قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والعشرون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع والعشرون

((( من غبار مشاعري الهالكة ولد حبها، كان مُقدّراً له أن يموت، لكنه ركل كل ما يعترض طريقه حتى أدخل قلبي في مدارها ومذ ذاك، لم يعرف الهدوء الى نفسي طريقاً ))).

أمام محل الخضار في الحيّ، وقف الحاج عثمان برفقة عامله الصبيّ ينتقيان بعض الخضار والفواكه ليأخذها إلى منزله بناءً على وصيّة زوجته ميادة، في حين حضر صاحب الدكان الرجل الخمسيني ببطنه البارزة وثوبه الرجولي الطويل ملقياً السلام على عثمان الذي ردّ بصَلَفٍ مزعج، تحرّج الرجل من معاملة عثمان الباردة وبدى عليه التردّد واضحاً فلاحظ الآخر تردده فهتف بتساؤلٍ جاف: خيراً ياحاج هلال؟ أرى كلاماً عالقاً على لسانك؟

تبسم الحاج هلال بتوتر لينطق: الخير في دارك ياحاج عثمان، لا جعلك الله في ضيق.
سكت للحظة محاولاً ترتيب جملته التالية فظنّ عثمان أنّ الرجل في ضائقة مادية فهتف بتساؤل وقد اعتدل مُستقيماً في وقفته: هل تحتاج إلى المال ياحاج؟
سارع هلال لينفي مااعتقده قائلاً بلهفة: لا ياحاج، الحمدلله أنا في نعمة من الله وفضل، لكن...

قطع كلماته لثانية قبل أن يردف بتوضيح: في الحقيقة ياحاج عثمان، اجتمعتُ مع أصدقائنا التجار وأصحاب المحلات في الحي، بعدما علمنا بأمر حريق مخزن حبوب كمال الحكيم...
تجهمت ملامح عثمان واشتدّت فرائصه حينما تلفظ الرجل بالاسم الأخير، فتابع بحذر: وكنا قد اتفقنا بأن نجمع المال من الرجال ميسوري الحال في الحي لمساعدة الرجل، كما تعلم فالمصاب جلل، فكنتُ أتساءل لو أحببتَ أن تساعد...

نطق هلال آخر جملة بتقطع حتى انقطع صوته نهائياً مع زفرة غاضبة أطلقها عثمان، ليعقب الأخير بنبرة معبقة بالكبرياء المغرور: ومالكَ أنتَ ومال آل الحكيم ياحاج هلال؟ أخبرني ألستَ من عائلة الشافي؟
تلجلج هلال في الرد على حديثه المُهين قائلاً بتذبذب: وماشأن هذا بذاك ياحاج عثمان؟ أخبرتكَ أنّ مصاب الرجل عظيم، لقد احترق مخزنه كله وخسر بضاعته...

قاطعه عثمان صارخاً بحقدٍ قديم: فليحترق مخزنه وعائلته كلها أيضاً ماشأننا به؟ منذ متى ونحن نواسيهم في مصائبهم؟
لم يجد هلال سوى الصمت رداً على عثمان الذي بدى كأن شياطينه على وشك الخروج عن السيطرة، فيما أردف الأخير بعجرفة مهدداً: اسمعني ياحاج، لا أنا ولا أي شخص من عائلة الشافي سيشارك في مساعدة كمال، وإن علمتُ أنك شاركتَ دون علمي فسأحرص على إقفال محلكَ هذا بيدي، سمعت؟

تناول عقبها الخضار والفاكهة التي انتقاها قبل لحظات ليلقيها في أقفاصها فتناثر بعضاَ منها على الأرض مضيفاً بازدراء: وهذه فاكهتك لا نريدها.
غادر عثمان عقبها وقد استبدّ به الغضب فلم يعد يرى ما أمامه، تاركاً هلال وقد توسعتْ عيناه على إثر تهديد عثمان له فتمتم وهو يضرب يديه ببعضهما: لاحول ولا قوة إلا بالله، ألن ينتهي هذا العداء بين العائلتين أبداً؟

تطلع بعدها إلى الثمار التي تناثرت على الأرض ليصيح على عامله ليلتقطها متمتماً بحسرة: هداكَ الله ياعثمان، علّك تدرك أنّ الماضي قد مات.

لماذا كل هذا الغضب الذي يتلبسه حالما يسمع باسم آل الحكيم؟
لم يقلْ هلال ماقال إلا بنية حسنة لكن لماذا قام عثمان بتهديده؟

أسئلةٌ تناوبت على عقل الصبي الذي كان برفقة عثمان، قبل أن يوبخه الأخير ويصرفه ليعود إلى محلات الألبسة الضخمة المملوكة لعائلة عثمان الشافي، فيما تابع الأخير طريقه إلى منزله ويكاد لايرى أمامه من فرط الغضب، فتح الباب الخشبي بمفتاح قديم ليدلف بخطوات مرتعشة كأنه مدمن، وهو فعلا كذلك، كلما غضب من سيرة آل الحكيم يهرع إلى غرفته مختبئاً ليستفرد بصورتها المختبئة قرب قلبه لاتفارقه أبداً.

كانت ميادة في المطبخ وقد أنهتْ إعداد أصنافٍ متنوعة من الأطباق لتقديمها إلى عائلتها، لكن اليوم ليس يوماً عادياً بل إنه ذكرى ميلاد مازن ابنها البكر، وقد حرصتْ على إعداد كافة الأطباق التي يحبْ.
سمعت صوت فتح الباب فهرعت لاستقبال زوجها وهي تجفف يديها بخرقة نظيفة، ابتسمت بحنان صادق وهي تخرج من باب المطبخ لتلاقيه قائلة بنبرة حانية: حمداً لله على سلامتك يا حاج.

سقطت ابتسامتها حين لاحظت خلوّ يديه من الطلبات التي طلبتها صباحاً فأردفت: أين الفاكهة التي أوصتكَ عليها في الصباح؟
أجابها ببرود: لقد نسيت.
تبسمت بحنوّ لتعقد كفيها أمام بطنها قائلة بلطف: أعانكَ الله، لكن لا نستطيع الاستغناء عنها في هذا اليوم بالذات.
لم تدرك ميادة بعد بأنّ زوجها الآن غاضب، بل إنه يغلي حرفياً رغم هذا حاول أن يتهرب منها فقال بلا مبالاة: لا داعي لها.

تحرك محاولاً الصعود إلى غرفته فلحقته ميادة وقد اتسعت ابتسامتها لتعقب بعتاب: سامحكَ الله ياحاج، يبدو أنك نسيت أن لدينا مناسبة مهمة اليوم؟
زفر بغيظ حين وقف ليلتفت إليها ولم تقرأ بعد ملامحه الغاضبة فأردفت بنبرة أمومية صادقة: اليوم ذكرى ميلاد ابننا البكر، مازن يا أبا مازن، لقد أتمّ اليوم خمساً وثلاثين عاماً.

لم تدرِ ميادة بأنها أيقظت شياطينه فعلاً بجملتها تلك فاقتحمت تعابيره ابتسامة باردة قائلاً بسخرية: من يسمعكِ يظنّ حقاً أنه ابن رحمك؟
سقطت ابتسامتها وتلألأت العبرات في مقلتيها لجملته الساخرة فلم يعبأ عثمان بها ليتابع بقسوة أحرقت أنفاسها: بإمكانك خداع جميع من حولك بادّعائك أنه ابنك البكر ومدى سعادتكِ به، لكن ليس أنا ياميادة، أنا الوحيد الذي يعرف كل شيء.

لم يأبه عثمان بكم آلمها وأوجعها بتلك الكلمات، فتتابعت عبراتها لتحرق وجنتيها قبل قلبها لقسوة كلماته، لم يكترث ولم يقفْ معها أكثر من هذا فأدار لها ظهره ليصعد إلى غرفته مُخرجاً صورة محبوبته، تلك الصورة التي التقطها لها في اليوم الوحيد الذي خرجا به سوياً ولوحدهما، جلس عثمان على أول كرسيٍ صادفه كمن أخذ إبرة مُهدّئ حين قابل بسمتها الصافية وملامحها البريئة، جزّ على فكه بقوة آلمته لكنها لم تكن أقل ألماً مما يعتمل داخله، رغم مرور أكثر من أربعين عاما على إجباره على طلاق ابنة عمه و أول فتاة اقتحمت قلبه ولمّا يزلْ أسيراً لها إلى اليوم، يدرك بأنه يوجع ميادة دوماً وكم كان قاسياً معها وبالذات الآن، لكنّ الأمر ليس بيده، لايستطيع أن يعاملها بالحسنى ولهذا مبرر لديه، ولا أن يمنحها حيّزاً في فؤاده فما الحب إلا للحبيب الأول...

منذ أن تزوجته وهي تعلم أنّ قلبه لن يكون ملكها، أخبرها بنفسه بهذا في الليلة الأولى لهما وأكد لها أنها لن تجاري مكانة الأخرى في قلبه مهما فعلت، لكنها كانت راضية، راهنت على صبرها وجمالها مع معاملتها الحسنة له ستجعله يأتيها طوعاً أو كرهاً.

في أول عامٍ لهما سوياً كان يعاملها معاملة حسنة، لكن حاله معها تبدل عندما لم تنجب بعد انتهاء العام الاول، لم يكن السبب واضحاً فكلاهما لا يشتكي من شيء، مرّالعام الثاني والثالث ولم تنجب ميادة، فشعرت بجفاء زوجها وابتعاده عنها أكثر من ذي قبل، هنا بدأت تشعر بالخوف، بالرعب والرهبة لمجرد تخيلها بأنه قد يتزوج بأخرى بحجة الأطفال، خاصة وأنّ محبوبة عثمان قد أنجبت الذكور والإناث، وقد بدأ الخطر يحاوط حياتها مع عثمان حتى حملت فجأة ودون سابق إنذار، حينها لم تسعها الأرض بما رحبت من سعادتها، لكن فرحتها تلك لم تكتمل...

جلست ميادة برفقة خيبتها ودموعها الحارقة على الأريكة الواسعة في الصالة المكشوفة بعد مغادرة عثمان إلى غرفته الخاصة، لتسحبها الذكريات قسراً الى تلك الأيام الخوالي، تحديداً إلى تلك الليلة التي شهدت فيها ميلاد مازن وروحٍ أخرى استردها خالقها بعد لحظات قليلة من خروجها للحياة، أصدرت نهدةً ثقيلة للغاية وهي تسند ظهرها للخلف، أغمضت عينيها عائدةً إلى ذكرى تلك الليلة...

قبل تواجد المشافي، كانت نساء حيّ الورد على الطريقة القديمة، يستعنّ بالقابلة أو المرأة المعروفة بالداية في توليد النساء، وفي تلك الليلة كانت زوجة عم عثمان الصغيرة تطلق صرخاتٍ متتالية وهي تستغيث بالداية لتخلصها من آلامها، وكعادة أهل الحي اجتمعت كل نسوة عائلة الشافي لدعم سُرية والدعاء لها، فهي ستلد الآن الوريث الشرعي لعم عثمان الوحيد، والذي تجاوز الخمسين ولم يكن له من الذرية سوى فتاة كانت مخطوبة لابن عمها عثمان، قبل أن يُطلقها والدها منه ليزوجها من آخر.

كانت ميادة حاضرةً مع والدة زوجها، ورغم كونها في الشهر الثامن لكن الخوف تمكن منها، حاولت المكابرة على الآلام التي ضربت كل جسدها لكنها في النهاية لم تصمد أكثر، سقطت بين أيديهن صارخة بألم لا يُحتمل فحملنها الى ذات الغرفة التي كانت تلد فيها سُرية، طردت الداية جميع النسوة خارجاً لتبقى برفقة ابنتها يتناوبنَ على مساعدة المرأتين.

كان الطقس عاصفاً جداً، ومع كل ومضة برق كانت إحداهما تطلق صرخة مستغيثة لتتبعها الأخرى، تعسرت ولادة كلتيهما لفترة حتى هوّن الله عليهما في الوقت ذاته، خرج ابنُ سُرية صارخاً بكل مافيه من عزم لكنّ أمه كانت قد ودعت الحياة، أما جنين ميادة فلم يقاوم كالصبيّ الآخر فغادر حياة والدته قبل أن يدخلها، شهدت ميادة وفاة طفلها فبكت بحرقة شديدة ليس عليه فقط، بل على فرحتها التي لم تكتمل، تطلعت إلى الداية وهي تلفّ ابن سُرية في خرقة نظيفة فأصابتها الغيرة، نقلت نظراتها تالياً إلى سُرية المتوفية فخطر لها بال خَطِر، لم تتردد في أن تعرض على الداية وابنتها مبلغاً طائلاً من المال ليشاركاها في كذبتها وقد وافقتا، فنسبتا الطفل المتوفي إلى سُرية وأخذت ميادة الطفل الثاني لتنطلي الخدعة على الجميع، إلا على عثمان...

بعد شهر واحد توفي مهاب عم عثمان وهكذا ضمنت ميادة عدم انكشاف الحقيقة، مرت أشهرٌ قليلة على ولادة الصبي الذي أسماه عثمان ب( مازن )، لكن عثمان لاحظ أنّ الطفل لايشبهه ولا حتى يشبه ميادة، بل كان يرى فيه وجه محبوبته التي حُرم منها قسراً، شكك عثمان في الأمر حتى واجه ميادة بشكوكه ذات ليلة.
Flash Back.

كانت ميادة تخرج ثياباً نظيفة لولدها البكر وعلى محياها سعادة غامرة، بينما كان عثمان يجلس على السرير يلاعب مازن حتى نطق دون مقدمات وهو ينظر صوبها: مازن يشبه عمي مهاب كثيراً.
أجفلت ميادة برعبٍ وهي تستدير لتواجهه وقد شحب وجهها وجفّ ريقها، طالعها بعيون ضيقة وهو يتابع ببرود مُفتعل: لا يشبهه هو فقط، بل يشبه ابنة عمي أيضاً...

ابتلعت ريقها الناشف بوجل وفي مقلتيها العسلية التمع دمعٌ غير مبرر، لكنها قاومتها واندفعت صوب الطفل الصغير ذي الثمانية أشهر مجيبة بوجوم مُقتضب: مجرد صدفة.
لم يقتنع بإجابتها فقال باستهجان محاولاً الإيقاع بها: صدفة؟ كل هذا الشبه الذي يجمعهما مجرد صدفة؟ أكاد أجزمُ أنني أرى وجه...
قاطعته قبل أن يتلفظ باسم غريمتها بنبرة مرتجفة رغم إدّعاءها العكس: من الطبيعي أن يشبه عمك وابنته، لأنّ دمك ودم عمك واحد.

لم يقتنع عثمان لكنه صمت على كل حال، مراقباً بعينٍ مُشككة ميادة تغير ملابس ابنها لكن يدها كانت ترتعش، توترها كان واضحاً كعين الشمس في وضح النهار فلم يحتجْ لأكثرمن هذا ليتيقن من إخفاء ميادة لأمرٍ ما، قبض على ذراعها بغتةً فرفعت رأسها إليه برعبٍ بان في قسماتها وهتف بنبرة هادئة لكن من خلفها كان الإعصار: هل مازن هو ابني حقاً ياميادة؟

ارتعشت شفتيها كما جسدها تحت يده فتابع عثمان مصوّباً نظراته القوية فوقها: من النادر جداً أن يعيش طفل وُلد في الشهر الثامن من الحمل، وإن عاش سيكون مريضاً أو هزيلاً في أفضل الأحوال، لكن مازن ليس كذلك، إنه قويٌّ للغاية كطفل أتمّ الشهور التسع في بطن أمه.
تعالى صدرها بهلع واكتظت مقلتيها بدموع مذعورة وصوت أنفاسها الخائفة بات مسموعاً لعثمان الذي تابع بتحقيق: أخبريني الحقيقة ياميادة، هل مازن ابني أنا؟

قَسَتْ نظراته عندما طال صمتها فهزها بقوة صارخاً بها: تحدثي.
جَرَتْ عبراتها فوق خديها وابتلعت غصة كادت تقتلها لتجيبه بهدوء مبحوح: لا، مازن ليس ابنك ياعثمان.

رغم شكه بها مسبقاً لكنّ جوابها كان كقنبلة انفجرت في وجهه، صُدم عثمان حرفياً فارتختْ يده عن ذراعها لتستغلّ ميادة الفرصة فتبتعد عنه، لكنها بقيت تواجهه ناظرة إلى مقلتيه التي انقلبت كجمرة من نار حين هوى كفه فوق صدغها، استدار وجهها للناحية الأخرى فقضمت شفتيها من الداخل بقهر ثم تطلعت إليه وقد شوشت الدموع رؤيتها، وحسناً فعلت فلو رأت ميادة قسمات وجع عثمان لحظتها لربما أصابتها أزمة قلبية، تلبسه ألف شيطان وكان على وشك قتلها بالفعل، فقبض على ذراعها يهزها بقوة وهو يصيح في وجهها بجنون: كيف استطعتِ فعلها ياميادة؟ تحدثي!

أجابت ببرود: فعلتها لمصلحتك، لمصلحتنا جميعا.
هدر عثمان بقسوة: لمصلحة الجميع أم لأجل أنانيتك فقط؟
بكل مافيها من كبرياء هتفت ميادة وهي تفلت ذراعها من كفه القاسية: بل لمصلحة العائلة، لقد مات عمك الآن، تخيّل فقط لو أنّنا أخبرناهم بأن مازن ابنه مالذي سيحدث؟

ضيق عينيه بعدم فهم وظلّ محافظاً على تعابيره الساخطة، بينما تابعت ميادة تبرير فعلتها فقالت بثقة لاتعلم مصدرها: حينها ستطالب ابنة عمك بشقيقها، ستأخذ الطفل وتأخذ معه كل أملاك والدها، هل تريد أن يرث آل الحكيم عمك وأملاكه؟
عرفت كيف تضغط على جرحه وتستفيد من كراهيته لعائلة الحكيم لتقلب الأمور لمصلحتها، لكن عثمان أجابها بزفير غاضب: ماكانت لتأخذه، لن تستطيع.

بمشاعرها المشبعة بالغيرة الأنثوية هتفت بعناد: بلى، ستطالب بمازن ياعثمان وتأخذه، ولو أنك رفضت لعادت الحرب من جديد بين العائلتين، وعلى فرض أنكَ رفضتَ وتمسكتَ بأن تربي الصبي عندك ووافقت هي، حينها سيكون لها عذر بأن تأتي إلى منزلنا كل يوم بحجة رؤيته، أهذا ماتريده؟

كل ماقالته كان حقيقة غير قابلة للطعن، تداعى غضب عثمان عندما أيقن بصدق ماقالته ميادة لكن حنقه من فعلتها ظل ظاهراً حين أردف بنزق: كل ماقلته ليس مبرراً لأن تكذبي عليّ ياميادة.
أطلّ الانكسار من عينيها لتجيب بنبرة ضعيفة و مقلتيها كسحب شتاء: كنتُ مجبرة، لو أخبرتك لما قبلتَ بأن نخفي الأمر عن الجميع، لقد مات ابني ياعثمان قبل أن أراه، ورأيتُ في مازن عوضاً لن يتكرر.

بللت شفتيها لتصارحه بغيرة: ولو عرفتَ أنّ ابنك مات لتزوجتَ بأخرى وتركتني ياعثمان، صحيح؟ كنتَ ستتخذها حُجةً لتركي، فأنا بالنسبة لك لا أنفع بشيء وأنت لم تستطع أن تحبني أبداً.

زفراته الملتهبة كانت تحرق صدره، فلم يعرف عثمان في هذه اللحظة إن كان هو الظالم أم ميادة، يبدو أن كلاهما ظلم وانظلم، جزّ على فكه بغيظ عظيم واستقام واقفاً ليبتعد عنها بضع خطوات فتبعته ميادة لتقبض على ذراعه هاتفةً بلوعة: كنتَ ستفعلها يا عثمان صحيح؟ أجبني، أنت لم تستطع أن تحبني حتى؟

نفض يدها عنه مستديراً ليقابل وجهها الباكي، نار حارقة اشتعلت داخله ليشعر بأنه مشتت، ضائع إلا أنه أجابها بقسوة: لم أكذب عليكِ يوماً ياميادة، فقد أخبرتكِ بالحقيقة منذ أول ليلة جمعتنا.
هتفت بنبرة محطمة: نعم أخبرتني، وأنا لم أعترض ولم أعاتب، لذا لا تأتي الآن وتعاتبني لأني أخفيتُ عنك الحقيقة.
فتح عيناه عن آخرهما معترضاً: هذه ليست كتلك!
بلى كلاهما متشابهان ياعثمان.

قالت بعناد لتضيف بعدها بانكسار مُهشّم: أنتَ كسرتَ فرحتي بك يومها ولم أعاتبكْ، فلا تكسر فرحتي بمازن أيضاً، أتوسل إليك.

أمام توسّلها هذا وشعوره بأنه ظلمها لم يجد عثمان رداً سوى الصمت، لم يستطع أكثر من هذا وقد وقع بين نارين، إما أن يكشف الحقيقة فيحدث كما قالت ميادة، وإما أن يجاريها في لعبتها فيبدو خائناً لحبيبته لأنه حرمها من شقيقها وماتبقى لها من عائلتها، منحها نظرة غاضبة ليردف بهسيس مُهدّد: حسنٌ ياميادة، لن أُفشي سرنا لأحد، لكن لا تأتي وتعاتبينني على تصرفاتي في المستقبل.

خرج دون أن يمهلها فرصة السؤال عن مقصده، إلا أنها في الأيام التالية فهمت تماماً، زاد بُعد عثمان وجفاؤه معها، وتعلق بمازن أكثر بمرور الأيام وكانت هي له كالغريبة، كان حريّاً بها أن تعترض، أن ترفض الوضع الذي فُرض عليها لكنها ارتضت بكل مايصدر عنه حتى وإن كان بُعداً، المهم أنها ماتزال زوجته وعلى اسمه، وأنها أم ابنه، لم تدرك ميادة حجم الضريبة التي ستدفعها نتيجة لغبائها هذا حتى وقتٍ متأخر، استفاقت الآن لتعلم أنها فضلت حبها له على كرامتها وكبريائها، استنزفت شبابها ومشاعرها في سبيل حلمٍ تدرك استحالته، رغم أنّ عائلتها ليست أقلّ شأناً وثراءً من عائلة الشافي، لكنها رضيتْ بكل هذا لأجل فؤادها المجذوب المُعلق به، وهو المُجافي الفظّ.

ياللغرابة!
حتى هذه اللحظة لم يستطع طارق استيعاب الأمر، إنه فقط لايستطيع تصديق أنّ مياس مخادعة، استعاد جميع اللحظات التي جمعته بها منذ أن تعرف عليها فلم يجدْ أيّ شيءٍ قد يجعله يصدق خيانتها، لكن ماجعله عاجزاً أنّ كل شيءٍ كان واضحاً وبصوتها وطريقة حديثها، على قدر الصدمة على قدر مايبدو الأمر وكأنه حقيقة.

كان جالساً على الطاولة ذاتها التي كان أويس يجلس عليها قبلاً، يطالع الحاسوب أمامه بتفكر، في حين كان صلاح يجلس على مكتبه القريب يترقب خروجه هو الآخر بعد مغادرة إيهاب، ليصلح الثغرات التي قد تكشف زيف التسجيل لكنّ طارق لم يتحرك، ولم يعطِ صلاح أي فرصةٍ لمتابعة خطته القذرة.

تململ طارق في مكانه ونفخ بامتعاض فهتف صلاح بنبرة لا مبالية في حيلةٍ للتخلص من طارق: أرى أنك متعبٌ طارق، إن أردتَ يمكنك المغادرة وانا سأبقى في انتظار أوامر أويس.
طالعه طارق بنظرة غير راضية لكنه لم يجب، بل استقام من مكانه ليستدير إلى النافذة المفتوحة خلفه، أسند مرفقيه عليها وجال بنظره على المناظر المحيطة، كيف سيتمكن من المغادرة دون معرفة مافعله أويس؟

أخرج هاتفه من جيب سرواله الخلفي ليطلب رقم أويس، لكن وقبل أن يضغط على زر الاتصال سمع صوت رائد، حيث قدم الأخير إلى المكتب المشترك لمقابلة مياس بعد أن هاتفها عدة مرات دون أن تجيب، وقف عند الباب هاتفاً: صباح الخير، أين مياس؟
استدار طارق صوبه وقد عقد حاجبيه باستغراب فسأل: رائد؟مالذي تريده من مياس؟
أجاب الآخر بحُسنِ نية: يجب أن أحادثها في شأنٍ خاص، أين هي؟ طلبتها على الهاتف أكثر من مرة فلمْ تُجبْ؟

تبادل طارق مع صلاح نظرات مستريبة جعلت رائد يشعر بوجود أمر مريب فتساءل بشك: ما بكما؟ هل هنالك خطبٌ ما؟ وأين مياس والبقية؟
تقدم طارق ناحيته حتى أضحى أمامه، دون أن يتخلى عن نظراته المُرتابة ثم قال بنبرة ذات مغزى، محاولاً الإيقاع برائد: ماهو هذا الأمر الخاص بينك وبين مياس؟
تغضن جبين رائد بعدم فهم متسائلاً باستهجان: أخبرتك أنه أمر خاص بيننا ولا شأن لكَ به فأين هي؟

ضرب صلاح على جبينه بخفة لحماقة طارق والتي ستوقعهما في مأزقٍ كبير، بينما تفحص الأخير حركات رائد فأيقن أنه لايعلم شيئاً عن حقيقة مياس والتي اكتشفوها مؤخراً، فقال بتوضيح بغية إشراكه فيما عرفوه: اكتشفنا للتوّ أنّ مياس هي جاسوس للخفاش يا رائد.
كادت عينا رائد تخرجان من مكانهما حين تلفظ طارق بتلك الجملة المقتضبة، فصاح باعتراض: أجننتَ ياهذا؟ أأنتَ مدركٌ لما تقول؟

رفع طارق كتفيه بلا مبالاة قائلا: هذه الحقيقة يا رائد، لقد سمعتها بنفسي وهي تحادث الخفاش وتخبره بتحركاتنا.
كانت نظرات رائد إليه كأنه يطالع مجنوناً، أو مجذوباً ما أيهما أقرب؟
لم يشكك بمياس في حياته ولو رآها بعينيه لكذبهما، لكن ماقاله طارق يبعث على الريبة فتساءل: كيف سمعتها وأين؟

تأهب صلاح في جلسته وهو يسمع سؤال رائد، ولكم تمنى أن يتحلّى رفيقه بالذكاء لمرة واحدة فيلتزم أوامر أويس، إلا أن الأخير خيّب ظنه حين أجاب: لقد التقط صلاح تسجيلاً لها وهي تتحدث مع الخفاش، ليلة ذهابنا إلى المتحف.
رمقه بنظرة قوية لثوان حتى هتف رائد بحزم واثقاً بها: كذّب أذنيكَ إذاً ياطارق، فمياس لن تفعل أمراً مماثلاً، أريد سماع هذا التسجيل حالاً.

اشتدّ جذع صلاح واستقام بهدوء وقد شحب جلده دفعةً واحدة مع سماعه لنبرة رائد الواثقة، أيقن أنه لن يتمكن من إقناع رائد بخيانة مياس كما أقنع البقية لغياب عنصر الصدمة، إذاً قد يكتشف الأخير تزوير التسجيل بكل سهولة، فكر في طريقة لتعطيله لكن طارق لم يمهله الوقت عندما أشار لرائد إلى الحاسوب، والذي اقترب بدوره ناحية الطاولة حتى جلس عليها وقرّب الحاسوب صوبه، شغّل رائد التسجيل وبدأ يستمع إليه بانتباه شديد، لكنه أوقفه عندما وصل إلى جملة ( وأنا اشتقتُ إليك)، اقترب طارق حتى وقف خلفه حين أعاد رائد الاستماع لتلك الجملة أكثر من مرة فهتف طارق بتعجب: مالذي تفعله؟

أجاب الآخر وهو يعبث بالأزرار: هناك أمر خاطئ، مياس لا تقول اشتقتُ لك لأيّ كان أبداً مهما علا شأنه عندها.
زوى طارق حاجبيه متسائلاً باستنكار: وكيف تيقنتَ من هذا؟
رمقه رائد بنظرة عدائية قبل أن يجيب بجفاء: أنا أعرفها قبلك بعام كامل يا ذكي، وأعرف طريقة حديثها أكثر من أي أحد.

تراجع طارق برأسه للخلف أثناء نطق رائد بجملته تلك وقد استراب في ثقته المفرطة بما قال، في حين تابع رائد مايفعله على الحاسوب فتساءل طارق: والآن ماذا تفعل؟
أُحلّل الصوت.
هكذا قال رائد بلا مبالاة مُركزاً أنظاره على مايفعل، وتابعه طارق باهتمام فلم يلاحظ كليهما نظرات صلاح وقد أيقن أنّ لعبته انتهت، لم ينتبها إليه حين سحب هاتفه من على الطاولة ببطء، وخرج من الغرفة بصمتٍ تام محاولاً الهرب قبل انكشاف أمره.

لم يكن طارق يفهم شيئاً مما يفعله رائد لكنه تابعه وهو يخرج هاتفه، ثم يفتحه على سجل المكالمات ليخرج مكالمة سابقة مُسجلة بينه وبين مياس، ثم يوصله إلى الحاسوب بوصلةٍ مخصصة فنطق طارق بعدم فهم: والآن مالذي تفعله رائد؟
تحلّى رائد بالصبر وهو يجيب طارق: سأقوم بمقارنة التسجيل بصوت مياس الحقيقي.

بدى رائد مُصرّاً على مايفعل وواثقاً ببراءة صديقته كما يثق بأنّ ثلث الثلاثة واحد، لم يحدْ بعينيه عن شاشة الحاسوب وهو يتنقل بين البرامج بسرعة وخفة، ومن خلال إحصاء الدرجات المختلفة لموجات الصوت تمكن من فصل الصوت المنسوب إلى مياس عن الكلمات ليتضح قائل تلك الجمل الحقيقي، أحنى طارق رأسه حتى قابل الشاشة وقد توسعت عيناه عن آخرهما حين سمع الصوت فصاح بدهشة: هذا، هذا صوت صلاح!

استغرقهما الأمر ثوانٍ حتى أدركا اللعبة بأكملها، وتلقائياً رفعا رأسيهما إلى مكان صلاح ليكتشفا أختفاءه، وللحق لم يكترث طارق به كثيراً فما شغل باله كان مصير مياس وهي بين يديّ أويس الآن فتمتم بصدمة واضعاً يده على رأسه: يا للمصيبة.
استقام رائد من مكانه ليخاطب طارق بجلافة: لقد أدركتَ الآن أنّ مياس بريئة من تهمة الخيانة، فاقبضوا على الجاسوس الحقيقي.
تطلع طارق نحوه ليهتف بلوعة: أنتَ لا تعلم شيئاً!

لم يفهم رائد ما قصده ذلك المخبول حتى نطق طارق بنبرة المفجوع: مياس الآن مع أويس.
ضيّق عينيه وهو يرمق طارق باستهجان حتى صاح الأخير وهو يخرج هاتفه ليطلب أويس بحركات عصبية: سيقتلها المجنون لا محالة...

كأنها إشارة!
رغم كون جدران الغرفة مصفحة وعازلة للصوت، إلا أنّ صوت هاتفه وصل إليه، في البداية لم تكن لديه نية الرد والإجابة، لكنّ الرنين عاد وبقوة أكبر مما جعل أويس ينفخ بقوة متلفظاً بسبّة بذيئة تخجل سامعها، أفلت شعر مياس وتراجع إلى الخلف خطوتين ليهمس بتلذذ مريض: سأعود فورا، لن أتأخر عليك.

ربما سمعته أو لم تسمع، المهم أنه خرج إلى الصالة ليلتقط هاتفه الموضوع أعلى الطاولة ليقرأ اسم طارق على الشاشة، رفض أويس المكالمة بدايةً واصطدم نظره بهاتفها هي حيث بقي مكانه على الطاولة، ولايدري لماذا عاد إليه ( عقل الرحمن) كما يقال، ويتنبه لتوّه إلى ضرورة تفحص محتوياته لربما وجد دليلاً يدينها، أليس هذا الهاتف الذي قال صلاح بأنه التقط التسجيل عن طريقه؟

التقط الجهاز وحاول فتحه لكنه كان مقفلاً برمز، ولاحظ كذلك عدة اتصالات فائتة من رائد، لماذا لم يسمعها؟
حقاً لايدري، في هذه اللحظة عاد هاتفه الى الرنين للمرة الثالثة فقطب أويس جبينه باستهجان وقرر الرد على رفيقه الأبله، أجاب الاتصال بنبرة مقتضبة بانزعاج: مالذي تريده طارق؟
أتاه صراخ طارق على الناحية التانية بلهفة: أويس، مياس بريئة ياأويس، هي ليست الجاسوس.

زوى مابين حاجبيه محاولاً فهم شيءٍ من صراخ طارق الذي عقب بتتابع: الأمر كله خدعة من صلاح، هو الجاسوس وليس مياس، لقد أوقعها وأوقعنا كلنا في فخه.
توسعت عيناه وهو يستمع لجملة طارق الأخيرة وقد عادت مشاهد من ضربه لها تتمثل أمام ناظريه، استراب طارق حين طال صمته دون رد فصاح: أويس هل سمعتني؟
لم يجب أيضاً فأجفلت تعابير طارق حين أدرك، تقريباً، سبب صمت أويس فهتف بهمس مرتعب: مياس معك؟ صحيح؟

ردة الفعل الأولى التي تمكنت من النجاة من الصدمة كانت لأجفانه التي رفرفت بمفاجأة وهو يستمع لصراخ طارق: أين مياس يا أويس؟ أجبني؟
كان رائد قد أخذ دورالمشاهد لثوان معدودة حتى اشتدّت تعابيره عندما بدأ طارق بالصراخ فأخذ الهاتف منه عنوةً ليصيح بدوره: أويس أنا رائد، أين مياس؟

كرجلٍ آليّ أدار وجهه ببطء صوب الغرفة، لتصطدم نظراته بجسدها المتدلي والغائب عن الوعي، تناهى إلى سمعه جملة رائد الأخيرة حين صرخ بتهديد: أخبرني أين مياس؟ إياك وأن تلحق بها الأذى، سمعتني أويس؟
سمعه لكنه لم يدرك ماقاله فعلياً، بل تعالى صدره وهبط بسرعة حتى استطاع تمالك نفسه لينطق بكلمة واحدة: لقد، لقد قتلتها...

تحت الماء المنهمر بغزارة وقفت سعاد تبكي بصمت، مُدركةٌ لما هي مُقبلةٌ عليه تماما من ألم لكنها راضية، المهم أن يكون لابنتها سند يحميها، ستكابر على وجع قلبها وكبرياءها وغيرتها المتملكة تجاه كمال، كل هذا ستتحمله فقط لئلا تكون أروى وحيدة في المستقبل، ولكي يكون لكمال ابنٌ ذكر، ربما تفكيرها بالٍ لكنها الحقيقة، مهما كابر كمال وأظهر لها عدم اهتمامه بالأولاد لكنه سيشتاق يوماً لولدٍ يكون من صُلبه.

لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها بعد لكنها يأستْ من نفسها وفي فرصتها للإنجاب، فمنذ ولادة ورد قبل ثمانية عشر عاماً لم تحمل أبداً، والآن بعد كل مامرت به من حزن وألم بات الأمل ضعيفاً جداً لها، لم تذهب إلى الطبيبة ولم تجرب أن تسأل، ببساطة لأنها أجبنُ من أن تسمع كلمة: لا أمل لك.

دوار مباغت عصف برأسها جعلها تسند جسدها على الحائط خلفها وتغمض عينيها بوجع، هذا الصداع المؤلم الذي لم يفارقها منذ قرابة الشهرين، ربما ستزور طبيباً ما قريباً بعد أن تزوج كمال بالطبع.

أنهت سعاد حمامها لتقرر الخروج إلى رائدة وعليا لتطلب منهما مرافقتها لتخطب لكمال، لقد حددت العروس التي ستطلبها لزوجها وتحتاج فقط إلى رفقة لتزور عائلتها وتطلبها، جففت شعرها وارتدت ثياباً سميكة باللون الأسود القاتم تماماً كالسواد الذي يلفّ قلبها، ففؤادها مازال في حدادٍ على وحيدها...

الجنون والتعقل، بينهما خيطٌ رفيعٌ للغاية وقطعه أسهل مايكون.
فتحت عليا عينيها عن آخرهما ذهولاً مما سمعتْ لتوها من زوجة أخيها الجالسة أمامها، وجهت أنظارها صوب رائدة التي كانت تحرك حبات سبحتها الذهبية بتؤدة، ولم يبدُ عليها التفاجؤ كما هو الحال مع عليا، والتي تطلعت تالياً إلى سعاد وسألتها بصدمة: مالذي قلته للتوّ ياسعاد؟

رمقتها الأخيرة بلا مبالاة مختلقة وهي تجيبها ببرود: كما سمعتِ ياعليا، أريدك أن تذهبي معي لنخطب لكمال.
هل جننتِ أم أنكِ فقدتِ عقلك؟
صاحت عليا باستهجان فيما هي تنتفض واقفةً قبالة سعاد التي لم تتحرك قيد أنملة، بينما تابعت الأخرى بتوبيخ: تريدين أن تزوجي زوجكِ ياسعاد؟ ألا تدركين خطورة ما أنتِ مُقدمةٌ عليه؟

تنهدت الأخيرة بتعب لتغمض عينيها للحظات محاولة كبح عبراتها، ثم تفتحهما لتطالع عليا بانكسار مجيبةً بهمس: أخبرتك بالسبب فلا تزيدي مرارة الأمر عليّ يا عليا أرجوك.
لم تقتنع الأخرى فتابعت بصراخ: وهل اشتكى لكِ كمال لتتهوّري هكذا؟

إلى هنا ولم تعد قادرةً على منع دموعها فأطلقتها لتجيب عليا بانفعالٍ باكٍ: وهل يجب أن يشتكي لأدرك أني ماعدتُ أنفعه يا عليا؟ هل أنتظر حتى يخبرني بحنينه لأن يكون له ولد ذكر يحمل اسمه لأتحرك؟
صاحت عليا بغضبٍ ساخر من تفكير سعاد اللا منطقي: ليس بأن تزوجيه! لماذا لاتحاولين أنتِ أن تنجبي له الولد؟، أليس الأمر هكذا أسهل؟
ازدردت سعاد ريقها بحزن قائلة بغصة تخنقها: الأمر مستحيل.

لماذا؟ أنتِ لم تتجاوزي بعد سن الإنجاب.
هتفت عليا بعناد لتصرخ الأخرى بلوعة: بلى، بلى لقد تجاوزته ياعليا، تجاوزته لأن عادتي انقطعت منذ شهرين كاملين، أتدركين معنى هذا؟
حاوطتَ عليا رأسها بكفيها هاتفةً بعدم تصديق: يا آلهي أنتِ مجنونة سعاد، كل ماقلته مجرد تخمينات، لماذا لا تزورين الطبيبة لتخبرك الحقيقة؟
انهمرت دموع سعاد بغزارة لتقول بصوت مبحوح: لا استطيع، لن أحتمل أن تؤكد لي الطبيبة حقيقة ما أشعر به.

رقّت عليا لمنظرها الموجع، بينما كانت رائدة تتابع كل مايحدث بعين المراقب دون أن تتدخل، ابتلعت سعاد جمرة مؤذية في حلقها لتضيف بعد لحظة: أنتِ أكثر من يعلم كم حاولنا الإنجاب بعدما ولدتُ ورد لكني لم أحمل، فهل سأحمل الآن وقد تجاوزتُ أعتاب الخامسة والثلاثين؟ وعادتي قد انقطعت منذ مدة؟

عادت عليا إلى مجلسها حين بدأت سعاد بالحديث محاولةً تهدئة نفسها وإقناع الحمقاء بعدم التهور، فأردفت بهدوء: كل ماقلته ليس مبرراً لأن تزوجي كمال بالمناسبة.
ابتسمت الأخيرة بمرار هاتفة: وابنتي ياعليا؟ أليست مبرراً؟

شملتها عليا بنظرة مشفقة لتفكيرها الأخرق فيما تابعت الأخرى وهي تقول: أنتِ لا تخافين على مياس فهي قوية وبألف رجل، لكن أروى؟ أروى رقيقة جدا ياعليا وتحتاج إلى أخٍ يسندها ويقويها، لا يجب أن تواجه مشاكل الحياة وحدها، لا أريد أن تكون مقطوعةً مثلي.
قاطعتها عليا هاتفةً باستنكار: تتحدثين وكأنّ الجميع سيتخلى عن أروى ويظلمها؟

دفنت سعاد وجهها بين كفيها بعد أن تعبت من النقاش غير المُجدي مع عليا، فحولت الأخيرة نظراتها نحو والدتها لتسألها بهدوء مُستغرب: مارأيكِ أنتِ أمي؟ لم تشاركي بالحديث كالعادة؟
لم تتأخر رائدة في الردّ على ابنتها حين قالت بصوت جاد: سعاد محقة في كل ماقالت ياعليا.
صدمتها كلمات أمها حرفياً فأردفت بتعجب: كيف؟ هل توافقينها على حديثها يا أمي؟

تطلعت رائدة إليها بلا مبالاة مضيفة: لا تتعجي يا عليا، تفكير سعاد منطقي للغاية، إنها تفكر في مستقبل ابنتها وزوجها.
تعترف سعاد أنها لم تتوقع هذا الحديث من رائدة، رغم هذا حاولت عدم إظهار استغرابها منها فيما تابعت رائدة بتبرير: كمال ليس عجوزاً، ومن حقه أن يكون له وريثٌ ذكر، لا تنسي عادات الحي عندنا، وإن كان هذا ماتريده فليس في الأمر ضير.

صاحت عليا باستياء مُعترض: حقاً ماتقولين يا أمي؟ لو كنتُ أنا مكان سعاد هل ستظلين على رأيك؟
طالعتها رائدة نظرة غاضبة حين هتفت بإدانة معارضة: لكلٍّ ظروفه ونصيبه ياعليا فلا تقارني نفسكَ بسعاد.

ربما لم تقل رائدة ماقالت إلا بنية حسنة، لكن سعاد شعرت بالدونيّة والتقليل من شأنها حينما تلفظت بكلماتها الأخيرة، ازدردت ريقها المرير بصعوبة لتسمع جملة عليا المُحتجة: إن كان هذا رأيكِ أمي فلتذهبي معها لوحدك، أنا لن أشارك في هذه المسرحية السخيفة.

استقامت عقبها متجهةً نحو المطبخ لتجد ابنة أخيها واقفةً عند الباب ويبدو أنها كانت تسترق السمع عليهن، رأت عليا الدموع التي سالت على وجنتي أروى فرقّ قلبها لها لتحتضنها بقوة، مصوبة نظراتٍ لائمة حيث جلست رائدة وسعاد، تحدثت الأخيرة بوقار وماتزال تحرك سبحاتها بتأنٍّ: بدّلي ثيابك ياسعاد وحادثي كمال، اطلبي إليه أن يرسل لنا السيارة مع سائقها.

أشارت سعاد بطاعةٍ لتستقيم بهدوء، استدارت لتمشي خطوتين قبل أن يعصف بها الصداع المفاجئ مجدداً، وقفت بغتةً وهي تمسّد جبينها بإصبعها لتسقط بشكل مفاجئ على الأرض، تبعتها استغاثة رائدة وعلى إثرها هرعت عليا برفقة أروى لإسعاف سعاد ذات الوجه الشاحب...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة