطلع كمال وابنه الى الرجال الثلاثة فيما شملهم عثمان بنظرة دونية مُترفعة، تبسم ورد باتساع وهو يمدّ يده بالسلام إلى الحاج عثمان كعادة متبعة عند الأغلبية قائلا باحترام: تقبل الله طاعتك ياحاج.

تجعد جبين عثمان بانزعاج جليٍّ فتلك المرة الأولى حيث يبادر أحد أفراد عائلة الحكيم بالسلام، ولم يعرف ورد أن فعلته هو بالذات زادت نيران عثمان، والذي رآى في محياه وجهاً آخر، فتجاوزه تاركاً يد الصبيّ ممدودة أمامه، شعر كلاً من مازن ورامي بالحرج لفعلة والدهم وقبل أن يصلحها أحدهما التفت عثمان نحوهم مجددا مُنادياً باقتضاب آمر: هيا إلى البيت.

لم يكن منهما إلا أن التزما بأمره فتبعاه بعد أن سدّد رامي نحو رفيقه ووالده نظرة مُعتذرة، اغتاظ كمال من فعلة عثمان فحادث ابنه بعتاب: تعلم أنه لن يردّ سلامك يا بني فلماذا أحرجتَ نفسك؟
تطلع ورد إلى قسمات والده بملامح حيادية قائلا ببساطة متجاوزاً الموقف برمته: دعنا نذهب، فأمي وجدتي بانتظارك.

تحرك للجانب ليتيح لوالده المشي بجانبه فتحرك كمال وقد ساوره الشك في فعلة ابنه، الغريب أنّ ورداً ذاته لم يعرف لماذا حاول فتح حوار ما مع عثمان مع علمه المسبق برده، لكن هناك سلام كبير يسكن أضلاعه هذه الليلة، سكون تام يشعر به بين جدران قلبه المتعب، وحقاً لا يعرف حقيقة مشاعره، تأمل كمال شروده بعينٍ قلقة وقلب ينتفض بهلع، ورد هذا اليوم غريب، غريب جداً.

كانت الحاجة رائدة وسعاد تنتظران كمال خارجاً بجانب سيارة الأخير العائلية، وفي مكان السائق كان يجلس أحد العمال الذين يعملون معه في مخزن الحبوب المملوك لعائلة الحكيم، ساعدت عليا والدتها لتجلس في المقعد الخلفي للسيارة، وأحكمت وضع حزام الأمان لها ثم استقامت ترتب غطاء رأسها تحادث أمها بعطف مُعاتب: لا أفهم إصرارك على الذهاب مع كمال يا أمي، فالطريق طويل عليك وسيتعبك!

تبسمت الحاجة رائدة بوقار وهي تمسح على عباءتها السوداء مجيبة ابنتها القلقة على الدوام: الطريق لا يتعبني ياعليا، للرجل وأهل بيته واجب كبير علينا.
ضغطت على فكها بعدم رضى لكنها لاتستطيع شيئاً أمام إصرار والدتها، نقلت عينيها إلى سعاد التي كانت تعانق ابنتها بحرارة استغربتها أروى ذاتها، فهمست بلطافة بين أحضان أمها: ما الأمر ياأمي؟ كلها بضع ساعات وتعودين إلى المنزل.

حررت نفسها من بين ذراعيها جبراً لتضيف بابتسامة مازحة: هذه فرصة لك لتتخلصي من اعبائنا ليوم واحد على الأقل.

رمشت سعاد بعينيها وهي حقاً تشعر بقلق بالغ لا مبرر له سوى قلب الأم ودليلها، أبعدت أروى عنها عندما رأت ورداً وأبوه قادمين من المسجد القريب، عانقت الأول بقوة حتى كادت تخنقه بين ذراعيها، ولا تعلم لماذا لكنّ ورد أكثر من تخاف عليه، ليس فقط بسبب مرضه، إنما هناك هاجسٌ يخنقها كل ليلة وهذا الصباح أحكم الخناق عليها، أغمضت عينيها بتمهل حتى شعر ورد بارتجافة أمه الخفيفة فهمس بجبين منعقد: ما الأمر أمي؟ هل أنتي مريضة؟

ابتعدت عنه قليلا حتى قابلته بقسماتٍ تعكس الحرب داخلها، قلبها يخبرها بأن تبقى وعقلها يزجرها بألا تبقى هلعةً على الدوام، حاولت رسم ابتسامة صغيرة لم تفلح في خداع كمال الذي كان يراقب ماتفعله، يشعر بأنها تخفي عنه أمراً غير حميدٍ بالمرة، ولا يجب أن يظل جاهلاً بماتخفيه عنه زوجه ورفيقة لياليه الطويلة، سيعرف منها كل شيء عندما يعودون من زيارتهم تلك.

أفلت ورد من بين يدي والدته ليتجه الى جدته فودعها، ضمت سعاد كلتا كفيها إلى صدرها وهي تشعر بقلبها يحترق حرفياً، لمسة كمال على كتفها نبهتها ليهمس بجانب أذنها: هل نذهب؟

عادت ابتسامتها المصطنعة لتحتل ثغرها لكنها لم تخفِ شحوب وجهها ووهنه، أشارت له بإيماءةٍ صغيرة مترددة وسارت إلى حيث يفترض أن تجلس بجانب أم زوجها، والتي كانت تودع ورد بدعاءٍ محبب، ابتسم ورد وزرع قبلة صغيرة أعلى رأسها المغطى بوشاح أسود كثيابها تماما ثم استقام ليقابل وجه سعاد القَلِق وقد فصل بينهما بدن السيارة، لا يدري ورد لما وقف هو الآخر يطالع والدته بشيء من التردد، ولا يعرف ورد أن هذه النظرات و الجو المشحون بالقلق كان آخر مايراه من أمه الحنون...

لم يرتح كمال لتلك النظرات المتوجسة، داهمه الجزع وللحظة كاد أن يتراجع عن تلك الزيارة فقط ليعرف ما الذي يخفيه زوجته وابنه عنه، لكن تراجع ورد في اللحظة الأخيرة ردعه، ظلت سعاد تراقبه بوجل حتى صعدت أخيراً واستقرت مكانها بجانب الحاجة رائدة، ازدردت ريقها بتوتر ونيران قلبها في ازدياد خاصة عندما تحركت العربة على الطريق الإسفلتي، التفتت إلى الخلف لتراقب ورد الذي وقف في منتصف الطريق يلوّح لهم بوداع، رغماً عنها نفرت عبرةٌ من عينها، فيما كانت الحاجة رائدة غير مرتاحة لكل هذا، ستعرف منها ماسبب كل هذه الخشية والجزع الساكن مقلتيها، فقط ليمهلهم القدر فرصة العودة من مشوارهم الطويل.

قرر ورد هذا اليوم، وعلى غير العادة، إيصال شقيقته الكبرى إلى دوامها في كلية الطب البشري قبيل ذهابه إلى مدرسته، توقفت أروى وقد غلبت الدهشة على قسماتها عندما أخبرها ورد بموافقة عُدي على السماح لجمال وعائلته بزيارة بسام فصاحت به باستهجان: وأنت ستذهب؟
وقف مقابلاً لها بلا مبالاة قائلا ببرود: بالتأكيد سأذهب.
توسعت عيناها مع شكٍ تمكن منها فقالت بريبة: لستُ مرتاحةً لهذه الزيارة أبداً ورد، أرجوك أخي...

قاطعها وهو يزفر بضيق وقد تحرك من أمامها، فتبعته لتمسك به من كتفه فتديره إليها موبخةً إياه بخشونة ناقضت رقتها: ورد لا تعاند، في الأمر فخ لا ريبة، ماذا إن رأيتَ عدي هناك؟ ماذا إن كان بانتظارك أنت؟
تأفف بعدم رضى لحديث شقيقته فأجابها باستهجان: ولماذا سيكون بانتظاري أنا؟ وهل سأخاف منه لو كان ماتقولينه صحيحاً؟
شدَّ ظهره مُضيفاً بحزم عنيد: حتى لو كان الأمر كما قلتِ، فأنا لستُ خائفاً منه ولا من سواه.

تحرك من فوره تاركاً أروى تسرح في خيالها لثانية حتى انتبهت لابتعاده فتبعته محاولةً التحدث إليه من جديد، لكنه ودّعها مُغادراً إلى مدرسته فوقفت تشيعه بحدقتين مهتزتين حتى غاب عن مدى بصرها، حركت رأسها بيأس من تصرفات ورد التي تتجاوز عمره بكثير، أو ربما هو طيش الشباب فقط؟

استدارت لتدخل إلى كليتها ولم تلحظ هي مقلتين تراقبانها بشغف جليّ، ومشاعر صادقة جاهد دفنها في أعماقه كلّما رآها أو شعر بوجودها، ذلك هو الدكتور حسام، أستاذها في الجامعة، والذي ظهر أمامها فجأة زاعماً عدم انتباهه لها فادّعى المفاجأة متحدثا: أروى؟ كيف حالك؟
ابتسمت باقتضاب لتقف أمام أستاذها بأدب ورقة قائلة بنبرو محايدة: أنا بخير أستاذ حسام، شكرا لك، عن إذنك.

هكذا تجاوزته دون فظاظة تجرحه، ربما هي إلى الآن ليست مُدركةً لتلك النظرات التي يختصها بها دوناً عن غيرها، لكن هذه هي طريقتها مع الجميع، تحافظ على مسافة أمان معهم، لذى لم يشعر حسام بالحرج وهو يتابعها حتى غابت عن نظره، بمعطفٍ قرمزي يصل إلى مابعد ركبتيها وحجاب رأسها الذي ماثله لوناً، تنهد بحنين ماسحاً على شعره وابتسامة سخيفة ارتسمت على ثغره لم تختفي حتى وهو يتجه إلى عربة رفيقه الطبيب مازن الشافي، والذي كان يراقب ما يحدث بعينٍ مُستغربة، ابتسم بمكر وهو يكتف كلتا ذراعيه على مقود السيارة، مراقباً صديقه الذي استقر ّ مكانه وأطلق تنهيدة طويلة معبقة بمشاعره المقدسة، تحدث مازن أخيرا بنبرة شابها بعض السخرية: لولا أنني أفحص نظري باستمرار، لجزمتُ بأنّ عينيك الآن تطلق فقاعات حمراء على شكل قلوب!

تنهد حسام بقوة مجيبا وهو شارد في الطريق حيث اختفت: ليس الأمر كأن، بل في الحقيقة هو كذلك.
تغضن جبين مازن ليسأله بعدم تصديق: حقاً! إذاً فأنت تحب هذه الفتاة...
آماء حسام برأسه مبتسماً باتساع، فعقب مازن: إذاٍ لماذا لا تتقدم لها رسمياً وتخطبها؟
اختفت ابتسامة حسام ليحلّ محلها القلق والتردد، استغرب مازن تبدل رفيقه فتساءل: ما بك حسام؟

زفر الأخير بضيق واضح ثم أدار جسده للجانب حتى قابل مازن مجيباً بتوضيح: الأمر مازن أن أروى...
قاطعه مازن ببسمة إعجاب: اسمها أروى؟
أشار حسام إيجاباً فتابع: المشكلة أن أروى إحدى طلابي.
لم يفهم مازن حقا مامقصده، فأعاد ظهره للخلف وقد انعقد حاجباه بعدم فهم فسأل مجددا باستنكار: وهل هذه مشكلة؟ ألم تسمع قبلاً عن أستاذ يتزوج طالبته؟

بان الضيق واضحاً على قسمات حسام اثناء إجابته لسؤال رفيقه: بل المشكلة في فارق العمر الكبير بيننا يا مازن! أنا أتممتُ الثلاثين منذ فترة قصيرة وأروى عمرها عشرون عاما، أتفهم مقصدي؟
رغم كونها حجة مقنعة، في ظاهرها، إلا أن مازن لم يستسلم فتابع مستهجناً: لا لم أفهم، وإن كان الفرق بينكما عشر سنوات؟ أتعتقد بأن هذا يؤثر في نسبة موافقتها من عدمه؟.
طالعه حسام بعدم تصديق هاتفاً: وهل ترى أنه أمر طبيعي؟

لم تتغير ملامح مازن الجادة حتى تابع حسام باقتناع: أروى فتاة ذكية يا مازن، وجميلة أيضا، لديها العديد من الفرص للارتباط بشابٍ يماثلها عمراً، لا أن يكون عجوزاً مقارنة بها.

لم يقتنع مازن بحجته، وإن اعترف داخله باحتمالية أن يكون ماقاله هو الصواب، لكنه آثر عدم الخوض في هذا الجدال أكثر، خاصة عندما رآى تعابير وجه رفيقه التي احتلّها اليأس، لكنه لن يكف عن المحاولة، هزّ رأسه بعدم رضى ثم أدار سيارته متجهاً ورفيقه إلى مشفى الحيّ، حيث كان مازن يعمل هناك بالإضافة إلى عمله المستقل في عيادته الخاصة.

كم كان جمال وورد متحمسين لرؤية بسام القابع في المشفى منذ ثلاثة أيام، كذلك الأمر بالنسبة الى والد بسام ورامي الذي حضر برفقتهم متعذراً برؤيته لبسام، إلا أنه في الحقيقة كانت مجرد حجة ليرافق رفيق طفولته السري، ورد.

كان بسام شاب في الخامسة والعشرين من عمره، طويل القامة وقمحي البشرة، كدماتٌ تنوعت ألوانها بين الأحمر الدامي والأزرق والبنفسجي انتشرت على صفحة وجهه وبداية صدره الظاهر، كذلك تورمت إحدى عينيه وقد اتخذت أجفانه لوناً أزرق قاتم، وتمّ تجبير ذراعه وقدمه اليسرى، وإلى جانب آثار الإعتداء الجليّ على جسد بسام بان أيضا. نحوله الواضح، وقد توزعت بضعة أسلاك على صدره إضافة إلى خيوط من الشاش الطبي التفت حول صدره وظهره، بدت حالته مُزريةً بحق.

كان مستلقياً على سرير المشفى يئن بألم عندما سمع طرقاً على بابه، أدار رأسه ببطء وقد تغضن جبينه بغرابة للموقف، فلم يكن من عادة عدي الطرق على الباب قبل دخوله، مع فتح الباب استحال استغرابه الى مفاجأة صادمة وهو يرى والده يتبعه ورد وجمال وأيضا رامي، لم يصدق عينيه حتى كاد يعتدل جالساً لكن آلام أضلاعه أجبرته على الاستلقاء من جديد وهو يعضّ على شفته السفلى، عدى ورد وجمال ليساعداه فيما وقف والده عاجزاً أمام منظر ابنه، تطلع بسام إلى جمال ورفيقه بمقلتين متسعتين كأنه لايصدق بعد بأنهما هنا حتى وهما يحادثانه، هتف قائلا باستغراب ونبرة صوته متعبة: ما الذي تفعلانه هنا؟

ابتسم ورد بودّ وهو يربت على كتفه قائلا باعتزاز: أتينا لزيارتك يا بطل.
نفى بسام برأسه معيداً صياغة سؤاله: لا، أقصد كيف دخلتم؟
حاول رامي تلطيف الجو فهتف قائلا ببساطة: من الباب.
قهقه الجميع فيما خلا بسام الذي ارتعدّ خوفاً، كل تعذيب عدي له كان بسبب سؤال واحد، يريد اسم الشاب الذي نظم المظاهرة ضده ولم يعترف له بسام، لكنه والآن زاد رعبه فتحدث بريبة: هل عدي من سمح لكم بزيارتي؟

شدّ ورد ظهره وابتسامة مغترة ارتسمت على ثغره مجيباً بتفاخر: نعم هو، يبدو أن هتافنا ضده قد آتى ثماره.
جفّ حلق بسام نهائياً وقد تناهى إلى عقله المقصد الحقيقي لتلك الزيارة، فنطق بخوف يغلف نبرته: ورد، الأمر مثير للريبة.
تجعد جبين الأخير بعدم فهم ليضيف بسام بتوضيح: اعلمْ أن عدي لا يفعل هكذا أمر دون أن يستفيد من ورائه، عليكم أن تخرجوا فورا من هنا.

استهجن ورد مقاله فهتف بضيق: نخرج؟ أم تقصد نهرب؟ ولماذا نهرب أساساً؟ ما الذنب الذي اقترفناه؟
تدلى فك بسام بخيبة لعناد ورد والذي تابع باقتناع: كل مافعلناه كان ممارسةً لحقنا الطبيعي في الاعتراض على الظلم، فهل في ذلك تهمة معيبة؟
أهلا أهلا برأس الأفعى المدبر.

شحب وجه بسام دفعة واحدة وهو يستمع الى نبرة ساخرة حفظها هو غيباً، أغمض عينيه يضغط عليها بقوة بينما التفت البقية الى صاحب الصوت، كان شاباً في منتصف العشرينات من عمره ربما أو أكبر قليلاً، يرتدي ملابساً رسمية ويحمل في يده عصاً سوداء رفيعة، مقلتيه البنية تحمل بغضاً وكرهاً لا متناهيين، وتقاسيم وجهه الأسمر حملت قسوة وغلظة شابهت غلظة قلبه المتجبر.

لا ينكر رامي أن ظهور عدي هكذا من العدم أرعبه، كذلك الحال بالنسبة لجمال ووالده، وحده ورد من وقف بثبات أمام نيران الشر التي تنبعث من عينيّ عدي الذي تابع همسه اللئيم: إذاً، فأنت من نظم تلك المظاهرة وافتعل تلك البلبلة، صحيح؟
لم تتزحزح نظرات ورد عنه وهو يجيبه باحتقار بارد: أنا هو، وبالمناسبة اسمي ورد الحكيم.

حرك عدي رأسه بتفهم ولا ينكر دهشته، الآن يدرك جيداً مصدر الكبرياء والاعتداد المسيطر على ملامح ورد، أمال رأسه للجانب قائلاً بتحاذق: ألا تعرف أن مافعلته مخالف للقانون ياولد؟
مازال على ثباته القوي مجيبا بازدراء واضح: عن أي قانون تتحدث؟ إن كنت تقصد قانونك أنت فأنا لا أعترف به ولا أحترمه...

افترّ ثغره عن ابتسامة حقيرة وقد وصل عدي إلى مبتغاه تماما، بينما لم يتزحزح ورد عن موقفه الثابت حتى وهو يستمع لهمس راجٍ من بسام خلفه: ورد أرجوك.
تحرك عدي خطوتين للأمام ليسمح أخيرا بظهور رجلين من أتباعه خلفه، ضرب بعصاه الرفيعة على كفه عدة مرات قبل أن يتحدث بنبرة شريرة: أنت لستَ ندّاً لي ياولد، أنصحك بالتراجع.

كانت لعبةً حقيرة منه، فهو علم كيف يستدرج ورد، بإبائه وكبريائه، فانتصب ورد بظهره كفارسٍ نبيل ليجيب، غير مدركٍ لسذاجة فعلته: وأنا لا أخاف سوى من خالقي ياحضرة رئيس المخفر، ولن أركع لسواه.
سُحبت الدماء من أوردة رامي عندما أعطى عدي أمره التالي، والذي أصاب الجميع في مقتل...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة