قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي والعشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي والعشرون

- يُرهقُني كوني شخصٌ متعمق جدًا لاتجري مُجريِّات الأمور من أمامهِ بل من خلالهِ، وتتركُ فيهِ ندوبًا و آثارًا - مقتبس.

ـ عمّااار، عمّااار، جلجل صوتها الصارخ المفزوع في الطريق المتداخل مع صوات أبواق السيارات، شحب وجهها وبدأ قلبها بالخفقان بعُنف بين جنبات صدرها، تحاملت على نفسها ووقفت وهي تتأوه بألم ثم ركضت إليه بعرج بسيط و عبراتها تنهمر بغزارة، هو لن يصيبه سوء لن تسمح لهُ..

توقفت نادين عن الركض عِندما سمعت صوت اصطدام، تيبست محلها وانقبض قلبها خوفًا من الالتفات مما سوف تري، شهقت بقوة وحجظت عيناها عِندما أبصرته فركضت عائدة إليهما دون تردد..
تأوه بقوة وهو يمسك ذراعه بوجه مُحتقن لاعنًا اليوم الذي رأي كلتيهما به، ركعت ليلى أمامه وهي تصرخ باسمه بخوف ويديها تصفع وجنتيه بخفة..
تمتم بألم وهو يحاول الانتصاب والوقوف لاهثًا وصدره يعلو ويهبط في عُنف: أنا كويس، كويس..

ساعدته ليلى في الوقوف بتعب لتشاركها نادين وهي تعتذر إليه بندم: أنا آسفة، كُل ده بسببي..
هزَّ رأسهُ بلا بأس وهو يسير بترنح وعدم اتزان و دوارًا قويًا يداهمة، وألم جامح يجتاح رأسهُ من قوة الضربة شاعرًا كأن أحدهم ينخر جمجمتة..
بينما التي ضربته بالسيارة خرجت كي تعتذر أو تأخذه إلى مستشفي لكنها وجدتهم يبتعدون به بهدوء فعادت أدراجها..
همست ليلى بإسمها بحزن: نادين..

تجاهلتها ولم ترد عليها وهي تزدرد ريقها حتي دلفوا إلى المنزل، سارعت ليلى بإحضار كوب مياه إليه بعرج بيِّن، ساعدته بارتشافة وهي تربت على ظهره بتلقائية جعلته ينظر إليها نظرة خاوية، ينقصه فقط أن تطلب منهُ التشجؤ بعد ارتشاف الحليب! انتبهت على نفسها و أبعدت يدها بسرعة كأنهُ شخصا موبوء ثم سألته بقلق: اطلب دكتور او تروح المستشفي؟

نفي بهزَّ رأسهُ ثم طلب و ملامحه تتقلص من الوجع وهو يحاول تذكر أسمه: لأ هاتيلي بس البتاع ده اربطه على ايدي..
نظرت إليه بعدم فهم ليعيد بنفاذ صبر من الألم الذي يفتك به وهو يضم قبضته على كفه الموجوع حتى مرفقة الذي ينبض بالألم، ورأسهُ تكاد تنفجر: البتاع اللي بيلف ده عامل زي الصوف.
هزَّت رأسها بجهل ثم صاحت فجأة عِندما فهمت: أصدق رباط ضاغط؟.

أومأ بشكلٍ متكرر وهو يتأوة فهرولت إلى المطبخ وأتت به وهي تتمتم باستنكار: دكتور ايه ده اللي مش عارف اسم الرُباط الضاغط؟
وضعت علبة الاسعافات الأولية أمامه ومدت يدها تساعده لكنهُ منعها بهدوء: لأ أنا هعمله، وهاتي رجلك اتصابت..
هزَّت رأسها بنفي وقالت بنبرة حادة لا تعرف إن كان فهم المغزي منها أم لا: لأ انا كويسة..
زفر ومدّ يده السالمة إلى قدمها لتبتعد صارخةً به بحدّة: أنت مبتفهمش؟ قولتلك كويسة!

صرخ بها بنبرة جمهورية جعلها تنتفض ويتضاعف ألم رأسه: إيــــــه بقولك رجلك متعورة؟!
هبَّت واقفة وصاحت بوجة مكفهر من الغضب، مُحتقن وهي على حافة البُكاء بسبب غباءة أمام نادين تانيةً: أنت انسان بجح وده مش ذنبي مش عايزة حاجة..
دفع علبة الاسعافات من أمامه بحدّة وهو يزمجر بخشونة ثم هبَّ واقفًا وغادر بملامح مكفهرة..

خللت أناملها داخل خصلات شعرها بعصبيه وصرخت به كي يعود: ضمد ايدك الاول وبعدين امشي!، لكنهُ غادر وصفع الباب خلفه بقوة رجت أرجاء المنزل..
ـ أنا طالعة أنام، قالت نادين بهدوء دون النظر إليها وصعدت، هرولت خلفها متحاملة على نفسها صعود الدرج لكنها لم تلحق بها، كانت قد أغلقت غُرفتها عليها من الداخل..
طرقت باب غرفتها وهي تسند جبينها عليه تتوسلها كي تفتح: نادين افتحيلي لازم نتكلم عشان خاطري..

لم يأتها رد لتستطرد وهي تبكِ بانهيار: انا قولتلك من الأول بلاش عمّار، افتحي عشان خاطري لازم نتكلم عمّار كان بيهزر أنتِ عارفة أنه بيعزك، لكن لم يأتها رد..
شهقت بحرقة وهي تسقط جالسة أمام الغرفة وظلت تطرق عليها كي تريح قلبها وتفتح لكنها لم تفعل..

عاد إلى منزله بعد أن ضمد ذراعه في المستشفى، صفع الباب خلفه وصعد مباشرةً إلى الغرفة بألم يفتك برأسهُ، فمن الجيد أنهُ لم يصيب بارتجاج، القى بجسده فوق الفراش ودفن رأسهُ أسفل الوسادة باستياء كـ طفل غاضب حزين يحتاج إلى مواساة، هو بحاجة إلى والدته هي الوحيد التي تطبطب على قلبه المسكين وتطيب خاطره، تواسيه بعناق، تغمره بحنانها دون أن يطلب، سيذهب إليها غدًا، لقد إشتاق إليها ويحتاجها أكثر من أي وقتٍ مضي..

داخل القاعة التي تنطق بالفخامة، الخاصة بالطبقة المخملية فقط، الثريا الضخمة تدلي في المنتصف وسط الإضاءات المتلألئة والبذات الأنيقة و الروائح الذكية المنبعثة منهم صارخة بالثراء الفاحش، الهمسات المتحفزة، والنظرات المختلسة، الحلقات حول الطاولات دائرية، الجميع يقف باستقامة يحدقون في كؤوسهم تارة وأخرى يتبادلون أطراف الحديث، الأجواء شاعرية والموسيقي كلاسيكية هادئة تبعث الراحة في النفس..

وفي المنتصف حول طاولة دائرية صغيرة، كان جاسم يقف يتبادل أطراف الحديث مع عشق بهدوء حتى تنهد وأخذ يتلفت حوله عله يلتقط أحدًا يجلب لهُ مشروب لكنهُ يئس من تحقيق هذا وبعمليةٍ قال: هجيب حاجة نشربها وجاي..

أومأت بهدوء وراقبت ذهابه بابتسامة عذبة وهي تدلك رقبتها بخفة، فكانت ترتدي فستان كريمي بكتف واحد ضيق يتوسطه حزام أسود لامع رفيع يتماشى مع حذائها وتركت شعرها منسدلا خلف ظهرها، تلاشت ابتسامتها عِندما أظلم المكان فجأة وعمّ السكون في الأرجاء عدي من صوت تلك الموسيقي..

شهقة متفاجئة خرجت من بين شفتيها تلتها شهقة مرتعشة وهي تشعر بتلك اليد الدافئة تحتضن كفها تسوقها إلى مكانٍ ما وسط الظلام، رجفة بسيطة سارت على طول عمودِها الفقري وقلبها أخذ يقرع كالطبول بعُنف عِندما طوق خصرها بتملك ورفع يدها لتستقر على قلبه النابض بجنون، وأخذ يراقصها ويتمايل معها في الظلام دون أن يبصران، لكن قلبيهما كانا يبصران جيدًا، تعرف أنهُ هو، فهي لا تتوه عنهُ رائحته تسكن مساماتها..

دارت وتحركت معهُ بثلاثة والعبرات تشق طريقها لوجنتيها ولا تعلم اعتابًا أم إشتياقًا، فالقلب يميل لمن يُحب وهي مازالت تميل كُل الميل، كالنجمة تنير و تهدي في عتمة الليل كانت هي هكذا بين يديه، قلبه لم يهدأ ويتوقف عن الخفقان قط منذُ أن رآها، فهي أصبحت المالكة وغدي هو العبد..
ـ وحشتيني، همس بجانب أذنها بلوعة اشتياق، بوهن صاحبة واستشفته في صوته و أنفاسه الهادرة..

هادئة، ظلت هادئة بينما داخلها خراب تعض على شفتيها بقوة لكي لا يخرج صوتها الواهن حتى أدمتها، دفع بها إلى صدره بقوة مكبلًا إياها ويديه تمر فوق ظهرها بتلهف معطيًا الإشارة لها كي تبوح، شهقت بحرقة وهي تدس رأسها في رقبته ويديها تلتف حول منكبه بقوة تنوح وتبكِ بقلبٍ مُنشطر دون توقف..

ـ مكنتش أعرف إني بحبك اوي كده غير لما بعدتي، قال بشغف وهو يُدثرها داخل أحضانه بقوة وحميمية، هذا كلامًا جميلا مفعمًا بالحب لكنها لم تسمعه منهُ بقلبٍ صافي، رُبما مازالت غبية و تتفاعل معهُ لكنها لن تعود عشيقة من جديد هذا لن يحدث، لقد أقصته من حياتها..

ـ عشق مش هتردي عليا؟!، سألها بصوتٍ ضارع متوسلًا للرد، ليأتيه صوتها الباكِ المتعب الذي أشتاق لهُ كثيرًا بعد صمتٍ دام لثوانٍ بجانب أُذنه: أسكت يا قُصيّ وأحضني جامد، ابتسم بحنين وهو يتذكر هذا القول، فيا إلهي كم يشعر بالحنين إلى تلك الأيام، هو بالفعل كان يُقيدها وليس يعانقها فقط، هي فقط تريد وداعًا لائقًا.

همست بنحيب وهي تشد على كتفيه بقبضتها: أنت مشيت بعد ما غرزت خنجر مسموم في قلبي يا قُصيّ وسبته ينزف، و روحي تنزف معاه..
ارتفع صوت الهمسات والتمتمات المنزعجة حولهم بسبب طول الانتظار والأضواء مازالت مُغلقة ليتخلل الأصوات صوت جاسم القلق المُرتفع وهو يهتف باسمها بلهفة: عشق، عشق، أنتِ فين؟

ابتعدت عن قُصيّ بترنح وهي تجفف وجنتها براحة يدها بخفة، تستعيد رباطة جأشها على مهل تهدأ روحها المعذبة، اصطدم جسد صغير في كتف قُصيّ وسط الظلام ليصل إلى مسامعه صوت تمتمة اعتذار: آسفة..

قطب كلا حاجبيه وهو يفكر بهذا الصوت المألوف، استدار تزامنًا مع عودة الضوء ليتسمر مكانه و تتهجم ملامحه عِندما أبصر ريمه تهرول وهي تتلفت حولها كاللصة بنظراتٍ ضائعة وغرام في يدها! تلك المعتوهة تستحق الصفع كيف تأتي دون علمه؟

هرول خلفها سريعًا دوم أن يعبأ بالتي كان يتودد إليها من ثوانٍ فقط، ضحكت عشق بسخرية و تساقطت عبراتها بمهانة وهي تراه يهرول خلف الفتاة، مازال كما هو لم يتغير فمن تظن نفسها هي كي تغير قُصيّ رشدان بجلالة قدره؟!
انتفض جسدها بفزع عِندما وضع جاسم يديه فوق كتفها، التفت إليه بوجه شاحب ذهب لونه ليسألها بقلق وهو يقطب كلا حاجبيه ماحيًا عبراتها بنوعٍ من الاستنكار: عشق مالك حصل حاجة؟

هزت رأسها نافية بسرعة وهي تزدرد ريقها قائلة بارتباك: مفيش، مفيش كُنت بدور عليك خُفت شوية من الضلمة بس..
مسد ذراعها العاري بحنان وسار بها إلى طاولتهم بينما يقول برفق: متخافيش ده كان عطل واتصلح خلاص..
أومأت بتفهم ثم طلبت بهدوء: هروح الحمام بسرعة وجاية..
اختبأت ريمة خلف أحد الحوائط، تلهث بتعب وهي تطبق جفنيها بقوة مرددة لنفسها بخوف وهي تضم جسد غرام إليها: شافني، شافني، و هيقتلني..

تذمرت غرام بحزن وهي تدبدب بقدميها أرضًا: مش هشوف مامى بقي؟
ربتت ريمة على رأسها بحنان وهي تتوسلها: هنشوفها هنشوفها بس وطي صوتك والنبي دلوقتي..
أومأت بطاعة وظلت هادئة عابسة تحدق حولها بحزن لتشهق فجأة وتقفز بحيوية وهي تشد على يد ريمة لكي تنبه إليها..
سألتها باستفهام وهي تطالع ابتسامتها: ايه يا حبيبتي في ايه؟

قالت بحماس وهي تبتسم بإشراق، مؤشرة بسبابتها ناحية دوره المياه: مامى مامى شُفتها دخلت هنا تعالي نروح..
نظرت ريمة تجاه دورة المياه بريبة ثم سألتها بشك: متأكده يا حبيبتي، أومأت وهي تشد يدها بقوة حتى سارت معها بانصياع..
جلست ريمة القرفصاء أمامها بجانب باب دورة، ثم أمسكت يدها بحنان بينما تقول برفق: حبيبتي هتدخلي وزي ما اتفقنا ها عشان نبقي نشوفها تاني أوكيه..

أومأت بابتسامة مُشرقة ثم ركضت داخل دورة المياه لتعض ريمة أناملها بتوتر وهي تنتصب واقفة، فركت كفيها معًا بانفعال وهي تدور حول نفسها في مكانها متسائلة عن هوية التي بالداخل هل هي جـنّـة أم عشق!

جففت عشق أناملها وهي تحدق في انعكاسها في المرآة بنظرة خاوية لكنها لم تخفي نفورها واشمئزازها من نفسها أيضًا، قطبت كلا حاجبيها و اخفضت رأسها بجانبها عِندما شعرت بيدٍ رقيقة تلامس قدميها ويبدو أنها صغيرة أيضًا وليست رقيقة فقط..
جلست القرفصاء وهي تبتسم ملاطفة أمام تلك الصغيرة التي شعرت بكونها مألوفة بالنسبةِ إليها..

قرصت وجنتها الممتلئة بخفة وهي تسألها برفق: جاية؟ لوحدك يا حبيبتي؟ فين بابا؟! تايهـ، توقفت عِندما اندفعت لأحضانها وعانقتها بقوة، طوقت رقبتها بذراعيها الصغيرين وهي تدس نفسها داخل احضانها أكثر مطالبةً بالدفء والحنان، بكت بخفوت ورقة وهي تشد قبضتها فوقها أكثر أصابتها بالتعجب..
ربتت على ظهرها بحنان بيد بينما الأخرى كانت تمسح على شعرها برقة وهي تسألها بقلق: بتعيطي ليه يا حبيبتي خايفة؟ توهتي من ماما؟

فصلت عشق العناق وقامت بمسح عبراتها برقة وملامح الحزن تكتسي وجهها بسبب بكاء تلك الجميلة الصغيرة..
لثَّمت جبهتها بحنان ثم مررت يدها على ضفريتيها بابتسامة مشاكسة: حلوين أوي دول يـ، هخمن أنا متقوليش..
ضحكت برقة وهي تنظر إليها بشغف ترمش بين الحين والأخر في ترقب لمَ ستقول فهي بالتأكيد تمازحها..

بينما في الخارج كان التوتر لدي ريمة قد وصل لذروته وهي تفكر بتشوش غير قادرة على التركيز، هزَّت رأسها بيأس وهي تزفر بعمق تهيأ نفسها للدخول فلن تتركها معها حتي الصباح..
وضعت قدم داخل دورة المياه لكن ذراع قبضت على مرفقها جعلتها تغمض عينيها بخوف منتظرة تلقى صفعة قُصيّ لكن ذلك الصوت الأنثوي جعلها تتمنى لو كان قُصيّ هو من وجدها وصفعها..

ـ ريمة! بتعملي ايه هنا؟ نزلتي امتي؟ غرام؟ غرام معاكِ فين؟، كان هذا سؤال جـنّـة الذاهل الذي سرعان ما تحول إلى تلهف عِندما أتت بسيرة غرام..
ضحكت ريمة ضحكه أقرب للبكاء وهي تعود بخطوتها إلى الخارج مجددًا بوجه شاحب هرب لونه و بتلعثمٍ قالت وجبينها بدأ في التعرق: أنـ، أنـ، أنـ..

توقفت تستعيد رباطة جأشها ورفعت كفها تجفف جبهتها بأناملها المرتجفة بارتباك جلى لاحظته جـنّـة فعاجلتها بسؤالها بصوتٍ مُرتفع نسبيا من العصبية: ريمة! مالك متوترة كده ليه؟ حصل ايه؟
ضحكت ريمة ببلاهة وهي تعض شفتيها بتذبذب ثم قالت وهي تشملها بنظرها: أنتِ هنا يا جـنّـة معقولة؟

قلَّبت عينيها وهي تدفعها من أمامها لأنها تماطل وهذا واضح، دلفت إلى دورة المياه لتتحجر مكانها كمن سقط فوق رأسهُ سطلا من الماء البارد، اغرورقت عينيها بدموع قهرها، وصوت ضحكات غرام المتداخلة مع ضحكات عشق الرنانة تخترق أذنيها كدوي الطنين دون رحمة، تساقطت عبراتها وهي تشد على نواجذها، تضم قبضتها بقوة والحقد والغِل ينهش أحشاءها بضرواة، واللهيب يندلع داخل صدرها المتأجج بالنيران، صغيرتها تضحك مع أخرى! تقف معها براحة كأنها تعرفها؟!

نطقت بحسرة وعبراتها تتساقط بغزارة: بـ، نـ، تي، بنتي بتعمل ايه مع عشق؟!.
صدى رنين تلك الكلمات الخاصة بـ قُصيّ أخذت تتردد في أذنها بصوت عالٍ كأنها تذكرها بخيبتها و بلاهتها وتصديقها لهُ..
ـ مين قالك انها محرومة منك؟ دي عارفاكِ وبتشوف صورك دايمًا أول ما هتشوفك هتعرفك..
ـ بجد يا قُصيّ عارفاني يعني لما تشوفني هتعرفني ومش هحتاج أشرح انا كُنت فين وبعيدة عنها ليه؟
ـ ولا تقولي أي حاجة هي عارفاكِ..

ـ شكرا يا قُصيّ..
ـ على ايه بس أنتِ مراتي ومهما حصل هتفضلي أم بنتي!.
هذا الوِد كانت تعلم أنهُ زائف، هو يعاقبها يُريد أن يحرمها منها طوال حياتها لكن، لكن لمَ بتلك الطريقة؟ هكذا يقهرها! هل سيجعل من عشق والدتها؟! هل هذه خطته الفاشلة؟ خسأ أبن رشدان فلن ينتصر وسيري ما ستفعل بها...

استنشقت ما بأنفها وحركت شفتيها للتحدث، لا بل للصراخ لكن ريمة وضعت يدها على فمها و سحبتها من ذراعها إلى الخارج بسرعة قبل أن تفتعل شيءً ما غبي، حاصرتها بينها وبين الحائط وهي تتنفس بعصبية وانفعال، وبرجاءٍ قالت: أنا والله جيباها عشانك أنتِ جـنّـة اهدي انا هاخدها وهمشي هستناكِ في البيت بلاش مشاكل ها نتكلم في البيت..

رفعت يدها عن فمها بجزع واستدارت لكن جـنّـة جذبتها من مرفقها بعنف تسألها بجنون وهي تهز رأسها باستنكار: بتعمل ايه مع عشق بقولك؟
نفضت ريمة يدها بعنف وهي تنظر إليها نظرة فارغة وببرودٍ قالت: أنتِ فهمتي بنتك معاها ليه مش محتاجة أقول، وتركتها ودلفت إلى دورة المياه..
يئست غرام من كثرة توقعاتها الخطأ و بطفولية قالت وهي تضحك بسعادة: غرام يا مامي غرام..

تلاشت ابتسامة عشق وحل محلها التعجب وهي تنظر إليها وقبل أن تتحدث وجدت من يهتف بإسمها بقلق: غرام يا حبيبتي أنتِ هنا أنتِ كويسة؟.
قالت ريمة وهي تقبل عليهما ثم حملتها بين يديها رغمًا عنها بقلق، اختلست النظر إلى عشق بطرف عينيها ثم قالت بامتنان: شكرًا ليكِ، أومأت عشق بخفة وهي تحملق في وجهها ببعض الحيرة فهي مألوفة هي والطفلة لدرجة لا تستوعبها يُجب أن تتذكر!

استفاقت على اختفائها من أمامها مع الطفلة لتهز كفايه بريبة ثم عادت تحدق في المرآة تهندم من مظهرها..
اولتهم جـنّـة ظهرها عندما رأت ريمة تخرج من دورة المياه مع غرام لتبصر قُصيّ يقبل عليها بملامح متجهمة وخلفه جاسم الذي يتلفت حوله يبحث عن عشق بالتأكيد هذا الأبلة! خطرت لها فكرة خبيثة عصفت بها جعلتها تبتسم بمكر ثم دلفت إلى دورة المياه..

رتبت عشق غُرتها في المرآة لتتوقف أناملها في الهواء عِندما رأت انعكاسها الشرير يحدق بها بابتسامة حاقدة! هي تهذي! لقد بدأت تهذي، ازدردت ريقها بخوف وشحب وجهها حتى لم تعد الدماء تجد طريقها إليه، أوصدت جفنيها بقوة وصدرها يعلو ويهبط بعنف تستعيد من الشيطان الرجيم ثم فرقت بين جفنيها على مهل وجسدها ينتفض دون مبالغة، صرخت بذعر وهي تجد رأسها ترتطم بالمرآة بعنف جرحتها ويدٍ ناعمة تطبق على عنقها بقوة تخنقها دون تردد لا تعي ما تفعل وهي تدفع بها للخلف ليلتصق ظهرها بطرف الرخام الملحق بالحوض أسفل المرآة بقسوة كادت تقسم ظهرها نصفين..

صاحت بشراسة والشر يقدح من عينيها وهالة الشر تسيطر عليها وهي تضغط على رقبتها أكثر بعنف وانفعال حتى احتقن وجهها وجحظت عينيها ولم تعد تستطيع التنفس: هقتلك، فاهمة هقتلك مش هسمحلك تاخدي مني حاجة تانية هتموتي قبل ده ما يحصل هتموتي..

ضربت عشق يديها بشكلٍ مُتكرر وهي تشهق باختناق بأعين جاحظة دامية، وشفتيها تتحرك محاولة إلتقاط أنفاسها بصعوبة، وخط الدماء بدأ يسيل من جانب جبهتها المدمية، لتدفع جـنّـة برأسها بقوة أكبر كادت تخترق زجاج المرآة وبدأت تحذرها بهسيس صوتها المشابه لأفعى كان يضرب أذنها يلدغها: أنا براقبك و عارفة أنتِ بتعملي ايه في كُل ثانية، وبحذرك لو شوفتك مع قُصيّ تاني هتموتي يا عشق والله هتموتى..

توقفت يديها عن الضرب وضعفت مقاومتها وبدأ جسدها يرتخي مستسلمة لموتها المحتوم الذي رأته داخل مقلتيها المرعبة بعد أن تحولت بشرتها النضرة المتوردة إلى زرقاء قاتمة كالأموات بينما الأخرى كانت عروقها نافرة وجهها محتقن بحمرة إثر ضغطها بقوة واصرار لكن تراخت يديها عن رقبتها فجأه ودفعتها بعيدًا عِندما سمعت صوت قُصيّ يقترب هادرًا بإسم ريمة بانفعال..

أخذت شهيقًا من الأعماق وهي تبتسم براحة، القت نظرة ساخرة على جسدها المسجى أرضًا ولذة تجتاحها وهي تسمع صوت سُعالها المختنق، هزَّت رأسها بأسف مصطنع وملامحها تتقلص بنفور بسبب صوت سُعالها المزعج..

اتجهت إلى الخارج بخطواتٍ متهادية رشيقة لتصدم بصدر قُصيّ المندفع للداخل، شهقت برقة وهي تريح يديها فوق صدره تناظرة بمكر وهي ترفع احدي حاجبيها ليتوقف متعجبًا لاهثًا بانفعال و جبينه يتفصد عرقًا، ، شملها بنظرة من أعلاها لأخمص قدميها وباستنكارٍ قال: جـنّـة؟!

دفعته إلى الخلف و ابتسامة شيطانية تعتلي ثغرها ليصطدم ظهره بالحائط ومن دون مقدمات هجمت على شفتيه تقبله بشغف وهي تدخل يديها من خلف من سترته تحوط خصره بقوة دون أن تفصل قبلتها المحمومة ودون أن يفهم ما يحدث! لقد باغتته وتلك الآلام المبرحة عادت تفتك بجسده..

ـ عشق!، وصل إليهما صوت جاسم المنصدم الذي طغى عليه الخذلان لتبتعد جـنّـة بابتسامة منتصرة وهي تمسح طرف شفتيها بإبهامها أمام نظرات قُصيّ المستهجنة وبخسةٍ همست أمام شفتيه: يا انا يا هي يا قُصيّ، رفقت كلامها بقبلة سطحية فوق شفتيه ثم التفتت تنظر إلى جاسم الذي أحس بأن قدميه لم تعد لهما من موطئ صلب، كان يجرها خلفه وهو يقترب منكسرًا لثانِ مرة بسببها والنيران تندلع بين جنبات صدره، لتغمزة بعبث وهي ترسل لهُ قبلةً في الهواء ثم استدارت و غادرت تاركة قُصيّ يحملق في ظهرها يستوعب ما فعلت، تلك الشيطانة!.

أنفاس هادرة ضربت وجهه مع زمجرة قوية فالتفت ليجد جاسم يقف أمامه وملامحه لا تبشر بخيرٍ البتة، وهو يشعر بالوهن لا يقدر على المشاجرة..

هزَّ رأسهُ بنفي ونطق مبررًا أمام ملامحه المتجهمة وزرقاوية الجحيميتين المشتعلة بخطورةٍ طغت على لمعتها النقية: لأ، لأ، استني، دي مش عشق، مش عشـ، عاجلة بلكمه أطرحته أرضًا بعنف، تأوة بألم إثرها وهو يرفع جسده، يستند على راحة يديه ليركل جاسم معدتهُ بِغل أسقطه على وجهه وظل يركله كأنهُ كيس ملاكمة متكوم أمامه في أوج غضبه العاجز وهو يسبه بأبشع الألفاظ، ولم يتوقف، لم يتوقف رغم تعبه وتعرقة لأنهُ يُريد الانتقام لشرفة لكن تلك الراحة تلاشت عِندما بصق قُصيّ دماءًا وهو يسعل بقوة..

توقف يلهث بأنفاس متسارعة وهو يراقبه بوجوم وجسده ينقبض وينبسط بقوة، جلس القرفصاء أمامه وقبض على تلابيبه يهدده بقوة هادرًا وهو يهزه بين يديه: لو قربتلها تاني هقتلك، هقتلك، وضرب رأسهُ أرضًا ووقف كي يغادر لكن انتفض قلبه وتنبهت حواسه عِندما سمع صوتها المُنهك يأتي من خلفه: جـ، جاسم، نطقت بهذا وهي تتحامل على نفسها كي تقترب وتخرج لكن العالم دار بها وسقطت بضعف ليهرول إليها بسرعة البرق ويطوقها قبل أن تسقط لتستقر رأسها على صدره..

نظر إليها بتشتت وهو يحتضنها بحرص شديد ثم نظر إلى قُصيّ الذي يحاول الوقوف بتعب بعدم إستيعاب لحالته! فما هذا الضعف؟!
هتف بتقتير وهو يحاول الوقوف بإنهاك: قـ، قولتلك مش عشـ، زمجر بغضب وركله مجددًا وهدر بمقتٍ شديد: متجبش سيرتها تاني..

سعل بتعب وتوقف عن المقاومة وظل مسطحًا يلهث والألم يفتك بكل خلية في جسده متابعًا ابتعاد جاسم وهو يحمل عشق بين يديه وقدميها تتراقص في الهواء بهذا الحذاء الأسود، فلغبية الأخرى أتت بحذاء ذهبي وهذا ما كشفها..
تحامل على نفسه واتكأ على الحائط كي يقف بثبات وبدأ في السير بترنح وألمه يتزايد في أعلى بطنه، مسح الدماء من فوق فمه بذراعه وسار إلى الخارج يطوح بجسده هُنا وهُناك حتى كادت السيارة تضربه..

ضغط المكابح بقوة واندفع خارج السيارة مهرولًا ناحيته بقلق، رفع قُصيّ رأسهُ وهو يحوط معدته بألم ليتمتم بتعجب وهو يرى ذلك الصفيق يقبل عليه: سامي!
صاح بتعجب وهو يشمله بنظرة معبرة ثم سأله باستفهام: أنت كُنت في الحفلة؟
رد بنزق وهو يلهث بتعب: أنت مالك؟
ـ طيب جاسم جِه؟، سأل وهو يتلفت حوله، ليرد عليه بغلظة: معرفش..
وضع يديه داخل جيب بنطاله وهو يهز رأسهُ بتفهم ثم قال باقتضاب: كويس اني شوفتك عشان تنفذ وعدك.

سأله بنفاذ صبر ومعدته تتقلص من الوجع: وعد ايه موعدتش بحاجة!
ارتفعت زاوية شفتيه بسخرية ثم هدر بتزلف: لا اتفقنا وعشق لسه مش معايا ولا سلِّمت ايه؟!
هز رأسهُ وهتف ممتعضًا: ايه؟ اعملك ايه؟ روح خُدها من ابن عمك انا مالي؟!، واستدار ليذهب لكن سامي أمسك مرفقة بقوة وهدر باعتراض: لا يا حبيبي انا ساعدتك كتير مش عشان جمال عيونك! ساعدتك عشان عشق تبقى بتاعتى فى الأخر مش عشان تاخدها أنت؟

ورغمًا عنهُ ضحك بسخرية حتى تأوه من نبض معدته إثر الألم الفتاك الذي يرجف بدنه..
هتف ببرود وهو يقاوم تلك الآلام: أنا خدتها؟ فين؟ مفيش الكلام ده عشق بح خلاص..
مسح وجهه بغضب وسأله بأعصاب مشدودة: يعني ايه الكلام ده؟

اقترب منهُ وهتف باستصغار: يعنى تشوف أنت رايح فين ووريني عرض كتافك وبيك أو من غيرك كُنت هعمل اللي انا عايزة عارف ليه؟، ابتسم واستطرد هامسًا بجانب أذنه باستفزاز: عشان عشق حبتني انا و متحاولش، تاكس تاكس.

توقفت سيارة أجرة أمامه ليصعد ويختفي عن وقع أنظاره بينما هو ظل يقف محله كالنخلة يُحدق في السيارة وهي تبتعد وحرارة الغضب تنصهر داخله و مقلتيه تقدح شرًا وهو يفكر بخبث شيطاني لأنهُ سيحصل عليها مهما طال الانتظار وهو متأكد من هذا، فإن لم يساعده يوجد جـنّـة سوف تساعده بصدرٍ رحب، صفَّ سيارته وهو يصفر باستمتاع ثم دخل إلى الحفله لأن ليلته ستكون حافلة..
على جانب الطريق داخل سيارة جاسم..

وضع اللاصقة الطبية فوق جرحها برفق بعد أن نظفها وهو يتابع ملامحها الساكنة بتأنيب، مرر أنامله فوق وجنتها برقة والذنب ينهش داخله لأنها تأذت وظنَّ لوهله أنها عادت إليه، بل كان متأكد أنها عادت إليه لكنهُ صعق عندما رآها! فلم يعد يفهم ما يحدث تلك جـنّـة أليست محجبة؟ ما خطب تلك التعابير التي كست ملامحها والنظرة التي تلألأت في مقلتيها ونظرت إليه بها؟! تلك ليست البريئة التي كانت معهُ! ليست هي بالتأكيد هُناك ما يحدث وهما جاهلان به، لكن ما فهمه أنها تريد الإيقاع بينهما وبشدّة كي تقبل على فعل هذا؟

دلَّك نحرها برقة من ذلك الاحمرار القوي الذي غمَّ قلبه وأشعره بالألم كأنهُ هو من تعرض للإختناق من النظر إليه فقط، الحزن يكتسي ملامحه مؤنبًا نفسه بسبب ماحدث معها..
شهقت وهي تنتفض من على المقعد ليثبتها من منكبها وهو يهدئها بحنان: هشش أهدي متخافيش..
مسدت نحرها بهستيريا وجسدها يرتعد من الخوف وبدأ تساقط عبراتها بغزارة وهي تقول بخوف: كانت هتموتني كانت هتموتني..

ضمها إلى صدره بحنان ويديه تمسد ظهرها برفق: هشش اهدي أنتِ كويسة مفيش حاجة هتحصلك وحشة الحمد الله اني لاحظتك، تشبثت في قميصه تبكِ بحرقة، دافعة بنفسها لأحضانه أكثر بخوف لأول مرة يراه يصدر منها ويشعر به بتلك الطريقة..

شدد قبضته حولها داعمًا وهو يمسح على شعرها بحنان، هامسا لها بعبارات مطمئنة حانية حتى هدأت وتوقف انتفاض جسدها نسبيًا: اهدي خلاص هنمشي، أومأت بتذبذب وهي تبتعد عن صدره ليخلع سترته الثقيلة و يضعها فوق كتفيها وهو يُريح ظهرها على المقعد برفق: ارتاحي لحد ما نوصل..

أراحت رأسها على المقعد، وأخذت تُحدق من النافذة وهي تضغط على الزر كي يختفي الزجاج ويصل إليها الهواء النقي لأنها تختنق، فقبضته جـنّـة مازالت تشعر بها فوق عنقها مسببةً لها الرعب، حركت جفنيها المتورم ببطء شاعرة بالحرقة داخل مقلتيها الحمراء ليفتح جاسم عبوة العصير من أجلها ثم وضعها بين يديها يحثها على ارتشافها وهو يداعب وجنتها بنعومة: اشربي ده، أومأت بابتسامة اخرجتها بصعوبة بالكاد رآها ثم بدأ في القيادة في طريقه إلى الإسكندرية..

صفعت جـنّـة باب المنزل بعُنف ثم قذفت الحذاء من قدميها وسارت إلى الداخل وهي تصيح بإسمها بثوران مُزِج بعصبية: ريمة، ريمة، ريمة.

أتتها ركضًا لكن ليس ريمة بل غرام الصغيرة، تبدل الغضب و تهللت أساريرها و أهتز كيانها وهي تراها تركض تجاهها بسعادة خالصة، جلست القرفصاء وفتحت يديها على مصراعيها وقلبها يخفق باضطراب واغرورقت عينيها بالدموع وهي تستقبلها بصدرٍ رحب، مبتسمة بحنان ومن دون مقدمات حملتها بين يديها وهي تقف بها مغرقتًا إياها بوابلاً من القبلات الموزعة في أنحاء وجهها الناعم وعبراتها تتساقط بغزارة، وشعورها بتلك الغريزة الأمومية يداعب حواسها ويدغدغها ويرهف بها، لا تصدق أنها بين يديها وتعانقها الآن..

همست في أذنها بحزن وهي على وشك البُكاء: وحشتيني أوي يا مامي..
قبلتها بهلفه وهي تضمها بقوة أكبر قائلة بحنان: أنتِ أكتر يا حبيبتي أنتِ أكتر، مش هسيبك تاني ابدا والله مش هسيبك هتفضلي معايا على طول..
هزت رأسها بخفة وهي تخفي وجهها فى رقبتها، لتميل جـنّـة و أوقفتها أرضًا ثم جلست على ركبتيها فوق البُساط عِندما شعرت بالحرقة في عينيها، تلك العدسات اللاصقة يُجب أن تخلعها..

رفعت سبابتها مع طرف إبهامها ونزعت العدسة من عينيها اليسرى ليتناهي إلى مسامعها صوت شهقتها الصغيرة وهي تبتعد إلى الخلف بخوف لتصطدم بجسد ريمة التي توقفت امامهما الآن، اختبأت خلفها وهتفت برفضٍ تنبذها وهي تشد على ملابسها بقوة: دي مش مامي..

هزَّت جـنّـة رأسها بنفي وهي تقترب منها بلهفة كي تفهمها: لأ، يا حبيبتي دي عدسة بصي بتتشال وبتتحط اهي، ورفقت قولها وهي تضعها داخل عينيها أمامها ثم خلعتها واستطردت وهي تبكِ بحزن: شوفتي دي عدسة عادي يا حبيبتي انا ماما!
هزّت رأسها بنفي وأخفت نفسها خلف ريمة وهي تقول بنبرة مرتعشة قبل أن تبكِ: بابي مش قالي كده دي مش مامي، واجهشت في نوبة بُكاء وهي تغمر وجهها بين راحة يديها الصغيرة، فطرت قلبها وهي تراقبها.

بحسرة، تعض على شفتيها ندمًا وقهرًا من قُصيّ فهي لن تسامحه على هذا الفعل أبدًا، رفعت رأسها ونظرت إلى ريمة التي تحدق بها ببرود وتعالٍ، فهي تستحق أكثر من هذا..
أمسكت كفها المتدلي برجاء وهمست متوسلة: ريمة قوللها يا ريمة أني أنا أمها..
ردت ببرود وهي تنفض يدها عن كفها: عشانها مش عشانك، أومأت بانفعال والأمل يحيي داخلها وهي تمسح عبراتها وظلت جالسة هادئة مترقبة لها، لايهم من أجل من فلن تضيعها هي الأخرى..

جلست ريمة القرفصاء أمامها ثم أبعدت كفيها عن وجهها وقبلتهم بالتناوب وهي تبتسم برقة أمام عبوسها ثم قبلت أسفل عينيها فوق دمعاتها الساخنة جعلتها تضحك بطفولية وهي تنظر إليها بحُب لتقول ريمة برقة وهي تقربها من جـنّـة: دي ماما يا حبيبتي وبتحبك اوي زي ما بابي قالك بالظبط، هي دايما بتخرج بالعدسات وبتتصور بيها عشان شكلها حلو بس علشان كده الصور اللي بابا ورهالنا لماما كُلها بالعدسة بس لكن هي ماما يا حبيبتي مش حد تاني، شكلها متغير ها؟

هزَّت غرام رأسها بنفي وهي تنظر إلى ملامح جـنّـة المطابقة للصور وعينيها تلمع أمام نظراتها الحانية تجاهها، وببطءٍ سارت خطوتين وجلست على قدمها ودثرت نفسها بأحضانها دون أن تتحدث..

لدقائق ظلت هادئة تعانقها بقوة مشفقةً عليها، فهي كانت ستقبلها بطريقة أو بأخري هي من تحتاجها وتحتاج لأمٍ في النهاية، قبلت جبهتها وهي تنهنه حتى سمعت صوتها الرقيق الهامس: سوري مامي، همست بندم وهي تدس نفسها داخل صدرها لـ تُقبلها وهي تغمرها بحنانها قائلة بحزن: حبيبتي انا اللي اسفه متزعليش مني، ثم فصلت العناق واستطردت بلهفة وهي تحتضن وجهها الصغير بين يديها: النهاردة عيد ميلادك صح انا مش ناسية وبُكرة هاخدك وهفسحك وهنروح والملاهي واي حته أنتِ عايزاها، وكل يوم هنخرج و هنتفسح انا هبقى فاضية ليكِ لوحدك طول الوقت ها..

أومأت وهي تبتسم ببراءة ثم رفعت كفها ومررت يدها الصغيرة فوق وجنتها بطفولية وهي تحرك أهدابها ثم طبعت قبلة رقيقة دافئة ذات ملمس ناعم..
تبسمت جـنّـة وكادت تقبلها لكن ريمة أخذتها وهي تحثها على الذهاب معها برفق: يلا يا حبيبتي عشان تغيري هدومك معاد نومك جِه..
أمسكت جـنّـة يدها أوقفتها عن السير وهتفت بحماس وهي تبتسم: انا هغيرلها وهتنام معايا النهاردة.

تلاشت ابتسامتها كـ تلاشي الدخان مع الرياح عِندما نفت ريمة وهي تأخذ غرام: لأ مش هينفع النهارده قُصيّ زمانه جي ولازم تتكلموا مع بعض..
أومأت بانصياع وهي تحدق في ابتعادها مع ريمة تتراقص أثناء سيرها بسعادة وهي تضحك، استدارت فجأة ثم بعثت لها قبلة في الهواء وهي تقول بفرحة: هستناكِ تحكيلي حدوتة قبل ما أنام..
أومأت بإيجاب ثم قالت بدفء: من عنيا الاتنين يا حبيبتي هحصلك..

صفَّ سيارته بعد عدة ساعات أمام عمارة منزلهم، أطفأ المُحرك بهدوء وهو يتنهد ثم القي نظرة سريعة على عشق الشاردة التي تطوف في مكانٍ آخر في زخم أفكارها التي لا تعرف لها نهاية، فقط ماذا قصدت جـنّـة بما حدث؟ الم تكن البريئة التي لا تقارن بها؟! ماذا حدث؟ وهل قُصيّ يعرف؟!
لمس كتفها برفق كي لا تفزع لكنها انتفضت رغم ذلك، ابتسم بأسف وهو ينظر إليها ثم حثها على الخروج: وصلنا يلا..

أومأت بهدوء وترجلت من السيارة ووقفت تنتظره ليقبل عليها فارغ اليدين من الحقائب وساعدها في السير، نظرت إليه بتعجب وقبل أن تسأل قال كأنهُ قرأ أفكارها: هنزل اجيب الشُنط بعد ما أطلعك..
أومأت وهي تبتسم في وجهه بامتنان، ضغط الجرس وهو يبحث في جيب السترة التي على كتف عشق عن المفتاح، توقف عِندما سمع صوت المفتاح يتحرك في المقبض من الداخل..

أطلعت عليه والدته ذات الوجه البشوش المبتسم لكن ليس في وجهها بالطبع، عانقها بحنان بعد أن قبل يدها ثم لثَّم جبهتها وهو يسألها عن حالها بنبرة رقيقة: عاملة ايه؟
ربتت على صدره بحنان وقالت بابتسامة عذبة ودودة: الحمد لله يا حبيبي فضل ونعمة من عند ربنا..
أومأ بخفة ثم أمسك بـ كف عشق التي ظلت واقفة أمامها كالغريبة دون أن يبدر عنها أي رد فعل يحثها على الدخول: مالك يا عشق ادخلي أنتِ لازم ترتاحي!

أومأت وسارت إلى الداخل لكن روحية دفعتها بحدّة بقدر ما ساعدتها قوتها، فلم تسقطها لكنها كانت كافية كي تترنح و يلاحظها جاسم..
أسندها جاسم وهو ينظر إلى والدته بعدم فهم وقبل أن يتحدث طردتها بغلظة: مش هتدخلي بيتي تاني غير على جثتي فاهمة؟! اتفضلي غوري من هنا..

ابتلعت غصتها وهي تنظر إليها بثبات ترفع رأسها بشموخ دون أن تشعرها بانكسارها ليشرع جاسم في التدخل بسبب قول والدته الذي استنكره لأبعد حد متمتمًا بذهول: ماما في ايه؟ ده بيت عشق مراتي؟!

صاحت بجنون تنفي هذا القول بانفعال: لا مش مراتك و هتطلقها ومش هتفضل معانا كفاية فضايح لحد كده كفاية اوي، سيبها تروح للي فضحتنا عشانـ، صرخ في وجهها بغضب وهو يمسك بيد عشق بقوة: لو سمحتي دي مراتي والموضوع ده بينا ومحدش يتكلم فيه..
علا صوتها وأصبح يتردد في البناية وهي تقول بهيستيريا لا يفهم سببها: لا هتكلم ومش هسكت ومش هتدخل بطل الهبل والطيبة اللي انت فيها دي وفوق بقى لنفسك ولا عايزها تديك قلم تاني؟

مسح وجهه بعصبية وقال من بين أسنانه مستنكرًا: أمي لو سمحتي كفاية أنتِ اللي بتعملي الفضايح مش معقول كده؟
أعادت قولها بنبرة نافرة وهي تشملها بتدني من أعلاها لأخمص قدميها: عادي ماهي مفضوحة مش محتاجة أتكلم أنت اللي مغفل ومتعرفش بيقولوا ايه؟ والشهر اللي رمتني فيه لوحدي كان كفيل إني اسمع كويس اوي.

تمتم باستهجان: رميتك؟ انا سايب معاكِ ممرضة وكُل ساعتين كُنت بتصل أطمن عليكِ كده أبقي رميتك؟ أنتِ عارفة أني مشغول مع عشق في الامتحانات؟!
قلبت عينيها ثم رشقتها بنظرة كارهه قبل أن تقول بقسوة: تمام وخلصت الامتحانات وخلاص خلصت تشوف بقي هي هتروح فين وتطلقها لأني مش هسمحلك تفضل معاها ولا اسمها يبقى مرتبط باسمك غير على جثتي..

ضم قبضته بغضب ينفث عن غضبه من خلالها حتى ابيضت غير متنبهًا على كف عشق الذي كان يسحقه سحقًا دون أن يدري من شدّة غضبه، عضت شفتيها بقوة وتساقطت عبراتها من الألم دون أن تلفت نظرة على هذا..
هدر بيأس لأنه يعرف أن والدته لن تغير رأيها: ماشي هنمشي هاتي مفتاح بيتها لو سمحتي..
سألته بدون تعبير: بيت مين؟ مالهاش عندي بيوت! وهتمشي مش هنمشي أنت هتفضل في بيتك..

نطق مستفهمًا بثبات إنفعالي الحرارة تجتاح جسده من العصبية: يعني ايه مالهاش بيوت عندك فين المفتاح والمستندات اللي تثبت ملكية عشق؟ هي ليها كتير أوي وأنتِ عارفة؟!
ردت بجفاء كمن نزع من قلبها الرحمة: كان ليها لما كانت محترمة وصاينه نفسها لكن دلوقتى مالهاش عندي حاجة دي فلوس أختي..

ابتسمت بسخرية وهي تخفض رأسها تجفف عبراتها ثم رفعتها بشموخ والابتسامة تزين ثغرها فهي لن تجعلها تنتصر عليها تلك المرأة، لطالما شعرت بأنها سوداوية من الداخل لكنها كانت تبعد تلك الأفكار عنها دومًا لكن ها هي تظهر نفسها متحججة بإبنها..

فوجب عليها أن تقول هذا متصنعة القوة لكن نبرتها خرجت مرتعشة رغم هذا وهي تنظر إليها بتحدي: أنا مش عايزة حاجة بس حابة اوضحلك أن دي فلوس ابويا مش فلوس أختك اشبعي بيهم ان شاء الله هيدخلوا عليكِ بالخراب..
رفعت يدها لأقصاها وهي تبسط كفها هاويةً به على وجنتها والشرار يتطاير من عينيها لتشهق عشق مجفلة و تغمض عينيها منتظرة الصفعة لكن يد جاسم التي منعتها حالت هذا..

نظرت بينه وبين يدها التي يمسكها بصدمة ليتركها زافرًا بحدّة وهو ينظر إليها بخذلان قائلا بعدم تصديق: انا مش مصدق اللي انا بسمعه ده مش مصدق، على العموم انا مش هسيب عشق ولو مشيت همشي معاها مع السلامة، يلا عشق..
هزت رأسها بنفي كي يبقى مع والدته ولا يخسرها من أجلها لكنهُ لم يترك لها المجال للتفوه بحرف وسحبها معهُ بقوة لم يستخدمها قبلًا معها..

راقبته بحسرة أمٍ على طفلها ثم صاحت من قهرتها قائلة بجدية دون رجعة: لو مشيت معاها قلبي وربي غضبانين عليك ليوم الدين يا جاسم ليوم الدين..
توقف عن السير وحزنٍ عميق استعمر قلبه، فهي تضغط عليه وتستغل نقطة ضعفه لأنها تعلم أنهُ لا يستطيع ان يحزنها ولو لخمس دقائق، لكن هذه المرة مُختلفة ماذا تعني بما قالت؟ هل نبذته الآن إلى يوم مماته؟ كيف تستطيع بتلك السهولة فقط بسبب كرهها لعشق! هو أبنها بعد كُل شيء؟!

استدار وهتف بدون تعبير وهو ينظر إليها بتمعن: شكرا لأنك اظهرتي قدر محبتك ليا في أقرب فرصة جاتلك، وحدث مالم تتوقعه وغادر وتركها بسبب عشق تلك الشيطانة الملعونة..
صفقت الباب بعنف ووقفت خلفه تبكِ بقلبٍ مفتور بسبب ضياع عزيزها منها بلحظة اندفاع وقت غضب..

فتح باب السيارة بغضب وعمد على إدخال عشق لكنها توقفت وأغلقت الباب ثم استدارت لتكون مقابلة، توسلته بأعين دامعة: اطلع يا جاسم أنت مش هتيجي معايا في حته مش هسمحلك تخسر كل حاجة بسببي..
قبض على ذراعها بخشونة وهدر بحدّة: مش هسيبك أنتِ فاهمة؟ مش هسمحلها تحطني قُدام الأمر الواقع لأي سببٍ كان!

انسلت عبراتها من فيروزتيها المتلألئة أسفل ضوء القمر ثم احتضنت وجهه بين يديها بلهفة وتحدثت بنبرة ضارعة والذنب يتأكلها: دي أمك يا جاسم مش اي حد لازم تسمع كلامها، انا هبقي كويسة متخفش عليا، هكلمك كل يوم و هستناك بس لازم تبقي راضيه عنك مش هسمحلك تبوظ حياتك عشاني كفاية..

هز رأسهُ وحرك شفتيه للأعتراض فوضعت جبينها فوق جبهته و ترجته بصوتٍ مذبوح وهي تبكِ: أبوس ايدك اسمع الكلام انا مش هستحمل الذنب ده كمان لو بتحبني بجد أطلع وخليها ترضى عنك يا جاسم هي
رضاها اهم من اي حاجه في الدنيا لازم ترجع..
كبّل خصرها بيديه وهو يبلع غصته بمرارة قائلا بعذاب وشفتيه تلامس طرف شفتيها: متعمليش فيا كده انا بحبك متبعدنيش عنك..

استنشقت ما بأنها وقالت بنشيج وهي تربت على وجنته: ده الاحسن ليك دلوقتي بس انا هستناك وهفضل مستنياك وهكلمك كل يوم صدقني..
رفض بقوة وهو يقربها منهُ أكثر مشددا قبضته حولها بخوفٍ من فقدانها: انا هجيبلك مفتاح بيتك وحاجتك وهتفضلي معايا..
عضت على شفتيها ثم قالت متحسرة: انا عارفه و متأكده إنها عمرها ماهتديك حاجة مش هتديك حاجه، يمكن معاها حق و وجودي هنا مبقاش لطيف لا ليكم ولا ليا ولازم أمشي من هنا يا جاسم..

امتقع وجهه وعصفت الأفكار السيئة برأسهُ لتريح قلبه بقولها بصدق وهي تجفف عبراتها بتعب: عمري ما هرجعله يا جاسم ولو أخر يوم في عمري مش هرجعله، انا هرجع الشقة اللي كُنا قاعدين فيها صاحبها ملحقش يأجرها اكيد، أرجوك متمنعنيش محتاجة أكون لوحدي..
أومأ بانصياعٍ من أجلها، مراقبًا انكسارها و انطفاء بريق عينيها المشع وذبول ملامحها كـ عجوزٍ وذهاب زهوها حد الجحيم، فعشق لم تعد كما اعتادها لم تعد ويشك أن تعود..

تمتم بقلقٍ أضناه وهو يرى حالتها: انا خايف عليكِ اللي حصـ، أوقفته بقولها بهدوء كي يطمئن: محدش هيعرف أني رجعت انا مش هروح في حته ممكن يشوفوني فيها متخفش عليا..

تلفت حوله كي يشتت نفسهُ وأفكاره ولا يتأثر ويبكِ لأنهُ يشعر أنها تضيع للمرة الثانية أمام أعينه: طيب، طيب أنا هوصلك اركبي، قال وهو يستعد للمغادرة لتمسك ذراعه تمنعه من التقدم قائلة بابتسامة منهكة: لأ يا جاسم أنا هاخد تاكس ولسه بدري الساعة متأخرتش لما اوصل هرن عليك متقلقش..

تنهد بـ همٍ وهو يرفع رأسهُ للسماء يضم شفتيها بقوة كي لا يظهر ارتجافها الآن، فـ بالرغم من وقوفها أمامه مباشرةً يشعر بأن المسافة بينهما كالمسافة بين السماء والأرض متباعدة ومن المستحيل أن يصل إليها، صعبة كصعوبة إحصاء عدد نجوم السماء، معقدة كمحاولة فك بعض الطلاسم، هي بعيدة أثناء قُربها وبعيدة أثناء بُعدها، فكما يبدو أن أحدهم فقد قلبه و سيكمل بقية حياته شاردًا يفكر في كيفية استعادته..

لوحت بيدها أوقفت سيارة أجره وهي تكتم أنينها فما يحدث معها يفوق طاقتها وقدرتها على التحمل حقًا تلك المرة، جاسم فقط ما يجعلها صامدة مثابرة، تظن أن هذا تكفير ذنبها وخطأها بحقه، وليست معترضة فإن كان هكذا ستتحمل حتى تتوقف عن تأنيب نفسها وتكتفي، لكن تشك بهذا لأن كل موقف يمر عليها معهُ يشعرها بدنائها وكم هي و ضيعة حقيرة لا تستحق الغفران..

حثته على التحرك والانتباه للسائق كي يتوقف عذابها وتذهب: جاسم خرجلي الشنطة من العربية ممكن..

انتبه إليها ثم حدق بسيارة الأجرة قليلًا يفهم ما يحدث ثم تحرك بآلية وأخرج حقيبتها من السيارة، أعطاها إلى السائق كي يضعها في سيارته وسارع بإخراج بطاقته الائتمانية ثم وضعها بين يديها وهو يضغط عليها بقوة يوصيها بترجي لأنهُ يعرف أنها لن تقبل أمواله: خليها معاكِ واستخدميها في أي وقت تحتاجي فيه فلوس، هزت رأسها بنفي وهي ترخي قبضتها فوقها ليضغط عليها اكثر معيدًا قوله بلهجة آمرة مهددًا: لا هتاخديها يا إما هاجي معاكِ..

أومأت بانصياع ثم عانقته بقوة وهي تشهق ليحوطها بقوة حتى لم تعد قدميها تلامس الأرض دافنًا رأسهُ بشعرها هامسًا بنبرة دافئة مطمئنة هدأت من قلبها المحترق: أنتِ بنت خالتي يا عشق، ومهما حصل هنفضل مرتبطين، عمري ما هبطل أساعدك أو أقف في ضهرك مهما حصل دايما هتلاقيني، يومين بالكتير و هجيلك مش هسيبك..

شعر بتحريك رأسها ضد رقبته موافقة وهي تبكِ، ليفصل العناق ثم لثّم جبينها وانامله تمسح عبراتها بحنان لتهمس لهُ بصدق للمرة الأخيرة: خلي بالك من نفسك واوعي تثق في سامي يا جاسم، سامي مش كويس ومش بيحبك، ورفقت قولها بصعودها إلى سيارة الأجرة دون أن تمهله فرصة كي يفهم منها معنى هذا وقبل أن يبدر عنهُ فعل طلبت من السائق الانطلاق وهي تودعه بنظراتٍ لم تهدأ قلبه المُلتاع..

صعد رغمًا عنهُ، أجفلها طرق الباب فابتعدت عنهُ وجففت عبراتها ثم فتحته بخفة، شهقت و تهللت أساريرها قائلة بفرح والسعادة تغمرها: جاسم! كُنت عارفه انك هترجع ومش هتسيبني..
ردّ ببرود وهو يتخطاها صاعدًا إلى غرفته: مرجعتش عشانك..
نظرت إليه بحزن وهي تهدأ من روعها فلايهم بروده معها طالما عاد، ستراضيه مثلما فعلت الخائنة وسامحها وهي والدته بالتأكيد سيصفح..

دقت الثانية عشر وحلّ منتصف الليل وقُصيّ لم يحل بعد..
ذرعت غرفة الجلوس من ركنٍ لأخر وهي تفرك يديها معًا بقلق والخوف يحتل كيانها، فأين ذهب لمَ لم يأتي إلى الآن؟ هل لحق بعشق أم أن شيءً سيء أصابه؟ فهو متعب ويكابر فهل حدث شيء؟! هي مازالت تعشقه ومن قلقها لم تصعد خلف ريمة كما قالت..

وبخت نفسها بحدّة بسبب قلقها المفرط عليه، فهي ستصفعه ما أن تراه بسبب فعلته الشنعاء في حقها، ولبي النداء وأغلق باب المنزل بعد أن دلف بهدوء حاملا سترته بين يديه ووجهه مكدوم والدماء عالقة في قميصه الداكن فكانت لا تظهر مطلقًا..

هتف باستفهام وهو يوزع نظراته في غرفة الجلوس باحثًا عن ريمة: ريمة فيـ، ردت عليه صفعتها ذات الصدى هادرة بوحشية: أنت ازاي توري بنتي صور عشق على أساس إنها أمها يا حقير؟!، توقفت بقية الكلمات في حلقه وصدى تلك الصفعة يتردد في أُذنيه، تلك البغيضة هل صفعته الآن؟، غامت عينيه في سوادٍ قاتم وتقدح الشر من مقلتيه و جأر بغضب جامح وتلبسه الشيطان وهو يسحبها من جذور شعرها خلفه إلى غرفة النوم بقوة كاد يقتلعه بين يديه دون الإلتفات إلى صرخاتها المتألمة وضربها لذراعه بقوة كي يحررها لكنهُ أبي وقبضته تشتد أكثر حتى بكت بين وهي تحاول مجاراة سرعته على الدرج لكنها سقطت واصطدمت ركبتها في حواف الدرج..

صرخت بنحيب وهي تضرب قدمه كي يتوقف لكنهُ رفعها بعنف دون رحمة وعينيه تشِع بوميض مُدمر رأت موتها داخله، صفع باب الغرفة خلفه بقوة رج أركان المنزل، حاصرها بينه وبين المنضدة، الصق وجهها في المرآة بقوة كي تنظر لنفسها وهو يدفع مؤخرة رأسها بيده فكانت تقبل المرآة حتى كادت تختنق، سألها بحدّة وهو ينظر إليها عبر المرآة: مين دي؟ شايفة نفسك؟ انا مورتهاش غير صورتك أنتِ..

هزت رأسها بقوة فأرخى قبضته قليلاً عنها لتستدير وتقابله وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة ويديها تمسد عنقها بلهاث، وهذا الشعور بكونه يرد لها ما فعلته بعشق يغمرها، هذا إن عرف ماحدث؟!، خلع قميصه بعنفوان وأخرج غيره من الخزانة بينما يقول بصوت أجش متبلد: حالتك أنتِ المسؤولة عنها مش حد غيرك..

ضربت صدره بقبضتها بقوة وهي تتحدث بجنون: إزاي يعني انا؟ المفروض أعمل العملية وارجع لشكلي الطبيعي هعملها إزاي دلوقتي؟ وهي هتقبلني إزاي؟ دي مش صغيرة عشان نضحك عليها؟! ليه عملت كده ليه؟
أمسك ذقنها بقسوة وهمس بتشفي وهو يحدق في مقلتيها المهتزة الممتلئة بالعبرات: بنتقم لنفسي منك يا جـنّـة! ينتقم لحياتنا اللي بوظتيها ولبنتي اللي حرمتيها منك مش من حقي؟

علا صدرها وهي تكتم شهقتها وشفتيها ترتجف لكنها لم تستطع السيطرة على عبراتها التي أخذت في الانسلال واحدة تلو الأخرى أمام نظراته الجامدة، وبخفوتٍ وغصه مؤلمة قالت بصوتها المرتجف بتقتير: انا، اتحرمت، من، أمي بسبب ابوها..
قست أنامله فوق ذقنها وهدر بجفاء: أبوها مات وأمها ماتت معاه واتحرمت من الاثنين ومستقبلها ادمر وهي مالهاش ذنب مش كفاية؟ نارك مبردتش لسه؟!

رفعت حاجبها الأيسر وتوحشت ملامحها وهي تهز رأسها هامسة بفحيح شيطاني: لسه وولا هتهدي، الدنيا مش هتسيعنا احنا الاتنين يا قُصيّ يا إما أنا يا إما هي وأنا اخترت أني أكون، وهي خطوة، خطوة واحدة بس و تنتهي كُل حاجة وسامي اللي هيقوم بيها..
جأر و ضغط على فكها بقسوة كاد يهشمه أسفل أنامله القاسية محذرًا إياها بنبرة مميتة: سامي لو لمس عشق هقتلك أنتِ وأبوكِ الحقودى المُقرف..

دفعت يده من شدّة الألم قائلة بحقد: وكلامك لوحده كفيل أنه يخليني أقتلها بنفسي يا قُصيّ..
ضمّ قبضته بنفاذ صبر والحرارة تكاد تخرج بخارًا من أذنيه من فرط إنفعاله من الحديث معها، العنف لن يفيد والغضب لن يفيد لهذا حدثها بهدوء وهو يمسح على شعرها كـ طفلة يستدرجها بعيدًا كي يخطفها من والدتها: جـنّـة مش ملاحظة كُل حاجة انتهت خلاص انا أهو معاكِ وبنتك معاكِ وخلاص خلصت مفيش عشق أنتِ عايزة إيه بقي؟

افترت شفتيها عن ابتسامة جانبيه ثم رفعت كفها وداعبت وجنته بنعومة قائلة بهدوءٍ مماثل: عايزة انتقم يا قُصيّ هعوز إيه يعني؟
نقطة البداية، عاد لنقطة البداية من جديد لن يجدي الحديث معها لن يجدي نفعاً..
هتف بيأس وهو يمسد جبينه من صداع رأسهُ: يا جـنّـة لو لسه عندك أمل أننا نرجع وعايزة تصلحي اللي بينا وقفي لحد هنا وكفاية كفاية كده بوظتي حياتها وخلاص..

هزت رأسها بنفي تبتسم بغموض، فهي تريد رؤيتها جثة هامدة هذا ما تريده وترغبه أكثر من أي شيء في هذه الحياة..
همست بخفوت وهي تمرر أناملها فوق ذقنه المشذبة قائلة بأسف: أنت زعلان عشان عشق بتتأذي و روحية لا؟!
تنهد بيأس وقال رغبةً في الإقناع: جـنّـة افهمي عشق مالهاش ذنب ده ابوها مش اكتر هتستفادي ايه؟ أمك مش هترجع مش هترجع افهمي بقي..

أومأت بتفهم واغرورقت عيناها بالدموع ثم هتفت تذكره بنفسه: نسيت نفسك! نسيت أنت قربت مني من البداية ليه؟ نسيت أنك بتكره أبويا؟
قال بجمود وهو ينظر إليها نظرة ذات مغزى: لأ منستش ولسه بكرهه ومستني اليوم اللي هتيجي فيه مصيبة تاخده عشان اتشفي فيه لكن أنتِ! أنتِ ذنبك ايه؟ عمري جرحتك بكلمه ولا مديت إيدي عليكِ بسبب كُرهي لأبوكِ!

ابتسمت بسخرية وهتفت تذكره مجددًا بحقد يتفاقم أكثر تجاه عشق: مضربتنيش بسبب أبويا بس ضربتني بسبب عشق، و، قاطعها بحدّة وصحح قولها بتهكم: ضربتك لما عرفت بتعملي ايه مع جاسم بحجة أنك عشق هو ميعرفش لكن أنتِ تعرفي وده اللي مجنني لحد دلوقتي ليه؟!
تساقطت عبراتها و أسبلت جفنيها بألم وهتفت بحرقة: كُنت عايزة اسحرة واخليه يكرهها لأنها خدتك مني..

قبض على مرفقها بقسوة وصاح بعصبية: ومين اللي اتخلي الأول مين؟ ومين ضغط عليا عشان أوافقك مين؟

صرخت بشراسة وعينا جاحظة من فرط الأنفعال وهي تنفض يده عنها: اتفقنا إنك تخليها تحبك مش العكس كُل حاجة كُنت بتيجي تحكيلي عنها لحد ما بطلت ومبقتش اشوفك اصلًا، طول الفترة دي وانا بقنع نفسي أنك متغيرتش وأنك بس واخد على خاطرك مني بس أنت حبيتها ونسيت كُل حاجة يا قُصيّ نسيت أنت مقرب منها ليه ودخلت حياتها ليه بس غلطت يا قُصيّ غلطت لما نسيت ومحدش هيتحمل النتيجة غيرها..

تبدلت ملامحها وتبسمت بـ شر وهي تفرك يديها بحماس قائلة وهي تحدق في نقطة معينة: روحية هتموت، هتموت بسبب ارتفاع السُكر ومحدش هيلحقها وعشق، عشق محدش هييجي جنبها هي اللي هتقتل نفسها!.

قبض على ذراعيها بقوة وعينيه تومض بتحذير مطلقًا تجاهها آلافًا من النظرات القاتلة المعبرة لتهمس بـ كُره وهي تُحدق في عينيه بتحدي: طول ما أنا شايفة اللهفة اللي في عينك دي عليها مش هسيبها، وانا مُستعدة أكمل حياتي بـ شكل عشق عشان غرام بس مش هينفع نبقى اثنين لازم واحدة تمـ، توقفت عِندما لانت ملامحه وحل محلها القلق وأرخي قبضه على ذراعيها وسارع بالتقاط قميصه وكتم به الدماء التي بدأت تسيل من أنفها..

أوقفها معهُ برفق وسار بها إلى دورة المياه، فتح صنبور المياه ثم أخفض رأسها وبدأ ينظف الدماء من حول أنفها وهو يؤنب نفسه بسبب ضغطة على وجهها في المرآة بتلك القسوة..
التقط منشفة ورفع وجهها يجففه برفق لتتوقف يديه ويتبادل معها النظرات لثوانٍ عِندما رأي نظرتها المتعجبة المغلقة بالحنان كأنها تسأله ماذا يفعل؟ كادا يقتلان بعضهما من ثواني قليلة فقط ماهذا الآن؟.

حرك أهدابه وهو ينظر إليها بعدم فهم حتى تدارك موقفه فنظر إلى المنشفة ثم إليها، كورها بين قبضته وهو يوصد جفنيه بقوة شاتمًا نفسه بغضب ثم قذفها في وجهها وتركها وغادر..
أمسكتها قبل أن تسقط وهي تبتسم بهيام، تقسم أنهُ مازال يُحبها، خرجت إلى الغرفة وهي تتحسس أنفها، بدلت فستانها بمنامة مريحة عارية كالعادة لا تخفي الكثير ثم ارتدت مئزرها ذات النسيج الشفاف فوقها وجلست على طرف الفراش تفكر قليلا..

طرق الباب للمرة الألف وهو يهدر بحدّة: افتحي ياريمة الباب بدل ما أكسره على دماغك وهكسر عضمك افتحي..
أتاه صوتها الخافت من خلف الباب: بكرة هفتح يا قُصيّ تكون هديت ووطي صوتك وبطل عصبية غرام موجودة معانا دلوقتي ولازم تخاف عليها متبقاش أب متخلف..
هدر وهو يركل الباب بقوة جعله يهتز: أنا هوريكِ الأب المتخلف ده هيعمل ايه ماشي يا ريمة ماشي
شاكسته من خلف الباب وهي تبتسم: تصبح على خير..
ردّ بسخط: مش هصبح اتخمدى..

أخرجت جـنّـة حبه مُخدرة من الشريط وهي تشعر بتقريع الضمير، لقد عزمت على التوقف من أجل غرام لأنها تُريد أن تصبح أمًا جيّدة، وضعتها بجانب كوب المياه بتردد دون أن تبلعها ثم أفرغت بقية الشريط في يدها ودلفت تتخلص منهم في دورة المياه، أغلقت باب دورة المياه خلفها ليفتح باب الغرفة ويدلف قُصيّ متأففًا وهو يخلع ملابسه وبدلها بأخرى مُريحة، ابتسم بحنان عندما تذكر ملامح غرام الملائكية وهي نائمة، غدًا يراها لأن قلبه لم يطاوعه كي يوقظها..

بحث عن حبوب لألم الرأس في درج الكومود لكنها نفذت، الغبية تأكلهم إنها تشرب المسكنات بطريقة مبالغ بها، لمح تلك الحبه الوحيده بجانب الكوب فابتلعها وارتشف بعض المياه وتسطح وأخذ يُحدق في السقف..

شهقت بفزع عِندما رأتهُ في الغرفة، اقتربت ببطء ونظرها معلق على الكوب برعب، فغرت فمها عندما لم تجدها محلها فرفعت كوب المياه و ارتشفته بعصبية وهي تبحث بناظريها بتشتت حتى تناهى إلى مسامعها صوته الحانق: هتفضلي واقفة فوق دماغي كتير..
قالت بدون تعبير وهي تبتعد والقلق ينخر عظامها من أنهُ قد يكون رآها ويختبرها: رايحة أطمن على غرام
قال ساخرًا وهو يتوسد ذراعيه: لا حنينه، زفرت بضيق ثم ذهبت دون الرد عليه..

لثَّمت جبهتها بحنان وهي تدخل ذراعها أسفل الغطاء بخفة، مسحت على شعرها الحريري المتناثر فوق وسادتها برقة وهي تتأملها لوقتٍ جهلت قدره فالنظر إلى قطعةٍ منها لا تشعرها بالملل بتاتاً، نظرت في أرجاء الغرفة بعدم رضي بسبب لونها الداكن وفراشها الكبير وخلوها من أي شيء يدل على كونها غرفة تخص طفلة، تفحصت كُل ركنٍ بتركيز وهي تُخطت في رأسها كيف ستحول هذه الغرفة كي يتكون مناسبةٍ لها، نظرت إلى حقيبة ملابسها بابتسامة وسارعت بفتحها كي ترتب الملابس داخل الخزانة لكن توقفت عِندما سمعت قُصيّ يضحك بصوت مُرتفع..

هرولت إلى غرفتهما بتعجب، شهقت وهي تري قُصيّ يرقص في منتصف الغرفة ملوحًا بـ كنزته البيتية التي خلعها وبقي عاري الجذع وهو يقهقه بثمالة..
أغلقت الباب عليهما من الداخل وهي تلعن نفسها، فقد علمت الآن أين ذهبت الحبه، هذا الغبي لمَ لم يسأل أولاً؟ لكن ماذا كانت ستقول؟ لا يهم كيف ستجعله يستفيق الآن؟

إقتربت منهُ بجزع ثم أمسكت ذراعة كي يتوقف عن الدوران كالأبلة وهو يضحك بسعادة لا توصف سعادة لم يحلم أن يشعر بها تلك الفترة أبدًا..
هتفت بهدوء وهي تبتسم في وجهه: قُصيّ ياحبيبي مالك فوق وكلمني اهدي..
قرص خصرها بعبث وهو يلاعب كلا حاجبيه بخبث: إيه يا جمل؟

شهقت وهي تضم مئزرها فوق صدرها بتوجس عائدة إلى الخلف بخطواتٍ مترنحه ليجفلها بسحبه لها من خصرها بقوة لتصطدم بصدره بحميميه، حركت كتفيها بانزعاج كي تبتعد لكنهُ شدد قبضته حول خصرها وباليد الأخرى رفع أنامله وأسدل حماله قميصها الرقيقة ببطء وتركيز ملامسًا كتفها برقة و انتباه كأنهُ يقوم بخياطة جرح غائر، توسعت عينيه ببراءة وفخر من نفسه لأنهُ أسدل حماله قميصها ثم انتقل بأنامله يسدل الأخرى بحماس تحت نظراتها المتعجبة وتسارع نبضها وثقل أنفاسها و ابتلاع ريقها برغبة أشعلها داخلها، وحبًا مازال يتَّقد..

أسدل الكتف الآخر ببطء مثيرًا لأعصابها ومشاعرها ثم ضحك وصفق بيديه بفخر جعلها تلكم صدره من الغضب معنفةً لهُ: هو ده أخرك؟

استدرات بغضب وهي تعدل قميصها فاللعنة على هذا ستتركه يضحك حتى الموت لا يهمها، شهقت بخضة وهي تبصرة يتجه ناحية الشرفة بترنح، ركضت وحلقت حوله كـ طفل ثم أغلقتها وأدارته كي يسير تجاه آخر، تنهد وهي تخلع مئزرها واتجهت إلى الخزانة بذلك القميص القصير الضيق العاري الذي يبرز كل شيء كي تنتقي ثوب مغلق طويل كي لا يقترب منها وهو غائب ويعنفها في الصباح تعرف تقلباته هذه..

شهقت هي تشعر بظهرها يلتحم بصدره وقبضته تشتد حول خصرها بينما الأخرى كانت تتحرك بجرأة فوق جسدها جعله ينصهر من الحرارة رغم برودة كفه تزامنًا مع همسة راغبة بجانب أذنها بتهدج أذابتها وأنفاسه الحارة تضرب صفحة وجهها: وحشتيني..

مال يقبل نحرها لتغمض عينيها مستسلمة وترفع رأسها تريحها على صدره بحركة ناعمة تاركة المجال لهُ ليفعل ما يُريد، تعرف أنهُ ليس بوعيه وتعرف أنه سيثور عندما يستيقظ صباحًا لكنها ستستمع الآن، وليحصل ما يحصل غدًا، لفت ذراعيها حول رقبته عِندما لم تعد قدميها تلامس الأرض وبادلته تلك القبلات المحمومة وهي تشعر بجسدها يستقر فوق السرير وما كان لها سوى أن تخلل أناملها داخل شعره كما يُحب وتبادله شغفه بأخر لتطيح بأي فكرة كانت تحثه على الإبتعاد هذا إن كان واعيًا لمَ يفعل!.

توقفت سيارة الأجرة أمام المبنى المطلوب كما أخبرته عشق، ترجلت بهدوء وأخذت حقيبتها وجلست فوقها بجانب الطريق وظلت تفكر تاركة نسمات الهواء تداعب شعرها و يتورد وجهها وهي تدثر نفسها داخل سترة جاسم بقوة من برودة الطقس، رفعت نظرها إلى تلك البناية لتبصر اللافتة الخاصة بذلك الطبيب مازالت تضيء إنهُ في الأعلى، هل تذهب تحادثه الآن؟ إنها بحاجة للحديث تحتاج لهذا..

رفعت يد الحقيبة ثم جرتها خلفها وقطعت الطريق بأعين دامعة، في هذه الأثناء كان وليد يرتب مكتبه وهو يتنهد بتعب لأنهُ أنهك اليوم وقيامة بالعمل وحده دون مساعدة مُرهق، حمل هاتفه والمفاتيح الخاصة به، خرج ووضع المفتاح داخل المقبض و ادارة مرة واحدة وتوقف في الثانية عِندما تناهى إلى مسامعه صوتًا رقيق يسأل: حضرتك دكتور وليد؟

التفت إثر هذا الصوت الرقيق ليهز رأسهُ بإيماءة بسيطة وهو يتفحصها بنظراتهُ متعجبًا إتيانها في هذه الساعة بـ حقيبة ملابس!، وكأنها كانت تنتظر إشارته فتركت حقيبتها تسقط واجهشت في البكاء دون توقف، حرك أهدافه بتعجب ثم نظر حوله يتأكد من كونه المقصود ليسألها بصوتٍ هامس وهو يتلفت حوله بسبب صوت بكاءها المرتفع: يا آنسة في مشكله؟ أقدر أساعدك فى حاجة؟!

علا صوت نحيبها ليهرول إلى الدرابزون وأخذ يتطلع إلى الأعلى والأسفل بجزع يرى أن استيقظ أحدهم أم لا بسببها، من الجيّد أن الشقة المقابلة لهُ خالية من السكان وإلا لكانت فضيحة الآن..
همس برجاء وهو يكاد يبكِ بجانبها كي تتوقف: طيب اساعدك ازاي؟ تعرفيني منين حد قالك عليا؟ شوفتينى صدفة؟ أي حاجة طيب؟!
هزَّ رأسهُ بيأس وأدار المفتاح للجهه المعاكسة وفتح عيادته وطلب منها بهدوء: اتفضلي نتكلم جوه؟

لم تتحرك قيد أنمله ومازالت تبكِ فمسح على صلعته بحسرة وهو يبحث عن شعر كي يشده من العصبية فهو أدرك الآن فقط فائدة الشعر، حمل حقيبتها وقذفها في الداخل بإهمال ثم تخصَّر ونظر إليها بعدم فهم ونطق بنبرة نافذة والضيق يغمره: يا آنسه مينفعش كده في سكان والوقت اتأخر عايزة تتكلمي اتفضلي جوا أو تمشي!

لم يأتيه ردّ بل ازدياد وتيرة صوتها أصابته بالطنين وكأنه لم يقول أي شيء! انتفخت أوداجه ثم مسح وجهه بغضب مراقبًا انهيارها وتهاوي جسدها وهي تستند على الحائط لكنه سارع بإمساك مرفقها قبل أن تسقط محذرًا مع توسع عينيه: مش هينفع دلوقتي خالص انهاري في حته تانيه، شعر بارتخاء أعضائها حقًا فساعدها على السير ودلف إلى عيادته وهو يتنفس الصعداء فلن يتم فضحه واتهامه بالتحرش في هذه الساعة..

أجلسها على المقعد في غرفة الانتظار الخاصة بالمرضى ثم هرول وأتي بكوب مياة باردة كي تنعشها وتستيقظ لنفسها، ارتشفتها وجسدها ينتفض أثر البُكاء ليذهب إلى المطبخ ويصنع لنفسه قهوة لأنهُ لن يرتاح على ما يبدو، أتي بعد دقائق يحمل قدح قهوته وكوب نعناع دافئ من أجلها كي تهدأ فهو ليس عديم الذوق..
سألها بابتسامة جذابة وهو يناولها مناديل ورقية: أحسن؟
أومأت بخفة واعتذرت بخجل وهي تجفف عبراتها: آسفة على اللي حصـ..

ـ ولا يهمك اهم حاجة تكوني كويسة؟، قاطعها بقوله برفق كي يزول البأس عنها..

أومأت بامتنان وهي تفرك يديها معًا بتوتر جلي جعله يرتشف من قدح قهوته وهو يضع قدم على الأخرى مضجعا على الأريكة حتى يزول التوتر وتتحدث وحدها، استمر الصمت لدقائق حتى تشجعت لكن لم تتحدث بل تشجعت وأخذت النعناع كي تشرب وتشعر بالدفء، كتم سبه كادت تنفلت من بين شفتيه وهو يضع أناملها فوق فمه قبل أن يقف ويطردها، هل أتت كي تستفزه وهو يُريد النوم!

رشقها بنظرة حادة بتلك المقلتين العميقة اللامعة و المتألقة دومًا سرعان ماتحولت إلى نظرة تأمل بداية من تلك السترة الرجالية المُعطرة التي ترتديها إلى جبينها المجروح، هبط بنظراته إلى حاجبيها المعقودين المنمقين، عينيها التي تخفيها عنه بجفنيها المتورمين، تظللها بتلك الأهداف الكثيفة الطويلة كـ طاووس شامخ، هو متأكد من كونها كالمجرة كي تحتجز كل تلك العبرات داخلها، شفتيها المضمونة التي تنفخ على مشروبها برقة..

كاد يتحول ذلك التأمل إلى استمتاع لكن توقف عندما وقع نظره على دبلتها الذهبية التي تزين بنصرها وليس أي مكان بل في اليدِ اليسرى يعني إنها إمرأة و متزوجة و ليست أنسه، يعلم أن النساء تفضل أن يتم تلقيبهم بـ يا أنسه عوضًا عن مدام لهذا لم تعقب، رُبما لم تسمعه من الأساس لأنها كانت مشغولة في البَكاء..

ازدردت ريقها وهي تدحرج عينيها في أرجاء الغرفة عدي محل جلوسه ثم همست دون النظر إليه: عندي مشكلة ومحتاجة مساعدة..
ردّ بهدوء وهو يحدق في ساعة معصمه: اتفضلي سامعك..
قالت بانكسار والسحب الكثيفة تتكدس داخل عينيها: انا غلطت..
نطق مواسيًا وهو ينظر إليها كيف تطرق برأسها: كُلنا بنغلط إحنا مش ملايكة، نبرته الجدية أكدت لها أنهُ لم يفهم متأكده إنهُ لم يفهم لا يسخر..

أعادت القول بخجلٍ من نفسها أثناء ارتشافه من قدح قهوته: غلطت مع واحد..
بصق القهوة بتفاجئ وأخذ يسعل بحدّة جعلها ترفع رأسها وتنظر إليه ليتوقف متفاجئًا أكثر وعينيه تتسع بانفعال يتحكم به جيدًا، فما تلك الأعين الجميلة؟!
تدارك نفسه وأجلي حنجرته وتمتم معتذرا وهو ينظف ملابسه و سطح المنضدة التي تتوسط الأثاث: عفوًا القهوة بس كانت سُخنه شويه..

وزعت أنظارها بينه وبين القهوة وهي تشعر ببرودة مشروبها فأي حرارة تلك التي يتحدث عنها، انهي التنظيف واعتدل في جلسته ثم قال بجدية بعد تفكير دام لثوانٍ وهو يشذب ذقنه بكفه: مش مهم إننا نغلط ونعترف بالغلط ونحاول نصلحه الأهم إننا منرجعلوش تاني ونعيـ..
ـ فِضلت معاه أربع سنين، أفحمته بقولها بجفاء لا تعرف من المقصود به ولم يخفي عنها ذهوله وتبدل ملامحه إزاء قولها هذا وهو يحمحم..

تأمل دبلتها بعمق متحفزًا وقد توقف عن العبث فى ذقنه بانزعاج فهو بحاجة إلى دلوًا من القهوة وليس قدح به رشفتين فقط، وبصوتٍ هادئ طلب منها وهو يزيح عُبوة المناديل كي تكون قريبة من وقع يدها: لو عايزاني أساعدك احكيلي القصة من الأول ممكن؟.

والآن في منزل آدم الخالي من آدم..
دلف مصطفي يترنح يمينا ويسارا وهو يغني بشجن و مزاجه رائق لأبعد الحدود..
تابع طريقة إلى الأعلى لكن صوت والدته المتهكم أوقفه: حمدا لله على السلامة يابيه..
ابتسم بثمالة وهو يتقدم من غرفة الجلوس، جلس بجانبها وهو يقهقه على شيءٍ ما وهمي يضحكه في رأسهُ لتزعجه والدته وتخرجه من نعيمه بقولها بغلظة: هتجيب مراتك إمتي؟ ولا ما صدقت عشان تجري على سالي..

ضحك وهو يسند رأسهُ فوق فخذ والدته، فهي لا تعرف أنها ليست راضية عنهُ تلك الفترة بسبب الصفعة..

همس بدون وعي وهو يقبل يدها بصوت مرتفع: لما افوق هرجعها بس هي فين، وختم قوله بضحكاته المجلجلة التي لم تنتهي سوي بقول والدته بخبث مُستغلة الفرصة الذهبية وهي تمسح على شعره: تلاقيها مع آدم؟ مش هو اللي جبهالك عشان تتجوزها؟ مش كان يعرفها قبلك؟ مش أنت بتخليه يوصلها ويجيبها ويوديها؟ وبتسافر و بتسيبها معاه؟ وكُل ده ومش بتشتكي ليه؟ ها؟!
أجاب وهو يضحك ببلاهة: عشان هي طيبة؟

ضحكت معهُ وهي تبتسم بانتصار فغدا عِندما يحاول التذكر سيتذكر مقتطفات كافية لتجعله يشك بهما وتسير خطتها كما تُريد وكي لا تترك مجالًا للشك همست بجانب أذنه بهدوء مُريح للنفس سمعه قبل أن يذهب في سباته العميق: السِت لما بتخون مبيكونش فيه أطيب منها، تصبح على خير يا حبيبي، ورفقت قولها بقلبة رقيقة طبعتها فوق رأسهُ، وزفرة مريحة خرجت من بين شفتيها كمن ظفرت بانتصارها، فهي متأكدة من انتصارها، فهذا الوتر الحساس لا تضغط عليه بهذا الحديث بل تفجره..

صباح اليوم التالي..

داعبت أشاعة الشمس الذهبية وجهها مع صوت زقزقة العصافير المتجمعة فوق النافذة المفتوحة، شاكست الرياح خُصلاتها المتساقطة على وجهها بسبب وضعيتها الغير مريحة فوق المقعد الجلدي وجسدها يرتجف من البرودة، بينما وليد كان صوت شخيره يسمع الشقة المجاورة بسبب التواء رأسهُ وهو يكاد ينزلق من فوق الأريكة وتصطدم رأسهُ في حافة المنضدة الزجاجية، سحب ذبابة في فمه وهو يشهق بقوة ليسعل وهو يضرب جبهته بطيش وتابع نومهُ، فإن رآه أحدًا ستذهب الهيبة والوقار للأبد..

قطبت جبينها بانزعاج وحركت رأسها وهي تستيقظ بالتدريج بسبب صوت قرقعة محرك السيارة المتصدع المزعج الذي يضرب أذنيها، اعتدلت جالسة بانتفاضة وهي تنظر حولها بريبة وبعدم تصديق تطلعت إليه بنعاس ولا تعي ما تراه، هل غفيت هُنا؟! أرجعت شعرها إلى الخلف وفركت عينيها بقوة كي تفيق ثم تطلعت إليه بتفكير لتفزع بسبب صوت شخيره المفاجئ، فتحركت ببطء وتسللت كي لا ينتبه..

خلعت حذائها المُرتفع كي لا يصدر صوتًا ثم حملت الحقيبة بخفة وسارت على أطراف أصابعها لتتجمد مكانها عِندما صدح صوت رنين هاتفه المُرتفع، كادت ضحكة تنفلت من بين شفتيها وهي تسمع تلك الأغنية التي يضعها؟ هذا الطبيب غريب تعترف!

عادت أدراجها ثم حملت هاتفه ليس بـ نية التطفل بل انتظرت حتى توقف ثم كتبت رقمها لكن توقفت وحذفته قبل أن تسجله، لايحق لها أن تفعل هذا وهو لايعرف، وضعته مكانه ثم اقتربت من مكتب مساعدته السابقة والتقطت قلم وورقة وكتبت رقمها واسمها مع جملة مميزة سيعرف من خلالها أنها هي ثم حملت حقيبتها وغادرت، تاركة الطبيب صاحب الوسامة المُجفلة يشخر..

توقفت في الأسفل أمام مطعم في مكان استراتيجي ويبدو أنه يعج بالزبائن يوميًا، معلق فوق بابه إعلان طلب نادلة للعمل..
ساقتها قدميها إلى هُناك وفي دقيقة دقيقتين كانت قد تحدثت وطلبت العمل، جلست في الداخل أمام مكتب المدير وهي تفرك يديها بتوتر زاجرة نفسها بحدّة، فماذا تفعل هُنا جاسم أعطاها أموال وهي غبية تهوي الشقاء؟! لكن هي متفرغة هل ستظل في المنزل؟ ستعمل هُنا وتبدأ من جديد وترمم نفسها بنفسها..

جلس مُدير المطعم خلف مكتبه بملامحه الجامدة الجدية الدالة على عمله بتفانِ، هذا قبل أن ترفع رأسها و يراها لتتحول نظراته إلى وِد وهو يهتف بابتسامة ملاطفة: أهلا وسهلا!
ابتسمت بخفة وقالت بتوتر: أهلا بحضرتك..

تفحصها بنظراته الوقحة بشمول و لعق شفتيه بشهوة تخص شخصًا ماجن، نظرات تقيمية عرَّت جسدها لتشتعل عينيه برغبه وهو يعدل جلسته فوق المقعد يجلي حنجرته الجافة ثم هتف بعجله وهو يجفف جبينه براحة يده: ممكن تبدأي الشغل من النهاردة لو حابه؟
حركت أهدابها بتعجب ثم سألت مستفسرة: بسرعة كده مش في مقابلة؟

أومأ مؤكدا ثم قال بعملية وهو يحرك القلم بين يديه و عينيه تخترق عينيها بعمق أرهبها: أهم حاجة عندنا حُسن المظهر وأنتِ ماشاء الله..
خجلت و أبعدت نظرها عنهُ ثم تمتمت بجهل: بس أنا مش بعرفش حاجة في الشُغل ده..
ابتسم وقال ببطء متلذذًا بنطق حروف جملته: هعلمك لو مش عارفة..
أومأت وهي تقف متذبذبة بسبب حديثة المُريب..
هتفت شاكره بهدوء: متشكرة جدا ممكن ابدأ من بُكره مش هتأخر إن شاء الله..

أومأ وهو يحدق في حقيبتها وبالأخص بنصرها بتمعن، لينتبه ويستيقظ من شروده على صوت جرّ حقيبتها خلفها وذهابها من هُنا، أغمض عينيه باستمتاع وهو يضجع على مقعده وابتسامة انتصار تعتلي ثغرة، رنين هاتفه أخرجه من طقوس سعادته، إنها زوجته الحبيبة مالكة المطعم و مالكة كُل شيء و ما هو إلا صعلوك يعمل لديها ملبيًا لـ رغباتها..
ابتسم ورد عليها بحيوية: عيوني
ـ عملت ايه لقيت حد؟

همس بمكر وهو يرفع احدي حاجبيه و صورة عشق لا تفارقه: لقيت طبعا يومين بالكتير و هتكون عندك بس متنسيش جوزك الغلبان..
ضحكت مجلجلة في الهاتف وهي تحدق في كأس الخمر الذي بيدها بابتسامة ماكرة ثم همست بنبرة ذات مغزى وهي تلوح إلى خادمتها كي تقترب: متقلش أنت عارف أنا مش أنانية اوي..

في تلك البناية، في الطابق الثالث، في الشقة التي على جهة اليمين، كانت لمار في الداخل مسطحة فوق سريرها الوثير على معدتها، ترفع شعرها الطويل كعكة في منتصف رأسها وتاركة غرتها الطويلة تداعب وجنتيها من الجانب، تحدق في الحاسوب أمامها بأعين حمراء من قِلة النوم، ووجه باهت مرهق، وهالات سوداء من السهر، رفعت الملعقة الممتلئة بـ الشوكولاته الذائبة و تناولتها بحسرة و أناملها تتجول على لوحة المفاتيح مُنذُ أمس تبحث عن حساب آدم لكنها عجزت عن إيجاده لكنها حسمت أمرها وعزمت على عدم النوم سوى عِندما تجده ويطمئن قلبها..

عنفت نفسها وهي تنظر إلى كم الأكياس الفارغة التي تناولتها وهي على حافة البُكاء: خليكِ كده كُلي و اتخنى وهو رشيق ومش هيقدر يشيلك حتى..
تابعت بحثها بملامح مزدريه بسبب أكلها الكثير ومازالت تأكل لم تتوقف، أدمعت عينيها من الحزن الذي يحتل قلبها ومن حياتها التى بلا لون وبلا طعم، ومن دون سابق إنذار أخذت عبراتها في التساقط واحدة تلو الأخرى..

وبخت نفسها بنبرة مبحوحة وهي تنظر حولها باستنكار وعيناها تفيض من الدمع: أنتِ بتعملي ايه؟ ايه القرف اللي أنتِ فيه ده؟ أنتِ مش مراهقة عشان تجري وراه! أنتِ واحدة مطلقة منبوذة أفهمـ، آدم!

ضحكت بعدم تصديق وهي تضع يدها على فمها بتفاجئ، استقامت جالسة على ركبتيها بلهفة وتهللت أساريرها وكأنها لم تبكِ قط وهي تحملق في شاشة الحاسوب و مقلتيها تطلق قلوب لقد وجدته!، صمتت ثواني تستوعب هذا بفاه فاغر ثم قفزت فوق الفراش وصرخت بسعادة كالأطفال وأخذت ترقص: لقيته، لقيته، لقيته لقيته..

انسدل شعرها من حركته المتكررة فـ أبعدته خلف أذنيها ثم جلست أمام الحاسوب كـ حمل وديع بابتسامة رائعة، فرقعة أصابعها و قبل أن يبدرعنها فعل اسودت الشاشة فجأة في وجهها وذهب آدم..
رمشت بصدمة وهي تحدق في الحاسوب ثم ضربته براحة يدها وصرخت به: لأ مستحيل آدم فين حصلك ايه ما أنت كُنت شغال ليه كده حرااااام..

قفزت مغادرة السرير ثم أتت بالشاحن و أوصلته بالكهرباء وفتحته بحماس وترقب، فتح معها لتتنفس الصعداء و بانتباه وتروي نقرت على لوحة المفاتيح وكتبت اخر شيء كتبته لتظهر أمامها صورة آدم يا إلهي اليوم يوم سعدها..

حركت الفأرة وضغط على ملابسه ممتنعة عن الضغط على وجهه كأنهُ حقيقي أمامها وليس صورة، تألق البريق العسلي في عينيها وهي تشاهد صوره بشغف وبدون مقدمات حملت الحاسوب وعانقته بقوة ثم أطلقت تنهيدة مريحة كمن وجد طفله متمتمه بهيام: حبيب مامي أخيرًا لقيتك..

رفعت الحاسوب على فخذيها وتابعت تصفحها بنظرات حالمة وهي تحفظ شكل ملابسة عن ظهر قلب، فحتي حسابه كئيب وبائس ومعظم صوره سوداء ولم يُحدِث بشيء جديد منذ أشهر هذا الكسلان! ليظهر إليها قُصيّ فجأة، هذا هو ما تحتاج إليه الآن، ضحكت بـ خبث ثم انتقلت إلى حسابه كي تحادثه فلن يفيدها غيره عمّار لا يستمع إليها ويتجاهل ماتقول لكن قُصيّ لن يتجاهل..

تأوه بألمٍ جامح فتك برأسهُ وهو يفتح عينيه بثقل شديد ومازال الدوار يداهمهُ أثر الثمالة لم يزول بعد، فإذا به في غرفة الجلوس ينام فوق الأريكة..

نظر حوله باستفهام وهو يحاول التذكر كيف أنتهي الحال به هُنا، اعتصر رأسهُ بين يديه بقوة كأنهُ يستخرج منها المعلومات بتلك الطريقة لتتسع عيناه ببطء وتمهل كُلما تذكر شيءً ما من حديث أمس، فماذا قصدت والدته؟ آدم ليس خائن وتالين بريئة لا تستطيع أن تقبل على شيء شنيع مثل هذا!

هبَّ واقفًا وسارع بالركض إلى غرفته كي يأخذ حمامًا ويذهب يأتي بها، فهو مثل أي رجلًا شرقي يملك دماء حارة يفعل الشنائع لكن لايسمح لها هي بذلك..
خرج من المنزل مهرولًا وصفق الباب الرئيسي خلفة بقوة لتبتسم شهيرة بانتصار وهي تراقبه من نافذة غرفتها المُطِلة على الطريق..

ترجل من السيارة في الحارة التي تسكن بها عائلتها، خلع نظارته الشمسية و الاشمئزاز أخذ نصيبه من ملامحه، اتجه إلى العمارة ليوقفه قول أحد الرجال البائعين الثابتين في المكان كُل يوم: مش هتلاقي حد فوق يابني..
توقف مصطفي ولم يتقدم أكثر فهو متقزز بأي حال من الأتربه العالقة فوق الباب الحديدي وهو الرئيسي فماذا سيجد عِندما يدخل؟
سأل باستفهام: انا جاي أخد مراتي تالين بقالها شهر هنا..

ابتسم البائع وهتف بنبرة طيبة: أه ست الدكتورة دي مجتش هنا من أكتر من شهر محدش شافها خالص هو فيه حاجة يا بيه هي مش معاك؟
غامت عينيه في سوادٍ قاحل واتجه إلى سيارته دون الرد على البائع الذي ظل يهتف بـ بابيه كي يتوقف، لكنهُ ذهب في طريقه إلى الخائنان..

فتح عينيه بثقل مطلقًا صحية متألمه وهو يتقلب بصعوبة بسبب الثقل الجاثم على صدره، تنفس باختناق وهو يتأوه ويديه تدفع ذلك الجسد من فوقه..
لم يتجاهل هذا الملمس الناعم أسفل يديه فتح عينية بسرعة وهبَّ كالملدوغ يحدق حوله بتخبط، رفع يديه عن جسدها العاري مستنكرًا وضعها ثم نظر لنفسه لتجحظ عينيه بقوة، اللعينة، اللعينة فعلتها، كيف؟ هو لايذكر سوى أنه تمدد كي يغفي..

وكز كتفها بقوة وهدر بحدّة وهو يهز رأسه بغيظ: أنتِ يا هانم؟
همهمت بنعومة وهي تتقلب لتستقر على ظهرها تاركة المجال لهُ ليبصر علاماته التي دمغها بها بشغف كما يبدو، ضم قبضته بغضب ثم وكزها بقوة أدت إلى استيقاظها: أنتِ يا هانم اصحي..

فتحت عينيها بنعاس وتتثاءبت ومطت ذراعيها بابتسامة رائعة جعلته يبغض نفسه، اللعينة سعيدة وكيف لا تكون وقد حققت مبتغاها، لكنهُ لا يعرف أنها لا تكتفي من قربه قط، شعورها بأنها ملكه وبين يديه لا يضاهيه شعورًا، ذكرها بـ ليلة زفافهما تلك الليلة التي تذكر تفاصيلها عن ظهر قلب، مازال رائعًا يخطفها لعالمٍ آخر تحلق به معهُ سابرًا أغوارها..

عشق كانت تحصل على هذا في الوقت الذي كانت الغيرة تنهش أحشائها، هي تذوقت كل ما تذوقته لكنها سلبته منها كي تذوق مرارة ما عاشته أضعاف..

كان يتابع معالم وجهها السعيدة التي تغيرت للإقتضاب سرعان ما تبدل لـ مكرٍ وخُبث، صُفع جبهتها بسخط كي تنتبه إليه لتبتسم و تقترب منهُ بـ هيئتها المبعثرة التي لطالما كان يطوق لرؤيتها في الصباح كي يري عمل يديه ويثني على نفسه، شعرها المُبعثر المتشابك إثر عبث أناملها، نحرها وكتفيها المدمغين بعلاماته، شفتيها المتورمة، ، اللعنة عليه لمَ يفكر بهذا؟ تلك الذكريات تؤلمه بدلا من جعله يبتسم، لقد كانت حياتهما رائعة بمعنى الكلمة لكنها تبخرت وتناثرت في الهواء كـ رماد..

أراحت رأسها على كتفه وهي تشابك أناملها معهُ: صباح الخير يا حبيبي..
دفع رأسها بعيدًا عنهُ ونفض كفها عنهُ وسألها بجمود: ايه اللي حصل امبارح؟، هذا سؤال غبي لكنها لن تعقب، تحترم حالته المنصدمة رغم أنها لا ترى شيءً غريب يدعي لهذا هما زوج وزوجة ماذا في هذا؟!

مررت أناملها فوق صدره بنعومة وهمست بدلال: حصل كُل حاجة حلوة يا قُصيّ حصل ايه يعني؟، رفقت قولها بـ قبلة رقيقة طبعتها فوق كتفه كانت ذا تأثير سيء عليه جعلته يثور ويدفعها عنهُ بحدّة صارخًا بها: دي حاجة زفت، إزاي تسمحي لنفسك بـ كده وأنتِ عارفة أني مش عايزك؟!

تلألأ الخذلان داخل مقلتيها البُنية، ابتلعت غصتها بمرارة كـ مرارة العلقم وهمست بنبرة مرتجفة وهي تكبح عبراتها من الانهمار: يـ، يـ، عني ايه؟ أنت مشوفتش نفسك؟ أنت اللي طلـ، قاطعها بحزم وهو يقبض على مرفقها بقوة ساحقًا بشرتها الناعمة: عشان كده قولتلك أنتِ عارفة اني مش عايزك مبعدتنيش ليه؟

نزعت مرفقها من قبضته بقوة ولملت الملائه حول جسدها وهتفت بتهديد وهي تقف: أنا مراتك وغصب عنك وحقوقي الزوجية هاخدها منك سواء عجبك أو لأ ولو بعدتني عنك هرفع عليك قضية خُلع وهقولهم انك مبتعرفش، ولاذت بالفرار في نهاية حديثها واختبأت داخل دورة المياه قبل أن يزهق روحها..

هبّ واقفًا وهو يسحق أسنانه ببعضهم البعض وذهب خلفها بتهجم، بخطوات جحيمية لكنها أغلقت الباب من الداخل، هدأ وتمتم لنفسه بالصبر وهو يلتقط سرواله وبدأ الألم يفتك بمعدته من جديد، فهو يعلم كيف يقهرها جيدًا يعرف..

صاح من خلف الباب بتهكم ردًا على قولها الأخير: سعتها هجيب عشق تشهد في المحكمة وتقولهم أنا كنت بعمل معاها ايه وأنتِ عارفة كويس كُنت بعمل ايه الا بقى لو عايزة تفاصيل ممكن أقولك، تساقطت عبراتها بصمت والنيران المستعرة تتأجج في صدرها من الحسرة، وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها وهي ترفع رأسها للسقف وأذنيها تصغي جيّدًا لبقية حديثة: وعلى فكرة مش هتحتاجي ترفعي قضايا لو عايزاني اطلقك يلا..

صرخت به بقهر وهى تبكِ: أخرس يا قُصيّ أنا بكرهك..
ردّ ساخرًا: لأ وأنا اللي بحبك اوي، خلصي عايز الحمام..

انهارت خلف الباب وظلت تبكِ أرضًا، فيكفي برود وجفاء لن تتحمل أكثر، طوال الشهر كان يتجاهلها وعندما يحدثها يتحدث ببرود من تحت الضرس، هي لم تكن عاله على أحدٍ يومًا أو همًا ثقيل أو حتى تفرض نفسها على أحد، لكن من أجله حاولت بشتي الطرق أن تنال رضاه كي تعود المياه إلى مجراها الطبيعي، تقبلت جميع سخرياته وتقلباته لأنها تعذره وتعرف أنها مخطئة و لأن قلبها مازال يخفق في حضرته، ففكره أنهما لن يكملان حياتهما معًا لم تطرق سقف توقعاتها ولم تفكر بها قط، قُصيّ هو من تغير وليست هي، لكن يكفي ليس مضطر لتذكيرها بما فعلت بتلك القسوة كُلما تحاول تناسي هذا!

غمغم بضيق وهو يطرق الباب: اخرجي عيطي برا بدل ما تتلبسي، لم يأته ردّ سوى صدى بكائها الحارق، هذا قاسي لكنها تستحق، زفر بـ غمٍ ثم ترك الغرفة وغادر صافعًا الباب خلفه، اصطدم بـ ريمة التي كانت تمر لتصرخ بفزع و لاذت بالفرار قبل أن يُمسك بها..
صاح وهو يركض خلفها مجتازا الدرج: اقفي عندك يا اوزعة.

صرخت بلهاث وهي تقول أثناء ركضها بابتسامة بلهاء فهو يُدللها بذلك القول ولن يُعنفها: انا خارجة اقابل صُحابي وحشوني مش هتأخر اشوفك بليل سلام، وأغلقت الباب خلفها وركضت بعيدًا حتى لا يلحق بها..
لهث بتعب وهو يُراقب ابتعادها ركضًا بقلق، دلف وتناول الهاتف الأرضي وكتب رقمها وظل واقفًا ينتظر ردها..
أتاه صوتها اللاهث بعد بعض الوقت: الو..
أمرها بحزم لم يكن كافيا ليخفي قلقه: بطلي جري وخلي بالك من نفسك..

توقفت وابتسامتها تتسع من الأذن للأذن وهي تستمع لقوله، ثم بحنانٍ خالص همست: قُصيّ حبيب قلبي بحبك..
ردّ بفظاظة: بكرهك..
ضحكت برقة وعينيها اللامعة أسفل ضوء الشمس تغلق مع ضحكتها المشرقة ثم قالت بدفء وهي تلوح إلى أحد سيارات الأجرة: حبيبي والله يا قُصيّ، حاضر هخلي بالي من نفسي متخفش عليا..
تنهد وصمت قليلا ثم حذرها: وحذاري اتصل بيكِ و تتجاهلينى فاهمة؟!

أومأت وهي تحدق من النافذة ثم قالت بطاعة مشاكسة: حاضر والله هرد عليك على طول انا عندي اغلي منك؟
هزّ رأسهُ بيأس بسبب تلك الشقية تعرف كيف تسكته..
همست تحثه على الإغلاق عندما سمعت أنفاسه: قُصيّ أقفل..
تنهد بقلق وهو يضغط على سماعة الهاتف فقلبه لا يطاوعه تلك المجنونه تقلقه، أوصاها بخوف: خلي بالك من نفسك واتصلى بيا لو حصل حاجة..

ضحكت بنعومة وابتسامة حانية زينت ثغرها ثم زمت شفتيها لأنها تعرف قدر خوفه وحبه لها فـ هتفت بطاعة: من عنيا الاتنين مع السلامة، اغلقت الهاتف ثم نظرت إلى السائق وطلبت بهدوء: وديني اسكندرية لوسمحت
نظر لها عبر المرآة بتردد كأنه يسألها هل متأكده؟ لتكرر وهي تومئ: إسكندرية وسوق بسرعة لو سمحت..
صعد إلى غرفة ريمة بعد انفراده بنفسه وجلوسه في الأسفل يفكر مليًا فيما سوف يفعل، فكل شيء تداخل ولا يعرف من أين يبدأ..

دلف بابتسامة تلاشت عِندما وجد جـنّـة تجلس بجانبها أسفل الغطاء تشاهدان شيءً ما معًا بشغف..
صاحت بسعادة عندك لمحته: بابي..
تبسم بحنان وتقدم من سريرها، جلس جوارها على الجانب الأخر وضمها بحنان مقبلًا رأسها لتسقط عينيه على جـنّـة المبتسمة وهي تراقبهما، و ما هذا الذي ترتديه بيجاما هكذا بسهولة؟ لقد أخذت ما تريد والآن ترتدي كالبشر الطبيعيين..
تجاهلها وسأل غرام بهمس: مبسوطة؟

صاحت بسعادة وهي تحدق في سرير وردي بأعين براقة: اوي اوي، مامي بتختار معايا سرير ودولاب..
نظر إلى الكتاب المصور الذي تمسكه جـنّـة تقلب صفحاته أمام غرام كي تنتقي منهُ أثاث لغرفتها..
ليهتف بدون تعبير وهو يرتب خصلاته غرام المتحررة التي تغطي عينيها: غرام مش هتستقر هنا متتعبيش نفسك..
تلاشت ابتسامتها و أدمعت عينيها ليستطرد وهو يقبل جبهة غرام: هاخد دش يا حبيبتي وبعدين نفطر سوى..

وهي فزاعة تجلس لا تقدر حتى على مشاركتهم الحديث، أراحت غرام رأسها على صدر جـنّـة وهي تبتسم بإشراق قائلة: هستناك مع مامي، ضمتها جـنّـة بحنان بالغ وهي تبتسم ثم حملتها وسارت لها إلى الأسفل بعد ذهاب قُصيّ كي تصنع الفطور..

خرج من دورة المياه يجفف شعره بالمنشفه، لينتبه على هاتفه الذي لا يتوقف عن الوميض بسبب الرسائل، التقطه وهو يغمغم بعدم راحة ليرتفع حاجبه عِندما وجد كُل تلك الرسائل من شخصٍ لايعرفه حتى، لا يعرفه لمار! لكن لمَ لا تضع صورتها؟!
كاد يرد على الرسائل لكنها هاتفه عبر الأنترنت، رفع كلا حاجبيه تلك المرة ذهولا تلك الفتاة المجنونة!

فتح المكالمة ليصله صوتها المستاء: مش بترد علي رسايلي ليه؟ مش قولتلك اني لمار لازم اتصل؟
قال بهدوء وهو يجلس على طرف الفراش: مكنتش جنبه يا هانم معلش خير..
همهمت قليلا كأنها تفكر بعمق ثم قالت دون مقدمات: كلمني عن آدم..
ضحك وهو يستلقي متمتمًا بتذمر: وانا محدش هيتصل يسأل عليا ولا ايه؟
استفسرت بعدم فهم: نعم؟.
هزَّ رأسهُ وسألها بهدوء: ولا حاجة عايزه تعرفي ايه؟

طلبت دون تردد كأنها تعرفه من سنوات: افتح الكاميرا، صمت قليلًا يحرك أهدابه بتعجب ولا يعلم لمَ هو من يشعر بالخجل عوضًا عن جعلها هي من تخجل..
سألت باستفهام: قُصيّ معايا؟
جاراها في الحديث وهو ينتصب جالسًا ممازحًا: معاكِ معاكِ أستني أقلع التشرت وبعدين افتحها..
قهقهت بخفة ثم وبخته: انا نيتي سليمة محتجالك في عمل خير لازم بالهدوم..

ارتدي ملابسه سريعًا ثم التقط الهاتف وفتح الكاميرا ليهتف بخضة وهو يبعد رأسهُ: أعوذ بالله مين القرد ده؟
تلفتت حولها بتعجب وسألت باستفهام: فين فين؟
ردَّ بسخرية وهو يرفع زاوية شفتيه: أنتِ ايه الغباء ده؟
زمت شفتيها ثم أنبته بحزن: كفاية أنا مش راضية عن نفسي كمان شايفني قرد؟
واساها برفق وهو يبتسم: لا مش قرد بهزر معاكِ، محتاجة تعرفي ايه بقي؟
تنحنحت بهدوء ثم طلبت بلطافة وهي تصفق بيدها: عايزة رقمه وعنوانه..

تفاجئ وكيف لن يتفاجئ من تلك القردة عديمة العقل؟
مسد جبينه وسألها سؤال أراد أن يعرف إجابته منذ أن رآها أول مرة: لمار أنتِ مُخك وقف عن النمو في سن معين؟ عندك كهربه زيادة ولا حاجة؟!
ضحكت من كُل قلبها وهي تنظر إليه جعلته يضحك معها وهو يهز رأسه بتعجب وذهول ثم سألها بعدم فهم: رقمه وعرفنا ليه لكن الشقة ليه؟ هو أول ما شطح نطح؟!

بررت بـ دبلوماسية وهي ترفع كلا حاجبيها: بُص يا فلاح يا سوقي أنت أنا مش هروحله الشقة أكيد؟ انا بس هخلي العنوان معايا للأزمات يمكن تطلع صحبتي ساكنه في نفس العمارة واروح أزورها مثلا! يلا إبعتهم متخفش على صاحبك واحكيلي قصة حياته، يلا عشان مستعجلة عايزة أزور صحبتي..
ضحك بيأس وهو ينظر إليها سرعان ماتحول إلى سُعال حاد جعله يترك الهاتف جانبًا..
تحدثت بقلق وهي تسمعه: قُصيّ أنت كويس؟

هدر بصوت مختنق مُتعب وهو يبحث عن محارم ورقية في الأرجاء: هبعتـ، هملك، وأغلق في وجهها ودلف إلى دورة المياه..

خرج بعد بعض الوقت بوجه شحُب أضناه التعب حتى لم يعد يتبين لهُ معالم، ارتدي ملابسه الرسمية وتجهز، لكن رنين هاتفه أزعجه نظر إلى المتصل لتتحول نظراته إلى ثلجية باردة غير مكترثة فهذا رقم المركز الطبي الذي خاض به فحوصات شاملة أمس بعد الحفلة، بالتأكيد سيخبرونه بالنتيجة، شكرًا لهم هو يعرف مقدمًا ولا يحتاج أن يرد، حمل هاتفه وغادر كي يفطر معهما هذا إن كان لديه شهية ثم سيذهب إلى العمل الذي أهمله فى الفترة الأخيرة..

زفر آدم بعصبية وهو يهرول إلى الباب الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الانخلاع من محله بسبب الطرقات العنيفة مع ضغط الجرس كذلك..
فتح الباب وحرك شفتيه للتوبيخ لكن شقيقة عاجله بـ لكمة عنيفة أسقطته أرضًا تزامنًا مع زمجرته وصياحة بنبرة جمهورية ثائرة وهو يدلف كـ عاصفة: فين الخاينة بتخوني يا آدم هي فين؟ فين الهانم..

وقف آدم وهو يرفع يده ماحيًا الدماء من جانب شفتيه وابتسامة جانبية تعتلي ثغرة، فهو علِم بحدوث شيء كهذا وقد أخذ احتياطاته..
توقف مصطفي متسمرًا في غرفة الجلوس وقد ذهب غضبه المشحون وهدأت العاصفة عِندما وجد تالين تجلس بجانب والدها العجوز تتسامر معهُ ووالدتها وأشقائها يجلسون على الأريكة المقابلة يثرثرون بصوتٍ مُرتفع مخلفين ضجة..

رفعت تالين رأسها بابتسامة تلاشت عِندما رأتهُ، لم تعطه فرصة للحديث عِندما شعرت به يحفز نفسه كي يتحدث، تركته ودلفت إلى الشرفة بعد أن رشقته بنظرة رافضة غاضبة، هل تذكرها الآن؟ هذا إن أتي عن طيب خاطر أساسًا..

توقف آدم بجانبه، يتطلع إليه بنظرة تشبه نظرة المكسين في أشد حالات ضعفه وانكسار يشهبه المظلوم حال انهزامه، وبحزنٍ عميق زائف هتف: تالين عندهم مشكلة في شقتهم بسبب المواسير والسقف بينقط عليهم مايه مش نضيفة، لما عرفت جبتهم هنا وبقيت أجي كل يوم نص ساعة بعد الفطار ضيف اطمن عليهم وامشي على طول..

كاذب والكذب يتقافز من عينيه، هو فقط مرَّ عليهم أمس بعد أن تسوق وخطر لهُ فجأه أن يأخذهم كي يعيشون معها ويدخلون السرور على قلبها قليلا إن كان هو عاجزًا عن اسعادها، ففي النهاية هو وعدها بشقةٍ لهم وهي لم تنتهي بعد، وهذه بالتأكيد لن يستخسرها في تالين؟ هي تالين أسيمنع عنها ماله وهي تملك ما هو أثمن من المال؟، قلبه! ما حال قلبه؟ إنهُ محتجزًا، محتجزًا في مكانٍ خاوٍ بارد جعله يتصدع حتى أصبح صَلدَ..

نظر إليه مصطفي بندم وغزي الحزن قلبه ورفع يده قاصدًا كتفه لكنهُ أزاح يده وهو يطرق برأسهُ ثم هتف بخذلان: انا عمري ما تخيلت أنك توصل للمرحلة دي وتشك فيا؟ تالين؟ تالين دي أختي الصغيرة! كانت قدامي لو كُنت حبيتها كُنت اتجوزتها! أنت عارف أني عندي استعداد اتجوز ومش حابب العزوبية وكاره الارتباط والكلام العبيط ده؟ أنا لما ألاقي اللي احبها هتجوزها مش هجوزها لأخويا وياريت تفهم!

نجح بوضع يده هذه المرة وضغط على كتفه برفق وهمس بندم: آسف يا آدم دي لحظة شيطان مش عارف ايه اللي حصلي شكلي فهمت كلام ماما غلط بسبب الشُرب، صرَّ آدم على أسنانه وتلألأ الحقد داخل عينيه السوداء عِندما سمع أسمها، فهي الشيطان الذي يتحدث عنهُ، استطرد طالبًا منهُ برجاء: تالين دخلت البلكونه ومش عايز اتكلم معاها دلوقتي عشان مننفعلش قدام أهلها أدخل أنت ومهدلي الطريق عشان خاطري يا آدم المرة دي بس..

ابتسم ابتسامة غريبة وتمتم بطاعة: عشان خاطرك بس، وتركه ودلف إليها..
شهقت بفزع عِندما رأت وجه آدم، رفعت يدها بانفعال لوجهه سرعان ما أنزلتها وهي تفركها بحسرة في نفس الوقت لأن الجميع في الداخل يرون ما يحدث..

طمئنها بهدوء كي لا تقلق ونسمات الهواء الدافئة تداعب وجهها: ده جرح بسيط عادي متقلقيش، اقلقي من مصطفي، نظرت لهُ بعدم فهم ليستطرد بأسف زائف: تخيلي إنه ضربني وقالي ياخاين! ودخل يدور عليكِ بزعابيبه وهو بيقول فين الخاينة؟ بيشُك فينا! تخيلي لو قولتيله انك حامل! مش بعيدة يقولك أنه ابني انا ومش عايزة ويتهمك بالخيانة!

تبدلت ملامحها لأخرى مذعوره ووضعت يدها على معدتها بخوف وشفتيها تطلق أنفاس مرتجفة تمهد لنوبه بكائها القادمة، لكن هدئها بحنان كي لاتبكِ: متعيطيش ومتخافيش اتكلمي معاه عادي وشوفي أنتِ عايزة تقولي ايه وهو هيقول ايه واتفقوا وبهدوء عشان أهلك ها؟

أومأت والخوف مازال يحتل كيانها وصدرها يعلو ويهبط في عُنف ليطمئنها: مصطفي عمره ما هيجبرك ترجعي معاه لو طلبتي تفضلي بعيدة فترة مش هيتكلم وهيسيبك ولو طلبتي ترجعي هياخدك براحتك ده اختيارك، وتركها ودلف إلى الداخل ولوح لمصطفي كي يدخل وجلس هو بجانب والدها..
نظر إلى ألبوم الصور التي يحمله والدها يقلبه بابتسامة حانية متأملا طفلته وفرحته الأولي تالين..

هتف بابتسامة أضنتها الأيام وهو يستذكر: تالين أول فرحتي اتولدت في أيام كانت كُلها خير وسعادة، ابتسم آدم معهُ وهو يشاهد طفولتها عبر الصور لتحين منهُ التفاته إلي الشرفة فوجد مصطفي يندفع إلى الخارج بغضب في طريقة للذهاب، لم يكمل خمس دقائق معها ماذا قالت؟!
أوقفه آدم أمام الشقة مستفهمًا وهو يمسك بمرفقه: في ايه حصل ايه؟
صاح بعصبية وهو ينزع يده: محصلش انا ماشي..

وتركه وغادر ليصطدم بجسد فتاةٍ ما كانت تتقدم فكاد يسقطها..
لم يعتذر منها أثار حنقها، التفتت تحدق في ظهره بوجوم ليتناهى إلى مسامعها صوته المداعب لحواسها رغم تعجبه: لمار! بتعملي ايه هنا؟
شهقت بتفاجئ وهي ترفع كلا حاجبيها قائلة بتعجب: لأ مش معقول آدم أنت ساكن هنا؟ انا جاية أزور واحده صحبتي قاعدة في الدور اللي فوق..
أومأ بتفهم ونظرة شك تتلألأ في مقلتيه وهو يدلك نحره ثم قال بتردد: اممم، تتفضلي؟

اتسعت ابتسامتها المرحبة وهتفت بحماس: اوي اوي لو مُصِر جدًا، تنحي جانبًا بابتسامة مبتسرة تاركًا المجال لها لتدخل، لوح بيديه باعتراض مراقبًا جلوسها وترحيبها بوالد تالين بسهولة كأنها تعرفة منذُ زمن! ما هذا؟ من المفترض أن ترفض وتقول شكرًا لا أن توافق! أغلق الباب بضيق بل صفقه لكن لم ينتبه أحد، أقبل عليهم بابتسامة غاضبة، مال وهمس بجانب أذنها وهو يصر على أسنانه: أنتِ بتعملي ايه؟

ردت بابتسامة رقيقة: بتعرف على مامتك وبباك!
أمسك ساعِدها وأوقفها معهُ بابتسامة نافذة وهمس وهو يأخذها إلى الشرفة: ماما وببايا ايه يا تالين بس!.
كانت تبتسم باتساع وهي تحدق في يدها التي يقبض عليها، إنها ناعمه كما تخيلت لكنها قويه، ماتت ابتسامتها فوق شفتيها عِندما سمعت هذا الأسم، من هذه؟!
تمتمت بنبرة مؤنبه عِندما ترك يدها واصبحا في الشرفة: على فكره أنا اسمي لمار..

تنهد من الأعماق وقال بهدوء وهو يسند راحة يديه على حافة سور الشرفة الزجاجي، يحدق في المياه الجارية أمامه دون النظر إليها: لمار انا مش بحب حد يتطفل على حياتي و، تالين! أنتِ لسه هنا؟!
التفتت باقتضاب تري تلك التالين التي أخطأ اسمها بفضلها، كادت تتحدث لكن آدم سألها بقلق عِندما وجد وجهها شاحب: تالين أنتِ كويسة؟ أخدك للدكتور؟

حدجته لمار بدون تعبير ثم نظرت للجانب الآخر بضيق، فهو يستطيع التحدث برقة وقلق إذًا ما حاجته هذا الوجة البائس؟ أم هذه هي سبب بؤسه؟!
تبسمت برقة ثم نفت بهدوء وهي تقف: لأ انا كويسة..
أومأ وهو يُراقبها بجزع لكنهُ لم يتحمل وقوفه هكذا فسارع بمحاوطتها ومساعدتها في السير إلى الخارج.

ضمت لمار قبضتها فوق السور بغضب وهي تعقد كلا حاجبيها بانزعاج شديد وشعرها يتطاير حول وجهها كـ ساحرة شريرة والغيوم تتكدس في عينيها، فماذا تفعل هُنا الغبية يُجب أن تذهب..
محت عبرة غبية انسلت من بين جفنيها المرهقين بندم ثم سارت إلى الخارج لكنهُ لم يسمح لها عِندما دفعها إلى الداخل برفق وأغلق الشرفة عليهما..

نظرت لهُ بتعجب وهي تستنشق ما بأنفها لتبهت ملامحها و يجتاحها الخجل عِندما بدأ في الحديث: لمار أنا عارف أنك معجبة بيا من ساعة ما شوفتيني وعارف انك بتحاولي تتواصلي معايا و دلوقتى جايه لحد بيتي! اقدر افهم عايزة توصلي لـ إيه؟ أنا قدامك اتفضلي اتكلمي..

جفَّ حلقها، ونسيت كيفية الحديث، وهربت الكلمات من بين شفتيها، حاولت أن تجمع حروفها كي تقول كلمه لكنها عجزت عن التحرك من الخجل الذي غمرها من أعلاها لأخمص قدميها..

تأتأت كـ طفلة تتعلم الحديث بعد فترة لا تعرف قدرها: انـ، انـ، جـ، يت، عشـ، ان، صـصـ، حـ، صرخ بها بعصبية لم تراها قبلًا أفزعتها جعلت جسدها ينتفض وعبراتها تنساب وتبكِ وهي تطرق برأسها: انا عايش هنا بقالي سنين ومفيش حد ساكن فوق صاحبتك دي ظهرت منين دلوقتي؟!

حركت شفتيها للتحدث لتخرج صيحة متألمه عِندما قبض على ذراعها بقسوة لم تظن يومًا أنهُ يملكها ووحشية تحدث بها مظهرًا جانبه الأسود وظلام عينيه الجهنمي المخيف ابتلعها داخله وهو يحذرها: لمار أنا فيا اللي مكفيني ومش فاضي للعب العيال والمراهقة المتأخرة بتاعتك دي فاهمة؟

شهقت بحرقة ممزقة لنياط قلبها الرقيق الهش، تبكِ بحالةٍ مزرية جعلته يندم لوهلة قبل أن تهمس بصوت مبحوح وهي تنظر إليه: أنت فاكر نفسك مين عشان تعاملني بالطريقة دي؟ فوق يا محور الكون! أنت إنسان كئيب وبائس وتطفي وتدمر أي حد يدخل حياتك وتتعسه، وحيد وهتفضل وحيد لحد ما تموت، ونزعت يدها من قبضته بعنف وفتحت الشرفة وغادرت بانهيار وهي تعترف لنفسها أنهُ لا وجود لشخصٍ بائس في هذا الكون سواها..

أوصد جفنيه بقوة وهو يضم قبضته حتى إبيضت وهيئتها وهي تبكِ تلوح أمامه، معها حق لم تخطأ بحرف، لهذا فلتظل بعيدة كي لا يدمرها وتنطفئ..
خلل أنامله داخل خصلات شعره بغضب وضيق لايعرف مصدره، هل كان قاسيًا كثيرا؟ هيئتها وهي تبكِ لا تفارقه، ضميره سيظل يؤنبه حتي ينسي او يعتذر اللعنة على هذا..
زفر وترك الشرفة والتقط سترته من الخارج وغادر، فهو لن يمكث هُنا معهم بالتأكيد..

في مدينة الإسكندرية..
توقفت سيارة الأجرة في منتصف النهار تحديدًا الثالثة عصرًا أمام المعرض المطلوب..

ترجلت ريمة وهي تعنف نفسها داخليًا لأنها أتت، كان من المفترض أن تكون هُنا منذُ ساعات لكن الطريق كان مزدحم وكل دقيقتين يقفان وإن ظلّ هذا الإزدحام في طريق عودتها ستصل متأخرًا وقُصيّ سيقتلها، هاتفها أكثر من مرة أثناء الطريق فكانت توقف السائق و تترجل من السيارة تتحدث في مكان ما بعيدًا عن الضجيج وتعود ويكمل الطريق بها..

رتبت خصلات شعرها من إرهاق الطريق بحركةٍ رقيقة منمقة، أخذت شهيقًا طويلًا ثم دلفت إلى الداخل وتدعو أن يكون في موجودًا فهو لن يمكث في القاهرة..
بحثت بعينيها عن ذلك الرجل من المرة السابقة حتى التقطه نظرها، هرولت ناحيته بابتسامة وحدثته بلباقة: مساء الخير حضرتـ، قاطعها مرحبًا بها بحفاوة وهو يبتسم ولا تعلم لمَ: أهلا وسهلًا جيتي في وقتك انا كُنت لسه هكلمه عنك، ده لسه واصل حالًا أنتِ عايزة تقابلية مش كده؟

أومأت وقالت بتمنى: ياريت..
هز رأسه بتفهم ثم تحدثت وهو يبتعد سيرًا: ارتاحي هنا لحد ما أكلمه مش هتأخر، أومأت بابتسامة ثم وقفت وتجولت بين اللوحات في الجو الشاعري هذا الذي تفضله، الإضاءات الخافتة في المعارض تخطف قلبها وخصوصا أنها تحب الرسم وتتقنه جيّدًا، توقفت أمام تلك الفتاة الريفية مجددًا و مقلتيها الصافية تلمع كـ طفلة تطوق للحلوى ولا تقدر على شرائها، إنها رائعة بشكلٍ لا يوصف..

بينما في داخل الغرفة، كان جاسم يمسد جبينه من الألم وهو يخفض رأسهُ، يمد قدميه فوق المكتب يضجع على معقدة الوثير يفكر، أغلق مكالمته مع عشق منذُ قليل بعد أن طمئنته على نفسها وأخبرته أنها بخير وجيدة جدًا أكثر مما يتخيل، تبقي لهُ فقط إقناع والدته بالذهاب لأنهُ من المستحيل أن يتركها وحدها أو يترك عشق، لأن نوباتها باتت كثيرة ولن يتحمل فقدانها، يجب أن يُفكر بخطة مُتقنة..

دلف صديقه السطحي عليه، فـ علاقتهم علاقة عمل فقط ليس أكثر..
تحدث بعملية يبلغه: لما كُنت مسافر جت بنت اسمها ريمة وسألت عليك وكانت عايزة تتواصل معاك بس أنا مدتهاش رقمك و قولتلها تيجي وقت تاني..
همهم لهُ باهتمام يحثه على التكملة ليستأنف: ودلوقتي بره محتاجة تقابلك ادخلها؟
أومأ بعدم اهتمام وهو يتنهد ثم أنزل قدميه وطلب منه بهدوء: دخلها..

بتردد وطأت قدمها داخل غرفته ببطء لـ تزكم انفها رائحة الغرفة الغريبة ذات لذوعة حارقة، مثل البخور لكنها ليست بخور و ليست سيئة كذلك، رفع رأسهُ عندما أنتبه على وجودها، نظر إليها بتعجب وهو يعقد كلا حاجبيه! إنها فتاة أمس!.
جلست على الكرسي مقابلة باستقامة دون أن ترفع نظرها إليه، وهذا أشعره بالانزعاج كأنهُ هو من طلب رؤيتها وليست هي؟!

بللت طرف شفتيها ثم رفعت رأسها وهتفت بابتسامة مهزوزة وهي تنظر إلى ملامحه الرجولية: انا عارفة أن وجودي غريب بس انا جيت قبل ما اشوفك في الحفلة لسبب تاني و مقابلتنا كانت صُدفة مش أكتر..

همهم مع هز رأسهُ يحثها على المتابعة لتقول دون تنسيق للحديث: انا كنت عايشة في روسيا وكده و رجعت مخصوص عشانك، ارتفع كلا حاجبيه وهو يُقلب قلمه الأسود بين أنامله لـ تستطرد بتوتر كأنها تجلس أمام معلمها الحازم وقد ذهب الحديث الذي رتبته في ذهنها حد الجحيم كأنه لم يكن: لما جيت شُفت لوحة عجبتني حبيت اشتريها قالي مش للبيع عشان كده جيت اقابلك يمكن اقنعك و اشتريها، الصراحة مش ده السبب اللي انا جيت بسببه..

ابتسم بخفة ورحمها بسؤاله برفق: أنتِ متوترة؟
أومأت ووجنتيها تتخطب بالحمرة، طبطبت عليها براحة يدها بخجل ثم قالت بصراحة: انا جيت عشان أتعلم الرسم..
عقد كلا حاجبيه وشرع في الحديث مترفقًا بها برقة: رسم ايه؟ مش بعلم رسم! لكن اعرف زميل ليا ممكن ابعتك ليه عامل ورشة يوم في الاسبوع وهتستفادي جـ..
ـ بس أنا عايزاك أنت تعملني، قاطعته بنبرة حزينة وملامح متأثرة..

ابتسم مجاملًا ونفي بتعجب: بس انا مش بعلم ومعنديش وقت!
عدلت جلستها وتراقص بريق حماس داخل مقلتيها الصافية وأردفت برغبة في الإقناع بتهذيب: لو ساعة واحده في الاسبوع أو اتنين أرجوك مش هعطلك كتير..

ضم شفتيه بتفكير وهو ينظر إليها بتمعن مراقبًا لهفتها في الحديث لكنهُ لا يوافق ماذا سيعلمها هذه؟، هزَّ رأسهُ بأسف وقال بابتسامة رائعة متمنيا لها التوفيق: أسف بس انا مش بعلم ومش فاضي شوفي ورشة، وممكن اساعدك ونشوف موضوع اللوحة وتشتريها كانت اني لوحة؟
عبست بحزن وقالت بإحراج جلي وعينيها تدمع: لوحة ريمة هو قالي ليها حكاية بس ملحقش يحكيها وشكرًا.

تأمل هيئتها بتعجب دون أن يفهم سبب حزنها ولا يعرف أيضحك أم ماذا وهو يفكر بتلك اللوحة إنها أول أعماله..
تمتم بعد ثوانٍ محتجًا: اللوحة دي صعب تاخديها الحقيقة دي تعتبر من أول أعمالي ومقدرش أفرط فيها..
أومأت بتفهم ثم قالت بخفوت: مفيش مشكلة بس انا حقيقي نزلت مصر عشان أجي هنا..
تنهد وهو يُدَّلك عنقه بألم ثم سألها بإزدراء تجاهلته: وطالما كنتي بره مصر جاية تتعلمي في مصر ليه؟

قالت بابتسامة بلهاء: بشجع إبن بلدي..
لاحت ابتسامة نقية على شفتيه وهو يُراقب ملامحها الحزينة الرقيقة فهتف مستسلمًا: ساعة في الاسبوع بس وانا اللي هقرر إمتي..
تهللت أساريرها وهي تبتسم باتساع ثم هتفت بطاعة وشكر: اوكيه موافقه شكرًا جدًا ليك، انا بجد كان نفسي أفضل أكتر لكن للأسف لازم أمشي وهاخد رقمك عشان نتفق على يوم ممكن؟

أومأت بهدوء وهو يلوح لها كي تخرج الهاتف وتكتب رقمه، فسارعت بفتح حقيبتها الصغيرة بسرعة وارتباك من سعادتها في آنٍ واحد، أخرجت الهاتف دون أن تنتبه لسقوط بطاقتها الشخصية، ناولته إياه كي يُسجل رقمه وهي تحرك قدميها تعدل من جلستها مزيحة بطاقتها دون أن تنتبه، أخذت الهاتف من بين يديه بابتسامة ثم استأذنت بتهذيب عِندما بدأ هاتفها بالرنين: أنا ريمة سعيدة اني اتعرفت على حضرتك جدًا مع السلامة..

أومأ بهدوء مراقبًا ذهابها بتفكير وهو يلوك بلسانه داخل فمه، هل لهذا أرادت اللوحة لأنها تحمل نفس الأسم أم ماذا؟، سيقرر فيما بعد في أي يومٍ تأتي، دخل خلفها العامل بالقهوة، وضعها أمام جاسم وهو يميل بجذعه فوق المكتب، رفع جسده بهدوء كي يذهب ليبصر البطاقة أسفل قدميه، انحني ورفعها بين يديه ثم ناولها إلى جاسم وقال باحترام: لقيت البطاقة دي واقعة..

تناولها منهُ شاكرًا بابتسامة: شكرًا ليك، وضعها جانبًا ووقف لتختفي ابتسامته ويعقد كلا حاجبيه وهو يجلس مجددًا، ما رآه ليس صحيحًا أليس كذلك؟ حملها بتريث وحدق في إسمها المنقوش أمامه بجانب وجهها الباسم ليبتسم بتلقائية واجتاحت لذة غريبة جسدة وهو يقرأ إسم العائلة، يا إلهي أتت إليه بقدميها، ضمها بقوة كاد يكسرها نصفين وعينيه تنطخان بالشر وأفكار سوداوية تعصف برأسهُ برغبة جامحة في الانتقام، ولأول مرة يشعر بالحماس بسبب إقبالة على شيءٍ ما بهذا القدر، فماذا هو بفاعل بـ شقيقة قُصيّ؟، أضجع على مقعده و ارخي رأسهُ إلى الخلف وهو يُفكر بعمق دائرًا بمقعده بمزاج رائق، هل يجعل الدرس ثلاث أيام في الأسبوع من أجلها؟!

أنهت تحضير الطعام وهي تستنشق ما بأنفها المتوردة، ثم بدأت بسكبه وهي تشهق ببكاء و عبراتها الحارة لا تتوقف عن الهطول قط متسببة في تورم جفنيها وحرقة عينيها، فمُنذُ أمس لم يجافيها النوم، نادين إن أصابها شيءً لن تسامح نفسها أبدًا، ولن تسامحه هو أيضًا المتبجح، الذي مازال يمارس صفاقته واستبداده دون خجل ويريد مداواه جرحها أمامها..

رتبت الأطباق فوق الصينية باهتمام ثم أخذتها وصعدت بها إلى غرفة نادين، تسير بعرج بسيط
وتدعو أن تكون بخير وفتحت الغُرفة، توقفت على حافة الدرج وأخرجت أنفاسها المتعبه على دفعات وهي تحدق في صينية الأفطار التي تركتها أمام غرفتها ومازالت كما هي..

وضعتها بجانب شقيقتها ثم جلست بجانب الباب وهتفت بعذاب وهي تبكِ متوسلة: نادين يا حبيبتي مش هتفتحى بقي؟ أنتِ عايزة ايه وانا هعملهولك ها افتحي وقوليلي ووالله هعملك اللي أنتِ عايزاه، أسندت جبهتها على الباب وهمست بنحيب وقلبٍ مضني: متحرقيش قلبي عليكِ وافتحيلي..

وضعت نادين يدها على فمها تكتم شهقتها وهي تبعد عن الباب تنتحب وحدها في الداخل كي لا يخرج صوتها فيكفي عذابا لها ولا ذنب لها في شيء، لن تسامح نفسها على ما تفعله في والدتها أبدًا لا تستحق الغفران، علا صوت رنين هاتفها الذي كانت تكتمه الوسادة، ردَّت بصوت مختنق وهي تتجه للشرفة: ألو، أيوه جهزت الشنطة همشي بليل لما تنام سلام..

محت ليلى عبراتها ثم حملت الطعام وذهبت به إلى الأسفل بنظراتٍ صارمة عازمة على فعل شيءٍ ما، ألا تريد عمّار ستحصل عليه، حملت هاتفها و هاتفت من تلجأ إليه في هذه المواقف..
أتاها صوته المرح: معاكِ قُصيّ بنك المعلومات المركزي.
طلبت منهُ بنبرة مرتعشة والدموع تترقرق في عينيها: ممكن تديني رقم ابو عمّار..
سأل بتعجب غير متجاهل نبرتها: ابو عمّار! ليه؟

رفعت رأسها للسقف و توسلته بتعب وهي تبلع غصتها المريرة: قُصيّ لو سمحت متسألنيش معاك هاته مش معاك خلاص..
أومأت لنفسه وقال بهدوء قبل أن يغلق: هشفهولك لو معايه هبعتهولك سلام، أغلق معها وهاتف عمّار سريعًا كي يخبره لكن الغبي منذُ أمس لا يرد على أحد..

مرَّت ساعة وهي تدور حول نفسها تنتظر أن يبعث لها الرقم لكن لم يعبث شيء، ابتسمت بسخرية وهي تعتصر قبضتها ساحقة شفتيها بأسنانها من الغضب، بالطبع لن يفعل عمّار صديقة على أي حال لن يخدمها ويضره، توقفت فجأة واتسعت عينيها عِندما تذكرت حُسنة أملتها رقم الهاتف الأرضي كي تهافتها وقامت بتسجيله، بحثت عنهُ بلهفة حتى وجدته تزامنًا مع اهتزاز الهاتف معلنًا عن وصول رسالة كانت من قُصيّ..

تجلي النهار وحلّ الليل، في الثانية عشر تقريبًا في منتصف الليل، دلف آدم إلى المنزل بتعجب عِندما وجد الباب مواربًا، صعد الدرج بخطوات حثيثة بطيئة قاصدًا غرفة عمّار ليتوقف وتنير الابتسامة وجهه، استند على إطار الباب بكتفه عاقدًا يديه أمام صدره يُراقبه وهو يجمع ملابسه بيد والأخرى مضمدة برباط ضاغط رغم هذا يستخدمها ويؤلم نفسهُ ويقذف بها الملابس قذفًا في الحقيبة وهو يتمتم بكلمات حانقة غير مفهومة بوجه مكفهر، فمُنذُ أمس لم تعرف البسمة طريقها إلي وجهه، إنه تعيس بسببها..

سألة بنبرة مستمتعة وهو يأشر على الحقيبة: من أمتي وأنت بتاخد هدوم وانت مسافر؟
رفع رأسهُ وهو يزفر ثم قال بجمود وهو يومئ: عندك حق، وقذف الحقيبة مع الملابس بعيدًا وجلس على طرف السرير يتنفس بلهاث وصدره يعلو ويهبط بانفعال، ازدادت عقدة حاجبيه وهو يفكر ثم حرك رأسه ونظر تجاه الباب وسألهُ باستنكار: أنت دخلت إزاي؟

أقبل عليه بابتسامة وأجاب وهو يجلس بجانبه مشيرا إلى ذراعة: الباب كان مردود، مالك؟ ومش بترد على الموبايل ليه؟
زفر أنفاسه الحارة من الغضب في وجهه وتمتم بنفاذ صبر موشكًا على الانفجار: لما أروق هرد مش طايق اتكلم مع حد..
ابتعد آدم بكتفه قليلًا إلى الخلف وأردف بريبة وهو يضيق عينيه: عمّار أنت عايز تضربني؟

قهقهة وهو ينفي بهز رأسهُ ثم وقف وارتدي سترته وقذف إليه مفتاح المنزل وجلس يرتدي حذائه متمتما بابتسامة: كويس أنك جيت قبل ما امشي خلي بالك من البيت وأكل الطيور..
ضحك آدم وهو يقلب المفتاح بين أنامله ثم تبدلت ملامحه لأخرى حزينة وسأله: رايح فين؟ أنت ملحقتش تقعد كتير؟!
هزَّ رأسهُ وهتف بأسف: ومينفعش أقعد أكتر من كده هتحصل مشاكل عدم وجودي أحسن..
أطلق آدم صيحة سائمة وسأله باستياء: وأنا؟!

شاكسة عمّار بابتسامة: مالك يا قلبي فيك ايه؟
نطق مزدري: قُصيّ مشغول في ميت حاجه ومش فاضي وأنت هتمشي وأسقف انا بقي!
هتف بتعجب كان كـ توبيخ لمن يسمعه: ليه؟ مش عندك شُغلك؟ روح شُغلك واشغل وقتك وبطل تفكير كتير وسيب الدنيا تمشي زي ما تمشي مش هتغير حاجة مكتوبة وهتحصل يا آدم فاهمني؟
سخر منهُ وهو يبعد وجهه عنهُ بازدراء: قول لنفسك أنت.

أجاب بابتسامة مستسلمًا للأمر الواقع: ما أنا ماشي اهو خلاص خلصت، يلا هات حضن عشان ماشي..
عانقة بقوة وهو يبتسم بحزن ثم أوصاه: متغيبش كتير وأرجع بسرعة..
بينما في منزل ليلى كانت تغط في نومٍ عميق أمام غرفة نادين دون أن تدري من التعب الذي أنهكها، فهي تعبت من جلوسها أمام غُرفتها طوال الوقت تترجاها كي تحادثها و تطمئنها على نفسها..

رنَّ هاتفتها فجأة جعلها تفتح عينيها بثقل مدحرجة مقلتيها في المكان ليطير النوم من عينيها وتقف عِندما وجدت غرفة نادين مفتوحة على مصراعيها، ابتسمت بعدم تصديق ووثبت داخلها مهرولة لتجدها فارغة، تلاشت أبتسامتها وطرقت باب دورة المياة وهتفت اسمها بنعاس: نادين أنتِ جوه؟
وضعت يدها على المقبض وكادت تديره لكن توقفت وانقبض قلبها عِندما صدح صوت هاتفها وكان المتصل نادين..

وضعته فوق أذنها وهي تحفز نفسها للأسوأ وهي تجد دورة المياه فارغة..
همست بصوتٍ مبحوح و احتشدت العبرات فى عينيها وهي تقول: ألو..
ـ الو، صاحبه الموبايل عملت حادثه وواخدها مستشفى (، ) دلوقتي..

سقطت الهاتف من يدها وسقطت بجانبه كـ جثة هامدة غير قادرة على النطق لكن عبراتها باحت بالكثير، نظرت إلى خزانة ملابسها الفارغة والغرفة الخاوية منها، فهي كانت تخطط للذهاب! كرهتها وكرهت حياتها معها فقررت أن تغادر وتتركها دون أن تسمعها، خسرتها، خسرتها، غمرت وجهها بين راحة يدها وصرخت بقهر وهي تبكِ بعويل مرددة أسمها بحرقة..

حملت هاتفها و ركضت كالمجنونة إلى الخارج دون أن تبدل ملابسها البيتية، قادت سيارتها بجنون كـ جنون نبضاتها المؤلمة التي كانت تتعبها وتُضيق أنفاسها، أعصابها تالفة بالكاد كانت تلمس المقود وتتحكم به، و رؤيتها ضبابية مشوشة بسبب عبراتها الحارة التي كانت تحرق بشرتها، نقرت على رقمه بأنامل مُرتجفة في انتظار الرد وهي تشهق باختناق ملتقطة أنفاسها بصعوبة..

بينما في الجهة الأخرى كان يقود السيارة في طريق عودته، يحدق عبر المرآة باقتضاب وعقله منشغل وسط زخم أفكاره الغبية المتعلقة بها طارحًا على نفسه السؤال الأهم، ماذا سيفعل بعودته؟ هل انتهى كل شيء وفقدها أم ماذا؟! لن يتزوج هكذا؟

أخرجه من شرودة رنين هاتفه، القي عليه نظرة مهملة باقتضاب ليعقد كلا حاجبيه متعجبًا عِندما رآي أسمها وبدأ القلق يساوره ماذا تُريد الآن؟ هي لن تهاتفه في ساعة متأخرة كتلك سوي إن كان هناك مشكلة؟ هل يُجيب أم يتركها ففي كلا الحالتين لن يعود أدراجه لقد حزم أمره وقرر العودة ولن يتوقف حتى إن ترجته هي!

قرب ابهامه بتردد من شاشة هاتفه وهو ينظر بين الهاتف والطريق بتذبذب وقبل أن يلمس شيء توقف الهاتف، كاد يتركه لكنها أعادت الاتصال، يبدو أنهُ شيءً سيئًا حقًا..
أجاب مهمهمًا لتتسع عينيه وينقبض قلبه بقوة وهو يستمع إلى استغاثتها بانهيار: عمّار، الحقني..
دوي صوت أحتكاك أطار السيارة بالأرض بعنف وهو يدير المقود يسارًا بسرعة عائدًا أدراجه إليها، لقد ترك كُل شيءً للقدر كما قال وقد بدأ فلا يعترض..

ذرعت الممر ذهابًا وجيئة كـ طير جريح، تبكِ بحرقة وهي تضع يدها على قلبها المستعر بالنيران، تتوسل الممرضة عُندما تخرج بضعف ورجاء أُمْ لكنها لا ترد والطبيب لم يخرج بعد فما خطبها ماذا أصابها فأي أذي أعمي هذا الذي أصاب طفلتها..
توقفت عن السير عِندما رنَّ هاتفها، إنهُ والد عمّار! ماذا ستخبره؟ هل وصل؟ هذه فُرصتها الاثنين قادمين، لكن نادين يُجب أن تكون بخير وتقسم أنها ستحقق لها ما تتمني دون تردد..

أجابت باختناق وهي تدلك رقبتها و عينيها قد جفت من كثرة البُكاء: ألو، أنا في المستشفى نادين، نادين مش كويسة..

مرت نصف ساعة عليها وهي تجلس وحدها في الخارج تضم رأسها بين قبضتها تهتز بقوة والخوف ينهش أحشائها، وقلبها المنقبض يؤلمها لدرجة لا تحتمل، تشعر أنها ستفقد الوعي في أي وقت، روحها المعذبة تطوف تاركةً إياها جسد بلا روح على حافة الجنون من التفكير فيما يحدث في الداخل، ليتها هي من كانت بخطر وليست نادين، يا إلهي لا تصدق إلى الآن ما يحدث كل شيء مُستنكر..

تسللت رائحتهُ الفوَّاحة الزكية التي تسبقه دائمًا إلى أنفها جعلتها ترفع رأسها بلهفة وتهرول إليه، جالت عينيه في الممر باحثًا عنها بقلق وهو يلهث ليشعر بجسد يندفع داخل أحضانه بقوة إرتد أثرها للخلف خطوتين، تنفس الصعداء براحة وصوت بكائها الحارق المكتوم تسلل إليه ليطوقها بذراعيه القويين بشغف لم يتحكم به مرحبًا بها في حضنه الوثير الدافئ، ماسحًا على شعرها بنعومة مواسيًا بقبلة رقيقة طبعها على قمه رأسها، هذا الإحتواء يضعفها، هو حبيبها تعترف بهذا..

تمتمت بانهيار وهي تتشبث في قميصه: نادين هتضيع منى..
رفع رأسها برقة كي تنظر إليه بهذا الوجه الحسن الباكِ و مقلتيها مكسوةً بالحزن، مسح عبراتها بكلتا يديه وخضراوية النقية تحتضنها أثناء همسهِ بابتسامة دافئة مطمئنة: هتبقى كويسة مش هيحصلها حاجة متخافيش ربنا كبير..

هزَّت رأسها بخفة وهي تنظر إليه والدفء يغمرها وهذا مازاد ضخ دموعها أكثر وارتجاف شفتيها، إنهما يأبيانِ التوقف في حال أن تواصلهما البصري مازال قائمًا، تنسى نفسها معه، تضيع بين عينيه، تتنفس هواءة، لأنها عاشقة، والمشكلة تكمن هُنا لن تحصل عليه أبدًا..

خلع سترته عِندما انتبه على منامتها الحريرية الزرقاء المكونة من قطعتين فقط وبالتأكيد تشعر بالبرود، وضع سترته فوق كتفيها لـ يغلفها الدفء وتغمرها والراحة، وتهدأ روحها الثائرة قليلا، وتتباطئ نبضاتها المتسارعة ألمًا وخوفًا وتطمئن في وجوده عكس ماكان يحدث سابقًا..

همست بإنهاك والندم يجتاحها والشفقة تشع من عينيها تجاهه: أنا آسفة، أنت عارف أني أُمْ هتفهمني وهتقدر موقفي، انا واحدة مش عايزة غير سعادة بنتي يا عمّار..
حرك رأسهُ بعدم فهم مرتابًا قلقًا من تلك النبرة والكلمات دون مناسبة؟، كاد يستفسر عن هذا لكن الطبيب خرج من غرفة نادين..

هرولت إليه كـ غريق محتاج لأنقاذ ليقابلها الطبيب بابتسامته البشوشة وقوله المُبشر: متقلقيش هي كويسة جدًا الحكاية كُلها شوية ردود وكدمات وبُكره ممكن تخرج..
انفرجت شفتيها بابتسامة رقيقة وجففت عبراتها سريعًا وهتفت بعدم تصديق: بجد يا دكتور اومال إتأخرت جوه ليه؟ وأقدر أشوفها؟

أجاب بابتسامة: طبعا تقدري هي فايقة كمان، إتأخرنا عشان في فحوصات عملناها مهمه علشان نطمن عليها أكتر وهي الحمد الله كويسة حمد الله على سلامتها..

وقبل أن يغادر كانت ليلي داخل الغُرفة، التفتت على صوت فتح الباب لتبتسم بحب وهي تجد والدتها تركض إليها بلهفة، عانقتها بقوة مغرقتًا وجهها بوابلًا من القُبلات الدافئة تحت ضحكات نادين الرقيقة، توقفت فجأة واتسعت عينيها فابتعدت وسألتها بلهفة وخوف من أن تكون قد ألمتها: في حاجة بتوجعك محتاجة اجبلك حاجة؟ أنتِ كويسة؟ حصل ايه؟ لأ لأ متقوليش حاجة دلوقتي لما تبقي كويسة نتكلم..

أبتسمت نادين وقبلت يدها بحنان لتتأوة ليلى بحزن وتضمها بقوة إلى صدرها وهي تتمتم بنبرة شاكية على حافة البُكاء: الحمدلله انك كويسة كُنت هموت من الخوف عليكِ، كده يا نادين عايزة تسيبني وتمشي؟!
دست نفسها بأحضانها وهي تنفي بعبوس: مقدرش أبعد عنك أنا كُنت رايحة شرم..

نظرت إليها بلوم وانسلت عبراتها لكن نادين محتها سريعًا و وتوسلتها بنبرة مهزوزة وهي على حافة البُكاء معها: عشان خاطري متعيطيش خلاص أنا كويسة هعيط معاكِ، أذعنت لها وتوقفت عن البُكاء وظلت تعانقها بقوة وهي تقبلها كُل برهة وأخرى..

ابتسم عمّار وهو يُراقب ما يحدث براحة تامة غمرته، تنهد وتحرك كي يطمئن عليها لكن استوقفه صوت حمحمة خشنة يعرفها جيّدًا، هزَّ رأسهُ مبعدًا تلك الأفكار عنهُ رُبما هو فقط مشتاق إلى والده لهذا يسمع صوتهِ، عاد صوت الحمحمة يطرب أذنيه بانزعاج لكن مع توبيخه بغلظة تلك المرة: بعِد من جِدام الباب وأنت كيف اللوح إكدِه!

تنحي عمّار بفاه فاغر وهو يُراقب سير والده وتقدمه من ليلى بشحمه ولحمه! ما هذا؟ من أقنعه بالإتيان؟ فهو منذُ سنوات يُحاول إقناعه أن يقضي معهُ بعض الأيام هُنا لكنهُ يأبي! كيف اتى بتلك السهولة؟ وكيف عرف مكان تواجدهم؟، قطب جبينه وهو يتذكر اعتذار ليلي منهُ! ماذا قصدت؟

انتبه على نفسه وخرج من حالة ذهولة وابتسامة مُرحبه تُزين ثغرة، يُجب أن يُرحب به فليترك الأسئلة فيما بعد، تحرك خطوة واحدة وتيبست قدمه عن الخطوة الثانية وهو يسمع قول والده المتحمس إلى ليلى: محبتش أضيِع وجت عشان إكدِه جيت طواليّ وزي ما اتفجنِه كتب كتاب عمّار ونادين الخميس الجاي..

أومأت ليلى بثبات وهي تزدرد ريقها بصعوبة وغشاوة رقيقة لامعة أنارت نهر عسلها، مُعلنة موافقتها وهي تمسك بكف نادين ضاغطة عليه بخفة تدعمها تُخبرها من خلاله أنها بجانبها وستظل دومًا، أو هي من تحتاج إلى الدعم أيهما أقرب؟! فهي بالفعل بادرت واعطته موافقتها في الهاتف من قبل..

أدمعت عينا نادين وتقبلت و اولتهم ظهرها، بينما عمّار جُل ماكان يدور في رأسهُ أن الخميس هو بعد غد والغد بدأ بالفعل لأن الساعة تخطت مُنتصف الليل! ووالده قطع كُل تلك المسافة والساعات الطويلة المرهقة كي يمزح!

والآن على حافة وادي الشرقية وتحديدًا هضبة المقطم، المكان الأقرب إلى قلبه، يأتيه دومًا عِندما يهرب من متاعب الحياة، يُحب أن يُشاهد مصر من هذا العلو فهي مبهرة ورائعة وتكون مُنيرة..

كان هذه المرة لا يقف على مقدمة السيارة ويضع يديه في جيب بنطاله ويفكر بعمق والهواء يداعب قميصة المفتوح، لا بل كان جالسًا أرضًا يمدد قدميه أمامه فوق الأتربه ويرخي رأسهُ مع ظهره على مقدمة السيارة يتأمل النجوم ويحصي عددها..
تمتم بابتسامة لطيفة وشعره يتطاير مع الهواء النقي: 555، 556، 557، 558، 559، 600.

أوصد جفنيه بغضب جام وزفر بضيق عِندما سمع الهاتف المزعج، هو المخطئ لأنه لم يغلقه ريمة المسؤولة عن هذا، تناوله وأجاب دون رؤية المتصل فإن المزعجون من الصباح لن يتصلوا بعد مُنتصف الليل بالتأكيد كي يخبروه بالنتائج..
ـ قُصيّ مش بترد ليه؟ انا وصتهم عليك وأكدت عليهم أنهم يقولولك النتيجة وأنت مترُدِش؟!، كان هذا صوت طبيبة المُحنك الذي يناهز عمره الخامس والخمسين الطبيب الخاص به وسابقًا طبيب والده..

ضرب قُصيّ جبهته بغباء لأنهُ لم ينظر ثم اعتذر باحترام: آسف كُنت مشغول مخدتش بالي..
أجابه بتهكم وهو يُحدق في النتائج التي بين يديه: ووجع أمبارح ده يتنسي عشان تقول انشغلت و مخدتش بالك؟
صمت قُصيّ ولم يعقب ليستطرد الطبيب بنبرة ذات مغزى وهو يخلع نظارته الطبية ويقذفها أمامهُ بعصبية: أنت عرفت عشان كده مش عايز تسمعها؟
ظلّ على صمته يستمع إليه ببرود خالص دون أي تأثر بالحديث فالجميع سيموت في النهاية لمَ الحُزن؟

ـ قُصيّ أنت عندك سرطان..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة