قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس والأربعون

(((أحببتُ فيها طهراً و نقاء لم يكن فيّ، فاستحقتْ حبي الذي لن يحتمله ألف قلب، يتصّدع خافقي كلما ذكرتُ اسمها فتفلت منه نبضة خائفة لا تستكين سوى بين يديها، تتعلق بها كطفل مشاغب، تتمادى تريد البقاء في أحضانها إلى الأبد))).

سنة كاملة من الإختفاء بين العاملين عنده كانت كافية لتتعلم مياس الكثير من أساليبهم، تعاملتْ مع عدد غير محدود من المختلّين و المهووسين و هذا أعطاها الأفضلية في التعرف عليهم حاالما تتعامل معهم، و لم يكن خطاب بأقلّ منهم هوساً و اختلالاً.

منذ اللحظة الأولى لاستلامها مهامها أدركت مياس خطورة أن تكون جاسوسةً سرية، و منذ أن حادثها لأول مرة أدركت جانباً مهماً من شخصيته المغرورة، ثم إصراره على محاربتها هي بالذات، تفاخره بنفسه في كل مرة يغلبها و امتداحه لها كلما سبقته و مؤخراً مطلبه الأخير، هذا كله جعلها تتيقن أنه مهووس فيها لدرجة الجنون.

تدرك مياس أنه لن يتوانى عن استخدام كل الطرق المتاحة أمامه في سبيل الحصول عليها و برضاها فقط ليثبت لها أنه الأفضل و الأذكى، إذ كان من الأسهل عليه أن يختطفها مثلاً، لكن و لأنه الخفاش فلن يفعلها، سيعمل على إرغامها على المجيئ إليه بكامل إرادتها فقط ليرضي كبرياءه المريض...

تصريحها الأخير جعلهم يقفون عاجزين بعدم فهم، وحده أويس من نطق بتلقائية: ماذا تقصدين مياس؟
دون أن ترفع نظرها نحوه علقت: كما سمعت تماماً، الخفاش مهووس، و المهووس عادة مجنون، و لن يتوانى عن أيِّ فعلٍ ليصل إليّ، حتى لو استلزمه الأمر قتل الأبرياء.

هدأت ثورته نسبياً أثناء استماعه لعبارتها الأخيرة، شعر بالمسؤولية الكاملة عمّا قد يحصل للمدينة من ضرر كونه كان المسؤول الأول عن قضيته قبل سنوات، تمالك جماع نفسه ليسأل بهدوء نسبي: ما الذي ستفعلينه إذاً؟
أخذت نفساً عميقاً لتجيب بثبات تُحسدُ عليه: لا حلّ آخر أمامنا سوى القبول بما يطلب، من بعد إذن اللواء طبعاً.

قالت عبارتها الأخيرة و هي تعتدل واقفةً لتتطلع ناحية جلال، فيما سمعت أويس يهتف و قد عاوده الجنون: مستحيل، لن أسمح لكِ بأن تضحي بنفسكِ أبداً، سنبحث عن حل آخر...
حاولت التعقل لتواجه ثورته فعقبت بهدوء: لا نملك الوقت للبحث يا أويس، كل ثانية نهدرها قد تكلفنا حياة...
صاح في وجهها دون احتراز: لا آبه مياس، فليحترق الخفاش مكانه لكني لن أسمح لك بتنفيذ الجنون الذي تتفوهين به...

واجهته بصرامة: إنها قضيتي أنا و قراري أنا...
لم يسكت إذ أردف بحسم: لا تنسي أننا فريق...
قاطعته بقسوة و قد تجهمت ملامحها بجدية: و لا تنسى أنني قائدك يا حضرة النقيب، إذاً أوامري هي النافذة هنا، و لن أقبل بأي اعتراض.

اتسعت عيناه عن آخرهما و قد تجمدتا فوق وجهها الذي لم يتزحزح عن جديته قدر أنملة ليفهم أويس إصرارها، فيما صدره يغلي لتخرج أنفاسه ساخنة كأنها بركان خامل سينفجر في أية لحظة، لم تعبأ مياس بكل هذا إذ استدارت ناحية جلال لتخبره قرارها النهائي: سأقبل بطلب الخفاش، لو سمحتَ لي سيدي؟

لم يكن جلال راضياً تمام الرضا عمّا قالته فهو لا يريد خسارتها بالطبع، لكنه يعرف مياس جيداً، و مؤكد هنالك ما تفكر فيه لذا وقف قبالتها ليضغط على كتفيها قائلاً بحنوّ: كما قلتِ مياس، إنها قضيتكِ أنتِ، و لا أحد يعرف الخفاش كما تعرفينه، فافعلي ما بدى لك و أنا معك.

بتعابير جامدة أماءت مياس لتلتفت خارجةً من المكتب دون النظر للخلف، ربما لأنها تعرف لن يعجبها ما ستراه في ملامح وجهه، كزّ أويس على فكّه بقسوة و ما يزال يطالع مكانه الذي فرغ قبل لحظة واحدة، كوّر كفه يضغط عليه حتى بانت عروقه واضحةً من تحت قميصه الأسود ذي الأكمام القصيرة، اقترب إيهاب ليضع يده على كتف رفيقه من الخلف قائلا: أويس لا تغض...

التفت الأخر لينفض يد رفيقه بغلظة و يقاطع جملته المواسية، بعد قرارها الأخرق مات الكلام، مع مياس لا ينفع سوى الفعل، بخطوات تهتزّ لها الأرض خرج من مكتب اللواء جلال يريد الاختلاء بنفسه قبل أن يجنّ فيفتك بنفسه، أو ربما بها...

احتاجت إلى طاقةٍ جبّارة لتتماسك حتى دلفت إلى مكتبها الخاص، بقيت هادئة للحظات حتى فشلت في إخفاء انفعالاتها أكثر من هذا، بصراخ مقهور بعثرت مياس محتويات مكتبها لتتناثر فوق الأرض، كوّرت أصابعها لتضعها في فمها و تصرخ بصوت مكتوم مرات عدة، تشهق بقوة ثم تعاود الصراخ بصمت، انهالت دموعٌ لم تستطع تصنيفها و هي تركل أي شيء في طريقها بجنون، بدت كالمخبولة فقط تريد التنفيس عن غضبها الذي يتكاتل حتى يقطع أنفاسها، إلى أن أُنهكت لتلقي بجسدها فوق المقعد، استندت برسغيها إلى الطاولة و أخفت رأسها بين كفيها لتبكي بحرقة مجنونة، هذه المرة تجاوز خطاب كل التوقعات و كل الخطوط المحظورة، هذه المرة توقف عقلها عن التفكير و لا تعرف كيف ستتصرف حقاً، أن تسلمه نفسها معناه أن تتخلى عن كل شيء، عملها، عائلتها، والدتها و، و أبيها المريض!

انهارت قوة احتمالها ما إن طرقت صورة عمار عقلها، طوت ذراعيها لتدفن وجهها بينهما تئن بنشيج مسموع، عادت ذكرى ذلك اليوم لتتردد في ذهنها، ما زالت تذكر ضحكته المتعبة و هي تلاعبه، تغلبه مرة فيدهشها الثانية، إحساس السعادة الذي انتابها حينها كان أعظم من أية سعادة شعرت بها على مدار ثلاثة و عشرين عاماً من عمرها، و حين ظنّت أنّ الأمور في طريقها إلى الحل تعقدت أكثر...

لا تعرف كم طالت مدة مكوثها على هذه الحال، ظلّت عالقةً بين أمواج التفكير العقيم، تلفظها موجة لتتلقفها الأخرى ثم تلطمها بقسوة على صخور الواقع المرّ، لماذا لا تستطيع فقط الهرب من كل هذا؟

لأنها ببساطة لن تستطيغ، الهروب لم و لن يكون حلاً، تمالكت نفسها و تماسكت لتمسح دموعها ثم انتظرت لبعض الوقت، لم تدرك كم الساعة الآن لأنها نسيت هاتفها في السيارة بسبب عجلتها، لم تعبأ بالأمر كثيراً لتعاود التفكير فيما ستفعل مع الأخرق الذي يريدها أن تصبح زوجته، و كأنّ الأمر بهذه البساطة!

انعقدت ملامحها و بتعقل مفرط حاولت تذكر كافة المعلومات التي تعرفها عن الخفاش، لا بدّ من وجود تفصيلٍ ما قد يفيدها، في لحظة انتفضت من مكانها لتجلب ورقةً و قلماً من بين أغراض المكتب المتناثرة، عادت مياس جالسة لتكتب فوق الورقة أهم النقاط و أصغرها حول الخفاش، غروره، وسواسه القهريّ بالنظافة، هوسه بها، و بضع تفاصيل أخرى غير مهمة لكن أكثر ما استوقفها كانت نقطة الهوس، وضعت القلم في فمها في حركةٍ لازمة منها للتمعّن، لا تدري لماذا أخذها تفكيرها إلى هذه النقطة بالذات، ربما لأنها أكثر صفاته وضوحاً، فد تستفيد منها في التخلص من الخفاش، المشكلة أنها لا تعرف الكثير من التفاصيل بشأن هذا المرض، إذاً يجب أن تستشير أحدهم، ضيقت عينيها بتفكير حتى تذكرته، هو من قد يساعدها و لا أحد سواه..

استقامت لتخرج من مكتبها بخطىً عجول، لم تنتبه أثناء خروجها إلى طارق و إيهاب الجالسين في مكتبهم المشترك و قد رأوها خارجة، تنهد طارق بقلة حيلة أثناء همسه: يا للبلاء حين يأتي على هيئة مختلّ اسمه خفاش!
همس إيهاب سائلاً بقلق: ما رأيك يا طارق؟ ما الذي سيحدث الآن؟
أجابه طارق بتهكم الخائف: إنفجار، أتوقع حدوث انفجار كبير سيحرق الجميع معه!

لم تستغرق الكثير من الوقت حتى وصلت إلى وجهتها، أوقفت السيارة لتتطلع إلى واجهة العيادة التي وقفت أمامها لتقرأ الاسم المدوّن على اليافطة المعلقة بخطّ منمق، الطبيب مازن الشافي، لم تعرف طبيباً سواه رغم أنها لم تقابله شخصياً بعد، إلا أنها وجدت نفسها تقود سيارتها لتحضر إلى هنا و تضع ثقتها فيه.

تطلعت مياس إلى ساعة هاتفها لتجدها قد قاربت الرابعة، ربما ستجد بعض المرضى أمامها لكن مسألتها هي لن تأخذ أكثر من لحظات، ترجلت عن سيارتها لتصعد الدرجات القليلة في مدخل العيادة، دلفت لتجد أمامها مكتب صغير تجلس خلفه صبية صغيرة ذات ابتسامة بشوش، و لحسن الحظ لم يكن هنالك أي مرضى قبلها، حادثتها الصبية بودّ زائد: أهلا و سهلاً بكِ سيدتي، كيف أستطيع مساعدتك؟

تكلفت مياس بسمة صغيرة تخفي خلفها وهن ملامحها لتقول بلطف: مرحبا، أستطيع رؤية الطبيب مازن؟
بحركة روتينية فتحت الفتاة مفكرة صغيرة أمامها مجيبة بعملية مكتسبة: تفضلي بالتأكيد، هل لديكِ موعد سابق معه؟
هزت رأسها بالنفي لتردف: الحقيقة لا، لكن الأمر هام و عاجل لا يحتمل التأجيل، هلّا أبلغته فوراً لو سمحتِ؟
حاولت المساعدة الاعتذار بلباقة: اعتذر سيدتي لكن لدى الطبيب مريض آخر، بإمكانك انتظاره ريثما...

قاطعتها بصلافة: لا أستطيع الانتظار أخبرتك أن الأمر هام جداً، بلغي الطبيب يا آنسة؟
نبرتها الجادة الممزوجة مع بعض العنجهية جعلت الأخرى توافق مجبرة، إذ أنّ لهجة مياس و هيئتها تدلّ على مقام عالي، استقامت الفتاة من مكانها بهدوء ثم علقت: حاضر، ما الاسم؟
النقيب مياس يونس.

بجفاء غير مقصود أجابت لتتحرك الأخرى من فورها ناحية مكتب مازن الخاص القابع في آخر الردهة، لسبب ما شكت بوجود خطب خاصة و أن هيئة تلك الفتاة لا تبشر بالخير، طرقت الباب لتفتح و تطلّ برأسها إلى الداخل متحدثة بارتباك طفيف: أعتذر عن المقاطعة حضرة الطبيب لكن...
لم تكدْ تكمل جملتها حتى تفاجأت بمياس تدفعها بغلظة لتكمل جملتها بغطرسة تجيدها: أحتاجك في أمر هام يا حضرة الطبيب لو سمحت...

قاطعت حديثها حين رأت المريض الذي كان برفقة مازن، أجادت ارتداء قناع الجمود حالما لمحت بعينيها أويس جالساً على مقعدٍ فرديّ، تلاقت نظراتهما لمدة لم تتجاوز الثانية سرعان ما تجاهلا بعضيهما، بينما يطالعها مازن بدهشة استقام أويس بهدوء ليخاطب شقيقه متجاهلاً إياها تماماً: سأراك لاحقاً مازن، إلى اللقاء.

لم ينتظر الرد بل تحرك ليتجاوزها دون أن يوجه لها كلمة أو حتى نظرة واحدة، لم يبدُ عليها التأثر نهائياً رغم الخفقة العنيفة التي عصفت بصدرها، وقف مازن بدوره ليرحب بها ببشاشة: أهلا و سهلا بكِ حضرة النقيب، تفضلي.

أماءت إيجاباً لتتقدم و تجلس مكان أويس، استغرقها الأمر بضع ثوان حتى تعاود ملامحها الطبيعية، أثناء هذا كان مازن يراقبها باهتمام جمّ، أخبره أويس بما حدث بينهما لكنه لم يتوقع أن يقابلها، و للحق لم يستطع مازن تخمين السبب الذي دفعها لزيارته، انتظرها حتى تتماسك فلقاء أويس غير المحسوب لخبط حساباتها، استطاع مازن وسط هذا أن يستشفّ الاضطراب الذي تعانيه الآن، مرّت لحظات حتى تمكنت من النطق بثبات و هي ترفع ناظريها إليه: أقدم اعتذاري لك حضرة الطبيب لقدومي دون موعد مسبق، لكني فعلاً أحتاج إلى استشارة نفسية.

أماء مازن يجيبها ببسمة لطيفة: لا تقلقي حضرة النقيب، تحت أمركَ في أي وقت.
يبدو مازن لبقاً، هادئاً و لطيفاً، أي أنه النسخة المناقضة لشقيقه الأحمق٠ الذي يدفعها إلى الجنون دوماً، بعملية بحتة رفعت ذراعها تسندها فوق الطاولة متحدثة: أنا أتعامل مع شخصٍ مختلّ، و أريد منك بعض النصائح.
لوهلة ظنّها تتحدث عن شقيقه فهمس يقاطعها باستغراب تلقائي: تقصدين أويس؟

تلاقى حاجبيها باندهاش للحظة سرعان ما تجعدت ملامحها بانزعاج هاتفة: و ما شأن أويس بما أقول؟
بجبين متغضن سأل: ألا تقصدينه بلفظ...
قاطعته بجدية: بالطبع لا، أنا أقصد رئيس العصابة الذي أتعامل معه.
توسعت عينا مازن ما لبث أن مسح على رقبته من الخلف بحرج، أجلى حلقه محاولاً التبرير بتقطع: أعتذر حضرة النقيب، أنا...
تنحنح ثم رسم على محياه بسمة صغيرة معقباً: أعذري حماقتي سيدتي، تفضلي تابعي.

رمقته بنظرة غير راضية و لوهلة تسرّب إليها الندم لمجيئها، يبدو أنهما يتشاركان في صفة الحماقة!
تحدثت بانزعاج حاولت إخفاءه: المهم أنّ هذا الرجل يبدو أنه مهووس بي لدرجة كبيرة، و بصراحة طلب أن أذهب بنفسي إليه و إلا سيفجر سبع قنابل زرعها في أماكن مختلفة في المدينة.
أماء مازن بتفهم ليردف: تريدين بعض المعلومات النفسية حول المهووسين، صحيح؟

هزت رأسها إيجاباً فعقب مازن أثناء وقوفه و استدارته ليجلس قبالتها: عليكِ أولاً أن تعلمي، المهووس أحياناً يصبح خطيراً بدرجة جنونية.
تهكمت مجيبة: أكثر خطورة من زرع سبع قنابل لتفجيرها؟
تفهم مازن سخريتها إلا أنه تابع بجدية: ربما، من يعلم؟ هذه النوعية من الأشخاص لا يمكن التنبؤ بأفعالهم أبداً.
أنصتت مياس باهتمام فيما يضيف مازن بعملية:.

كذلك فإنّ المهووس عادة يبالغ في تقدير قدراته و معلوماته، يظنّ نفسه أذكى مخلوق على وجه البسيطة، و لن يعترف بخطئه مهما كان تافهاً، أيضاً فالمهووس يظنّ نفسه قيمةً تاريخية عظيمة لن تأتي مثلها أبداً.
أصدرت تنهيدة متعبة و هي تهزّ رأسها، شردت للحظة لتعقب بتساؤل مهتمّ: برأيك حضرة الطبيب، ما الذي يؤدي بالشخص إلى أن يكون مهووساً؟ أقصد ما هو السبب الأساسي ليتحوّل من شخص طبيعي إلى آخر مؤذٍ؟

لم يتأخر مازن في الرد: المهووس هو إنسان لم يحصل على قدرٍ كافٍ من العناية و العاطفة في صغره، لم يحظَ بالحب و الحنان أثناء فترة طفولته، و هذا ينعكس سلباً على شخصيته حين يكبر.

شبك كفيه امام وجهه متابعاً بتحذير: الأمر السيء في كل هذا يا حضرة النقيب، أنّ المهووس و كما سبق و أخبرتك لا يمكن توقع تصرفاته أبداً، أي أنه إن لم يحصل على ما يريد فقد يتحوّل إلى شخصٍ عنيف فجأة مهما بدى عليه مسالماً، و ربما لن يتوانى عن إيذاء من حوله بدنياً و جسدياً، فعليكِ التزام الحذر التام في التعامل معه.
تأففت بضيق ثم سألت: ألا تملك أية نصيحة أستفيد منها في معاملتي معه حضرة الطبيب؟

انشقّ ثغره عن بسمةٍ صغيرة مجيباً بثقة: الأمر كله منوّط بتعاملك معه حضرة النقيب، عليكِ أن تكوني قوية من غير عناد، لا تخافي منه لكن كوني ذكية، و حافظي دوماً على مسافة كافية بينكما.

نفخت و هي تنحني لتحاوط رأسها بين كفيها، تعترف أنّ معلومات مازن مثيرة و غنية لكنها حقاً لا تعرف كيف تستفيد منها، فهي لغاية اللحظة لم تضع خطةً واضحة للتعامل مع الخفاش بعد، كل شيء في ذهنها مشوش و عقلها في حالة صدمة لا يستطيع التفكير بشكل سليم، أدرك مازن ما تشعر به من ضياع خاصة و أنّها ستضحي بنفسها في سبيل التخلص من شرّ ذاك الماكر، أردف يخبرها بحيّادية: للأسف حضرة النقيب لا أستطيع مساعدتكِ أكثر من هذا لأني لا أعرف طبيعة مرض هذا الشخص، لكني أستطيع أن أقدم لكِ بعض النصائح.

اعتدلت جالسةً تنصت بجدية فتابع: عليكِ أن تراقبي أفعاله دون أن يلاحظ ذلك، ربما تجدين في بعض تصرفاته نقطة ضعف تستغلينها لصالحك، كوني صريحة و واضحة معه فهو لن ينخدع بإذعانكِ و خضوعك له، وحده الصدق ما قد يكسبكِ ثقته.

استشفّت من خلال حديث مازن إدراكه لكلّ ملابسات القضية، ربما أويس من أخبره بها، عقب مازن بعملية: حاولي ألا تدخلي معه في جدال لأنه سيعمل على إثبات نظريته لك حتى إن اضطر إلى استخدام العنف، اسمعي كل ما يقوله بتمعّن لتفهمي ما يخطط له، و عليكِ أن تدركي أمراً، المهووس الذكي أحياناً يظهر خلاف ما يضمر تماماً.

أماءت مياس بتفهم و اصطنعت ابتسامة باردة و هي تستقيم واقفةً أثناء مدّ كفها أمامها: شكراً جزيلاً لك حضرة الطبيب، و أعتذر مجدداً عن قدومي فجأة.
صافحها مازن مبتسماً باتساع معقباً بأدب: أخبرتكِ حضرة النقيب لا داعي للاعتذار، أنتِ مرحب بكِ في أي وقت.

تحركت من مكانها ليتابعها مازن بمشاعر متضاربة، رغم أنه لم يقبل يوماً مسألة العداوة بين عائلته و آل الحكيم، لكن هذه المرة الأولى التي يشعر بها بصلة الدم و القرابة بينه و بين أحد أفراد هذه العائلة، لم ينتبه إلى توقف مياس قرب الباب و قد أبت إلا المكر، عادت إليه قائلة: بالمناسبة حضرة الطبيب مازن...

أولاها انتباهه كله فيما تردف مياس بنبرة ملؤها الخبث: صحيح أنني لم آتي للتحدث حول شقيقكَ، لكن يجب أن تدرك أنه مختلّ كذلك.
ابتسمت ببرود ثم التفتت لتغادر فعلياً تحت أنظار مازن المصدومة كلياً لجرأتها، استغرقه الأمر بضع لحظات حتى استفاق من صدمته فابتسم ليعود جالساً مكانه مردداً: أرى أن أويس لن يحتاج للعلاج، فمياس تكفيه و زيادة...

قهقهه بصوت مسموع على ذينك المحبين الأحمقين، و كل منهما يحاول قصف جبهة الآخر في كل مناسبة، لكن و الحق يقال فمهما بلغ أويس من خبث لن يشكل أكثر من نقطة في بحر مياس و أجوبتها الجاهزة مسبقاً للقصف...

زحف الظلام الغائم ليغطي حيّ الورد بكل ما فيه من مآسي، و هناك، في المقرّ الخاص المختفي في الجبل، تحديداً في غرفة الطعام الفخمة للغاية دلف خطاب بكل ما فيه من عنجهية مريضة و كبرياء مغرور، جلس إلى طاولته السوداء النظيفة، و كعادته المقيتة انتظر ليعاين الأطباق المغطاة بأغطية معدنية لامعة لدرجة أنك ترى انعكاسك واضحاً عليها، تفحص بعينيه المسافة بين أغراض المائدة يبدو كل شيء مرتباً و نظيفاً كما يحب و زيادة، رفع الفوطة المخصصة للطعام و هذه كانت إشارةً واضحة لسهيل الواقف خلفه بأن يرفع الأغطية، تقدم ليكشف عن الأطعمة المخفية باحترام جمّ ثم تراجع إلى الخلف يراقب ربّ عمله بريبة، كل ما يفعله الخفاش هذه الأيام محطّ استغرابه و شكوكه، خاصة فعلته الأخيرة و التي هو موقنٌّ أنها لن تمرّ مرور الكرام أبداً، لم ينتبه أثناء شروده إلى سؤال خطاب الذي ألقاه، لم يسمع الجواب فالتفت نصف التفاتة يسأله: سهيل؟ أنا أحادثك لم لا تجيب؟

أجفل جسده بخفة و قد شحب وجهه دفعة واحدة ليتمتم بتقطع: س س سيدي؟ أعتذر لم أسمعك.
تلاقى حاجبيّ خطاب معقباً: بمَ أنت شارد؟
حاول بداية التملّص و الإدّعاء، إلا أنه وجدها فرصة ترضي فضوله فقال بتوتر: سيدي، أستطيع أن أسألك سؤالاً؟
أجاب الآخر ببساطة: أعلم، تريد أن تسألني عن سبب ما فعلت.
علّق سهيل بدهشة: كيف علمت سؤالي سيدي؟

تبسم خطاب باتساع مجيباً بغرور أثناء تقطيعه لقطعة اللحم المشوي أمامه: عيبٌ عليك أن تسألني أنا هذا السؤال يا سهيل، فأنا الخفاش أم أنك نسيت؟
تشجع سهيل ليتابع أسئلته: اسمح لي سيدي، هل ترى ما تفعله منطقياً؟

لم يجب فوراً و هذا أعطى سهيل الفرصة ليكمل حديثه: أعني أنك غيّرت أسلوبك تماماً مع مياس، منذ متى و نحن نتعامل بالقنابل و التهديد؟ و لماذا طلبت اللواء جلال هذه المرة و لم تحادث مياس مباشرة؟ لماذا طلبتَ حضور الفريق كاملاً مع أنّ المقصود هي مياس فقط؟

أثناء استماعه كان خطاب يتأنى و يتناول طعامه بهدوءٍ تام، حريصاً كل الحرص على عدم إصدار أي صوت، و على محياه ارتسمت ابتسامة باردة تقطر تباهياً و أُبهةً، رفع قطعة لحم صغيرة إلى فمه مقاطعاً أسئلة خادمه المتتالية: ألا ترى أنها أسئلة كثيرة لأجيبها يا سهيل؟
رغم خوف سهيل من سيده إلا أنه قال مترجياً: أرجوك سيدي أرحْني فعقلي يكاد ينفجر، مهما حللتْ و بحثتْ لم أتمكن من الوقوف على الحقيقة.

مضغ خطاب اللقمة ببطءٍ أثناء نظره إلى المدينة الساحرة من خلال الحائط الزجاجي قبالته، ارتفع صدره بتنهيدة ليجيب بغموض: أتعلم كيف يقتل الخفاش فريسته يا سهيل؟
لم يجبْ الأخير لجهله بالإجابة فيما يضيف خطاب بتعجرف: إنه يمتصّ دمها ثم يفرز مادة تمنع تخثر الدم ليتركها تنزف حتى تموت ببطء مؤلم، أوتدري ما العامل المشترك بيني و بينه؟
لم ينطق سهيل فيما عقب الثاني ببسمة استخفاف: حبنا للظلام و الهدوء.

عاد ليقطع اللحم أثناء متابعته حديثه المعبق بالغرور: سأجيبك عن أسئلتك كلها غداً يا سهيل، لكن الآن بلّغ الحرس بأن يبقوا يقظين لأصغر حركة في الخارج.
زفر بتثاقل فخطاب لم يروِ فضوله، هزّ رأسه بطاعة و كاد يتحرك قبل أن يسمع أمره التالي و الخبث يتراقص على محياه: أخبر الطباخ بأن يجهز لنا إفطاراً مناسباً لضيفتنا في الغد، مؤكد أنها لن تتناول الطعام اليوم نهائياً.

تخبّط سهيل بعدم فهم، لا شك أن الخفاش ينتوي قتله فضولاً و ربما جنوناً، لطالما كان مستريباً و حَذِراً للغاية، فكيف خاطر اليوم و أرسل عنوانه إلى اللواء جلال؟ ألم يخشَ من هجومٍ مباغت بغضّ النظر عن الحراسة المشددة في الخارج؟
غادر سهيل بخيبته و فضوله تاركاً الخفاش يضحك داخله بحبور، إن كان هذا هو حال سهيل الذي يعمل عنده منذ فترة طويلة جداً، فكيف هو حال مياس الآن إذاً؟

زفر براحة و اختيال أثناء رفعه الفوطة القماشية ليمسح ثغره المبتسم بزهوّ، استقام ليخرج من قاعة الطعام متجهاً ناحية مكتبه بخطوات مختالة، أخذ علبة معقمٍ صغيرة من سطح مكتبه ثم أفرغ منها بسخاء على كفيه ليطهرهما و هو يقف قبالة نافذته الزجاجية يتفكّر، ستكون مياس أول زائرٍ له غداً و على الأرجح لن تكون الأخير!

في حياته الإجرامية التي امتدّت لعشر سنوات كاملة لم يأتِ أحد إلى مقره المحميّ بعناية، هذا إن استثنينا عاملات النظافة و اللواتي يتمّ إنتقائهنّ بحرفية عالية من قبل سهيل، و الذي هو الوحيد المسموح له بالدخول إليه في مكتبه، لطالما كان سهيل صلة الوصل الوحيدة بين خطاب و العالم الخارجي، أما غداً!؟

سيتغير الكثير غداً، إنه اليوم الموعود الذي انتظره خطاب طويلاً، أثناء شروده في الأفق البعيدة تراءى له خيال أسود بعيد، راقبه خطاب باهتمام حتى بانت ملامح الطائرة الخاصة التي طلبها لتحطّ فوق سطح مبناه، انتشى خطاب لأبعد حدّ و هو فعلاً لا يطيق صبراً ليرى مياس وجهاً لوجه، تمتم بعجرفة و قد أعماه جنون العظمة: ياااه لو تعلمين يا مياس كم أنتظرتُ هذا اليوم؟

كيف انقضت تلك الليلة تماماً؟

حقاً لا تعلم، نهضت مياس عن فراشها بعد محاولات عديدة للنوم لكنها كلها باءت بالفشل، جافاها النوم كأنها طالب في الثانوية و لديه امتحان يقدمه اليوم، و للحق هو امتحان حياة أو موت، أخذت حماماً سريعاً ثم خرجت مرتديةً ملابسها الرسمية المؤلفة من كنزة سوداء ذات رقبة طويلة و سروال بلونٍ مماثل من قماش الجينز ثم سترة جلدية شبيهة، ذلك لونها المحبب لكنها شعرت اليوم باختناق لارتدائه، وقفت مياس أمام المرآة و قد ربطت شعرها الليليّ الطويل على هيئة كعكة مغلقة على غير عادتها، تفحصت وجهها المتعب و الهالات السوداء تحت عينيها، بدأت المشاهد تتابع على عقلها لتذكرها كيف عادت أمس إلى مركز المكافحة بعد حديثها مع مازن، تناقشت مع اللواء جلال حول عنوان المقرّ الذي أرسله الخفاش، الجيد في الأمر أنّ اللواء طلب صوراً جوية للمقر من خلال الأقمار الصناعية و قد حصل عليها في وقتٍ قصير لم يتوقعه، أدركا أنه مبنىً لا يظهر إلا بعضاً منه في الصور، يبدو كما لو أنّ جدرانه محفورة في الجبل نفسه، محصنٌ بشكل كبير و هذا كان واضحاً للغاية، شعرت مياس بالضياع، ربما لو أنها تملك خريطة لذلك المبنى لتمكنت من وضع خطةٍ تواجه بها الخفاش على الأقل، كل الطرق تؤدي إلى حائط مسدود، أخبرها مازن أنّ أمثال خطاب لا تستطيع توقع تصرفاته لذا آثرت السلامة و اقترحت على اللواء أن تذهب بنفسها و لوحدها، على أن يقوم بقية فريقها بالتعاون مع جميع أقسام الأمن الداخلي بالبحث عن القنابل السبع و تعطيلها، لا زالت تذكر جملة اللواء القلقة: و لكن ماذا عنكِ مياس؟

نفخت بقوة ثم أجابت بنبرة متقلقة رغم محاولتها الثبات: يجب تأمين المدينة أولاً سيدي، بعدها نفكر في أمري.
هتف جلال بجدية: الرجل ليس غبياً مياس، مؤكد أنه قام بإخفاء القنابل بشكل جيد و إيجادها لن يكون سهلاً، ربما يستغرق الأمر أياماً أو حتى أسابيع، في أثناء ذلك مؤكد أنهةسيختطفك إلى خارج البلاد!

تدرك هذا جيداً كما تدرك أنّ الخفاش لن ينتظر أياماً، ربما سيهرب برفقتها فور وصولها، زفرت بثقل يقتلها كلّما فكرت فيما سيحدث، و كيف حاصرهم ذلك الوغد في الزاوية لدرجة أنها باتت عاجزة بالفعل، رفعت رأسها قائلة بجدية: سيدي اللواء، كن على يقين أنني مستعدةٌ للتضحية بنفسي في سبيل إنقاذ آلاف الأرواح، إن كان الخفاش سيكتفي بي فأنا قبلتُ عرضه.

ماذا إن لم يكتفِ بكِ مياس؟ ماذا لو أنه خدعنا و فجر القنابل حالما يأخذك؟ ما العمل حينها؟
هكذا أظهر جلال قلقه على أمهر و أكفئ ضباطه و جواسيسه، و في المرتبة الأولى كانت مياس بمثابة ابنته فعلاً و ليس قولاً فقط، شعرت بخوفه و تلقائياً انتقل إليها لتخبره غير واثقة من صدق حديثها: لا أظنّ هذا سيدي...
ما الذي يجعلنا متأكدين مياس؟

قاطعها مجدداً لتزحف تقاسيم خائفة على محياها، ازدردت ريقها بصعوبة بالغة لتجيب بهدوء خادع تخفي خلفه رعبها: لا شيء يضمن سيدي، لكني سأحاول جهدي ألا أسمح للخفاش بالهرب و ما يزال يشكل تهديداً فعلياً للمدينة، سأجبره بطريقة ما على تعطيل القنابل، سأجد طريقة لن أعجز، حتى لو كلفني هذا حياتي.

في حياتها لم تخيّب نظرته فيها، و لم يخطئ حين وهبها لقب الذئب، شجاعتها تذكره بشجاعة الذئب الذي يضحي من أجل قطيعه، ألا يقال لكلِ أمرئٍ من اسمه نصيب؟
مياس أخذت معنى الاسم بحذافيره، لم يجد جلال أمام إصرارها سوى الإذعان لها، احتضن كفها بين يديه قائلاً بحنوّ أبويّ مشجعاً: أعلم هذا مياس، و أعلم أنكِ ذكية كفاية لتجدي حلاً ما لهذا المأزق، سأطلب إليكِ أمراً واحداً فقط، حافظي على نفسكِ قدر ما تستطيعين.

ادّعت الابتسام لتومئ له بالإيجاب ثم تخرج متجهةً إلى بيتها غير منتبهةٍ لأحدهم راقب كل ما حدث، و قد لمعت عيناه بمكر.
حين وصلت إلى منزل عائلتها كان الوقت قد تخطّى الثانية فجراً فلم تجد أحداً مستيقظاً، و هذا أمر جيد إذ لم يكن بها من طاقة لترى بشراً أو تحادثه...

استفاقت من شرودها على كف أمها التي حطّت على كتفها، انتبهت إلى انعكاس صورة والدتها بيْد أنها أجفلت فشحب وجهها تماماً، تحدثت عليا بقلق فيما هي تديرها ناحيتها: ما بكِ مياس؟ أناديكِ لكنك لم تسمعيني.
احتضنت وجهها بين يديها لتتابع: و وجهكِ شاحبٌ كأنه ليمونة معصورة، أخبريني حبيبتي هل أنتِ مريضة؟

ابتلعت مياس غصة الخوف بحلقها لتصطنع ابتسامة لم تصل عينيها لتجيب بنبرة هادئة رغم الغليان داخلها: لستُ مريضةً أمي لا تقلقي، أنا مجهدة فقط لا أكثر.

راحت عليا تتفحصها بعينيها إلا أنّ مياس لم تسمح لها إذ تهربت منها، سحبت والدتها من يدها لتجلس متقابلتين على السرير الفوضويّ، نظراً إلى أنها لا تضمن ما الذي قد يحدث معها أرادت مياس توديع أمها، ترددت قليلاً كيف ستخبرها؟ هل تقول أنها متجهةٌ الآن لأداء مهمةٍ لا تعرف ماهيّتها أو عواقبها؟ أم تخبرها أنّ هنالك مجرم مهووس بها يريدها زوجة له؟و قد يخطفها و لن تراها مجدداً على الأرجح؟

لا أضمن ردة فعلها، قد تتمسك بي و تمنعني من الرحيل.
هكذا رددتْ مياس داخلها و قد عزمت جماع أمرها لاختيار طريقة لا تريدها، الكذب...
انتبهت على مقلتيّ عليا التي تتابعها باهتمام فأجلت حلقها قائلة بلطفة: أمي، أريد إخباركِ أنني قد أغيب لبضعة أيام فقط.
بان التفاجؤ جلياً على وجه عليا و هي تسألها بهمس مبحوح: لماذا مياس؟
سارعت تطمئنها كاذبة: لا تقلقي أمي، لن أطيل الغياب أعدك.

سكتت لثانية لتلاحظ هدوء ملامح والدتها ثم عقبت بسلاسة مخادعة: أوكل اللواء إليّ مهمة صغيرة خارج المدينة، سأنهيها بسرعة من ثم أعود.

لطالما كانت مياس بارعةً في صنع قناع قوة تخدع به من حولها لكن ليس أمها، و هي من تفهمها من رمشة عينها، استطاعت عليا قراءة الكذب واضحاً في عينيها، إضافة إلى الضعف الذي تراه قابعاً في الخلفية لكن لم يكن في يدها سوى الإذعان موافقة، هزت رأسها بتردد و لم تستطع إخفاء لمعة الخوف في مقلتيها و قد التقطتها مياس ببراعة، رسمت ابتسامة مدعيّة على شفتيها ثم اقتربت لتحتضن والدتها و تشدّد عناقها، دفنت رأسها في عنق أمها تحاول كتم دموعها التي تحرق مآقيها تريد التحرر، مياس تكذب و تعرف أن كذبتها لم تنطلي على أمها، مع ذلك استمرت كلتاهما في هذه التمثيلية المكشوفة، تجاهلتا نبضات قلبيهما الخائفة، في النهاية لا حيلة لنا على القدر و مفاجآته.

همست مياس بصوت متلجلج: ادعِ لي أمي أرجوكِ، أنا بحاجة إلى دعائك.
ارتبكت نبضات عليا فبان هذا على الرعشة التي سرت في بدنها، تزاحمت أنفاسها في حلقها لدرجة كادت معها تختنق، لا تدري لماذا تشعر بأنّ مياس تودعها، أبعدتها عنها عنوةً لتسألها بصوت مبحوح و مقلٍ دامعة: أهناك ما تخفينه عني مياس؟
برعت في رسم ملامح باردة على محياها أثناء إجابتها بجدية هادئة: لا شيء أمي لا تخافي.

استقامت تالياً و هي تتناول مفاتيحها و هاتفها لتقول بعجلة: سأخرج الآن، لا أربد أن أتأخر أكثر من هذا.
لم تنتظر حتى جواباً من عليا التي انتفضت هاتفة بقلق: مياس انتظري...
لم تنتظر و لم تلتفت حتى إلى الخلف، ربما لم يكن وداعاً لائقاً لكنها اكتفت به، هي حتى لم تفكر في توديع بقية أفراد عائلتها لأنها تكره الوداع، لا تريد أن تضعف أمامهم، ربما لن تعود فليتذكروا مياس القوية فقط...

بأصابع ترتعش قلقاً و كفٌّ يرتفع كل حين بحركة لا إرادية لتتفحص الساعة في الهاتف قادت مياس سيارتها صوب مشفى الأورام السرطانية، عرجت بدايةً إلى مكتب الطبيب ربيع المسؤول عن علاج والدها لكنها لم تجده، فعادت أدراجها ناحية غرفة والدها، تشعر بأنها بحاجة إلى وداعه فعلياً، من يدري قد لا تراه مجدداً...

دلفت إلى حجرة عمار فوجدته نائماً، أغلقت مياس الباب بهدوء ثم خطت ناحية والدها تحاول عدم إصدار أي صوت، وقفت أمام سريره تتأمل شحوب وجهه بمشاعر متضاربة، ما زالت مآقيها تحرقها لكنها بقيت صامدة فلم تحرر عبراتها، ظلت تجاهدها و تخنقها، لا تريد لوالدها بالذات أن يشعر بضعفها و هوانها...

أصاب عمار القلق فتململ في مكانه ليشعر بتواجد أحدهم فوق رأسه، فتح عيناه بضعف ليواجه مقلتيّ ابنته السود، و التي حافظت على ملامح طبيعية و هي تقول بهدوء مصطنع: صباح الخير.
قطب جبينه باستغراب مجيباً بصوت ما زالت آثار النوم ظاهرة فيه: صباح الخير مياس، ما الذي آتى بكِ في هذا الوقت المبكر؟
هزت رأسها سلباً أثناء استقرارها بجانبه على السرير لتردف: أبداً، أحببتُ أن آتي لأراك.

صدقها إذ خُدِع بقناع الهدوء، ابتسم باتساع و هو يحاول الجلوس فساعدته بأن وضعت وسادة طرية خلف ظهره، عادت تجلس بقربه فقال عمار بفرح يقطر من ملامحه المتعبة: لا تتخيلين سعادتي بحضورك مياس، يكفيني أن أراكِ حتى لثواني معدودة كل يوم، المهم أن تكوني بخير.
أماءت دون جواب، و كيف ستجيب و قد تشكلت غصة خنقتها مع محافظتها على بسمة هادئة؟

طالعت أباها باهتمام كأنها تحفر تقاسيمه الشاحبة في ذاكرتها، لا تعرف بعد ما الذي قد يحدث معها، لربما فشلت مخططاتها البسيطة و لن تعود أبداً...
تنبه عمار لشرودها فيه هكذا فهمس: مياس؟ ما الأمر يا ابنتي؟

لم تعد تحتمل أكثر من هذا، تقسم إن بقيت مدة أطول لخانتها عيناها و بكت، وقفت لتقبل على رأس والدها قبلة طويلة استشعر عمار من خلالها أمراً جللاً، فابنته هذا اليوم أهدأ من اللازم بكثير، كادت تتحرك دون النظر إليه فأمسك بمعصمها ليجبرها على الوقوف سائلاً بجدية: أخبريني يا ابنتي أرجوكِ، ما الأمر؟

التفتت ناحيته تحاول الكلام فارتعشت شفتيها و اختنق الحديث في حلقها، ما لبثت أن عانقته بقوة استغربها عمار بشدة فتأكد أنّ في الأمر إنّ، شددت إغلاق جفنيها ثم ابتعدت عنه قائلة بملامح غلفتها التعاسة: أسبق و أخبرتك كم أحبك؟
أذهلها اعترافه للحظات عدة ما لبث أن همس و مازال مأخوذاً بما قالت صراحة: و أنا أحبكِ عزيزتي، أكثر مما قد تتخيلين...

تقوّست شفتاها و خُيّل إليه أن هناك دموعاً متحجرة في مقلتيها، قطعت المسافة الضئيلة بينهما لترفع يده التي حاوطت كفها لتقبلها في سابقةً تفعلها للمرة الأولى في حياتها، شعرت بارتعاده فابتعدت عنه لتخرج بقدمين تتلاطمان تحت أنظاره الخائفة، تيار كهربي سرى في بدنه يخبره بأن ابنته أخفت عنه أمراً عظيماً، و شعور مريب يحتقن في صدره كأنه لن يراها مجدداً، مسح على صدره بضيق مردداً بتضرع: احفظها لي يا الله أرجوك، خذ روحي أنا بديلاً عنها فقط لتظلّ هي سالمة...

يا لصعوبة الأمر عليها!
قناع الجمود تردّى و انكسر ما إن استقرّت خلف مقود سيارتها، أطلقت العنان لدموعها لتبكي بحرقة، ضربت على المقود بكفها المكورة حتى آلمتها، ثم استندت بجبينها عليه تئن بصوت مسموع، تريد تخفيف مرار الأمر عن قلبها الذي يكاد ينفجر من هول الضغط الذي تعاني، لماذا يجب أن يكون الأمر بهذه القسوة؟ لماذا يجب على الخفاش أن يكون بهذه الدناءة و النذالة؟

متى تحنّ عليها الحياة؟ متى يبتسم لها القدر؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة