قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع عشر

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع عشر

(((سأظل أحارب وأحارب وأحارب، لن أتوقف يوماً عن القتال حتى لو اعوجّ عودي فلن أنحني، هكذا خلقتُ واقفاً وسأظل، كما الحداد يصهر الحديد ليعيد تشكيله من جديد بشكل آخر، لكن أكثر قوة))).

يعترف أنها تجاوزت توقعاته، ربما لم يتوقع منها الاستسلام بسهولة، لكنه أيضاً لم يتخيل أنّ تنتقل بالحرب بينهما إلى مستوىً أكثر خطورة عن الأول، على مايبدو فيجب عليه إعادة حساباته، فمياس رغم أنها تقاتل عدواً لا تراه لكنها لن تذعن للهزيمة، ولديها الكثير من أساليب المكر والخديعة لتستخدمها، على الرغم من كل هذا ورغم الخطر الذي بات يحيط به لكنه يعترف بأنها نالت إعجابه، بل واستطاعت أن تشغل حيّزاً لا يستهان به من تفكيره...

التفت خطاب صوب سهيل الذي وقف خلفه بهامة مرتجفة، برود خطاب وحده يبعث على الخوف فلا تعرف أبدا ماخلفه، طالعه الأخير بتساؤل فأجاب سهيل: سيدي لقد تحدثتُ مع نبيل كما أمرتني، أخبرني أنّ ردينة لم تحضر يوم اجتماع الشاري والوسيط.
تغضن جبينه بغرابة ويعترف أنه شعر بالحيرة، أيعقلْ؟ إن لم تكن ردينة من أوصل لمياس خبر ذلك الاجتماع، فمن سيكون إذاً؟ لا يشعر بالراحة البتة فعاد ليسأله: أنت متأكدٌ مما قلت؟

أماء سهيل إيجاباً ليضيف: نعم سيدي، حتى أنني سألتُ أكثر من موظفٍ هناك، وجميعهم أكدوا ماقاله نبيل.
قضم خطاب شفته من باطنها مفكراً، ترى هل لها عينٌ أخرى بين موظفيه؟ لكن كيف؟
ضيّق عينيه مطالعاً نقطة ما خلف سهيل، استشعر ناقوس الخطر يدق داخل عقله فينذره، يبدو أنّ مياس حصرته في ذات الدور الذي تؤديه، لتجعله يحارب عدواً لا يراه، أيقن أنّ في الأمر إنّ...

تفقه ذهنه إلى خاطرة مريبة فخَزَرَ سهيل بنظرة قوية آمراً: اسمع سهيل، بدايةً أرسل أحدهم إلى منزل عائلة ردينة واجلبوا والدتها وشقيقها، و أبلغ نبيل بأن يلزموا الحذر خاصة هذه الليلة، لا بدّ لمياس من زيارةٍ لهم.

رفرفت مقلتي سهيل بلا فهم لكنه لم يجد بُدّاً من تنفيذ الأمر، حرك رأسه مطيعاً ليتحرك خارجاً قبل أن يتجمد على نداء خطاب، التفت صوبه بجبين منعقد ليسمع سيده يعقب بنبرة خطيرة: أخبرهم إن حضرت مياس إليهم لا يؤذوها، فقط ليخبروني.

أشار بطاعة ليخرج عقبها تاركاً سيده يستدير بكرسيه صوب نافذته على المدينة، وابتسامة ماكرة شقّت ثغره، وفي نفسه أمنية أن يصدق تخمينه فتحضر مياس بقدميها إلى مطعمه، حينها سيذهب هو إليه بنفسه فيحادثها وبوجهه الحقيقي كذلك، مجرد تخيل تعابيرها حين تراه جعلت صدره يرتفع بغرور واعتداد مثيرين...

عادةً الصدق ينجي، لكن بعض المواقف تُجبرك على الكذب، ربما لأنه أخفّ وطأة من الحقيقة، أو بمعنى آخر الكذب هو شكل الحقيقة الآخر.

هكذا أقنعت ميادة نفسها أثناء نسجها للكذبة التي ستمليها على مازن برفقة زوجها، كان الأول مستلقياً على فراشه يتأهب للنوم عندما سمع قرعاً على بابه، توقع أن تكون شقيقته جهينة فصاح آذناً للطارق بالدخول لتظهر ميادة من خلف اللوح الخشبي، شملها بنظرة متعجبة فتحدثت الأخيرة بلهجة أم حنون عندما رأته يجلس في فراشه: مازن حبيبي، والدك يريد أن يتحدث معك إن لم تكن متعباً.

رغم تضايقه منهما لكنه لم يشأ أن يكسر رغبة أبيه أو يكسف أمه، أشار موافقاً ليتحرك من فوره لاحقاً بها، في حين استبقته هي عائدة إلى الغرفة التي جلس فيها عثمان لتقف قرب الباب مشيرة إليه بنظرة فهمها، رفع الأخير رأسه إلى مازن عندما ألقى عليه السلام، تحدث عثمان بنبرة هادئة: تعال واجلس مازن، أريد أن أتحدث معك في أمر هام.

أماء مازن بطاعة وتقدم ليجلس قرب والده، ماكاد يستقرّ مكانه حتى صاحت ميادة وهي تضرب على صدرها بجزع: يا ويلي! مالذي حدث ليدك يابني؟
سقطت أرضا على ركبتيها محتضنةً كف مازن المصاب ويبدو أنها آلمته فأجفل جسده بخفة، رفعت ناظريها الدامعتين إليه مضيفة بتأثر: آسفة حبيبي آلمتك؟
اصطنع ابتسامة لطيفة على محياه ليجيبها بحنوّ: لا تقلقي أمي أنا بخير.

لم تقتنع بمقاله فعادت تسأله: ما الذي حدث يابني؟ لماذا تربط ذراعك هكذا؟
ربت على كتفها برفق معقباً: أخبرتك أمي أنا بخير، حدث عراك بسيط في المشفى فأصابتني بعض الرضوض، ليست بالأمر الهام لا تخافي.
كان عثمان يتابع كل مايحدث وقد حزّ في نفسه حنان ميادة على مازن، ربما هي المرة الأولى التي يتفقه فيها إلى هذا الأمر، وتيقن أكثر لو ابتعد مازن عن ميادة لربما تجنّ، إن لم تقتل نفسها بالطبع!

أجلى صوته ليهتف بها بلطف: إنه بخير ياميادة فلا تخافي.
تطلعت إليه فوجدته يزجرها بعينيه فتفهمت إشارته الصامتة، أماءت إيجاباً فنهضت عن الأرض وهي تمسح عبراتها حتى جلست بجوار عثمان، بينما تحدث الأخير بنبرة قوية: اسمعني يا مازن، أخبرتني ووالدتك برغبتك بالزواج من عائلة الحكيم، فهل لازلتَ مصرّاً على الأمر؟

أولاه مازن اهتمامه كلّه فطالعه بحاجبين منعقدين، وإن استراب في نية أبيه الحقيقية لكنه أجاب بثقة ذات معنى: بلى يا أبي، لا زلتُ أفكر في هذا الأمر بجديّة، لكنك في المرة الأخيرة رفضتَ طلبي دون أن تعطيني سبباً واضحاً.

ناظرت ميادة زوجها بنظرة سريعة فلم يبادلها، بل بقي يطالع وجه ابنه علّه يقف على حقيقة مايفكر فيه فأشار برأسه ليتابع قائلا بسلاسة: لا مشكلة، أستطيع الآن إخبارك بسبب رفضي لزواجك من تلك العائلة بالذات.

توترت ميادة وخفق قلبها بخوف انعكس على حركاتها، فضمت قدميها إلى بعضهما أكثر وابتلعت ريقها الجاف، وفركت كفيها ببعضهما بقلقٍ لاحظه مازن بعين خبيرة، نظر إلى والده فوجده يحدق فيه بقوة، لم يستطع مازن تجاهل ذلك الصوت داخله والذي يخبره بأنّه على وشك سماع مسرحيةٍ ما، أسرّ ذلك كله في نفسه فحرك رأسه بتفهم ليضيف عثمان: ما بين عائلتينا ياولدي أكبر من أن يتمّ حلّه بسهولة، مابيننا نهر من الدماء.

انعكست كلماته تلك مفاجأة على محيا مازن، فزادت العقدة بين حاجبيه وتقلصت قسماته بعدم فهم فاستفسر: مالذي تقصده يا أبي؟
تنهد عثمان بثقل ثم تابع حديثه، ليغرق عقله تلقائياً في ذكريات بعيدة مؤلمة، موجعة بشكل لا يحتمل...

كان عمري عشرون عاماً وقتها، حين أحبّ شابٌ من أولاد عمومتي فتاة من عائلة الحكيم، طلبها رسمياً لكنّ طلبه قوبل بالرفض، لم يهدأ ذلك الشاب فقام بخطف الفتاة دون علم أهلها فلم يسكتوا، هجموا على حارتنا فنشبت معركة كبيرة لم تهدأ حتى قتلوا شقيق الشاب.

انتصب ظهر مازن لما سمع فيما تابع عثمان سرد الماضي: شباب عائلتنا لم يهدؤا كذلك، اقتحموا حارة بيت الحكيم وقتلوا رجلاً منهم، وهكذا توالى القتلى من العائلتين.
سكت للحظة ليضيف بتنهيدة ثقيلة: أُريقت قطرة الدم الأولى فأُضرمت حربٌ لم تنتهي حتى جرى نهرٌ كامل...

توسعت مقلتي مازن من خطورة ماتفوّه به والده، تعابيره المشدودة أكدت له بأنه يقول الصدق، تطلع صوب ميادة فوجدها انخرطت في نوبة بكاء صامت، هذا كله لم يقنع مازن فاستجوب أباه بنبرة منفعلة بعض الشيء: مالذي تقوله يا أبي؟ كيف حدث كل هذا؟ وأين الدولة والقانون؟
ابتسامة ساخرة غزت ملامح عثمان أثناء إجابته التهكمية: أيّ دولةٍ وأيّ قانون؟ القضية قضية شرف يامازن، أتدرك معنى هذا؟

هتف مازن بانزعاج واضح: وإن كان؟ هذا لايعطيكم ولا يعطيهم حرية إصدار الأحكام العُرفية على الناس وإعدام بعضكم بذريعة فارغة.
رفع عثمان سبابته مشيراً في وجه ابنه معقباً: حتى القانون يقف عاجزاً أمام الأحكام العرفية يا مازن، حتى القانون.
تحدث الآخر بضياع: لكن، أين كان كبار العائلتين؟ ألم يكن بينهم أحد عاقل؟

أسند عثمان ظهره للخلف قائلاً بزهوٍّ مريض: بلى كان في العائلتين رجال عقلاء، لكنهم لم يستطيعوا كبح جماح الشباب الثائر.
تهدلت تعابير مازن بخيبة حقيقية عندما رأى شرود والده اللحظيّ كأنه يتذكر تلك الأيام الدامية، إلا أنه وفي غمرة شروده ارتسمت على ملامح عثمان ألمٌ لم يخفى على عينيّ مازن الخبيرة، فأيقن أنه لم يخبره بالحقيقة كاملة، وليتيقن من صدق حدسه باغته بسؤال: وكيف توقف نهر الدم بعدها؟

ارتبك عثمان للحظة لكنها كانت كافية ليراها مازن، سرعان مااستعاد زمام نفسه ليجيبه بثبات زائف: تدخل رجالٌ من الأحياء المجاورة من ذوي الكلمة النافذة والمركز الثقيل فهدؤوا الأوضاع، وانتهى الأمر بأن تلتزم كل عائلة البعد عن الأخرى، فلا يجمعهم حتى كلمة السلام.

عاد ليستند بذراعيه فوق قدميه ليضيف بنبرة ذات مغزى: لهذا أخبرتك برفضي القاطع يا مازن، لو فعلنا ماتطلبه فأنت بهذا تفتح علينا باباً من الجحيم لن يغلق بسهولة.

أماء مازن بالإيجاب ليسدّد نظرة صوب ميادة والتي علقت مقلتيها عليه، إلا أنها أخفضتها فور التقاء نظراتهم، نهض عقبها ليخرج تحت نظرات والدته القَلِقة ومقلتي والده الذي أعتقد أنه غيّر رأي مازن، لم يراه بعدما صعد إلى الطابق العلويّ ليقف مستنداً على السور الخشبي، موجهاً أنظاره إلى الغرفة التي خرج منها للتوّ، لا يستطيع تجاهل ذلك الصوت الذي يتنامى داخله فيخبره بأنّ ماسمعه هو نصف الحقيقة، شعر باستغباء والديه له فتصاعد غيظه منهم، ضرب بقبضته المكورة على السور الذي اهتزّ تحت غضبه، لا لن يسكت عن هذا، ليس هو من يرتضي بنصف حقيقة مشوهة...

لم يجد بُدّاً من العودة إلى شقته الخاصة بعد انتهاء المعركة الصغيرة في المستشفى واطمئنانه على شقيقه الكبير، دلف أويس يسحب قدميه قسراً كمن يُساق إلى السجن، رمى مفاتيحه بلا اكتراث فوق خزانة صغيرة خلف الباب، توقف في منتصف الصالة واضعاً كفيه على خصره، طالع حال الصالة الفوضويّ والذي يبعث على الشفقة، كأن إعصاراً مرّ من هنا، زجاجات بلاستيكية متناثرة هنا وهناك، بعض الكراتين الخاصة بالطعام الجاهز مرمية بإهمال فوق الطاولة التي توسطت الصالة وبعضها وقع أسفلها، فضلاً عن قطع ثيابه المتسخة التي ملأت الزوايا.

لم يجد له من منفذٍ سوى أن يقوم هو ببعض التنظيف، لن يطلب فتاة من مكتب ما بالطبع، قلع سترته ليرميها فوق إحدى الإرائك المفردة رفقة سلاحه، شمّر كميه للأعلى و دلف بدايةً الى المطبخ ليتناول كيساً خاصاً بالنفايات، وبدأ يلملم الزجاجات الفارغة والكراتين ليجمعها في الكيس، اعتزم هذه المرة أن ينظف منزله في سابقة لم يفعلها منذ زمن، رغم إرهاقه وصراخ جسده لكنه لن يستطيع النوم، ليس وهي تحتلّ أحلامه بهذا الشكل الغريب، تعالى رنين هاتفه معلناً عن مكالمة ما، ألقى أويس مابيده وسارع ليخرج الجهاز من جيب سترته، وحدسه ينبئه بأنها المتصلة، ولم يخبْ ظنه أبدا...

لحظة واحدة!
ما الذي يحدث معي؟ كيف توقعتُ أن تكون هي؟ ومن أين حصلت على رقم هاتفي؟
تساءل في نفسه باستهجان شارداً لثوان قبل أن يذكره الرنين بالمكالمة، زفر ببطء ليجيب الاتصال بثبات، فلم يسمع منها إلا الأمر: انتظرك أسفل منزلك، لا تتأخر، واجلب سلاحك معك.
فقط هذه الجملة هي ماسمعها منها قبل أن تغلق الهاتف في وجهه، استغرقه الأمر لحظات ليستوعب ماقالت: تنتظرني في الأسفل؟!

همس لنفسه بهذه الجملة قبل أن يطلق قدميه كرجلٍ آلي، استلّ سترته وتأكد من وضع سلاحه في جعبته المخصصة، فتح الباب وخرج بلهفة، سرعان ماتذكر نسيانه للمفاتيح فعاد ليجلبها، كأن عقله لم يعد يعمل، خلال ثوانٍ كان قد وصل إلى الأسفل ليجد سيارتها مصطفةً أمام البناء الذي يقطنه، عدا ناحيتها بجبين مقطب، ما إن صعد جوارها حتى سألها: ما الأمر؟
رمقته بنظرة جانبية قائلةً ببرود: ستعرف حين نصل.

لم تكدْ يدها تمتدّ إلى مفتاح السيارة حتى سارع أويس بخلعه من مكانه، انعقدت ملامحها في غرابة لتسمعه يحادثها بعنجهية: لن نذهب إلى مكان قبل أن تفهميني مياس.
تأففت وهي مغمضةٌ عينيها كأنها تستدعي هدوءً ليس فيها في هذه اللحظة، ثم تحدثت من بين أسنانها وقد مدت يدها أمامه: اعطني المفتاح أويس.

عقد ذراعيه أمامه بعناد لتفهم رفضه الصامت، زفرت من أنفها بقوة وجزت على فكها كأنها تطحن أويس تحتها، تلافياً لأية مشكلة هي في غنىً عنها أجابته ببرود: لي جاسوس في خطر، يجب أن أخرجه حالاً.
ارتسمت الدهشة على تعابيره وقد سقط فكه بذهول، انفكت عقدة يديه فارتخى كفه عن المفتاح، لتسارع مياس بأخذه لتدير سيارتها وتنطلق بها، قائلة بهمسٍ ساخط: ينقصني فقط حركات الأطفال هذه!

لحسن الحظ أنه لم يسمعها، بل كان يطالعها بمقلٍ متسعة، حتى شعر بالسيارة تتحرك فهمس متسائلاً: أكان لك جاسوسٌ عند الخفاش؟
أماءت إيجاباً ليعيد سؤاله: من هو؟
بلا مبالاة أجابت بإيجاز: ردينة.
للمرة الثانية ينذهل فيصرخ بصدمة: من؟
رفعت كتفيها بلا اكتراث لتعقب: كما سمعت، ردينة.

أعاد ظهره للخلف وهو يتطلع إلى الأمام حيث كانت السيارة تشقّ طريقها في عتمة الليل، قلّب حديثها في عقله ليشعر بنفسه ضئيلاً أمامها، تيار كهربائي مهول ضرب دماغه ليعود مستديراً صوبها قائلا بانفعالٍ طفيف: لا هذا لا يجوز، يجب أن أفهم، كيف استطعتي تجنيد ردينة لصالحك؟ ومتى؟ وأين كنتُ أنا؟ ولماذا لم تخبريني؟

نفخت هواء ممتعضاً من صدرها وهي تسمع تحقيقه المتوالي، فصاحت به: لا داعي لكل هذه الأسئلة أويس، المهم هو ماوصلنا إليه الآن...
قاطعها هاتفاً بغضب يزاحم أنفاسه الحارة: بل مهم للغاية مياس، أنا أعمل معك لا أعمل تحت إمرتك، يجب أن أفهم والآن.

كانت السيارة قد اصطفت قريباً من المطعم الذي تعمل فيه ردينة، اطفأت مياس سيارتها لتلتفت ناحيته قائلة لهدوء عقلانيّ فاجئه: اسمع أويس أعلم، هناك كثيراً من الأسئلة التي تريد لها جواباً، لكن لو سمحت هلا نؤجل هذا التحقيق إلى وقت لاحق؟

تعاظم الغضب داخله حتى شعر بدمائه تغلي في عروقه، فتح الباب ليترجل غاضباً فلم يرَ ابتسامة ماكرة ارتسمت على محياها، تبعته ليقف كلاهما أمام السيارة يطالعان المطعم الراقي، والذي كان مضيئاً من جميع جوانبه، استند بجسده إلى مقدمة السيارة متحدثاً بغضب مكتوم ومسحة تهكم: والآن ماذا سنفعل؟ هل سنتسلل إلى المطعم كما فعلنا في الملهى؟
وقفت جواره مجيبة بتعقل متجاوزة سخريته: لا، بل ستدخل من بوابته الرئيسية.

رفرف بعينيه مرات عدة يستوعب ماقالت، انتفض ليقابلها بجسده هاتفاً بدهشة: ماذا قلتِ؟
قابلته هي الأخرى لتعقب على حديثها بتوضيح: الأمر سهل أويس، ستدخل لوحدك إلى المطعم، وتجلس على إحدى الطاولات في المنتصف حصراً، ما إن ترى ردينة ستطلب إليها أن تخرج بأقصى سرعة من باب المطبخ الخلفي.
أمال رأسه إلى الجانب مستفسراً: إن كانت هي عينكِ هناك فلماذا لا تهاتفينها ببساطة؟

حاولت التمسك بتعقلها أثناء إجابتها له: هاتفها مغلق.
وكيف تعرفين أنها من سيأتي ليأخذ طلبي؟
لإنك ستجلس في القسم الذي تخدمه هي.
عقد ذراعيه معانداً كالأطفال: لن أذهب قبل أن أفهم، كيف عرفتِ أنّ حياة ردينة في خطر؟
تأففت بصوت عالٍ وقد تخلت عن تعقلها لتتحرك مبتعدة عنه لخطوتين، سرعان ماعادت لتقف أمامه صارخة من بين أسنانها: لا وقت لدينا لنهدره أويس، حياة الفتاة في خطر إن لم نتحرك فوراً.

استشعر صدقها فتراجع عن موقفه، انتصب في وقفته متحدثاً بخنوع: حاضر سأذهب، لكن من سيساعد ردينة حين تخرج؟
تنهدت بثقل قبل أن تجيب بهدوء: هناك من ينتظرها لا تقلق، فقط أسرع.
أماء موافقاً ليتحرك قاصداً المطعم، خطوات قليلة حتى أوقفه نداء مياس المتردد: أويس؟
طالعها باستغراب فوجدها تناظره بغموض، انفرج ثغرها عن جملة حوت بين طياتها قلقاً مبطناً عليه: كن حذراً، لربما غدروا بك إن عرفوك.

قاوم ابتسامة صغيرة ارتسمت على ثغره، ثم تابع مسيره ناحية المطعم، تلاحقه مقلتي مياس القلقة، ما إن رأته يدخل حتى همست لنفسها بجزع: احمه يا آلهي، لقد دخل إلى عش الدبابير لوحده!

دلف أويس إلى المطعم المقصود، والذي كان فاخرا بإفراط، فسقفه كان عبارة عن مرايا متراصة، وجدرانه وأرضيته من الرخام الأخضر اللامع، خدمته أيضاً منظمة للغاية بالإضافة الى الطاولات الزجاجية اللامعة والتي تعكس الصور، يكاد يجزم أويس أن فاتورة الغداء فيه تكلف الموظف العادي راتب شهر كامل.

جلس على طاولة منفردة في منتصف المطعم، ماكاد يستقرّ مكانه حتى حضرت ردينة إليه مع جهلها بهويته، رسمت ابتسامة رسمية على ثغرها أثناء حملها لدفتر صغير وقلم، وقفت بجانبه قائلة بنبرة بسيطة: تحت أمرك سيدي؟

ماكاد أويس يرفع رأسه إليها بتعابيره الماكرة حتى ارتعش جسد ردينة، وقد أعادها عقلها تلقائياً إلى تلك الذكرى المقيتة، جفّ ريقها بغتة وتهدّج صدرها برعب جليّ، لاحظ أويس هذا كله فلم يرغب بكشف هويتها، تطلع أمامه لتتمالك نفسها وطالعت المحيطين بها بنظرة عابرة لتتأكد إن كان أحدهم قد لاحظ أمراً، تحدث أويس بنبرة ذات مغزى ألقت الهلع داخلها: لماذا تغلقين هاتفك؟

تلقائياً امتدت يدها إلى جانبها لتتفقد هاتفها، لكنها لم تجسر على إخراجه أمام الجميع، زعمت أنها تدوّن شيئاً ما على دفترها أثناء تحدثها بهمس مرتجف: يبدو أن شحنه قد نفذ.
حرك رأسه بتفهم لتعقب هي بتردد: هل، هل مياس هي من أرسلك؟
أشار لها بخفة مضيفاً: بلى، وتخبرك بأنّ تخرجي من باب المطبخ الخلفي بسرعة.
رفرفت عيناها بسرعة لتعاود السؤال بريقٍ ناشف، وقد أخذ منها القلق مأخذه: لماذا؟

رفع رأسه ليطالع رواد المطعم بنظرة متأنية مجيباً بصوت هامس: يبدو أن أمركِ قد كشف، ويجب أن تهربي بأقصى سرعة.

ابتلعت ردينة ريقاً غير موجود وهي تناظر أويس بخوف مختلط بامتنان، حاولت اصطناع بسمة صغيرة على طرف شفتيها لئلا تثير ريبة من حولها، لكنها لاحظت بزاوية عينها أحد العاملين معها يقترب من مكتب نبيل الذي احتلّ الزاوية البعيدة في المطعم، لم تأخذ من الوقت الكثير لتفهم أنهم تعرفوا على أويس كذلك، خاصة عندما أشار العامل عليه أثناء وشوشته لنبيل في أذنه، عادت بأنظارها إلى أويس وزعمت أنها قد انتهت من كتابة ما طلب لتخبره بهمس محذرةً: لا تطلْ جلوسك هنا، يبدو أن أمرك قد كشف أيضاً.

قطب جبينه ليرفع رأسه نحوها فأهدته ابتسامة صغيرة، ثم سارعت لتنسحب بخطوات جاهدت أن تكون طبيعية للغاية، ماإن أصبحت في المطبخ حتى قصدت الباب الخلفي بتعجل، سمعت جلبةً من خلفها كأن أحدهم يناديها لكنها لم تتوقف، بل تابعت جريها حتى خرجت ومن خلفها ثلاثة شبان يعملون في المطبخ كأنهم يريدون إمساكها، ماإن أصبحت خارجاً حتى التقاها رائد الذي خرج من العدم مع رجاله و ألقوا القبض على الشبان الثلاثة، ثم اقتادوهم إلى السيارات المصفحة التي أخفوها في مكان خفي.

أغلقت الهاتف مع رائد الذي أخبرها بخروج ردينة، لكن أويساً لم يخرج بعد مما جعل قلقها يزداد، دققت النظر في مدخل المطعم البعيد نوعاً ما فلاحظت خروج بعضاً من رواده، ظنت الأمر عادياً لكن خروج جماعة أخرى استرعت انتباهها، سرعان ماتأكدت من شكوكها مع خروج جماعة ثالثة لتتيقن من شكها، لقد انكشفت هوية أويس وهم الآن يفرغون المطعم ليستفردوا به، سرعان ما سحبت سلاحها و أطلقت قدميها لتجري إلى المطعم لإنقاذ رفيقها من الخطر المحدق...

عقب مغادرة ردينة قرّر أويس أن يخرج بعدها بلحظات، لكنّ أمراً غريباً جعلت حواسه تتنبه بحذر، بعدما استشعر خروج رواد المطعم تباعاً بشكل مقصود، تطلع إلى الطاولة الزجاجية أمامه فلاحظ انعكاس رجلٍ ما يقترب منه وفي يده طبقاً زجاجياً من ذلك الذين يجلبون به الطلبات لرواد المطعم، ابتسم بمكر وهو يحادث نفسه بإعجاب: لقد كنتِ على حق، لطالما كنتِ كذلك.

قبل أن يرفع الرجل الطبق ليكسره على رأس أويس أمال الأخير جسده ليهبّ واقفاً في لحظة إلى جانب الرجل، لوى ذراعه للخلف ليخلصه من الطبق فصرخ الرجل بألم، لاحظ عدداً من الرجال يتقدمون نحوه ليحاصروه وفي يد البعض منهم أسلحة نارية، استلّ سلاحه ليتبادل معهم إطلاق نار، جاعلاً من جسد الرجل الأول ساتراً يختبى خلفه.

لم يعبئ أويس بما يحدث فعلاً، لكن شخصت أبصاره بذعر وهو يراها تدلف كالذئب المفترس تصطاد نبيل ورجاله بطلقات خبيرة لا تخطئ، فهمس يحدث نفسه بسخط: المجنونة! ماذا تظنّ نفسها فاعلة؟

ماهي إلا ثوان معدودة حتى كان الرجال ممددين في الأرض بين قتيل ومصاب، توسعت عيناه بذهول مصدوم حين رأى المجزرة التي حصلت، وقفت هي عند الباب تتفحصه بنظرات قلقة لم تدرك سببها، فلاحظت بقعة دماء على جانب ذراعه بعد أن أسقط جسد الرجل الميت، جرت ناحيته صارخة بفزع: هل أُصبتْ؟
أصابه شلل لحظي حين سمع نبرتها التي لم تخطأها أذناه، مالبث أن تجهمت تعابيره ليصرخ بها: هل جننتِ؟ كيف تدخلين إلى هنا في منتصف المعركة؟

تداركت لهفتها الحمقاء فاستقامت لتقابله بصراخ مماثل: بل أنت الأحمق، ألم أنبهك إلى غدرهم؟
لم يسكت أويس فصاح باستنكار مشيراً بيده: لقد كنتُ انتظر خروج ردينة...
قاطعته هي بنظرة زاجرة ونبرة صارمة: لم أطلب منك انتظار خروجها، لستُ على استعداد لأحمل ذنبك.
سقط فكه بدهشة من إجابتها اللاذعة، لم يتسنّ له الإجابة عليها حين دلف رائد مع فرقة الاقتحام ليهتف بها: هل أنت بخير مياس؟

تململ أويس مكانه وهو يقلد رائد بسماجة ساخرة، تابعها وهي تقف أمامه لتحادثه فتأمره بلملمة القتلى والجرحى، صخرة عظيمة كتمت على نفسه وهو يراها تتبادل حديثاً ودياً مع رائد وقد بدى مدى تقاربهما، وتلك النيران التي اشتعلت في صدره تزين له قتلها مع رائد برصاصة واحدة، وكم يخشى أن يتهور ويفعلها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة