قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر

- تلك ليست صفاتي، أنا فقط التزمت الصمت عِندما قرر الجميع أنني هذه الفتاة، -.

تنهد مسعود وهو يرفع كفه، ملامسًا دبلته الفضية بإبهامه بشرود، ثم قال بعملية: كُله متوقف على قُصيّ!
ثم إبتسم بحنان أبوي وهو ينظر لها سائلًا بحزن: برضه مش هتقولي لي قُصيّ ضربك ليه يوم الحفلة في الفُندق، اليوم اللي اتقتلت فيه البنت؟!

شردت جـنّـة قليلًا عائدة بذكرياتها إلى أحداث تلك الليلة لكن والدها لم يترك لها المجال بل اقتحم أفكارها بقولة: لازم تطمنيني عليكِ قُصيّ إتغير زي ما كُنا عايزين بس بقي أسوأ وهيشوط فينا إحنا أول ناس!
اعتلى ثغرها إبتسامة جانبية وهي ترفع حاجبها الأيسر ثم قالت بتحاذق: متقلقش عليا هبقى كويسة، احنا مهما عملنا قُصيّ عمره ما يخلف بوعده وهيكمل معانا للآخر عشان كلمته واحدة..

ابتسم مسعود مصححًا بسخرية: كلمته واحده ده لما كان بيحبك لكن دلوقتي إنتِ بقيتي صفر على الشمال!
ابتسمت وهي ترخي رأسها إلى الخلف قائلة بثقة وهي تغمض عينيها: محدش يعرف قُصيّ أدي يا بابا! هو حب جو ڨلنتينو وعشق مش أكتر من نزوة بربرية وهتنتهي..
ضرب بكفه فوق الطاولة الزجاجية بغضب كي تستفيق من أحلامها الوردية وذلك الوهم المسيطر عليها. يجعلها تجزم بأن قصي مازال يحبها وباقي عليها كما كان في السابق..

وبخ إياها بحدّة جعلها تجلس باستقامة: لا فوقي معايا، ده اتجرأ ومدّ ايده عليا وضربني عشانها وكانت حامل منهُ، حامل!

عادت الابتسامة تعتلى ثغرها وهي تعود لإسناد ظهرها بأريحية على الكرسي الوثير قائلة باسترخاء وهي تلقي برأسها للخلف طارقة بأناملها فوق يدِ المقعد: انا اللي سمحت له بِده من الأول! هو راجل في النهاية وعشق جميلة بزيادة، مسكّرة يا بابا و طبيعي إنه يحصل ومش من حقي أزعل، مكنش في حل غير كده عشان أكسرها انت عارف..
هزّ رأسهُ وقال بابتسامة ساخرة وقد عاد غضبه منها.

يعصف به مثل الأيام السالفة: و عشان إنتِ غبية زي اللي خلفوكِ تروحي تخلي جوزك هو اللي يقرب منها يقوم يحبها! ونعمه التخطيط
تأففت بسأم وهي تتناول كوب العصير ترتشف منهُ على مهلٍ، لتتقلص ملامحها بتقزز كأنه علقم، تركته من يدها بضيق وهي تلوك بلسانها داخل فمها مغمغمة باستياء: العصير بقى سُخن مش مهم، انا دلوقتي لازم امشي عندي معاد..

تلا هذا لملمت أغراضها وحملت حقيبتها وسارعت بالوقوف، لكنهُ أردف بتحذير أكثر من كونها كانت نبرة آمرة: أقعدي ومتخدنيش في دوكة انا مخلصتش كلامي لسه!

تنهدت وهي تعود للجلوس مجددا بارتباك حاولت إخفائه بشتي الطرق لأنهُ لو علِم ما كانت تفعل مع جاسم سيفتك بها حقًا، هو مُخيف ومُرعب في غضبه وقد جربت هذا قبل أن تقفز في النهر ذلك اليوم وقبله وقبله، تلك الأيام كانت جحيمًا معهُ بسبب غضبه عليها من تصرفاتها الطائشة والمتهورة..
قال بشك وهو يدقق النظر في تقاسيم وجهها: إنتِ مخبية حاجة عني إنتِ وقُصي صح؟ في حاجة في النص مش مظبوطة بينكم في ايه؟

ازدردت ريقها بحلق جاف وقالت بابتسامة متوترة: مفيش يا بابا هيكون في ايه يعني؟ انا عندي معاد مع الكُوافير بس عشان بفكر اصبغ شعري اسود، مش عشاني عشان لما قُصيّ يرجع ميحسش بالفرق ويلاقي عشق هنا..
حدجها بنظراتٍ غاضبة، وغمغم بسخرية: عرفتي إنك غبية؟

عقدت حاجبيها بانزعاج وهي تحدق عبر الحائط الزجاجي في الخارج بشرود، ليتابع بتحذير وهو يرفع سبابته أمام عيناها: انا لو عرِفت حاجة وطلعتوا مخبينها عليا هتزعلى يا جـنّـة، إنتِ عارفاني و عارفة قلبتي ومجرباها إنتِ و التانية اللي متلقحه في البيت..

ابتسمت برقة ثم وقفت وقامت بجر الكرسي الخاص بها وقربته منهُ، جلست بجانبه، وامسكت كفه بين يديها بحنان وطبعت قُبلة رقيقة فوقه قائلة بابتسامة: مفيش حاجة يا بابا صدقني مُستحيل أكذب عليك، بس كان ليا عندك طلب ياريت تنفذهولي..
ابتسم وسألها بحنو لا يليق به: عنيا..

ابتسمت بخفة وطلبت منهُ برجاء: براحة شويه على ماما حنان هي سِت طيبة كفاية تعب وبهدلة فيها انت نسيت انت مين وهي تبقي مرات مين؟ الحارة خلتك تطبع بطباعهم ولا ايه يا بابا دى مراتك؟!

مسح على شعرها بحنان وهو يبتسم ثم همس بخفوت مُزِج بأسف: مينفعش يا حبيبتي إنتِ عارفة اللي فيها، هي لسه لحد دلوقتي متعرفش انك عارفة الحقيقة وفاكراكِ عارفة إنها أمك مش خالتك؟، المشكلة يا جـنّـة إنها اختفت لما أمك ماتت وأنتِ صغيرة وظهرت فجأة لما بدأنا ننفذ الخطة وأنتِ كبيرة!، مستوعبة؟!

هزّ رأسه واسترسل بنوعٍ من التهكم مستنكرًا: كمان وإنتِ عاملة العملية ومتعرفش شكلك الحقيقي أصلًا، طلبت مني اتجوزها بحجة إنها تبقي معاكِ وتعوضك! وانا وافقت واستغلتها وقولتلها أني بوريكِ صورها وبقولك إن دي أمك وهترجع عشان متحسيش بالنقص، وإنتِ وقُصيّ كاتبين الكتاب وأنا فلِّست ومش معايا فلوس عشان كده قاعدين في الحارة وهي صدقت؟

صمت قليلًا واستطرد: فاكره لما ضربتك قُدامها وقالتلك آسفة إني مخترتش الأب اللي يحافظ عليكِ! صدقت نفسها ونسيت هي مين، حتى إنها صدقت عشق ومعرفتش تفرق بينكم لما قُصيّ جابها تشوفها عشان تطمن عليها على أساس إنها إنتِ ، لأ و ادتها عنوان الڤيلا بتاعت قُصيّ اللي ادتهولها وإنتِ بتقوللها مش هتتجوزيه ده خاين وكمان قالتلها إنتِ مكنتيش موافقه عليه وصدقت التمسلية اللي عملناها عليها إحنا الثلاثة، صعب دلوقتى أعاملها برقة من غير سبب يا جـنّـة صعب..

مسدت جـنّـة جبهتها بقوة شاعرة بالغباء ثم سألته باستفهام: بس يا بابا ايه اللي يخليها تشتغل وتتعب وزي ما أنا عارفة إنها من عيلة غنية جدًا زي ماما!

ضحك بخفة وضرب جبهتها براحة يده وهو يوبخها: ما إنتِ لو مركزة في كلامي هتفهمي، انا مش قُلت إني قولتلها فلِّست وهي كزوجة هتقف جنب جوزها ادتني فلوسها كُلها على أساس هعمل مشروع كبير وأنا طبعًا قولتلها إني اتنصب عليا ومفيش شُغل ومن ساعتها وانا عصبي ومضايق من القعدة وبطلع عصبيتي عليكم وبدور فيكم الضرب بس!

عقدت حاجبيها بتفكير وقالت بدون اقتناع وهي تهز رأسها: بس يا بابا إنت قولت إنهم أغنية غني فاحش! خدت أنت منها كام عشان تبقى فقيرة وتقبل العيشة معاك كذا سنة بالطريقة دي؟

لاك بلسانه داخل فمه بتفكير قائلًا بحيره: انا لحد دلوقتي بفكر ومحتار برده، حاسس إنها بتخطط لحاجة بس انا سألت وعرفت إنهم اتعرّضوا لأزمة كبيرة السنين اللي فاتت وخسروا فلوس كتير بس مهتمتش لأني مكنتش حاطتهم في دماغي أصلًا، ومش عارف هي عايزة ايه ومش مقتنع إنها جاية بعد ما كبرتي تعوضك؟ تعوضك ازاي ان شاء الله؟ جاية تفتكرك وإنتِ كبيرة كانت فين السنين دي كُلها؟!

أومأت بتفهم ثم سألته بتعجب: طيب وإنت اتجوزتها ليه؟ طالما هي محل شك!
تنهد وهو يسند مرفقة فوق الطاولة بينما يقول بدهاء: حتي لو شك لازم تفضل جنبي عشان ميكونش في مجال إنها تعمل حاجة كده ولا كده، وبعدين بقالها اربع سنين ولا عملت حاجة!

ابتسمت جـنّـة وهي تهز رأسها بتعجب قائلة وهي تضيق عينيها بسبب هذا التناقض: بس يا بابا شوف إنت بقالك كام سنة بتخطط ونفذت إمتي!، وزي ما بتقول دايمًا الحاجات دي محتاجة صبر ولو هي محتاجة تعمل حاجة هتبقي عالهادي وبحرص وخصوصا عشان إنت جنبها فاهمني يا بابا خلي بالك، أنا صحيح بحبها جدا لكن بحبك إنت أكتر ولو غيّرت معاملتك ليها جايز تكتشف حاجة كده ولا كده..

ابتسم ابتسامه ساخرة جعلها تناظره باستفهام لكنهُ تدارك هذا وتركها في حيرتها قائلًا بمراوغة: عايزاني اريحها يبقى تقوليلي مين اللي قتل البنت؟!
بهتت ابتسامتها وهي ترفع رأسها ببطء، تتبادل معهُ نظراته العابثة بنظراتها الباهتة..

في عمل ليلى..
كانت منغمسة في العمل بهدوء، تخفض رأسها فوق كوم الأوراق الموضوع أمامها يحتاج إلى توقيع وهي تسند مرفقها فوق جدار المكتب باهتمام، دخلت رنا عليها باندفاع دون أن تطرق الباب مما جعل ليلى ترفع رأسها بانتفاضة وشحوب لأنها افزعتها..
أطبقت جفنيها بقوة وهي تزفر على دفعات قبل أن تتحدث..

كادت تتحدث مستفهمة لكن رنا تحدثت سريعًا بعجلةٍ من أمرها: جالي اتصال من محمود بيقولي إن فيه واحد جِه تحت أخد مكتب لَمار وقعد عليه وعمال يقولهم إنها سابت الشُغل امبارح وهو الموظف الجديد
هبت ليلى واقفة وهي تلعن عمّار و اليوم الذي رأت به عمّار، فكيف لن تتعرف على ذلك الساذج المستبد هو وتصرفاته الغبية..

تركت ما بيدها والغرفة كُلها وهي تنعته بأبشع النعوت، وغادرت الغرفة بخطواتٍ سريعة بين السير والعدو إلى المصعد كي تصل إلى الأسفل، باقتضاب وشعرها يتطاير حول وجهها بجموح وغضب واضح سيطر على ملامحها المكفهرة وهي تعتصر قبضتها بقوة..
في الأسفل..

داخل تلك الغرفة الكبيرة التي ضمت أكثر من مكتب وموظف، كان ذلك الشاب الذي كما يبدو في متقبل العُمر، يُدعي محمود يقف أمام المكتب الذي احتله عمّار يُراقبه بعدم رضى وهو يضع يده بخصره..

تهللت اساريره، وأبتسم باتساع عِندما وجد الباب يفتح وتطُل منهُ مديرته التي يُحبها ويفضلها كما تفضله في المقابل، تنحي جانبًا تاركًا لها المجال كي تتحدث هي بلباقة وهو يبتسم في وجهها بدلال، بادلتها إياه بابتسامة بسيطة وهي تومئ بخفة..

مالت بجزعها فوق المكتب الذي إستعمره عمّار وطرقت فوقه بقبضتها بخفة كي لا تتشاجر أمام الموظفين، في حال أنهُ كان يُحملق في الحاسوب أمامهُ بتركيز من خلف نظارته الطبية التي أثارت في نفسها التعجب وهي تقول من بين أسنانها باستنكار: عمّار إنت بتعمل ايه؟
حرك رأسهُ بتباطئ عندما انتبه لوجودها، ثم وقف وأردف باحترام وهو ينظر لها بتعجب كأنه تفاجئ بها: اهلا وسهلا يا فندم نورتي المكتب في حاجة؟!.

لم تستطع كبح أبتسامتها الغاضبة وهي تكشر عن أنيابها قائلةً بنبرة آمرة حازمة: تعالي ورايا يا عمّار عايزاك..
ابتسم بعبث وأخفض رأسهُ قليلا ثم همس بنبرةٍ لعوب وصلت لها هي فقط: أنا دايمًا وراكِ وفي ضهرك متقلقيش..
شملته بنظرة أخيرة مُدققة قبل أن تغادر وتتركه واقفًا يبتسم مراقبًا ذهابها، لكن توقفت أمام الباب واستدارت قاصدة بقولها محمود: جهز الاوراق عشان في اجتماع بعد ساعتين..

أومأ محمود بابتسامة وهو يقول بحماس واضح: جاهز من دلوقتي، أومأت لهُ بخفة وتابعت سيرها، ليظل شاردًا بطيفها يبتسم كالأبله حتى وكزه عمّار بكتفه بمؤخره القلم بقوة مستفهمًا باقتضاب: ايه يا بطل في ايه؟
نظر لهُ بتعجب وهو يضع يده على كتفه مكان القلم، ليقول عمّار بدون تعبير وهو يتحرك للذهاب: خلي بالك من القلم بتاعي لحد مارجع، وتركه يقف محله ذاهلا وغادر..
في الأعلي..

أدار مقبض الباب ودخل إليها، جلس على المقعد الذي يجلس عليه دائمًا مقابلها مضجعًا عليه باسترخاء، نظرت لهُ ببرود دون أن تحيد بنظراتها المستاءة عنهُ جعلته يرفع حاجبيه مهمهمًا لها كي تتحدث عِندما طال تحديقها به..
سألته بنبرة هادئة لأن الصراخ لن يجدي نفعًا معهُ: وبعدين يا عمّار إنت عايز إيه؟!
ردّ بهدوءٍ مماثل وعيناه تجول على تقاسيم وجهها: عايزك إنتِ إتجوزيني..

خفق قلبها بقوة وأزدرت ريقها بشكلٍ متكرر غير ملحوظ وهي تبعد نظرها عنهُ لوهلة، تستحضر شجاعتها وهدوئها كي تنهي هذا الحوار دون شجار وعصبية..
بللت طرف شفتيها وهي تبعد خصلاتها المُصففة خلف أُذنها، ثم اختلست النظر لهُ بطرف عيناها لكنهُ لم يمنحها الفُرصة كي تبعد نظرها لأنهُ كان يحملق في وجهها بالفعل، بجدية دون أي تعبير منهُ ينُم على المُزاح، لكن ألم يزداد جاذبية و وسامة أكثر بتلك النظارة؟!

عدلت جلستها فوق المقعد وهي تهز رأسها بشرود ثم سألته بنبرة هادئة أكثر من العادة لأول مرة تتحدث بها معهُ، كانت أقرب إلى الهمس وهي تقبض فوق قلمها الذي يرجع لهُ قد تركه أمس لديها: طيب هنقول انك بتتقدم ومن حقي أرفض لأسباب كتير وإنت عارفها كويس..

هزّ رأسهُ باستنكار محتجًا بسبب ما تفكر به والذي يعرفة ويعرف أنه غير مُقنعٍ البتة ثم قال بصدق: لو قُلتي سبب واحد مُقنع وطلع معاكِ حق صدقيني هختفي ومش هتشوفينى تاني..
أومأت بخفة معلنة موافقتها، ثم قالت بتلقائية وبدون سبب وجيه: واقلع النضارة دي عشان شكلك وِحِش..

رفع حاجبه الأيسر وهو يخلع النظارة بأصابع يده اليمنى وباليسري فرك عينيه كطفلًا صغيرًا وهو يقول وسط فركه لها: أنا فعلا كُنت هقلعها عشان عمالة تكبرلي حاجات غريبة وانا ببصلك..
رمشت متعجبة تستوعب قوله وهي تفكر بتشوش، لكنهُ رفع النظارة فوق شعرة وطلب بهدوء مبعثرًا أفكارها: ها اتفضلي قولي أسبابك..

همهمت وهي تضجع على مقعدها ثم قالت بحزم وجدية: لأسباب كتير يا عمّار وأولهم وأخرهم والسبب اللي عمرك ما هتعرف تلاقيله حل ولا تعدي كده ولا كأنهُ موجود سِني، أنا أكبر منك! إديني سبب يخليني اتجوز واحد اصغر مني ليه يعني ليه؟ انا خمسة وثلاثين ونص وكُلها كام اسبوع وهبقي ستة وثلاثين؟! انت بقي كام ثلاثين! ده سبب كفاية متهيألي.

بينما هو كان في مكانٍ آخر شاردًا فيما قالت وابتسامة بلهاء تعتلي ثغرة، هل قالت عيد مولدها بعد أسابيع؟
سألها باستفهام وهو يعقد حاجبيه باهتمام: عيد ميلادك إمتي؟
اعتصرت القلم داخل قبضتها بِغِل، وحاولت السيطرة على غضبها وهي تصر على أسنانها بعصبية: أنا بقول ايه و أنت بتقول ايه؟

مسد جبينه وقال بازدراء: ماهو ردى مش هيعجبك! عايزاني اقولك ايه؟ هديكي مثال وهقولك النبي هتقوليلي بتقارن نفسك بيه ليه انت نكرة والزمن غير الزمن، هقولك واحد كذا اتجوز من كذا هتقولي وإحنا مالنا كل واحد عنده ظروفة!، هحل المشكلة هتقولي المجتمع والناس ومنظري عايزاني اقولك ايه؟!

ابتسمت ابتسامة شكلية وهي تومئ بسرعة مؤكدة: طب مادي الحقيقة عشان تعرف انها علاقة مستحيلة من كل الاتجاهات!، ومش هقول طظ في الناس عشان هخاف علي منظري فعلا ومش هوافق علي حاجة زي دي، عارف هيقولوا عليا إيه لو اتجوزت واحد أصغر مني؟ عارف هيقولوا عليك إنت إيه؟

هز كتفه قائلا بلا مبالاة: ولا يهزني هُمه ما لهم ؛ وعلي أساس إنهم بيسموا عليكِ دلوقتي ومش بيتكلموا يعني؟!، ماهو ده اللي جايبك وري خايفة من كلام ناس مالكيش علاقة بيهم ليه و اخرتك معايا انا؟!
زفرت بتعب وهي تضع راحة يدها فوق جبهتها قائلةً بيأس: الكلام معاك بيتعبني يا عمّار بجد..

صمتت قليلا تتنفس بصوتٍ مسموع واستطردت: بُص أنا رافضة فكرة الجواز كُلها أصلا، ولما أفكر أكيد مش هتبقي أنت في سعيد أحسن منك وكل يوم والثاني يطلبني..
تجهمت ملامحه، ورشقها بنظرةٍ متدنية، وهو يحدجها من أعلاها لأسفلها، أثناء سؤاله لها بكل وقاحة وإهانة: ليه هيدفع أكتر مني ولا اتعودتى على الرجالة اللي أد أبوكِ؟

امتقع وجهها، وهبّت واقفة وهي تضرب سطح المكتب براحة يديها، صارخةً به بنبرة غاضبة خرجت مرتعشة بسبب ابتلاع غصتها ومقاومتها للبكاء وتجاهل تلك الإهانة: أنت تحترم نفسك وأنت بتتكلم معايا مفهوم؟
ردّ بنبرةٍ شديدة الغضب وهو يعيد بتهكم: اوزني أنتِ كلامك يا كبيرة يا عاقلة! يعني ايه يعني هتفكري في سعيد عشان طلبك كتير هي مسابقة وهيكسبك فيها ولا إيه؟

أهتزت مقلتيها وهي ترى ذلك الوميض الخطير يشع داخل خضراويه وهو ينظر لها، أخذت شهيقًا طويلًا مليء براحته الفاجة وهي تجلس، ثم بنبرة خافتة مرهقة قالت: ولا اوزِن ولا موزِنش خلاص انا رافضة الجواز، ولما قُلت هفكر هفكر في سعيد عشان بيحترمني، يعني بالمعني الأصح هختار زوج يصوني والاحترام بينا يكون متبادل مش زيك وأكيد مش محتاجة أقولك مش زيك في ايه عشان كل واحد عارف نفسه كويس..

انكمشت في مقعدها كـ الفرخ الصغير، واحتل الخوف قلبها عِندما رأت تحرك فكه الحاد وتجهم ملامحه الصخرية أكثر وهو يقف من محله ودار حول المكتب في طريقه إليها..
سقط نظرها لا إراديًا فوق حزامه الذي ارتداه اليوم، اوقف عقلها عن العمل وبهت وجهها وشحب وهي تحرك قدميها التي أصبحت ثقيلة كي تدعمها وتركض من هُنا..

وقفت بعد عناء وقبل أن تكمل خطوتين أمسك ذراعها معتصرًا إياه بين يديه ببعض القوة، ثم دفعها لتسقط فوق الكرسي كورقة في مهب الريح..
قام بجره بين يديه وثبته أمامه وهو يميل بجذعه عليها محاصرًا إياها وهو يرمقها بنظراتٍ قاسية..
صرخ بوجهها بصوته الجهوري جعلها تنتفض: ومين اللي بدأ الأول؟ مين؟ مش إنتِ اللى من ساعة ماشوفتيني وإنتِ مش مبطلة غلط ونظرات مستفزة؟ مش إنتِ؟

صرخت به بالمقابل لكن نبرتها خرج مرتجفة رغمًا عنها، وهي ترى تلك الأفعوانية تبتلعها إثر تلك العاصفة التي هبت داخل خضراوية من فرط الغضب: وإنت عايزني اعملك ايه لما تقولي تحبي أغتصب بنتك قدامك أسمِّي عليك يعني؟
قهقهة قهقهات مُخيفة وهو يبتسم أصابها بالرعب، ثم هدر بتهكم: اه لوحدي قُلتلك كده لوحدي عشان أنا مجنون!

صاحت متبرمة وهي تتأفف في وجهه: غِلِّط يعني انا قُلتلك انت مش راجل ولا دول مش رجالة مش فاكرة أصلا..
أغلق عيناه بنفاذِ صبر لأنها لا تكف عن استفزازها ثم هتف باستخفاف وهو يضم قبضته فوق يدِ الكرسي: وبس! بس خلاص هو ده اللي حصل؟ طيب زعلانه ليه بقى ما إنتِ بتاخدي حقك تالت ومتلت!
أسبلت جفنيها، وهزَّت رأسها بنفي وبحزنٍ قالت: للأسف لسه مخدتش حقى كُله..

ابتسم بعصبية وجرّ المقعد للأمام، قربة منهُ أكثر، جعلها تهتز وهي تقبض فوق يدِ الكرسي بجانب يده بخوف، بينما يقول باتهامٍ واستياءٍ شديد: مفيش حد هنا ليه حقوق غيري، إنتِ حقي..
ولّت نظرها عنهُ وقلبها يخفق بقوة للمرة الثانية! فلا تعلم ما خطب قلبها اللعين هذا اليوم، ثائر بتلك الطريقة؟.

ليتابع قوله بقوة يشكو منها إليها: أنا عمري ما اتعاملت مع حريم غير اهلي، ولا بحب اتعامل معاهم !، لكن إنتِ اللي بتجبريني أعمل كده بتصرفاتك الغبية اللي بتفقدني أعصابي..
نظرت لهُ والشرار يتطاير من عينيها، حركت شفتيها كي تتحدث لكنهُ قام برجيح الكرسي بيده بقوة كي تصمت أشعرها كأنها تجلس على مقعد تدليك يطلق ذبذبات قوية..

صمتت تستمع لبقية حديثة، ليضيف باستياءٍ مضاعف: إنتِ اللي عزمتيني أول مرة وطردتيني بسبب انك مش مِدياني فُرصة اتكلم ولا أعرفك بنفسي من المقابلة الأولي، بعدين عزمتيني على الفطار وكان هيعدي لكن في الآخر قُلتي ايه! لازمتها ايه الفورمة لما تبقي حُرمة صح؟
وتابع بنبرة خبيثة واضحة استشعرتها: هعرفك لازمتها ايه بس مش دلوقتي، ازدردت ريقها وهي تتجاهله نسبيًا، متحاشية النظر لهُ..

أخذ زفيرًا حادًا على دفعات واستطرد قائلا: وبعدين جبنا الشبكة، روحنا نتعشى وسبتينا عشان مش طايقاني بردو وقعدتي مع سعيد وعادي، طلبتيني الصبح عشان اجيلك الشركة وجيت باحترام، طولتي لسانك طولت إيدي ولساني!، بلغتي عني وسّكِت خرجت وروحتلك البيت لقيتك زي ما أنتِ لا ومهيبرة اكتر، عورتيني بعد ما أذيتك طبعًا، ما هو كان لازم أعمل كده! عشان بلغتي، تبلغي ليه وأنتِ شتمانى اصلا ما احنا كده خالصين!، حذرتك و قُلتلك ابويا ومتغلطيش غلطتى، عملت حاجة عمرى ما عملتها وجيت اعتذرت ضربتيني، جريت وراكِ وجيبتك والمفروض إني اردلك القلم لكن بدل كده داويت جرح رجلك، زفته الطين لما ضربتك في المطبخ جبتلك حقك وبهدلتها ومكنتش أعرف إنك ندى، قُلتلك إني بدور على ندى وكذبتي و لا كأنك موجوده وكنتي بتضحكِ و تستهزأي بيا!

ردت عليه بنبرة مرتجفة وهي تبلع غصتها على وشك الإنهيار والبدء في نوبة بكاء لن تنتهي: كُنت عايزني اقولك عشان تدمرني زي ما أنت كُنت عايز صح؟

هز رأسهُ بيأس ثم سألها مستنكرًا بنبرة هادئة ممتلئة باللوم والعتاب، مما جعل خفقات قلبها تتعالى وتشعر بذرةٍ من الندم: قُلت كده لكن لما عرفت عملت ايه؟ حميتك حتى من نفسي ومن أبوكِ اللي كان هياخدك، صحيح ضربتك عشان شتمتيني، بس في نفس الوقت كُنت عايز افوقك لأن النار كانت بتاكل فيا بسبب ان ابويا عايز يتجوزك. وأنتِ بكل برود مش عايزة تتكلمي ولا تخليني أساعدك وأبوكِ كان عنده استعداد يبيعك ويرميكِ تاني ومش هيهمه وإنتِ عارفة كده كويس..

ابتلعت غصتها بمرارة، وهي تنكس برأسها والعبرات تجمعت داخل مُقلتيها معلنة عن تلك الأمطار الغزيرة التي ستتساقط في أي وقت، لكنهُ قام برجيج الكرسي بقوة كي تنتبه له ولا تبكِ وتابع بكل ما حمله من تهكم: بعدها حصل ايه؟ دلقت ماية عشان تمسحي وفي الآخر انا اللي مسحت! استغليتي إني بموت وهربتي، و انا بدل ما اكبر دماغي واقول احسن تستاهل واسيبه يكمل عليكِ قُمت في نفس اليوم و أنقذتك بصعوبة وكُنت هموت بسببك وإنتِ لآخر وقت مش عايزاني وانا بكرهك يا عمّار!، وبدل ما احبسك واهددك اني ارجعك لأبوكِ لو مقعدتيش سيبتك تمشي وبعت معاكِ صاحبي كمان وفي الآخر أنا برده اللي وِحِش؟! نسيتي كُل حاجة واي حاجة حلوة حصلت بسطتك ومسكتي في دول! حقيقي أنا بشفق عليكِ..

ظلت مطرقة برأسها، وعبراتها تنهمر فوق وجنتيها الناعمة بغزارة وهي تكتم شهقاتها، ليس ندمًا وليس حُزنًا، بل إختناقًا لأنها تكره هذا، تكره تذكر ماحدث معها هُناك، تكره كُل شيء يخص والدها، تكره نفسها لأنها إبنته، تكره اسمها تكره كُل شيء تحمله منه..

علم من حركة جسدها أنها تبكِ لكنهُ لو يتوقف بل تابع ببلادة وقسوة مضاعفًا آلامها ونشر الشظايا داخل قلبها المسكين: اوعي تكوني فاكرة نفسك ضعيفة وضحية القصة دي؟ لأ إنتِ زي ماعملتي خدتي ومحدش جار عليكِ ولا اتظلمتي!، أنا عمري ما سكت عن أي إهانة وخصوصا لما تكون من واحده و عمري ما اتعرضت ليها اساسا بس مع كده كُنت بسكت، ، إنتِ عارفة يعني إيه تشتمى راجل وتقللي مِنه في الرايحة والجاية؟ عارفة يعني ايه عمّار يُقف الوقفة دي قُدامك زي الأطفال ويحكيلك كل ده ويبرر هو عمل كده ليه عشان تديله فرصة؟ دي مالهاش قيمة عندك؟!

هزت رأسها وهي تستنشق ما بأنفها ثم رفعت وجهها الباكِ تناظرة بمرارة قائلةً بشفتان مرتعشة: عندك حق، انا لساني طويل وانت ايدك طويلة مننفعش لبعض وكل اللي قولته مش هيغير حاجة واني برده اكبر منك..
رفع زاوية شفتيه بسخرية وسألها باستفهام صاغرًا: إنتِ شايفة انك كبيره؟ حاسه بالفرق يعني؟ لو خدتك دلوقتي ومشينا في أي مكان هيقولوا ايه ده دي ماشية مع واحد أصغر منها؟

محت عبراتها بأنامل مرتجفة وهي تكتم بكائها بإرهاق قائلةً بوجل: ولا يقولوا ولا ميقولوش الكلام خلص، ممكن تخرج وتمشي من شركتي لو سمحت..
حرك المقعد يمينًا ويسارًا بعصبية وهو يزفر بقوة جعلها تصرخ به بخوف وهي تنتفض بذعر: بطل تحرك الكرسي بالطريقة دي و أبعد شوية و إمشي إنت وترتني!

جحظت عينيها وشهقت بخوف حقيقي وهي تشعر بالمقعد يرتفع بها لتتشدد قبضتها عليه أكثر وهي تهتز فوقه، فهي إن كانت في مدينة الألعاب لم يكن ليحدث هذا بها..

حطه أرضًا بعنف وهو يرمقها بغضب لتتنفس الصعداء وهي تنظر لهُ بوجه مكفهر، تنفخ أوداجها بقوة وقبل أن تتحدث تقاسم معها أنفاسها المرتجفة وهو يقرب وجهه منها قائلًا من بين أسنانه: أنا لسه مخلصتش كلامي مش بمزاجك، و عشان تكوني عارفة انا رجعت عشانك ومش هسيبك غير وإنتِ مراتي..

تدحرجت عيناها في أرجاء الغرفة بارتباك، وهي تبتعد عائدة بظهرها إلى الخلف شاعرة بتلك القشعريرة التى سارت في أنحاء جسدها أربكتها وأصابتها بألمٍ لذيذ..
أغضبه تهربها من نظراته وثباتها المزيف الذي يهدمه بسهولة..

تخلى عن يد الكرسي وقبض على فكها بقوة جعلها تنظر لهُ لكن بشراسة بلون العسل الصافي، حركت رأسها بنفور لكن قبضته اشتدت فوق فكها أكثر جعل ملامحها تتقلص بألم وهي تنظر داخل عيناه بغضب سافر بادلها إياه بنظرات صقيعيه وهو يسألها بقوة: مش بتبصيلي ليه وانا بتكلم؟ خايفة؟
صفعت يده بحدّة قائلة بتكبر وثبات كاذب لأبعد الحدود: لا متوهمش نفسك اخاف من ايه؟

إخترق ثباتها بنظراته الشغوفة التي ضاعت داخل عينيها الساحرة رغم لمعة الحُزن داخلها، لتخرج نبرته هامسة ذات مغزى: خايفة نفسك تخذلك وتعملي حاجة عقلك رافضها وقلبك مش عاوز غيرها..
ازدردت ريقها وهي تنظر داخل خضراوية بنظراتٍ مبهمة، وقلبها يخفق بجنون، ليتابع بثقة وابهامه يداعب ذقنها بنعومة: بس خليكِ عارفة ان قلبك هو اللي هيفوز في الآخر..

دفعت يده بقوة وهي تقول بتهكم مُزِج بتوتر: انت فاكر نفسك ايه؟ متحلمش كتير وفوق كده وبطل تغني عليا وكل شويه تقول حُب ومش حُب هو انا اعرفك اصلا؟
ابتسم بجانبيه و ببرود استفزها قائلا: بُكره تعرفيني وتحبيني كمان..
هزت رأسها بنفي قائلةً بنفور: ولا عمرها هتحصل متحلمش روح شوف واحده غيري تحبها..

ضيق عينيه قليلًا متعجبًا بسبب ذلك الغرور والتكبر، سرعان ما ضحك بسخرية وسألها باستخاف قلل من شأنها وهو يقرب المقعد منهُ باهتمام: لأ لأ متقوليش إنك فاكرانى بحبك وهموت عليكِ؟!
نظرت لهُ بضيق ولم تستطيع إخفاء نظرات الأستفهام والفضول داخل عينيها كي تعرف مقصده..
ليستطرد بوقاحة وهو يشملها بنظراته الرجولية الخبيثة: إنتِ بالنسبالي مش أكتر من جسم حلو متوهميش نفسك!

امتقع وجهها ورفعت يدها كي تصفعه لكنهُ أمسكها وقام بلويها خلف ظهرها بخفة وسحبها اوقفها أمامه مقيدًا إياها بقوة، تحركت بين يده بنفور لكنهُ شدد قبضته فوق يدها وهو يدفعها إليه حتى تلامس جسديهما في حميمية..
رفع ذقنها ببنانه وهمس بنبرةٍ ثقيلة وهو يتأمل ملامحها الناعمة: بُكره تندمي على كُل الوقت اللي ضيعتيه وإنتِ مش في حضني..

توردت وجنتيها تلقائيًا بخجل، وتعالى صوت خفقات قلبها باضطراب وهي ترمش بصدمه، لينتقل بأصابعه من ذقنها إلى وجنتها الناعمة مداعبًا إياها برقة لتغمض عينيها رغمًا عنها بخدر شاعرة بتلك الفراشات المتطايرة في معدتها..

ازدرد ريقه بحلق جاف وهو يجول بنظراته الداكنة الجائعة بين عينيها المغلقة باستسلام، وبين في شفتيها المثيرة التي تناشده برغبة مُلحة حاول كبحها والتحكم بها لأنها تفقده رزانته وجديته لكنهُ فشل، هي تفقده عقله وتطيح برجولته وتجعله شخصًا آخر لا يستطيع مجابهتها، أكثر ضعفاً، أكثر استسلاما، أكثر إذعانا لقلبه، هو لا شيء أمامها، ليس وهو بهذا القُرب المُهلك..

أخفض رأسهُ أمام شفتيها وأخذ يقترب أكثر ببطء حتى وصلت إلى أنفه رائحة أحمر الشفاه الشفاف الذي تضعه فوق شفتيها بتناسق، هاهي فُرصته التي تمناها مُنذُ أن وقعت عينيه عليها، سيكون غبيًا إن لم يغتنم تلك الفرصة ويقبلها، سيكون غبيًا..
لكن أوصد عيناه بقوة متمنعًا، ثم أطلق زفيرًا حارًا نافذ على دفعات وهو يرفع رأسهُ..

أسند ذقنه على قمة رأسها مُحررًا ساعديها ليحوط خصرها بتملك ويتحول إلى عناق حاني دافئ من قِبله، لمس قلبها جعله يرفرف ولم يترك لها المجال للتحرك، لقد تناست نفسها والعالم أجمع في حضرة وجودة..
فلم يخذلها عقلها الذي توقف عن أستقبال أيًا من التّرهات التي تفكر بها فقط، بل وقلبها الذي لم يتوقف عن الخفقان بقوة كأنه وجد مالكة أخيرًا،.

كأنها وجدت ملاذها بعد عناء، جسدها الذي تخدر بين يديه ينعم بهذا الدفء رغمًا عنها أخبرها بنهاية تلك القصة، هذا القلب الذي يخفق بقوة غير طبيعية كالمضخات لن يظل يخفق من أجلها لوقتٍ أطول، بل ستصبح تلك الخفقات تابعة لشخصٍ آخر..
حركت رأسها بنعومة وخفة كأنها فوق وسادة ناعمة، لتلامس أرنبه أنفها رقبته دون أن تنفك عن استنشاق رائحته الزكية النفاذة التي لا تفارقه أبدًا، بل تسبقة دومًا..

وبخفة حركت يدها المعلقة في الهواء كي تبادله عناقه بعد فقدان سيطرتها على نفسها لكن صفع الباب بقوة فرقهما..
دخلت تلك الفتاة التي ينعتها الجميع بالمجنونة بسبب تهورها المعتاد وعصبيتها المفرطة، باحثة عن ذلك الغبي الذي أخذ مكتبها بناظريها باهتمام..

تبعثر غضبها في الهواء وحل محله التعجب والذهول في آنٍ واحد وهي ترفع حاجبها الأيسر بتفاجئ، هل اكتشفت الآن أن مُديرتها المحترمة ليست تلك المحترمة الجدية، التي لا تلتفت إلي الرجال وتملك حبيبًا سريًا؟.

ابتسمت بسخرية وهي تناظر عمّار الذي إبتعد وعاد محله فوق المقعد وهو يحمحم، وليلى المرتبكة التي أولتها ظهرها وبدأت ترتب شعرها المبعثر وقلبها يخفق بجنون مضاعف، وعينيها جاحظة بقوة ذهولا غير مدركة ولا مستوعبة لوضعيتها التي كانت عليها مُنذُ ثوانٍ قليلة معهُ..
هزت رأسها بقوة نافضه تلك الأفكار عن رأسها الآن.

ثم أخذت شهيقًا طويلًا مُستعيدة رباطة جأشها، ركلت مقعدها المُبتعد عن المكتب بسنتيمترات قليلة بقدمها بخفة ليبتسم عمّار بجاذبية وهو يتابعها، و ترمقة تلك الفتاة بطرف عينيها شاعرة بالانتصار بسبب كشفها لهذا..
نظفت الفتاة حلقها ثم سألت مستفهمة: هو ده اللي هيشتغل معايا؟
تبادلت ليلى مع عمّار النظرات التي أخبرها من خلالها بكل وضوح أن تقبل به هُنا معها، لأنهُ لن يتراجع وسوف يُسبب لها العديد من المُشكلات..

رفعت كفها وأشرت عليه وأطرافها ترتجف من توترها وهي تحاول التذكر: لمار ده أستاذ، أستـ..
ــ أستاذ عمّار، إسمي عمّار، قال باستمتاع وهو يبتسم
لتتابع ليلى وهي على وشك الانصهار من الخجل والإحراج: هو هيكون معاكِ مؤقتا دلوقتي لحد ما نجهزله مكتب لوحده..
هزّت لمار رأسها بتفهم وقالت بعملية: معنديش مانع طالما هيساعدنى بس أهم حاجة مُرتبي مينقصش..

ابتسمت ليلى ابتسامة شكلية وتابعت بثقة أكثر: متقلقيش من النقطة دي والنهاردة متشتغليش واديله هو كُل الشغل ولو غلط قُليلي عشان يمشي أنتِ عارفة الغلط في الحسابات ممكن يعمل ايه..
أومأت بتفهم و استأذنت باحترام: تمام، عن اذن حضرتك..
اماءت ليلى بخفة، لتستدير كي تذهب لكنها ابتسمت بمكر وهي تفكر بشيءً ما ثم التفتت تسأله: مش يلا بينا يا عمّار الشُغل كتير!

ابتسم لها باقتضاب ثم وقف وسبقها إلى الخارج، ابتسمت بانتصار وذهبت خلفه، تسير ببطء وهي تتفحصه، بل تقيمه وهي تفكر بعمق..
شدت ليلى شعرها بقوة وهي تعتصر رأسها بين يديها بقوة بعد إغلاق الباب خلفهما، لتبدأ وصلة التوبيخ واللعن بسبب فعلتها الغبية ووجهها يتخضب بالحمرة بتلقائية بينما تضع يدها على فمها بصدمة وكل ماحدث يتكرر أمام عينيها كـ فيلم، وتلك الرائحة الزكية ما تزال عالقة بأنفها..

أخرج عمّار هاتفه في طريقة إلى المصعد ثم هاتف آدم سريعًا ليأتيه الرد بعد ثوانٍ..
تحدث مستغيثًا وهو يضغط على رقم الطابق: إلحقني يا آدم نازل أشتغل وانا مش فاهم حاجة في الأرقام دي، جربت اول ما جيت وحاولت أفهم لكن مفهمتش، هصورهم و ابعتهملك بالله عليك صحصح معايا، عارف إنك تعبان بس حاول ها مع السلامة..

وأغلق الهاتف ثم وبخ نفسه بغضب وضغط على رقم آدم من جديد لأنهُ لم يسأله عن حاله ويطمئن عليه، لكن توقف عِندما دخلت المصعد سريعًا قبل أن يغلق، توقفت أمامه وأولته ظهرها عاقدة يديها أمام صدرها بصرامة دون التحدث بحرف. لكن فضولها كان يقتلها حقًا كي تُحادثة وتتعرف عليه وتستخرج منهُ معلومات لكنها آثرت الصمت الآن فقط..

جلس على المقعد خلف مكتبه وأوصل الهاتف بالحاسوب وبدأ بنقل كل ما يصعب عليه فهمه كي يبعثه إلى آدم، كان هذا تحت مراقبتها لهُ باهتمام..
أخذت كرسي إضافي من خلف أحد المكاتب، وضعته بجانب عمًار وجلست بجانبه تراقب ما يفعل باهتمام، وچل ما يجول بخاطرها أنهُ الآن ينسخ معلومات لا يُجب عليه أن يأخذها على هاتفه و بكل تلك الوقاحة أمامها دون أن يكترث أو يخاف أن تراه!

هل هذا لأنهُ حبيب ليلى يتصرف بحرية؟ هل هو حبيبها حقًا؟ أم أنهما متزوجان في السِر؟ أم متزوجان بعقدٍ عُرفي؟
تحركت بالمقعد للخلف قليلًا وهي تتفحص حذائة اللامع صعودًا إلى بنطاله الأسود الأنيق دون ان ينبعج
، يعلوه كنزة صوفية رمادية داكنة وفوقها سترته سوداء ناعمة فخمة يشِع منها الثراء، ، وعطرة الفاج الثقيل وحدة يظهر هذا، تلك الرائحة الذكية لأحد الماركات العالمية تعرف هذا..

تنهدت وهي تضيق عينيها أثناء حملقتِها داخل ساعة معصمه التي لا يرتديها الجميع بسبب ثمنها الغالي ثم هاتفه أحدث الإصدارات وتصفيفة شعره، ، حسنًا هي تجزم أنه ثري ولا يحتاج إلى للعمل، ، هل الشوق من تمكن منهُ وجعله يأتي كي يكون بجانبها إذًا؟
قهقهت على تفكيرها بخفوت ومازال نظرها معلق عليه، ولم تنتبه لهُ عِندما التفت ونظر لها متعجبًا بسبب تلك الابتسامة وقربها منهُ في الجلوس بتلك الطريقة؟

فرقع أنامله أمام وجهها جعلها تنتبه له وتبتلع تلك الابتسامة بإحراج، ، نظرت لهُ باقتضاب ليسألها باستفهام: في حاجة؟ بتضحكِ علي ايه؟ فين الشُغل؟
تنهدت بهدوء و باستخفاف قالت: هقولك على الشغل لما تقولي انت بتنقل كل ده علي موبايلك ليه؟ متعرفش ان دي سرقة؟ وممنوع وممكن تطرد من الشغل عشانها؟

ابتسم ابتسامة مبتسرة وقال لها بكل برود: مالكيش دعوة خليكِ في حالك وخلي في حدود بينا بس، وابعدي بالكرسي عشان خُلقي ضيق، ودفع الكرسي بقدمة من الأسفل أبعدها عنهُ..
ضحكت بسخرية وهي تعود بجانبه من جديد تحت أنظار زملائها الذين كانوا يصبون كامل تركيزهم عليهما، لأن هدوئها هذا نادر وهي عاقلة أكثر من اللازم معهُ وهذا ليس شيئًا يعلمون أنها قد تفعله يوما ؛ فالهدوء ليس من شِيمها!.

رفعت أناملها و ضغطت فوق أحد الأزرار أغلقت الحاسوب جعلته يتأفف وهو يلتفت لها بانزعاج وقبل أن يتحدث باغتته بقولها بتهكم وهي تطرق بقبضتها فوق المكتب: المكتب ده بتاعى وأنت قاعد عليه بمزاجي، و سيباك برده تاخد المعلومات دي بمزاجي عشان عارفة انك مش هتستخدمها في حاجة مش كويسة، فـ عشان كده ياريت تبطل تتكلم معايا بالأسلوب ده، انا عصبية وممكن أتغابى عليك وافضحك في المكتب واقول انك على علاقة بـ ليلي المنشاوي..

رمش قليلًا وهو يحاول أن يستوعب ما تفوهت به لتوها، هل قالت علاقة بـ ليلي! يا إلهي يتمنى هذا حقًا..
رفع نظره إليها يناظرها باهتمام ثم سألها باستفهام: علاقة بـ ليلي! انا؟!، ابتسم ثم أشر لها بسبابته كي تقترب..
أذعنت لهُ واقتربت أكثر بالمقعد وهي تخفض رأسها ؛ ليهمس في أذنها بدوره وهو يخفض رأسهُ كي يصل إلى مستواها: انا مبعملش علاقات انا بتجوز على طول..

ابتسمت باتساع وهي ترفع رأسها وبفضولٍ قالت: افهم من كده إنها مراتك في السر؟
ضحك وهو يضع يده على فمه بتسلية، فحقًا يتمنى لو يخبرها أنها زوجته وهذا صحيح لكن فقط لا يستطيع لأن هذا ليس صحيحًا..
جعد جبينه وهو يفكر قليلًا ثم هدر بلامبالاه وهو ينظر لها باستصغار: بُصي يا شاطرة يـ، كان اسمك ايه؟ عصير؟ جهينة؟ اه لمار..

صرت على أسنانها بغضبٍ جلي وهي تستمع إلى سخريته وبقية حديثة: مالكيش دعوة بيا نهائي متجوز مخلف ماشي مع واحدة مالكيش فيه، ولو عاوزة تقوللهم طُظ ولا يهمني قوللهم عادي مش مُطّر اني ابرر لأي حد حاجة..
ابتسمت وهي كلا ترفع حاجبيها لتلك الجرأة وبخبثٍ سألته: ولا يهمك ده بالنسبالك أنت لكن بالنسبة لـ ليلى هانم بقي يا عمّار موقفها هيبقي ايه؟

تبدلت ملامحه إلى أخرى مقتضبة وهو ينظر لها لتتابع وهي تبتسم باتساع عِندما رأت تبدل ملامحه ونجاحها في إغضابه: واحده زيها بقالها فوق العشر سنين معانا ومعروفة أخلاقها وعارفين إنها مالهاش في الجو ده ولا حتى بتفكر في الجواز وخصوصًا إن كل اللي هنا عارفين ان سعيد هيتجنن عليها وهي رافضة. وفجأة ألاقيك اتعينت بسهولة من غير تعب ولا حتى نُص المجهود اللي المفروض تبذله عشان مكان زي ده! لأ وكمان تنزل هنا بنفسها لحد عندك عشان تطلع معاها تتكلموا!، وبعدين اشوفك حاضنها في المكتب مش غريبة دي؟ وزي مافي ناس بتحبها هنا في ناس بتكرهها من غير سبب برده! انا عن نفسي واثقة فيها وعارفة انها مش هتعمل حاجة غلط لكن باقي الموظفين هيقولوا ايه؟ الشغل مُمل و محتاجين حاجة يتسلوا فيها ومفيش أحلى من الخبر ده صح؟.

مسح وجهه براحة يده بحركة عصبية، ، فهي إن فعلت هذا وتم فضحها ستكرهه تلك المرة وللأبد، ، ظل نظرة معلق عليها، يفكر بحيرة دون أن يتحدث ولم تحصل على ردًا صريحًا منهُ..
وقفت وهي تبتسم بتحدي بسبب هذا الصمت الذي قلل من شأنها بينما هو كان يفكر..

هتفت بصوتٍ مُرتفع جذبت أنظار الجميع جعلتهم يلتفتوا لها: يا جماعة في حاجة مهمة لازم تعرفوها كلكم، عمّار طلـ، أمسك يدها بقوة جعلها تتوقف مبتسمة، التفتت برقبتها تناظره بنفس ذات الابتسامة التي كانت تحمل شيئًا من البراءة..
ولّت نظرها عنهُ وتابعت حديثها: عمّار طلع كريم وهيعزمنا كُلنا على قهوة بمناسبة تعيينه صح يا عمّار؟

ابتسم بخفة وهو يومئ بهدوء، ، ليبتسم محمود بحماس ورفع سماعة الهاتف كي يحادث المتجر ويوصي على طلبية القهوة التي يفضلها الجميع هُنا، ، لكن بسبب ثمنها الغالي لا يقومون بطلبها دائما فلديهم التزامات أُخرى مثل لمار..
جلست على المقعد وهي تقهقه ثم قالت مُبررة موقفها: أنا بحب ليلى جدًا و مستحيل اعمل كده، أصلا بدأت أصدق أن في حاجة بجد بسبب نظرتك وردات فعلك وانا بتكلم عنها! شكلك مهتم فعلًا..

زفر وهدر بضيق: إنتِ عايزة ايه؟!.
نظرت له بتفكير لبعض الوقت جعلته يفكر بقدر الشيء الذي تريده حقًا؟، بالتأكيد ترقية أو منصب أو أموال. لا شيء غير هذا فهي تهتم له وقد أخبرت ليلي أنها لا تمانع العمل معهُ طالما لن ينقص راتبها..
ستكون غبية إن لم تغتنم تلك الفُرصة، ، لكن ردها عليه بذلك التطفل جعله يذهل لبرهة: أنا! أنا عايزة أسمع القصة بتاعتك إنت وهي بس..

ضحك بخفة وهو يدور بالكرسي، ، توقف فجأة وهدر بدون تعبير: وبعد ما تعرفي تساوميها أو تساوميني صح؟
هزت رأسها بنفي أشبه بالسخرية بينما تقول بصدق: الفلوس والمبالغ الكبيرة مش من اهتماماتي علي فكره، ، انت ممكن وبسهولة جدا تسيطر عليا بـ كباية قهوة زي اللي هتجيلنا دلوقتي وبس بس هتفضل تشتريهالى طول ما انت بتشتغل هنا، بُص يا عمّار هتبقي إنت مسئول عن المشاريب اللي هنشربها انا وانت في الشُغل..

هز رأسهُ وهو يرفع زاوية شفتيه بسخرية لأبعد الحدود و ببرودٍ قال: إنتِ صدقتي نفسك ولا ايه؟
اقتربت بمقعدها أكثر بينما تقول هامسة: طيب ولو قُلتلك مين بيختلس الفلوس بدل ما تتعب نفسك ومش هتعرف برده هتجيبلي؟
توقف عن التفكير هنيهة وهو يحدق بها بتفاجئ سرعان ماتداركه وأخفاه ببراعة وبنبرةٍ متهكمة سألها: وانا ايه اللي يخليني اصدقك وأثق فيكِ؟

هزت كتفيها وقالت بنبرة مبهمة: عشان انا مش بكذب ومطلوب انك تثق فيا وتسمع اللي عندي بس ومش هتخسر حاجة موافق؟
هز رأسه بخفة وقال بشرود: موافق.

في روسيا لدى قُصيّ..
كان يجل في غرفة الجلوس أمام شاشة التلفاز الكبيرة المسطحة يتوسط الأريكة. وغرام تجلس بين قدميه تسند رأسها فوق صدره يشاهدان فيلمًا كرتونيًا معًا وهي تحتضن دميتها الوردية..
مال برأسهُ إلى الجانب قليلًا يتأمل ملامحها الطفولية الناعمة المتأثرة بما تشاهد بابتسامة حانية، ، قبل رأسها بحنان وهو يضمها إليه بقوة، ، فهو لا يُحب أحدًا بقدر حبه لها حتى إن كان يتركها لفترةٍ طويلة..

هو أصبح على ماهو عليه الآن، وخاض كُل هذا الصراع من أجلها هي، كي يراها وتأتي إلى هذه الحياة!، ، أطلق زفيرًا حارًا وعينه مرتكزة على شاشة التلفاز بينما عقله كان في مكانٍ آخر، عائدًا بذكرياته إلى ذلك اليوم من أربع سنوات..
عودة إلى الماضي..
دلف إلى المنزل بتكاسل وهو يزفر بضيق، جلس على أول مقعد قابلة وهو يمرر أصابعه فوق شفتيه يفكر بشرود قطعة جلوس جـنّـة على فخذيه وهي تبتسم بنعومة..

حاوط خصرها برقة وهو يبتسم بهيام في وجهها، قبلت وجنته بنعومة ورقة ثم أراحت رأسها فوق كتفه وبرفقٍ سألته: أحضر الأكل يا حبيبي؟!
كاد يتحدث لكنها رفعت رأسها وقبلت شفتيه بنعومة وهي تخلل أناملها داخل شعره الكثيف، وقبل أن تتعمق أكثر فصلت القبلة و ابتعدت عنهُ ووضعت أناملها فوق شفتيها وحدقت فيه بتعجب!

نظر لها بعدم فهم وهو يهز رأسهُ، لبتلع ريقها وهي تمرر أناملها فوق حُبيبات السكر العالقة على طرف شفتيه التي أبصرتها الآن بعد أن تذوقتها داخل شفتيها..
وبشكٍ سألته: أنت أكلت بره؟
هزّ رأسهُ بإيجاب قائلا بدون تعبير: أه كلت شعرية بالسكر مع عشق..
رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ شاعرة بالخيانة ثم قرصت وجنته بقوة قائلةً بتوبيخ: ومتقوليش كمان؟!
تنهد بضيق وهتف بعصبية: إنتِ مدياني فرصة اتكلم أنا لسه جاي يا جـنّـة..

ربتت على وجنته بنعومة كي يهدأ، ثم سألته بأعصابٍ حباردة وهي تفكر: جميلة عشق زي الصور يا قُصيّ؟
نظر لها بعمق وهو يومئ قائلًا بخفوت: جميلة جدًا..
مررت أناملها بنعومة فوق حاجبه نزولًا إلى ذقنه سائلةً بدلال أنثوي: أنا أحلى ولا هي؟
تأمل ملامحها الناعمة بحب صانعًا تواصلًا بصريًا معها، تائهًا داخل مقلتيها البُنّية التي تأخذه لعالمٍ آخر آسرةً لهُ بأغلال حُبها..

مرر أنامله على طول عنقها الظاهر لهُ ببذخ وهو يبتسم، ثم مال مقبلًا إياه بشغف صاعدًا بقبلاته المحمومة حتى شفتيها الناعمة ملثمًا إياها بشوقٍ ولهفة وهو يضمها بقوة..
فصل القبلة عِندما شعر بحاجتهم للهواء ثم هتف بتهدج وهو يحرك أنامله داخل شعرها بنعومة: إنتِ مفيش أحلى منك..
ابتسمت برقة ويديها تداعب وجنته بنعومة ثم همست بخفوت وهي تحرك ياقة قميصة: نبدأ بقي الخطوة الثانية؟

بهتت ابتسامته وتجهمت ملامحه، ضاغطًا على أسنانه بعصبيه عِندما فهم المغزى من حديثها، وبجمودٍ سألها: ايه الخطوة الثانية؟
بعثرت شعره بابتسامة وهي تمط شفتيها قائلة: الخطوة الثانية تخليها تحبك..

همهم لها بملامح صخرية يحثها على المتابعة، لتتابع بتردد وهي تمرر يدها على صدره صعودًا ونزولاً و عينيها معلقة على عينيه بثبات: وتنام معاها، عـ، دفعها بقوة من فوق قدمه أسقطها أرضًا وهبّ واقفًا وصرخ بها بجنون: إنتِ إتجننتي صح؟ مستحيل مستحيل أعمل كده فاهمة ولا لأ؟ ده ذنب مقدرش اتحملة و مستحيل اعمل حاجة زي دي أنا بحبك إنتِ، أنا جوزك يا غبية جوزك؟!

اغرورقت عيناها بالدموع وهي تبلع غصتها بمرارة، . تطالعه بحزنٍ عميق، وبنبرة مُرتجفة قالت وهي تكتم بكائها: إنت وعدتني إنك تساعدني يا قُصيّ وعدتني..
قبض على ذراعها بقسوة، أوقفها أمامه بهمجية جعلها تتألم وهو يعنفها في أوج غضبه: وعدتك؟ وعدتك أدمر مُستقبل بنت واضيعها عشان إنتقام غبي؟

انهمرت عبراتها بغزارة، وصرخت بوجهه بقوة، وبتحدٍ قالت: لأ مش غبي ومش هرتاح غير لما ادمر حياتها و اموتها و هتساعدني غصب عنك يا قُصيّ..
دفعها من أمامه بغضبٍ جامح، وأخذ يذرع الغرفة من ركنٍ إلى آخر وهو يحاول السيطرة على نفسه وكبح غضبه عنها، كي لا يصفعها لتعود إلى رُشدها، ، هي ستفقده عقله بسبب عقلها المسموم الذي لم يقصر والدها فى ملؤه بالترَّهات، دون أن يدعها تحيا في سلامٍ معهُ..

توقف أمامها وقبض على فكها بعنف كي تنظر له، وبنبرة صخرية غاضبة صارمة حذرها: دي آخر مرة تتكلمي معايا في الموضوع ده ومفيش وُعود ولا عشق ولا إنتقام ولا زفت، هتزعلي لو فتحتية تاني فوقي لنفسك ولحياتك وبيتك!
صفعت يده بقوة وقالت بدون تعبير: انا حامل يا قُصيّ
تجمد محلة ونظر لها بصدمه امتزجت بتوهج عينيه التي شعَّت ببريقٍ مُعبر عن سعادتة ولهفته في آنٍ واحد..

لتدمر كلا فرحته وسعادته صافعةً إياه بقسوة بقولها بتهديد وتبلد: إنت عارف اننا بنحاول من تلت سنين عشان نخلف ومكنش فيه أمل إنه يحصل بس حصل دلوقتي، وإنت الوحيد اللي نفسك في ولاد ولو مكملتش اللي بدأته يا قُصيّ وحياتك عندى هروح وهنزله، أنت فاهم والله هنزله..

تصلب فكه و رمقها بنظرةٍ خاوية تعبر عن اشمئزازه، تلا هذا قبضه على شعرها بقوة وهو يسألها مستنكرًا ما تفوهت به لتوها: إنتِ اتجننتي؟ الانتقام عمي قلبك؟ فوقي يا جـنّـة مش هتستفادى حاجة، إنتِ هتخسري وبس وأنا أول واحد هتخسريه لو فضلتي مصممة على القرف ده؟

وضعت يدها فوق يده التي تقبض على شعرها الحريري وبإصرارٍ وعزمٍ قالت وهي تنظر داخل عينيه بكل جرأة وقسوة كأنها لم تعرفه يومًا او هو الذي لم يعرفها: مش هيهمني يا قُصيّ مش هيهمني، أهم حاجة اوصل للي انا عايزاه وده اللي انا عايزاه..
لم يستطع إخفاء ذهوله وصدمته التي ظهرت جليًا على ملامحه إثر حديثها البارد الذي فطر قلبه، ، هي تستطيع التحدث وجرحة بكل سهولة، بل والتخلي عنهُ دون التأثر أيضًا بخلافة هو..

ابتعد عنها سريعًا كأنها وباءًا قاتل، ، مبتلعًا غصته بمرارة بسبب تلك الأنانية ولا مبالاتها به! كيف تتخلي عنهُ بتلك السهولة لأمرأةٍ أخرى بهذا البرود كيف؟ ألا تُحبه بقدر حُبهِ لها؟!
لكن حلمه كي يصبح أبا وأمنيته الوحيدة ستتحقق وأخيرًا! بل تحققت بعد عناء وصبرٍ طويل، ، كيف لها أن تقسو عليه الآن بتلك الطريقة وتخبره أنها ستقتله؟ كيف تستطيع فعل هذا به؟ ألا تريد أطفالا منهُ مثلما يتمني هو؟

لم يستطع كبح رغبته والامتناع عن الإقتراب منها وملامسة معدتها برقة، ، بل تقدم منها متلهفًا ومرر كفه فوق قماش منامتها الحريرية بحنين وهو يبتسم بسعادةٍ سرقتها منهُ بسبب حديثها اللاذِع، ، لتبتسم برقة وهي تريح جبينها فوق صدره الذي لطالما احتضنها برحابة صدر قائلةً بنبرة مرتعشة متأثرة: حامل في شهرين يا قُصيّ..

هزّ رأسه بإيماء بسيطة وهو يضم جسدها إليه بقوة، ظافرًا بنصره بحملها بعد سنوات، سعيدًا بانتهاء عناؤه وشقاؤه كما كان يظن..
رفعت رأسها تتطلع إلى وجهه بأسف ثم همست بخفوت مُزِج بندم: أنا آسفة يا قُصيّ متزعلش مني، وسرعان ما تحولت نبرتها إلى رجاء وتوسل وهي على وشك البكاء: قُصيّ اسمعني، لازم إنت اللي تعمل كده مفيش غيرك يقدر يعمل كده وانا مقدرش أثق في حد غيرك..

ابتسم بمرارة وهو يستمع إلى رجائها وتوسلها بذلك الإصرار كأنها تدعوه لحفلةٍ في منزلها ببساطة دون أن تفكر به ولو قليلًا..
تابعت بمواساة وهي تحوط خصره بقوة: انا عارفة أن الموضوع صعب عليك بس يا قُصيّ إحنا منقدرش نثق في حد من بره، منعرفش هو ممكن يعمل ايه و يدبسنا في حاجة تودينا في داهية..

بهت وجهه وسألها بحزنٍ عميق وليد هذه اللحظة بسبب طلبها الذي سيستنكرة أي شخصٍ يسمعه: جـنّـة إنتِ عقلك معاكِ؟ إنتِ بتطلبي من جوزك إنه يخونك مستوعبة ده؟ إنت عايزاني أعمل حاجة مقرفة بشعة ربنا حرمها عشان ترضي نفسك؟ مش كفاية سُمعتي اللى باظت من الإشاعات بسببك أنتِ وأبوكِ عشان الخطة الجميلة كمان عايزة تخسرينى؟ هتخسريني يا جـنّـة مش فارق معاكِ؟

احتضنته بقوة وهي تهز رأسها بنفي قائلةً بلهفة: مش هخسرك مش هخسرك صدقني، أنا مش طالبة منك غير مرة واحدة بس يا قُصيّ وبس وجايز هي متحبكش و ميحصلش حاجة..
: ولو حصل وحبتني؟!، سألها بملامح متألمة سيطر عليها اليأس..
فصلت العناق ونظرت لهُ بحنان قائلة بثقة: انا واثقة فيك وعارفة انك مش هتحب غيري مهما حصل يا قُصيّ..
: ولو حبيت؟.

اتسعت مقلتيها برفضٍ قاطع، ، هزت رأسها بهيستيريا وهي تعود لاحتضانه كشخصٍ مريض بقوة تؤكد عليه بقولها بحزم وصرامة: لأ مش هتحب غيري يا قُصيّ أنا مراتك وحبيبتك مش هتتخلي عني فاهم..

أبعدها عن أحضانه وأمسك ذراعيها بقوة وأخذ يهزها بين يديه بعنف، مؤكدًا على قوله بقسوة وهو ينظر داخل عينيها بغضبٍ سافر: إنتِ أنانيه ومش بتحبي غير نفسك وبس وانا هعمل زيك ومن الساعة دي يا جـنّـة اعتبري كُل حاجة بينا إنتهت؟ انا مش هبقي على حد مش باقى عليا، وإنتِ اختارتى انتقامك و فضلتيه عليا تبقى خلصت خلاص..

رفق قوله بدفعها بعيدًا عنهُ، ثم غادر المنزل باهتياج قبل أن يضربها ويصيبها بضررٍ قد يؤدي بحياة ثمرة حبه الذي أوشك على الإنتهاء..
صرخت بعصبية وهي تضرب الأرض بقدميها كي تُسمِعه قبل أن يغادر نهائيًا: هترجع يا قُصيّ و هتساعدني سامع لا لأ هترجع..
كان في عالمٍ آخر محتجزًا في غياهب الماضي، غير منتبه على قبضته القوية التي كانت تشتد على جسد غرام الصغير بقوة..

ضربات رقيقة ليدٍ صغيرة كانت قوية إلى حدٍ ما أخرجته من شروده تبعها قولها بألم وهي على وشك أن تبكِ: يا بابى أنت حاضنّي جامد اوي..
انتبه على نفسه وخفف قبضته سريعًا من فوق جسدها مُعتذرًا بحنان وهو يقبل رأسها بعد أن ارتخت ملامحه المنقبضة: آسف يا حبيبتى مخدتش بالي..
هزت رأسها بخفة ثم قالت بعبوس وهي تقوس شفتيها: الفيلم خلص..
داعب شعرها بنعومة وهو يبتسم ثم قال بحنان: وايه يعني نشوف غيره..

هزت رأسها بنفي وهي تزم شفتيها ثم طلبت منهُ وهي ترفع رأسها تتطلع إليه بحزن: لأ انا عاوزة أشوف مامي هات موبايلك أتفرج على صورها..
اختفت ابتسامته وتفاقم شعوره بالذنب تجاهها مثل كل مرة، ، يأتي ويرى حالتها التي تدمي قلبه بسبب افتقادها الشديد لوالدتها القاسية التي لم تنظر بوجهها عِند ولادتها حتى..

يعلم أنها تشعر بالنقص في الكثير من الأحيان، ، لا بل دائمًا لكنهُ لا يستطيع أن يعوضها هذا النقص فالأم لا تعوض هو المخطئ من البداية هو السبب بكل شيء..
كان من المفترض أن يجعل ريمة تخبرها من البداية أنها والدتها لكنهُ امتنع، وريمة عِندما علمت تشاجرت معهُ ورفضت هذا، كيف تكون والدتها وهي شقيقة والدها كيف؟ لقد كانت فكرة غبية يعترف بهذا..

لكن هو لن يسمح لـ جـنّـة أن تنتصر عليه لن يحدث هذا وينهزم أمامها، ، إن غرام عِندما تطلب منهُ كُل مرة رؤية والدتها يخرج هاتفه بكل سهولة ويريها صور عشق ويظل يتحدث عنها وعن جمالها وعن حُبها الكبير لها و سعادتها بوجودها، ، هذا كافي كعقابًا لها لأنها لا تستحقها..

عانقها بحنان وهو يطبق جفنيه بقوة بقلبٍ منفطر عليها، فتح عينيه بعد بعض الوقت ثم التقط الهاتف من فوق الأريكة وقام بفتحه لتتوقف أنامله فوق شاشتة أمام صورة عشق التي لا تفارق وِجهه هاتفه بتاتًا..
تطلع إليها بحنين وهو يبتسم بحزن لتنضم إليه غرام التي رفعت جسدها بطفولية لتلتصق قمة رأسها بذقنه وهي تنظر إلى الهاتف باهتمام..

شهقت بسعادة وأخذت الهاتف من يده بقبضتها الصغيرة بفرحة عارمة وهي تحدق في صورة عشق بابتسامة طفولية..
مررت أناملها فوق شفتي عشق المبتسمة وبانبهار طفولي قالت: عين مامى حلوة اوى يا بابي..

ابتسم قُصيّ وهو يعيد محاوطة خصرها بحنان، يشاهد معها صور عشق التي ملأت هاتفه مؤكدًا على قولها بنبرة حانية: حلوه بس! ده مفيش أجمل منهـ، توقف وظهرت بوادر الضيق على تقاسيم وجهه وهو يرمق ريمة بغضبٍ بعد انتزاعها الهاتف من يدِ غرام بقوة افزعتها..
أغلقت الهاتف وقذفته على الأريكة بملامح مقتضبة أمام غرام العابسة التي كان نظرها معلق فوق الهاتف بحزن..
أمرتها بحزمٍ قاطع: اطلعي اوضتك يا غرام دلوقتي.

أومأت بخنوع وهي تترك قُصيّ وتقف، لكن طلبت بحزن قبل ذهابها: طيب هاتي موبايل بابي..
هزت رأسها رافضة بحزم وأعادت بتحذير وهي ترفع كلا حاجبيها: لأ وعلى فوق دلوقتي..
حوَّلت نظرها عنها ونظرت إلى قُصيّ بأعين براقة تستنجد به، وقد شعر بها وأعادها إلى أحضانه معانقًا إياها بحنان وعيناه معلقة على عينا ريمة الباردة..
سألها بصوتٍ هادئ وهو يلتقط هاتفه: مالك في ايه؟

تقدمت خطوتين وهي تزفر، ، أبعدت يديه عن جسد غرام و امسكت ذراعها وجرتها خلفها حتى بداية الدرج وأمرتها بصرامة: على فوق وانا هجيلك كمان شوية..
أدمعت عينيها و ارتجفت شفتيها وهي تناظرها بلوم ثم قذفت دُميتها بغضب وركضت إلى الأعلى تحت أنظار قُصيّ الذي وبخ ريمة بحدة: ايه الغباء ده! بتتعاملي معاها كده ليه؟

رفعت سبابتها في وجهه محذرةً بنبرة مرتعشة أقرب إلى البكاء أدركها جيّدا: أنت آخر واحد تتكلم يا قُصيّ فاهم؟!
لانت ملامحه ورق قلبه عِندما رأي تجمع العبرات داخل مقلتيها و محاولتها اليائسة كي لا تبكِ أمامهُ كما اعتادت مُنذُ أن كانت طفلة..

وقف وأخذ يتقدم منها بملامح حانية يغلفها الدفء. لكن أمرته بصرامة وهي تبلع غصتها بمرارة: متقربش بتقرب ليه عايـ، جذبها لأحضانه بقوة معانقًا إياها بدفء لتستقر رأسها فوق صدره..
أخذ يمسح على شعرها بحنان شاعرًا بتلك الرجفة التي تصيبها عِندما تفشل في التحكم في كتم بكاءها داخلها..
ربت على ظهرها صعودًا ونزولا بحنان وشرع في الحديث يحثها على البوح بما يتعبها: مالك يا ريمة؟ أنتِ امبارح كنتي كويسة؟

أجهشت في نوبة بُكاء مريرة وهي تحوط خصره بقوة مشددة قبضتها فوق ملابسه البيتية، ، رفعت وجهها الباكِ وتطلعت إليه بلوم ثم سألته العودة بقلب مُنفطر: انا عايزة قُصيّ القديم يرجعلى، عايزة أخويا أنت مش هو قُصيّ مش بالبشاعة دي! قُصيّ ابويا واخويا وصاحبي وكل حياتي أنت مش هو أنت مش هو..

تأوه بحزنٍ لحالتها ثم ضمها بقوة أكبر مستمعًا إلى نحيبها بقلب متألم وذنبه يتفاقم تجاهها أكثر، فهو يعلم أنهُ اعتمد و اتكئ عليها لفترةٍ طويلة، أطول من اللازم وهي تحملت ولم تتحدث، لقد جعلها تترك أصدقائها وحياتها في مصر من أجل أن تعتني بطفلته هُنا ولم تعترض بل رحبت ووافقت بكل رحابة صدر وكانت سعيدة كما ظنت أنهُ انطلى عليه تصنعها..

لكنه يعلم أنهُ لم يكن شيءً هيِّنا بالنسبةِ لها لكنها تقبلت كل هذا من أجله، لأنها لا تستطيع أن تحزنه وتعصية لا تستطيع هو أغلى من جميع ما فقدتهم وتركتهم خلفها لأنهم ليسوا سوى فترات ستمر، لكن قُصيّ حياة تخشي عليه فلن تستطيع أن تفقده هو الآخر، لكن وكما يبدو أن طاقتها قد أستنفذت كُلها وفقدت ما بقي لديها من تماسك ولن تظل تكتم داخلها أطول من هذا..

حملها بين يديه بخفة وعاد بها إلى غرفة الجلوس، وضعها فوق الأريكة برفق ثم ذهب إلي المطبخ كي يأتي لها بكوبٍ من المياه..
هرول بالمياة في طريق عودته، جلس بجانبها ثم رفع كفها ووضعه حول الكوب يمسكه معها كي لا يسقط بسبب ارتجافها قائلا برفق: اهدي واشربي مية اهدي..
امتثلت لهُ وارتشفت القليل وهي تنتفض من البُكاء، ربت على ظهرها بحنان كي تهدأ وهو يراقبها بندم..

رفعت رأسها بعد إنتهائها وظلت تطالعه بنفس ذات النظرة اللائمة جعلته يسألها بتأنيب ضمير أثناء تربيته على وجنتها بنعومة: عايزاني أعمل ايه وانا اعملهولك غير طلب كُل مرة..

ابتسمت بوجل وهي تطرق برأسها ثم هزتها بيأس بينما تقول بقلة حيلة: وانا معنديش غير الطلب ده، الطريق ده اخرته وحشه يا قُصيّ ومش هتخرج منهُ سليم، انا عارفة إنها كانت تجربة قاسية عليك بس على الأقل عرفتك حقيقة مراتك اللي المفروض تكون مطلقها لكن انت لسه سايبها على ذمتك!

ابتسم بفتور ثم مدّ يده واحتضن راحة يديها وشرع في الحديث بنبرة هادئة كانت حازمة لاتقبل النقاش: ريمة انا القرار اللي اخدته عمري ماهرجع فيه تاني أبدا، وانا اخدت قرار ومش هسيب كُل ده ولا كإن اي حاجة حصلت!، لأ انا هربيهم من جديد وهتشوفي، و بعدين يا ريمة انا باجي أقعد يومين عشان بتكونوا وحشتوني فا مش كُل مرة تعملي كده عشان بتتعبيني أكتر؟

غمرت وجهها بين راحة يديها تتابع وصلة بكائها الحاد قائلة بانتحاب: انا خايفة حرام عليك..
ضمها إلى صدره بحنان، وأخذ يهدئها برقة: خايفة من ايه يا عبيطة أنتِ هشش كفاية، كفاية عياط احنا اتكلمنا كتير وانا الموضوع ده بيتعبني ياريمة اقفلي عليه..

هزت رأسها وهي تمحي عبراتها وبنبرة متلهفة سألته: طالما بيتعبك سيبه يا قُصيّ عشان خاطري، مش احنا بنات مبتخافش علينا ليه؟ متعرفش إن الدنيا سلف ودين يا قُصيّ وكل اللي بتعمله هيحصل لحد فينا مهما طال الزمن؟ مش خايف على غرام؟
تأفف وهو يهب واقفا بعصبية ثم قال بتحذير: ريمة اقفلي علي الموضوع ده..
ضمت قبضتيها بغضب ثم وقفت أمامه وعيناها تخترقه بنظراتها مدققةٍ به بتركيز..

لتهمس بنبرة ذات مغري وهي توكز صدرة بسبابتها: عينك كُلها خوف ياقُصيّ، مش خوف بس ده رُعب انت مرعوب وخايف، خايف يحصلنا حاجة عشان كده بعدتنا صح؟ بس خليك عارف إننا مش بعيد عن ايد ربنا ربنا يا قُصيّ لو لسة فاكرة..
نظر لها ببرود، نظرة خاوية فارغة خفى خلفها الكثير من الألم: ارتحتى أنتِ كده؟ انا هسافر بكره عشان ترتاحي اكتر..

ووقف ليذهب لكنها دفعته من كتفه ليجلس من جديد فوق الأريكة، زفر بنفاذ صبر وهو ينظر اليها بانزعاج شديد في هذا الجو المشحون..
جلست بجانبه توسلته بيأسٍ وتعب: قُصيّ أنا مليش غيرك ومش عاوزة أخسرك، أرجوك كفاية أُقف لحد كده وشوف هتصلح اللي عملته إزاي وأستقر معانا هنا..
رفع كفه و داعب وجنتها بحنان وهو يبتسم قائلا بطاعة: انا فعلا هعمل كده، وعشان اعمل كده لازم أرجع مصر وانهي كل حاجة يا حبيبتي..

هزت رأسها برفض وسألته مُستنكرة: وطالما هتنهي كُل حاجة بتخلي غرام تتعلق بصور عشق ليه وهي مش أمها حرام عليك؟ أنت مش بتشفق عليها؟ عجبك حالِتها كده؟ مستني لما تبقى مريضة نفسيا بسببك وبعدين تفوق؟!

خلل أنامله داخل خصلات شعره بضيق ثم حرك شفتيه وهمَّ بالتحدث لكن أوقفته بقولها الحاد: ماتقولش إنك عملت كُل ده عشانها وتفضل تبرر التبرير العقيم ده يا قُصيّ فاهم! عملت كل ده عشانها و عشان تتولد وتشوفها صح؟ طيب اهي اتولدت و كبرت انت فين بقي؟ فين من كُل ده اهتميت بيها ولا فضلت جنبها؟ والحقيرة التانية اللي مبصتش في وشها لما اتولدت وقالتلك خُدها علشان متتأثرش وتتعلق بيها وتسيب انتقامها! حقيقي إنتوا متستهلوش غرام ولا ينفع يتقال عليكم لا أب ولا أم كان المفروض تسيبها تنزلها وتخلصوا منها أحسن من حياتها دي!.

كان يستمع لها بوجه شديد الاكفهرار وهو يضم قبضته معتصرًا أنامله بقوة حتى ابيضت، ، ابتلع غصته بمرارة كأنه ابتلع علقم، ، فهي لا تعرف أنها تذبحه بتلك القسوة دون رحمة، ، لا تعرف ماهية الضغط النفسي الجسيم الذي يسيطر عليه..

هدوء مريب خيم المكان لثوانٍ قليلة، قبل أن يصرخ بحدة وهو يضرب سطح الطاولة الزجاجية الصغيرة بيديه بقوة أفزعها: يعني عايزة ايه يا ريمة عايزة ايه؟ مش كفاية حياتي الزفت اللي انا عايشها وكرهي لنفسي! هيبقي أنتِ والحياة عليا كفاية بقى كفاية..

صرخت به بحدّة مماثلة وبرود وهي تقف: أنت اللي عملت في نفسك كده متجبش اللوم على الحياة محدش قالك روح اعمل علاقة مع واحدة ودمر مستقبلها عشان مراتك ترضي عليك لأ وفي الآخر تحبها يا فرحتي بيكم!.
مسح وجهه بغضب وهو يقضم شفتيه بقوة، ، وصدره يعلو ويهبط في عنف ملتقطا أنفاسه بصعوبة..

هزّت رأسها بخذلان وهي تراقب حالته بشفقة، تعلم أن الذنب يقتله وحياته أسوأ مما تتصور ومما يحكي هو، هو فقط يختلق الأعذار الواهية ويبرر أفعاله التي لا يمكن دحضها ليتخلص من تقريع الضمير، فهو لا يجعل صاحبه يحيى بسلام وقُصيّ لم يُقصر، لأنهُ يحمل أعباء تثقل كاهلة و بالكاد يتماسك وهي تفقده أعصابه ومُصرة على جعله ينهار..

أمسكت ذراعه تديره إليها وبقوة سألته: انا بجد مش عارفة درجة الغباء والسذاجة اللي عند عشق جيباها منين مش عارفة؟ ازاي تصدق انك فضلت السنين دي متعرفش عنها حاجة ولا حتى إسمها! أنت عملت فيها ايه يا قُصيّ عشان تثق فيك الثقة دى كُلها؟ عملت فيها ايه؟

خفق قلبه بعنف وابتسم إبتسامة متقترة باهتة وشرد قليلًا بينما يقول بكل ما يحمله من ألم بمعنى الكلمة: عملت إيه؟ ولا حاجة، أي حد لما بيحب ميقدرش يخوِّن عشان الثقة مش احساس بنشتريه يا ريمة ده بيبقى نابع من جوه، وهي حبتني بجد أكتر مما تتخيلي، انا حقيقي بشفق علي نفسي عشان انا الخسران مش هي..

كور قبضته بقوة وهو يضغط على أسنانه من الداخل ثم ضرب قلبه بقوة عدة ضربات قاسية يصاحبها الندم، مبتلعًا غصته بمرارة لعل تلك النيران المندلعة داخل صدرة تهدأ وتنطفئ وينتهي تقريع الضمير لديه: هي حبتني بجد وانا دوست عليها يا ريمة، قالتلي انا بثق فيك ومتعملش فيا كده بس انا مسمعتش وكسرتها، انا بكره نفسي أوي يا ريمة بكره نفسي اوي، عمري ما عملت حاجة وندمت عليها أد ما أنا ندمان دلوقتي..

رق قلبها لهُ وسارت تجاهه، احتضنت وجهه بين راحة يديها بحنان وهتفت بنبرة مرتعشة متأثرة: قُصيّ يا حبيبي اسمعني، عشق خلاص إنت سيبتها وهي رجعت لجوزها ولو حاولت معاها تانى هتأذيها اكتر، انت لو بتحبها بجد سيبها يا قُصيّ في حالها ومتظهرش في حياتها تاني يمكن تتأقلم وتكمل حياتها مع جوزها..

سكت لوهله كأنه يستوعب قولها، ثم هزّ رأسه برفض وهو يلقي بجسده على الأريكة معتصرًا رأسهُ بين يديه بقوة، لتستطرد بإصرار وهي تجلس بجانبه: قُصيّ اسمع مني محدش هيخاف عليك أدى، لو إنت خلاص مش عايز جـنّـة و هتطلقها يبقى تطلقها من هنا ومفيش داعي انك ترجع تاني وسيبها تضرب دِمغها في الحيط هي وابوها..

هدر بيأس وهو يحدق في العدم: لو مرجعتش عشق هتموت، رفق قوله بسخرية وهو يرفع رأسهُ واسترسل: كانت هتموت بردو وانا موجود بس الفرق دلوقتي إني حبيتها يا ريمة و مقدرش اسيبها تموت ولا أقدر ابعد عنها أكتر من كده مهما حصل، هي كانت ليا وهتفضل دايما مش هسيبها وهرجع لازم ارجع..

شدّت شعرها بفقدان صواب وهي تتأفف وهمَّت بسؤاله بتهكم مستنكرة هذا التبجح: قُصيّ أنت بجح و بتتكلم بثقة ولا كأنها مراتك ليه؟!، فوق يا قُصيّ ده الطبيعي انك ترجع تلاقي جوزها قتلها وبيدور عليك عشان يقتلك أنت كمان، أنت مستهيِف اللي انت عملته؟! قلبك مات ومش حاسس بأي ذنب تجاه ربنا وإنك زاني؟ عارف عقوبة الزاني إيه يا قصيّ؟

ابتسم بألم وهمس لها بخفوت: أنتِ مش هترتاحي غير لما أبطل أجي هنا صح؟! أنا مش جاي هنا تاني طول ما أنتِ بتتعاملي معايا بالطريقة دي..
رفعت زاوية شفتيها بسخرية وهتفت باشمئزاز مستفز متعمدة وهي تعقد يديها أمام صدرها: طبعا ما أنت تحب اللي يِضلك عن الطريق الصح ويشجعك ويقولك براڤو يا قُصيّ إنت صح مش كده؟
أبعد نظره عنها بعتاب وحزن ثم وقف وغادر قاصدًا الأعلى لكن سماع رنين الجرس أوقفه..

هرولت ريمة إلى الباب لأنها تقريبًا علمت هوية الطارق، لكن قُصيّ أبعدها عن الباب قبل أن تفتح متعجبًا اندفاعها وسرعتها كي تفتح هي..
أدار المقبض وهو ينظر لها باهتمام ثم أبعد نظره عنها ونظر إلي الطارق ليجده شاب أشقر في متقبل العُمر، نظر لهُ بتعجب سائلا: هل أستطيع مساعدتك؟
تحمحم وهو ينظر بينه وبين ريمة بتوتر دون أن يرد وهذا أزعج قُصيّ وخصوصاً نظراته إلى ريمة كأنه يعرفها..

كاد يتحدث لكن ريمة تحدثت أولا معتذرة: آسفة إدوارد لن استطيع الذهاب اليوم رُبما لاحقًا..
أومأ بتفهم وهو يبتسم بخفة ثم غادر ليصفع قُصيّ الباب خلفه بقوة، استدار بتجهم وقبض على ذراع ريمة بقسوة و بغضبٍ جامح سألها: ده مين ده؟ و هتروحى فين؟ انا مش قلتلك مش عايز تعارف ولا تكوين صداقات!

نزعت يدها من يده بعنف قائلة بتهكم وهي تقاوم رغبتها في البُكاء: عارفة ومفيش حاجة حصلت ولا اتعرفت على حد، ده مُجرد جارنا وسعات باخد غرام واخته و نتمشي شويه معاه لأني مش عارفة أماكن هنا كتير بسبب وجودي في البيت طول الوقت..

وتركته وغادرت صاعدة إلى غرفتها، لكنها عادت أمامه من جديد كي تلقي على مسامعه هذا الكلام بقسوة لأنهُ يستحق: وعلى فكره انا مش بعمل كده عشانك ولا عشان خايفة منك لأ، نظر لها بتمعن ومازال متجهما لتتابع بمقتٍ شديد: أنا بعمل كده عشان مبقتش اثق فى أى راجل ولا أقدر أحب عارف ليه؟

أخفض رأسهُ التي بدأت تؤلمه وقد علم الاجابة من نظرتها المشمئزة الكارهة، لتقول مؤكده كي لا يظل هُناك شك وتردد داخله: عشان خايفة أحب واحد و يطلع دنيئ زيك يا قُصيّ، وتركته تلك المرة وصعدت إلى الأعلى و عبراتها تنهمر متسابقة فوق وجنتيها..
فإن كان خائفًا عليها حقا بتلك الطريقة المؤرقة كما تشعر به فليتوقف عما يفعل من أجلها..

زفر بعصبية وهو يغمض عيناه لدقائق مرت عليه كسنوات وهو يقف متسمِر محله حتى سمع صوت الجرس يصدح من جديد..
فتح الباب بإحباط تحول إلى ذهول وهو يراها تقف أمامه، فرغ فاهه متمتمًا بعدم تصديق وهو يبتعد عن الباب تاركًا لها المجال كي تدلف: مرات عمي؟!
ابتسمت حنان وهي تقوم بإلقاء التحية بهدوء: إزيك يا قُصيّ..
هزّ رأسه بإيماءة بسيطة ومازال الذهول يأخذ.

مكانه فوق ملامحه وهو يفكر بتشويش وعدم فهم لسبب مجيئها المفاجئ، ومعرفتها بمكانه، وهيئتها هذه ؛ وثيابها الأنيقة الفخمة، المختلفة كُليا عن ما كان يراه في منزل عمه فماذا حدث؟!
أجابت عن جميع أسئلته الداخلية بقولها بصوت منخفض: هشرحلك كل حاجة يا قُصيّ بس لازم الأول تمشي الخدامة اللي شغالة هنا، عشان دي بتتجس عليك وبتنقل كُل حاجة بتحصل هنا لـ حبيب..
بينما في الأعلى..

أنتهت ريمة من ارتداء ثيابها ثم قامت بمساعدة غرام كي ترتدي أيضًا ثوبها من أجل الحفل..
لفت الوشاح حول رقبتها بتمهل ثم ساعدتها بارتداء القبعة الصوفية فوق شعرها البني الناعم وهي تبتسم بحنو، ضمتها إلى صدرها بحنان وبحزنٍ سألتها: غرام يا حبيبتي لسه زعلانة مني؟!

هزت رأسها بنفي وهي تطوق رقبتها بقبضتها الصغيرة قائلة بابتسامة عابسة وهي تزم شفتيها: لأ مش زعلانة، انا مش بحبك تزعلي مني ولا تضايقي بس مامي وحشتني اوي، دايما وحشاني ومش بشوف صورها غير مع بابي بس..
ربتت ريمة على ظهرها بحنان وأسف من أجلها ثم قالت بمواساة: متزعليش نفسك يا حبيبتي لما تنزلي خدي الموبايل من بابي وشوفيها براحتك، وبعدين النهاردة الحفلة بتاعتك مش عايزاكِ تبقي زعلانه..

ابتسمت بحماس وقالت بسعادة: بابي جاي معانا صح؟
ضيقت ريمة عينيها بتفكير ثم قالت بابتسامة مشاكسة وهي تضرب أرنبه أنفها ببنانها: مش عارفة تعالى نسأله، يلا..
توقفت غرام بعد أن خطت بعض خطوات قليلة عِندما أبصرت والدها يجلس مع إحداهن في الأسفل..
ضغطت على قبضه ريمة التي كانت تحتضن يدها بحزن وأردفت بعبوس: في حد مع بابي تحت مش هيجي معانا..

حملتها ريمة بحنان وتابعت النزول إلى الأسفل وهي تقبل وجنتها بنعومة ثم قالت وهي تنظر إليها: مهما كانت حد مهم عند بابي هيجي معانا عارفة ليه؟
هزت رأسها بجهل وهي ترمش بتفكير طفولي لتطبع ريمة قبلة حانية فوق جبينها تلاها قولها: عشان أنتِ مهمة أكتر منها، فاهمة حاجة؟
هزت رأسها بملامح طفولية مُنزعجة وعابسة أكثر لتقهقة ريمة وهي تتطلع إليها وبابتسامة ملاطفة قالت: يعني بابى بيحبك اوي اوي اوي أد البحر..

توهجت مقلتيها البُّنية بسعادة وسرور وهي تبتسم بإشراق حتى توقفت ريمة أمام الأريكة بابتسامة مستفهمة وقبل أن تتحدث شرع قُصيّ في الحديث وهو يرفع رأسه لها: رايحة في حته؟
أومأت ريمة بإيجاب وهي تربت على ظهر غرام التي كانت تنظر له بابتسامة: رايحين حفلة غرام واصحابها عشان نجحوا في كي جي وان..

رمش قليلا بتعجب ثم هزّ رأسه مستنكرا هذا وقال باستهزاء: حفلة عشان كي جي التفاهة وصلت للدرجادي؟ ده انا لما نجحت في الثانوية خدت قلم على وِشي بتهزوا!
قهقهت ريمة برقة وهمّت بالحديث بمواساة: معلش نصيبك كده، وسكتت قليلا تنظر إلى حنان بنظرة شاملة واستطردت قائلة: مش هتعرفّنا ولا ايه؟
ابتسم قُصيّ ورفع يده ملوحا إلى غرام : تعالي سلمي علي تيتة يا حبيبتي..

ابتسمت غرام وتحركت كي تذهب إليه لكن ريمة أبت أن تفلتها وتتركها وهي تنظر له بوجه مكفهر ورفض تام، إنها تقرب جـنّـة لن تتركها بالتأكيد..
ابتسم ابتسامة مبتسرة وهو يحذرها بعينيه أن تتركها تأتي مع قوله بصوت رخيم: سيبيها يا ريمة سيبيها..
أنزلتها أرضًا فركضت لهما أمام ناظريها تتابعها بعدم رضي وقلق، عانقتها حنان بحب ثم رفعتها واجلستها على قدمها وهي تحوط خصرها برقة ثم سألتها بحنان: إنتِ غرام؟!

أومأت وهي تزم شفتيها ثم سألتها بلطافة: إنتِ تيتة؟
أدمعت عيناها وهي تومئ لها بينما تمسح على شعرها بنعومة ثم عانقتها من جديد مؤكده قولها: أه يا حبيبتي تيتة تيتة حنان..
تركهما قُصيّ وأخذ ريمة في يده متجها إلى الأعلى لكنها تملصت رافضة وهي تحتج باعتراض: ايه واخدنى على فين؟
أردف بعجلة وهو يسحبها خلفه: ساعديني في اللبس.

غمغمت بغضب وهي تتملص منه قائلة بتهكم: هو انا مراتك ولا ايه؟ سيبني مش هسيب غرام معاها يا قُصيّ سبني..
لكنهُ لم يستمع بل أخذها عنوة لأنهُ يعرف أنها شرسة ولن تهدأ دون أن تتشاجر معها..
أنتهي من ارتداء ملابسه ودثر نفسه داخل معطفه جيّدًا ثم فتح باب دورة المياه وأطلق سراح ريمة التي كان يحجزها داخله وهو يقهقه ثم جذب رأسها إليه بذراعه الذي تسلل من خلف كتفها واتجه صوب الأسفل..

شهقت ريمة بقهر وهي تمسح غُرفة الجلوس بنظرها لتجدها فارغة منهما، صرخت به وهي على حافة البُكاء: خدِتها ومشيت خدِتها ومشيت غرام فين غرااااااام..
انتفض قلب قُصيّ واندفع وركض إلى الخارج باهتياج كي يبحث عنها فهذا لن يحدث بالتأكيد..

توقف أمام الباب وهو يغمض عينيه زافرًا براحة، ، ابتسم بحنان عُندما أبصرها تركض وتقذف حنان بِكُرةِ ثلجٍ صغيرة وهي تضحك وتلاحقها في أرجاء الحديقة المُغطاة بالثلوج التي تكدست فوقها..
اهتز جسده بقوة إثر اصطدام ريمة به، تشنج جسدها وتوقفت بجانبه تبكِ وهي ترتجف بإنفعال، ، عانقها بحنان كي تهدأ لتشهق ببكاء وهي تقول بصوتٍ مكتوم: محدش هياخدها مني يا قُصيّ صح؟

هز رأسهُ بنفي وهو يمسح على شعرها برفق وبنبرة مطمئنة طمئنها: طبعًا صح محدش يقدر ياخدها دي بنتك إنتِ، اهدي متعيطيش ومتخافيش انا معاكِ..
بعد نصف ساعة تقريبًا..
كان قُصيّ يقف في زاويةٍ ما في الحديقة الملحقة بالحضانة التي صُنع فيها الحفل، يُراقب الأطفال وهم يلعبون عدي غرام التي كان يحملها ويقف بها لسبب لا يعلمه حتى، هي فقط من جعلته يقف هكذا واخذت منهُ الهاتف وظلت تعبث به..

أما ريمة فها هي ذا تجلس مع حنان تستمع لها في محاولة يائسة كي تتقبلها وتتوقف عن رشقها بتلك النظرات الكارهة الباغضة..
تنهد قُصيّ وهو يحدق في وجه غرام وهي منغمسة في النظر إلى الهاتف ثم سألها باستياء: طالما مش عايزة حفلة ولا عايزة تلعبي مع صحابك جبتينا ليه؟

رفعت وجهها عن شاشة الهاتف ونظرت لهُ قليلا ببعض اللوم جعلته يندم على قوله وظن أنها ستبكِ لكنها ابتسمت وقبلت منحدر أنفه و بلطافةٍ قالت: جبتك عشان يشوفوا بابي بتاعي، عشان كل مرة بكون لوحدي انا وعمتو..
تبدلت ملامحه لأخرى حزينة متألمة وهو يراقبها، لترفع راحة يدها وتربت على وجنته بحنان وهي تزم شفتيها قائلة بعبوس: متزعلش وتكشر أنت بتبقى أمور وأنت بتضحك..

ابتسم جراء شعوره بالراحة ولو قليلا، حتي ولو لبعض الوقت، يُريد فقط أن يتوقف الجميع عن لومه، ويتوقف هو عن لوم نفسه ولو ليومٍ كامل، يوماً واحدًا فقط، يتمنى لو يستطيع..
ضمها إلى صدره بقوة لتحوط عنقه وهي تتشبث به بابتسامة ناعمة بريئة اختفت عِندما شعرت بمن يضرب أرنبه أنفها ببنانه..
رفعت رأسها بانزعاج تناظر ذلك الرجل الوسيم الجذاب الذي يبتسم لها ثم وشت به إلى والدها بتذمر: بابي عمو بيعاكسني..

استدار قُصيّ بانزعاج أقوى من إنزعاجها و ما كاد يتحدث حتى شرع الآخر في الحديث ولم تخفي عن قُصيّ تلك النبرة المتفاجئة التي غلفها السرور: إيه ده مصريين؟
نظر لهُ قُصيّ قليلا ثم أومأ بخفة وقال بهدوء: قُصيّ رشدان رجل أعمال..
هزّ رأسه بأُلفه وهو يبتسم ثم صافحة وهو يُعرف عن نفسه: وليد دكتور نفسي..

هز قُصيّ رأسه بتفهم لا يناسب قوله كأنه يُبرر لهُ شيئًا ما وسكت ولم يضيف شيء لكن هذا لم يكن رأي وليد الذي تابع بعفوية: أنا مش مُستقر هنا، انا بزور أختي في الأجازة بتاعتى من وقت للتاني، متجوزة وعايشة هنا و النهاردة حفلة إبنها..
هز قصي رأسه مرة أخرى مضجرًا غير مرحبًا بالحديث معه وقد لاحظ وليد هذا لذا سكت بإزدراء ولم يتفوه بحرفٍ آخر وظل واقفًا محله يراقب الأطفال تارة وأخرى غرام..

شهقت برقة والهاتف ينزلق من يدها لكن أمسك به وليد قبل أن يسقط، رفعه وهو يبتسم لتسقط عيناه على شاشته دون قصد لأنه لم يختار أن يحدث هذا، لكن الآن لم يبعد نظره لأنه تابع الحملقة متعمدًا عِندما لاحظ تلك الجميلة..
توقف عن الحملقة في الهاتف وهو يحمحم بارتباك، ، ناوله إليها وهو يبتسم بخفة وببراءة سألته وهي ترمش بلطافة: حلوه مامي؟

هز رأسه بإيماءة خفيفة بالكاد رأتها، بينما قُصيّ تجهم وجهه أكثر وسألها بنبرة نافذة كي يبتعد عن هُنا: مش هتعرفيني على صحابك يا حبيبتي، تعالي عرفيني عليهم، وتقدم بها وسط الأطفال قبل أن تمنحه ردًا مناسبًا كي يبتعد عنهُ الآخر، هذا ليس وقت تكوين صداقات فهو سيهرب ويتملص منهُ ما إن يبحث عنهُ عبر الإنترنت ويقرأ ما كُتِب عنهُ..

هو لم يحصل على أصدقاء حقيقيين سوى آدم وعمّار ويعترف بهذا، لكن، تلاشت ابتسامة التي اعتلت ثغرة وهو يراقب غرام تندمج مع أصدقائها في اللعب سريعا وهو يفكر إن كانا سوف يقبلان به بعد معرفة الحقيقة كاملة..

يعلم أنهما يتجنبان الحديث معهُ في أي شيء يخص عشق بسبب مشاجرتهم الأخيرة معًا، لقد تشاجروا معًا في بداية علاقتة مع عشق عِندما اخبرهما، وهو لم يقبل النقاش وانفعل وظل يتفوه بالترّهات حتى لكمة عمّار وتدخل آدم كي يفصل بينهما لكن تم لكمة عن طريق الخطأ وبدأ القتال، وبدأ تبادل تسديد اللكمات
وضرب بعضهم بعضًا دون أن يعرف أيًا منهم أين تحط يده..

وبعد شجارًا طويل عنيف توقفوا عن القتال، وتوقف الحديث وكأنهما لم يسمعا بشيء منه لكن تلك التلميحات والسخرية التي يحياها كُلما قابلهما تخبره بما يريدان التحدث به، هما يمتنعان فقط لأنهما لا يريدان أن يتشاجرا وتنتهي صداقتهم، لا أحد يُريد لهذه الصداقة أن تنتهي وهو أكثر من يحتاج لهذا كي يزيح هذا الحمل الثقيل عن صدره..

سوف يخبرهما عند عودته وليحدث ما يحدث هو كذب وخدعهما وهما يكرهان الكذب والخداع، في الحقيقة لا أحد يُحب الكذب والخداع حتى الكذاب والمخادع نفسهُ لا يفضل أن يتم مخادعته والتلاعب به..

في الحقيقة هو لم يكذب عليهما فقط، بل كذب على نفسه عِندما صدق أنه ربما سيكون بخير ويمر كل ذلك وكأنه هفوة لم تحدث ولن يكون هُناك داعي أن يخبر أحدًا بكل هذا!، لم يفكر لوهلة أنه سيعلق تلك العلقة ويخوض كل هذا كي يصلح ما أفسده قبل أن يكتمل ويدمر كل شيء ويتدمر معه قلبه، لم يعرف أن قلبه سيخونه ويعوقه ويجعله هشًا بتلك الطريقة!، هذا إن لم يكن قد تأخر قليلا علامَ يُفكر، لم يتوقع قط أنه قد يخون نفسه ويُحبها..

في الإسكندرية الآن..
كانت عشق في غُرفتها في الأعلى تغط في نومٍ عميق مُنذُ أمس..
فتحت عينيها بتثاقل وهي تتقلب فوق السرير حتى استقرت على ظهرها، ظلت تحدق في السقف لبعض الوقت حتى مرّ عليها نصف ساعة وهي شاردة تائهة دون أن ترمش تفكر بعمق..
أغمضت عيناها قليلا لبعض الوقت ثم تقلبت لتستقر علي سيفها وظلت تحدق ناحيه الشرفة المضيئة بفضل أشعة الشمس وهي تحرك أهدابها رامشة ببطء..

جذب انتباهها صوت رنين الهاتف الخافت، مدت يدها أسفل الوسادة بتكاسل وتناولته كي تري من المتصل..
تنهدت بحزن وهي تجد إحدى صديقاتها من الجامعة، بالتأكيد تريد أن تعرف سبب تغيبها تلك الفترة وعدم خضوعها للاختبارات النهائية..
كتمت صوته ثم وضعته بجانبها وظلت ساكنة، قامت بعد ثواني قليلة وتوجهت ناحية دورة المياه كي تغتسل..

مرت عليها ساعة أخرى من الشرود والتفكير وهي تجلس داخل حوض الاستحمام حتى أقتنعت وهمّت بالخروج..
توقفت أمام الخزانة قليلا تنتقي ملابس شتوية دافئة كي ترتديها، إنتهت ثم جلست على طرف الفراش وقامت بفتح درج الكومود وهي تتطلع بداخله باهتمام حتى وجدت دُبلتها موضوعة فوق المظروف الذي تركته خلفها كما كانا موضوعان فوق السرير..

تناولت الدُبلة وعينيها تلتمع بالدموع، قامت بإدخالها في بنصرها ببطء وهي تعلن استسلامها تاركة عبراتها تنهمر وهي تتقبل وضعها فلا مفر، لكنها تقبلت هذا متأخرا بعد فوات الأوان، تذكرت كونها زوجته بعد أن خسرت كل شيء..
ارتدت خُفيها ثم تركت الغرفة وسارت صوب غرفة خالتها، لاتعلم ماذا ستخبرها أو ما ستفعل عِندما تراها لكن فقط تريد الإطمئنان عليها..

سارت في الرواق ببطء وهي تتلفت حولها باحثة عن جاسم الذي لم تره نهائيًا منذُ أمس تقريبا، أدارت المقبض ببطء، دلفت إلى الغُرفة بخطواتٍ حثيثة وهي تحدق في السرير الراقدة عليه خالتها بسكونٍ تام..
إقتربت أكثر من السرير، وقفت بجانبه تتطلع إلي ما آلت إليه حالتها بسببها وبسبب حديثها القاسي تجاهها..

رفعت يدها وقربتها من وجهها تُريد أن تربت على وجنتها مواسية لكن يدها توقفت في الهواء قبل أن تصل عِندما رأت أن المحلول المحقون بيدها فارغ..
نظرت حولها في الغرفة وبحثت عن بديل، فهي متأكدة أن جاسم أتي بغيرة فهو يحرص على سلامتها أكثر من أي شخصٍ آخر..

صرخت بفزع وارتعد قلبها بخوف عِندما وجدت فتاة تخرج من دورة المياه الملحقة بالغرفة فجأة، تنفست الصعداء وهي تضع يدها على قلبها ثم سألتها باستفهام و هي تتفحص هيئتها: أنتِ الممرضة؟
هزت رأسها بإيماءة صغيرة وهي تبتسم بتوتر بينما تقول: أه أنا آسفة لو خوفتك مكنتش أعرف إن في حد هنا..
اماءت عشق بتفهم ثم طلبت برفق: محتاجة محلول تاني ممكن..

هزت رأسها وتحركت بـ آليه في أنحاء الغرفة، غادرت عشق أثناء انغماس الممرضة في عملها فلا حاجة لها بها الآن لأن معها ممرضتها الخاصة..
أغلقت الغرفة خلفها وعادت أدراجها إلى غرفتها لكن تناهى إلى سمعها أنين خافت يأتي من الغرفة التي تخطتها، غرفة الرسم الخاصة بجاسم..
استدارت وهي تزدرد ريقها بحلق جاف، حدقت في مقبض الباب بـ عينا زائغة متوترة متردده وهي تلتقط أنفاسها بصوتٍ مسموع..

وثبت إلى الداخل والخوف يحتل كيانها، فمن الخطأ أن تتواجد هُنا دون أن يأذن لها وخاصةً في هذه الظروف، إن رأته الآن ماذا ستقول؟ كيف ستنظر داخل عينيه من الأساس؟!

توقفت في منتصف الغرفة عِندما سمعت خشخشة أسفل قدميها، ابتعدت خطوتين إلى الخلف ثم انحنت ورفعت تلك اللوحة الممزقة التي تحمل وجهها وظلت تحملق بها لدقائق معدودة متأملة ملامحها وذلك الخوف الكامن داخل عيناها وهي تنظر لهُ عِندما رآها وهي تركض في السوق هاربةً منهُ..

تحسست وجنتها و تساقطت عبراتها بندمٍ وهي تضم اللوحة إلى صدرها، ثم رفعت رأسها جائلة بنظراتها في أنحاء الغرفة الممتلئة بصورها المرسومة بدقة، تجزم أنها هي من تستحق التمزيق وليس صورها، إلى الآن لا تعرف لِمَ لم يتحدث معها ويصفعها ويشفي غليلة ويقتص منها لشرفة؟

كُلما تأخر أكثر كُلما زاد تقريع ضميرها وتعاستها، تُريده أن يأخذ حقه و يفعل كل ما تمليه عليه رغبته ويرضيه، تُريد أن تتعذب وتتحول حياتها لجحيمٍ آخر كي تكره قُصيّ أكثر. تُريد أن تتألم بقدر آلامه، تُريد أن تتعذب ويُذيقها الويلات..
تأوهت بحزن وازداد نحيبها وهي تتقدم من الشُرفة عِندما علا صوت أنين جاسم المكتوم الذي يجلس في الداخل يبكِ وحيدًا محطما مهزوما..

توقفت تبكِ أمام الشُرفة من خلف الستائر ممتنعة عن الدخول وهي تستمع إليه، يا إلهي كم تتألم لأجله فهو لايستحق أيًا مما حدث..
غضبه المكتوم وقهره منها تشعر به، هو تأذي بشدة ولن تستطيع مداوات قلبه المكلوم بأي ثمن، لن تعوضه بشيء فلا وجود لتعويض عن كسرة القلب وعذاب الروح، لكنها ومن صميم قلبها تتمني لو تستطيع مساعدته وتزيح هذا الألم عنه، ليتها تستطيع التخفيف عنه، تتمني لو تستطيع،.

- ربنا ينتقم منك ويكسر قلبك زي ما كسرتي قلبه..
انتفض جسدها بخضة إثر تلك النبرة الأمومية المتحسرة التي تعرفها جيّدا، التفتت سريعًا وهي تمحي عبراتها بظهر يدها المرتعشة لتجد خالتها تتقدم سيرا مع الممرضة تتكئ عليها بوهن وهي تحدجها بنظراتٍ كارهة محتقرة غُلِّفت بالخذلان والتعب..

ظلت عشق متسمره محلها دون أن تتحرك إنشًا أو تتحدث، بل ظلت تزدرد ريقها بشكلٍ متكرر وهي تناظر خالتها بثباتٍ زائف أثناء تقدمها أكثر حتى تخطتها ودلفت إلى إبنها كي تطيب خاطره ببعض الكلمات الرقيقة علها تساعده على تخطي تلك الحقيقة البائسة..
فزعت عِندما صُفع باب الشرفة بقوة، استنشقت ما بأنفها وهي تعض على شفتيها العلوية ثم تركت اللوحة من يدها لتسقط أرضا وتعود هي إلى غُرفتها، فهي ليس مُرحب بها سوى داخلها..

مساءً في منزل عائلة آدم..
زفرت تالين بإحباط وهي تضع الهاتف من يدها فوق الطاولة بتردد، فهي متذبذبة بين مهاتفة آدم وعدم مهاتفته، فهو مريض ولم تطمئن عليه مُنذُ أمس ولم تسمع والدته تحادثه حتى، ولن يأتي في وقتٍ قريب على ما يبدو..
تنهدت وهي تغلق الكتاب بإرهاق ثم حملت الهاتف بحزم وإصرار على مهاتفته، نقرت فوق شاشة الهاتف المسطحة وهي تهز قدميها بتوتر..

كانت قاب قوسين أو أدنى من الضغط على رقم آدم لكن صراخ حماتها بإسمها بغضبٍ جامح وهي تنزل الدرج بسرعة افزعتها جعلتها تترك الهاتف بخوف قبل أن تهرول لها بقلق..
وقفت على بداية الدرج وحركت شفتيها تزامنا مع توقفت شهيرة أمامها وقبل أن تتحدث هويت شهيرة على وجنتها بصفعة قاسية جعلتها تتقهقر إلى الخلف..

شهقت بصدمة واغرورقت عيناها بالدموع وهي ترفع رأسها تناظرها بعتاب قبل أن تقول بنبرة مرتعشة وهي تبلع غصتها: أنـ، أنا، عملت ايه؟
اكفهر وجهها وقست ملامحها ثم رفعت يدها وقامت بِشد شعرها بقوة بين يديها وهي تصر على اسنانها بغضبٍ: بتسرقيني يا حقيرة؟!
ــ ايه اللي بيحصل؟، قال آدم وهو يغلق باب المنزل بعد أن دلف بهدوء..

دفعتها شهيرة عنها بعنف كادت تسقط، لكنها تماسكت وهي تسيطر على نفسها كي لا تجهش في بُكاءٍ مرير، والتفتت بلهفة عِندما سمعت صوت آدم، مُنقذها وخلاصها الوحيد، تشكر ربها أنه أتي الآن في الوقت المناسب تماماً قبل أن تقوم بزجِها في الشارع..
انهمرت عبراتها فوق وجنتيها وهي تبتسم بامتنان لسببٍ لا تعرفه حتى..
توقف آدم أمامهما وسأل والدته بصوتٍ مبحوح مزكوم قليلا بسبب مرضه: في ايه؟

أردفت بانفعال وهي تلوح بالورقة المطوية التي وجدتها في غرفة تالين: في إن الهانم بتسرقني، الورقة دي كُنت هتجنن عليها وهي معاها ومخبياها تحت مفرش المكتب! لأ وكمان وحطة كُل الكُتُب بتاعتها فوقها!.
جال بنظراته المبهمة بين والدته وتالين كأنه يسألها أن تفسر له مايحدث بينما هي كانت تحدق في الورقة هنيهة وأخرى له فهو من أعطاها لها! فما خطب تعابير وجهه إذاً؟

محت عبراتها بأناملها المرتجفة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة ثم حركت شفتيها قائلة بتلكي: آدم قُلها إنهـ..
قاطعها بقوله البارد الذي جمدها محلها: ليه كده يا تالين؟ المفروض لما تلاقي اي حاجة تقولي سواء ليا أو لـ مصطفي او ماما، اللي تلاقيه قُدامك قوليله لكن متخليهاش معاكِ من غير ماتقولي!

هزت رأسها بصدمة وهي تنظر له بعينان غائرة مستمرة في الإبتسام كالبلهاء من وقع الصدمة عليها، ضحكت بصوتٍ مُرتفع وهي تنظر إلى شهيرة مباشرةً سُرعان ما تحول إلى بُكاء هستيري بينما تقول بتقطع مبررة: أنـ، أنـ، أ..
قاطعها قول شهيرة بقسوة ومهانة: أنتِ حقيرة لميناكِ من الشارع وعملناكِ بني آدمه وجاية تسرقينا دلوقتي يا لمـ..
صرخت مقاطعة بعنفوان وهي ترشقها بنظراتٍ صاغرة: ما أنتِ كُنتِ بتبيعي جبنه في السوق..

اتسعت عيناها بقوة وجنّ جنونها وتفجر الأدرينالين داخل جسدها فـ سحبتها من شعرها بقسوه وبدأت بضربها وهي تسبها بألفاظٍ نابية على مرأى من آدم الذي كان يشاهد برود وتبلد دون أن يحرك ساكنًا أو يعترض..

دلف مصطفي في هذا الوقت وهو يتثاءب لينصدم من المشهد المتمثل أمامه بصدمة، وقف يتابع ما يحدث بفاه فاغر حتى استوعب عقلة ثم هرع إليهما وقام بالفصل بينهما، أو بإبعاد والدته وحدها فتالين كانت مستسلمة للضرب كأنها مذنبة وهي تبكِ ولا تعرف أتبكِ ألمًا أم خذلانًا بسبب آدم..
هدر بعنف وهو يحدق بهما: في ايه؟ وانت واقف بتتفرج؟

نظر لهُ آدم بدون تعبير ثم تخطاه وصعد إلى الأعلى كي يجمع ملابسه لأنه لن يبقى في هذا المنزل..
كاد مصطفي يتحدث لكن والدته عاجلته وأردفت بنبرة باردة ونظرة قاتلة وهي تلهث بعنف: غوري من وشي ومشفكيش قُدامي طول ما انا في البيت يا حرامية غوري..

لم تعيد قولها مرة ثالثة عِندما انصاعت تالين لأمرها وتحركت من أمامها وصعدت إلى الغرفة وهي تشهق وتبكِ بفتور، لم يكن عليها أن تثق به إلي هذا الحد هو قصد فعل هذا ووقف يشاهدها ببرود..
لقد أدركت الآن حقيقته، قد يبدو بريئًا ولطيفًا، لكنه في الحقيقة وغدًا كبير..
بينما في غرفة آدم، كان يقف أمام الخزانة يجمع ملابسه وهو يدندن أحد الأغنيات المفضلة لديه.

باستمتاع لأنهُ في الحقيقة ليس أسفًا ولا يشعر بالندم ولو مِثقال ذرة، فهي تستحق هذا من وجه نظرة رغم علمه بكونه المسؤول وهو من يُلام لكنها تستحق، لن يتركها تهنأ و تعيش حياة وردية لن يفعل..
أغلق الحقيبة برفق ثم حملها وأغلق الغُرفة ومضى في طريقه، توقف في بهو المنزل عِندما تناهى إلى سمعه نداء والدته..
توقف ثم استدار ناحيتها وحدق بها ببرود لتطرح عليه سؤالا: أنت رايح فين؟

تنهد بثقل على دفعاتٍ متباطئة لكن هذا لم يمنعه عن الحديث بكل سئم: أنا ماشي، زهقت ومش طايق أبُص في وِش حد منكم مش طايقكم إنتوا شخصيا بس في مشكلة؟.
ابتسمت بسخرية وهي تعقد يديها أمام صدرها ثم سألته باستفهام: مدفِعتش عن تالين يعني؟
هز كتفيه وأردف بلا مُبالاة: هي غلطانة أدافع أقول ايه يعني؟ بس ليه العصبية دي كُلها دي مُجرد ورقة!

مطت شفتيها وهي تسير ناحيه الأريكة ثم جلست عليها بأريحة بينما تقول بتهكم: حتى لو مفيهاش حاجة أزاي تضيع مني في بيتي ومعرفش راحت فين؟
أومأ لها بابتسامة مُبتسرة ثم تركها وغادر، لكن توقف قليلا ثم استدار وسألها باستهجان: مش هتسأليني رايح فين؟

هزت رأسها بنفي ثم قالت بلا مبالاة لأبعد الحدود وهي تبسط يدها تحدق في أظافرها المُقلمة: أنت صغير عشان أسألك؟ عادي يعني هتبات عند أي حد من صحابك مش شغلانة يعني، بس متتأخرش علينا عارف اننا مش بنقدر نقعد فترة طويلة من غيرك..
ابتسم بسخرية وهو يستدير ليذهب، هو متأكد تمام التأكد المغزى من حديثها، أنها لا تُريد عودته..

استوقفه نداء مصطفى من الحديقة قبل أن يخرج من البوابة الرئيسية، عاد أدراجه إلى الداخل متجها ناحية الأرجوحة الجالس عليها مصطفي..
جلس جواره بعد أن وضع الحقيبة أرضًا وظل ملتزما الصمت قليلا حتى أردف مصطفي بشرود: انا هطلق تالين..
اضطرب آدم و التفت بقوه شعر إثرها بقرقعة عظام رقبته، منتظرا أن يكمل حديثه بأعصابٍ تالفة وتوتر، وبدأ بهز قدميه..

إبتسم بعصبيه عِندما طال سكوته ثم أردف من بين أسنانه باستفهام: ليه هتطلقها مش بتحبها؟
تنهد مصطفي بـ همٍ ثم نظر لهُ وقال بقلة حيلة: إنت عارف إني مقدرش أقول لـ ماما لأ على أي حاجة صح ولا لأ؟
أومأ آدم بتفهم وهو يبتسم بمرارة بينما يقول: عارف طبعا انت هتقولي! لازم تسمع كلامها هو هيبقي أنا وأنت!

ابتسم مصطفى إزاء قوله واسترسل بحزن: أنا اتفاجأت لما رجعت من السفر على كلام ماما وهي بتقولي آدم جبلك عروسة!، مقدرتش أتكلم ولا أرفض حتى مردتش أقولها خلي آدم يتجوزها لا تكون بتحب واحدة ومتفقين تتجوزوا، خُفت تكرهني لو اتجوزتها يا آدم..
ضحك آدم بتقطع، شاعرا بالحسرة بداخله وهو يهز رأسهُ بسخرية، هل من المفترض أن يشكره الآن لأنهُ عفاة من الزواج أم ماذا؟

توقف عن الضحك ثم سأله بعدم فهم: يعني أنت ضحيت عشاني وكده صح؟
هزّ رأسه مؤكدا وتابع بحنو وهو يضع يده على كتف آدم: طبعا ضحيت عشانك مش أنت أخويا و حبيبتي استحمل أنا مش مشكلة، بس مش هقدر أكمل كده عشان مظلمهاش معايا أكتر من كده لازم أطلقها..
كبح آدم ابتسامته بأعجوبة وهو يحملق في وجه شقيقه القريب منهُ بتمعن ثم أردف بعدم اهتمام مصطنع: و هتطلقها الأيام دي؟

هزّ رأسهُ بنفي وهو يمسد جبهته بقوة بينما يقول بثقل: آدم تالين مراتي الثانية..
ارتفع كلا حاجبيه بتفاجئ وهو ينظر لهُ، هل هذا يعني أن سالي زوجته؟ وأن كانت و يحبها لِمَ جعله يخطبها هذا الغبيّ من الخائن الآن؟
ابتسم مصطفي بخفة وهو يرى تعابير آدم المنصدمة ثم قال بقلة حيلة: كانت هي حبي الأول وهتفضل دايما وتالين مجرد فترة وهتنتهي مهما حصل هتنتهي في يوم من الأيام..

هزّ آدم رأسهُ بتفهم وابتسامة ماكرة أعتلت محياه وهو يسأله: ومين حُب حياتك دي بقي؟
بادله مصطفي ابتسامته الماكرة بأخرى عابثة ثم قال ضاحكاً: بعدين هعرفك عليها..
اتسعت ابتسامة آدم وهو يفكر بشيءً ما ثم قال بدهاء: أنا كمان هقولك حاجة بقالي فترة بفكر فيها، أنا قررت وأخيرا هتجوز وهحدد معاد فرحي انا وسالي إيه رأيك؟ أصلي بصراحة عاوز أدخل دنيا واتجوز واخلف وكده..

اختفت ابتسامة مصطفي بالتدريج وهو ينظر له بوجه باهت، صامت دون التحدث ليستأنف آدم بأسف: معلش مُطّر أمشي دلوقتي بس هتابع معاك بالموبايل وهقولك آخر التطورات..
ووقف وتركه جامدًا محله وغادر من المنزل وهو يبتسم بخسة وانتصار، فشقيقة من بدأ بهذا، كان يُجب عليه أن يظل صامتا ولا يخبره عن عمله البطولي ذاك..

استقل سيارته بهدوء وظل جالسًا يحرك أنامله فوق المقود بابتسامة في انتظار خروج مصطفي باندفاع كما توقع كي يلحق به..
مرّت نصف ساعة وهو مازال جالس يُراقب المنزل بانتباه، يهز قدميه بتوتر حتى يأس من خروجه، أدار محرك السيارة كي يذهب وهو يتأفف بضيق، لكن توقف في آخر ثانية عِندما أبصر مصطفي يخرج من المنزل بوجه متجهم وهو يتحدث في الهاتف بعصبية وصوت مرتفع، ثم استقل السيارة وغادر ليتبعه آدم..

في أحد مراكز التجميل المشهورة في وسط المدينة..
خرجت جـنّـة وهي تخلل أناملها داخل خصلات شعرها الذي يرفرف بنعومة إثر الرياح بعد أن صبغته باللون الأسود القاتم وهي تبتسم باتساع..

نزلت السُلم بتبختر وهي تخرج مُفتاح السيارة من الحقيبة، فتحت باب السيارة ورفعت قدمها كي تستقلها لكن توقف شعرها عن الرفرفة فجأة مع توقف الرياح وعدم تسللها إليها بسبب وقوف أحدهم أمامها تلا هذا صفع باب السيارة بواسطة يدٍ قاسية..
تأففت وهي تستدير ليزداد مقتها وضيقها في وقتٍ واحد وهي ترى سامي ماثل أمامها يبتسم بكل سذاجة..
ــ سامي!.
قالت وهي تطالعه بتعجب ألم يذهب أمس إلى الأسكندرية؟
ــ جـنّـة..

قال بتسلية وهو يتفحصها بنظراته الخبيثة..
بينما هي زفرت بضيق وهي تنظر لهُ باقتضاب ليسألها باستفهام: فين قُصيّ عاوز أتكلم معاه؟
ردت من بين أسنانها بصعوبة بسبب عدم رغبتها في التحدث معهُ: مسافر لما يرجع..
هزّ رأسهُ بتفهم وهو ينظر حوله ثم عاد يسأل: ومسافر فين؟
هزت رأسها بجهل وهي تقول بإزدراء: مش عارفة لما يرجع هتبقي تعرف..

لوك بلسانه داخل شفتيه وهو يضع يديه بخصرة ثم استدار على عقبيه ليذهب لكن توقف عِندما سألته باستفهام وبعض الفضول: سامي إنت كُنت بتجيب البرشام لـ قُصيّ باستمرار؟
أبتسم بخبث قبل أن يستدير ثم قال بشكلٍ اعتباطي كي يغيظها: قصدِق برشام الهلوسة ولا منع الحمل؟
ابتسمت رغمًا عنها ابتسامة بالكاد ظهرت على محياها كي لا تشعره بالانتصار، بينما هو كان يعلم أنها تغلي من الداخل وتكبح هذا..

ردت بهدوء وكياسة كشخصٍ مخضرم: الهلوسة قصدي الهلوسة أصل زي ما انا شايفة انها كويسة ومحصلهاش أي حاجه! ليه؟
تأمل ملامحها شبيه عشق قليلا وهو يتذكر ثم قال بهدوء: في الأول كُنت بجيب دايما لكن هو بطل يطلب مني وقال إن اعصابها تعبانة لوحدها مش محتاجة هلوسة، عشان هي من غير حاجة عارفة إنها بيتهيألها حاجات وهو استغل ده لمصلحته وتعبها أكتر..

أسندت ظهرها على السيارة وهي تستمع لهُ باهتمام، تعقد يديها أمام صدرها ليستأنف: مرة كانوا بياكلو في مطعم وأنا كُنت هناك بُناءًاعلى طلب قُصيّ إني أبقي هناك وأنفذ اللي يقولي عليه، المهم كلمتها كلمتين ومثلت إني معرفش قُصيّ عادي وبعدين خرجت، خرجِت هي كمان بعدها بفترة وأول ما شُفتها هدِدتها بالخطف وجريت وراها لحد ما فقدت الوعي من الخوف، والمفروض إنها لما تفوق قُصيً يحتويها ويقولها انا اللي كُنت بجري وراكِ يا حبيبتي مالك إنتِ اعصابك تعبانة ولا ايه؟

رفق كلامه بضحكةٍ سخيفة وهو يُمشط شعره بأنامله تحت قهقهاتها السعيدة المتشفية المخبأ خلفها حقدًا وكُرها يوارى أي صفةٍ جيدةً بها، حقدًا سيدمرها أولًا قبل أن يُدمر أي شخصٍ آخر..
توقفت وهي تستعيد رباطة جأشها ثم سألته بعدم فهم وحيرة بسبب تصرفاته وخيانته: إنت ليه بتكره جاسم يا سامي؟

حك طرف جبهته وهو يضم شفتيه ثم قال بإستياءٍ شديد: دي أمور عائلية مالكيش دعوة بيها، وهم بالذهاب لكنهُ توقف وعاد أمامها ثم قال لها بنزقٍ وتزلف وهو يمسك خصلة من شعرها الفحمي: غيرتي شكلك وقولنا ماشي، لكن تصبغي شعرك أسود عشان تبقي نسخة منها ويبقى مفيش فرق بينكم ده مش هيعمل منك عشق، ولما قُصيّ يرجع مش هيشوفك عشق متحاوليش تبقى حد تاني عشان أنتِ بدأتي تبقى مثيرة للشفقة وأنتِ بتحاولي بكل مجهودك لمجرد إنك عايزة تدمريها! لأن عشق حاجة وجـنّـة حاجة دي عمرها ما هتكون دي فهمتي ياقطة؟ سلام..

ومضى في طريقة وتركها تشتعل وحدها من الغيرة، ليس من المفترض أن تشعر بها، حري بها أن تشعر بالنصر لكنها لا تشعر سوى بالانهزام أمام تلك الرخيصة، لن تتركها تحيا في سلام حتى تحصل على انتقامها..
صرت على أسنانها بقوة وهي تفتح السيارة بتجهم، صفقت الباب خلفها بقوة، أدارت المحرك وانطلقت بسرعة البرق وهي تشدد قبضتها فوق المقود حتى ابيضت..

في مقر عمل ليلي..
لملمت الأوراق الموضوعة أمامها فوق سطح المكتب وقامت بترتيبهم بشرود وبطء وهي تحدق في نقطة وهمية أمامها..
وضعت الورق جانبا ثم حدقت في الهاتف لتتسع عيناها وتشهق بتفاجئ وهي ترى كم الوقت، لقد تأخرت على نادين..
وضعت الهاتف داخل الحقيبة بعجلة، ثم علقتها على كتفها وسارت ما بين الهرولة والعدو كي تسرع..

توقفت أمام المصعد وهي تعقد يديها أمام صدرها، مخفضةً رأسها تحدق في حركة قدمها التي كانت تركل رمال وهمية أثناء تفكيرها بعمق وإقتضاب..
كل هذا التأخير كان بسبب ذلك ثقيل الظل الذي لا تريد أن تراه ولا تتعاطى معهُ، بالتأكيد ذهب الآن لقد انتهى الدوام من ساعاتٍ طويلة..

لقد نجح اليوم بتحريك مشاعرها، وغدًا قد يجعلها تتقبل وجوده في حياتها، وبعد غد يجعلها تسقط في حبه، وتعاني هي الأمرين فيما بعد بسبب ذلك الحُب، تعرف تلك الأشياء، قرأت عنها ذات مرة ولا ترغب في التجربة، تكتفي بالمشاهدة من بعيد، والقراءة لن تضر أيضًا..
رفعت رأسها وهي تتنهد بـ هَم محاولة نسيان ماحدث اليوم كأنهُ لم يكن، هُناك شعورٌ طاغي يسيطر عليها يجعلها غير قادرة على عدم التفكير في هذا.

لا تستطيع إبعاد تلك الرائحة العالقة بأنفها كأنهُ مازال حاضرًا، لا تستطيع نسيان شعورها وهو يحتويها بين ذراعيه، وتجاهل ذلك والدفء الذي غمرها به كأنها وجدت ملاذها أخيرًا، هذا الشعور لا يضاهيه شيء، لقد كان يعانق روحها المُنكسرة مُعتذرًا عن الآلام التي سببها لها، هو مُحق. فهي خائفة، تخشى على نفسها منهُ، تخشى الهزيمة والوقوع بحبه..

ــ ياريت بعد كل السرحان ده أكون أنا اللي شاغل بالك وبتفكري فيا، قال عمّار وهو يضغط على زر المصعد كي لا يغلق وهو يراقبها باستمتاع، فهي ليست معهُ بتاتا..
شهقت بصوتٍ رقيق منخفض متفاجئ وهي تنظر لهُ باستفهام، ماذا يفعل هُنا لمَ صعد، لمَ لمْ يذهب؟
تبادلت معهُ النظرات بتردد وهي تحدق تارة في المصعد وأخرى عليه، فمن المستحيل أن تظل معهُ في مكانٍ مُغلق، فهي لا تأمن مكره..

عادت خطوتين إلى الخلف بجزع أثناء تفكيرها بهذا، لتهرب شهقه رقيقة عِندما وجدته يجذبها من معصمها، ادخلها عنوة أسقطها داخل أحضانه..
ابتعدت عنهُ بسرعة البرق، كما أدخلها بنفس السرعة، ووقفت في الخلف وهي تلصق جسدها في زاوية المصعد متحاشية النظر لهُ باضطراب خلف تقطيبة كلا حاجبيها كي لا يظن أن لهُ تأثيرًا عليها..

توقف المصعد في الطابق السفلي، سارت بهدوء ومازالت تتحاشى النظر لهُ كي تخرج بسلام، لكنهُ وضع ذراعه حائلا أمامها جعلها ترفع رأسها تتطلع إليه بنظرة مُعبرة، عينها هذه ستقتله يوما ما من سحرها الآخاذ، فإن لم تخبره أن يبتعد بفمها قد فعلت عيناها ونجحت..
أبعد ذراعه ووضعه بجانبه وتركها تمر من جانبه دون أن يزعجها، فآخر ما يُريد رؤيته هو بكائها لسببٍ تافه..

تابعها باهتمام وهو يسير خلفها بهدوء، ليتصلب جسده فجأة وتسود عيناه بغضب جامح، تنذر بالشر في الأرجاء..
فتحت السيارة بهدوء وقبل أن تضع قدمها داخلها وجدت من يكمم فمها بقوة ، ويضغط على خصرها بقسوة مقيدًا حركتها..
اتسعت عيناها بفزع وأخذت تقاومة بكل ما أوتيت من قوة وهي تتلوى بجسدها المرتعد من الخوف..

تأوه الرجل بألمٍ شديد بعد إن نزع عمّار يده عن فمها بقوة وقام بلويها خلف ظهره بقسوة، سحقها سحقًا ثم ضرب رأسه بمقدمة السيارة بعنف وتركه يسقط محله مغشي عليه..
زفر بغضب وصدره يعلو ويهبط في عنف، واستدار إلى ليلى ليهرع إليها بخضة عِندما رآها تسقط، رفعها من خصرها إليه قبل أن تسقط بينما يسألها بقلق: أنتِ كويسة؟

هزت رأسها بنفي وهي تتشبث بطرف سترته بقوى خائرة، دون قول شيء، بل ظلت تبكِ بخوف وهي تنتفض وعيناها معلقة على ذلك الرجل برعب..
مسح على شعرها بحنان وهو يهدئها برفق: هششش أهدي متخافيش، محدش هيقدر يخطفك وأنا جنبك مش هيحصل..
رفعت رأسها وسألته بنبرة ملؤها الحيرة وعيناها تفيض من الدمع: مين ده و عايز مني ايه؟

حدق به بتجهم وهو يهز رأسه بجهلٍ لها بينما يقول بنبرة مطمئنة كي لا تخاف رغم علمه أنهُ والدها: مش عارف لما يفوق هعرف متخافيش..
أبعدها برفق ثم سألها بحنان وهو يمحي تلك العبرة التي انسلت من زوج العسل خاصتها: هتقدري تسوقي ولا أروحك؟
انتبهت لنفسها وابتعدت قليلا للخلف وهي تومئ لهُ بعينا زائغة ثم صعدت إلى السيارة وغادرت..

تنهد بضيق وهو يحدق في السيارة وهي تبتعد بعدم رضي متمتما بسخط: مش لو كانت مراتي كُنا روحنا سوى دلوقتي..
زفر وهو ينفخ ودجيه بنفاذ صبر منزعجا أيما إنزعاج، ثم أنحني وقام بِجر الرجل من تلابيبه كي يصل إلي السيارة، لقد وجد من يشفي غليله به الآن ولن يرحمه..
فتح صندوق سيارته الخلفي، ثم حمله وهو يتوعدة بصوت مكتوم بسبب ثقل وزنه: خليل الكلب انا هربيه ماشي..

أغلق الباب ومسد ساعديه بإزدراء وهو يحدق في الباب مغمغما بغلظة: بغل والله لا خليك تخس من كتر الضرب..
أخذ شهيقًا طويلا وهو يمط ذراعيه، ليتوقف فجأة عندما لمح طيف أحدًا يراقبه من خلف الباب الرئيسي لمدخل الشركة..
توجه إلى هناك وهو يلعن من تحت أنفاسه، وإن كان ما رآه صحيحا سيقتلها، فلا ينقصه تطفل..

ابتسم بوحشية وهو يسحبها من تلابيبها من خلف الباب أثناء وقوفها كاللص تختلس النظر لهما، بينما هي كانت تغمض عينيها بقوة وخوف مما سترى..
فتحت عين تختلس النظر لهُ بعفوية بينما الأخرى مغلقة، لـ يهز جسدها يمينا ويسارا و مازال يناظرها بتلك الوحشية والقسوة..
بررت لمار موقفها بخفوت وبراءه: والله أنا كُنت مروحة عادي لقيت المشهد البطولي ده امشي؟ لأ وقفت أتفرج..

تركها ومسح وجهه بعصبية مستغفرا ربه بهدوء كي لا يفقد أعصابه عليها، ثم رفع رأسهُ كي يُحادثها لكن وجدها اختفت، نظر خلفه ليجدها تهرول إلي الطريق سريعا هاربة كالأطفال، تشير إلى سيارات الأجرة حتى توقفت واحدة من أجلها..
هز رأسه بيأس وهو يبتسم ثم عاد إلى سيارته وذهب إلى منزله هو الآخر..

توقفت ليلى أمام المنزل، أطفأت مُحرك السيارة، اضجعت على مقعدها قليلا في سكونٍ تام، تهدأ من روعها وهي تغمض عينيها وصدرها يعلو ويهبط باضطراب.
ليصدح في أذنها قول عمّار المتهكم لها في المكتب ليه هيدفع أكتر مني ولا اتعودتي على الرجالة اللي أد أبوكِ؟
انسلت عبره حارقة من بين جفنيها وهي تكتم شهقتها بقهر، فماذا يعرف عنها هو كي يجرحها بتلك الطريقة المُهينة ذلك المغرور!.

محت عبراتها ثم أخذت شهيقا طويلًا بتقطع، ثم حملت الحقيبة وترجلت من السيارة وولجت إلى الداخل..
ضغطت على الجرس عدة مرات متواصلة لكن لم يأتها رد، لقد نسيت مفتاح المنزل اليوم ولم تأخذه، اخفضت رأسها بانزعاج وفتحت حقيبتها، أخرجت الهاتف وبدأت بالرنين على نادين وبوادر القلق تظهر على تقاسيم وجهها بسبب عدم ردِّها..

رفعت رأسها بانتباه عِندما سمعت صوت المقبض من الداخل، سقط الهاتف من يدها وشهقت بخضة وهي تعود إلي الخلف بتلقائية وفزع بسبب هيئة نادين..
وبختها بضيق وهي تمسد جهة قلبها: ايه يا نادين ده يا نادين؟
رمشت نادين ببراءة ثم قالت برقة وحماس لم يظهر سوى أسنانها البيضاء اللؤلؤية: ده ماسك عمّار قالي عليه، تعالي أعملك..

وثبت إلى الداخل وهي تبتسم بعد أن التقطت هاتفها، جلست على الأريكة بهدوء بينما جاءتها نادين مهرولة بوعاء زجاجي صغير، وقفت على الأريكة بركبتيها أمامها ، ثم لملمت شعرها بمشبك شعر و بدأت بتوزيع تلك الخلطة البُنية الغامقة فوق وجهها وهي تبتسم بسعادة..
سألتها ليلى بحنان وهي تعتدل جالسة بعد انتهائها: كلتي يا حبيبتي؟
هزت رأسها بنفي وهي تزم شفتيها ثم ابتسمت وقالت بصياح: بس طلبت وزمانه جاي دلوقتي..

أومأت ليلي وهي تقف بينما تقول: هغير وجاية..
أومأت نادين بابتسامة وهي تراقب ذهابها، لكنها توقفت وعادت للجلوس جوراها برتابة جعلتها ترتاب..
تحدث قائلة بعد تفكير دام لثوانٍ: رأيك ايه يا نادين لو قررت أتجوز؟
ابتسمت باتساع ثم قالت مُرحبه: أوافق طبعا طالما هتكوني مبسوطة، أنتِ جميلة وصغيرة وأبقي طماعة لو قُلت لك لأ، المفروض تعيشي حياتك وتكملي مع حد تحبيه ويحبك..

هزت رأسها بملامح مبهمة واستأنفت: طيب ولو أصغر مني بكام سنة؟!
ابتسمت نادين بمكر وهي تضرب كتفها بكتفها قائلةً بعبث: ايوا يا ليلي يا جامد، معنديش مانع خالص، أهم حاجة سعادتك أنتِ ومالناش دعوة بالناس لأني عارفة أن الموضوع ده حساس بالنسبالك، أصل يا مامي الحالتين هيتكلموا!، انا بجد بتمنى انك تحبي وتتحبي وتتجوزي، حرام تضيعي حياتك كده أنا خلاص كِبرت دلوقتي ومبقتش صغيرة..

ضمتها إلى صدرها بقوة وهي تبتسم بحنان وبحبٍ ليس لهُ حدود قالت: هتفضلي صغيرة في نظري مهما كبرتي، أنتِ الأولي والأهم في حياتي دايمًا، محدش يقدر ياخد مكانك،
دثرت نفسها بأحضانها أكثر وهي تبتسم بدفء ثم طلبت بصوتٍ خافت: طيب ينفع أطلب منك طلب وتوافقي بقى؟
ابتسمت وهي تمسح علي شعرها قائلةً بحنان: عيوني ليكِ اطلبي..

تنحنحت وظلت تحمحم بشكلٍ متكرر وهي تعتصر أناملها بتوتر، ثم قالت باستسلام بصوتٍ هامس: ينفع تقولي لـ عمّار يرجعلي؟
تنهدت ليلى بتعب ثم سألتها بلوم: من غير ما أكون على خلاف معاه ولا حتى أعرف، ينفع واحده تروح تقول لواحد تعالي اتجوز بنتي يا نادين؟

أطرقت برأسها بحزن وقامت بهزها بنفي، لترفع ليلي رأسها ثم احتضنت وجهها بين يديها وهي تقول بحنان بالغ: أنتِ زي القمر يا نادين ولسه صغيرة و قُدامك الفُرص كتير، عمّار مش آخر واحد في الكون ومش بيحبك، لو كان بيحبك كان رجعلك تاني مهما كانت الظروف، وانا لو عارفة انه بيحبك صدقيني مكُنتش هتردد لحظة وكُنت هكلمه وهجمعكم مع بعض حتى لو انا مش عايزاه عشان سعادتك أنتِ، لكن عمّار مش بيحبك، ومتقوليش انك بتحبيه لإن الحُب من طرف واحد عمره ما بينجح، وأنتِ قُلتيلي أنكم دلوقتي صحاب حصل ايه بقي خلاكِ عايزة ترجعيله؟!

اغرورقت عيناها بالدموع وارتجفت شفتيها وهي تحدق بها بحزن دون التحدث حتى تحررت عبراتها وأخذت تبكِ بقوة..
ضمتها إلى صدرها بقوة، وأخذت تربت على ظهرها بدفء وهي تهدئها، لكنها ظلت تبكِ وهي تئن متوسلة بعذاب..
فصلت ليلى العناق وتوسلت إليها كي تتوقف بحزن: أنتِ بتعيطي ليه؟ كفاية عياط هو والله ميستاهلكيش..

ــ بس أنا عايزاه، قالتها بيأس وعيناها تفيض من الدمع، جعلت قلبها يرق و تومئ موافقة باستسلام وهي تشعر بتجمع الدموع داخل مقلتيها..
رفعت يدها ومسحت عبراتها بإبهامها بحنان بينما تقول بنبرة مرتعشة: حاضر هكلمه بكره وهقوله يرجعلك، بس كفاية عياط مش عايزه أشوفك بتعيطي..
أومأت لها وهي تستنشق ما بأنفها ثم ضحكت بنعومة وهي تنظر إلي يدها: ايدك اتوسخت من وِشي..
ابتسمت لها بالمثل وكادت تتحدث لكن رن جرس المنزل..

وقفت نادين وقالت بحماس قبل أن تركض: ده أكيد الأكل اطلعي غيري واغسلي وشك عقبال ما أحاسبة واغسل وشي انا كمان يلا..
أومأت وهي تقف وابتسامتها بدأت بالتلاشي بالتدريج أثناء صعودها إلى الأعلى وتفكيرها محصور حول عمّار..

في خارج البلاد لدي قُصي..
ـ نامي بقي..
تذمر قُصيّ وهو يأمر غرام أن تغفي..
هزت رأسها بلطافة وهي تبتسم بنعومة، ثم قالت برقة وهي تعانق دُميتها الوردية: احكيلي حدوتة تانية لسه مش عاوزه أنام..
عبس واحتج مُعترضًا وهو يسند مرفقة فوق الوسادة: حدوتة رابعة قصدك خلصتي كل الحواديت اللي عارفها..
حاوطت رقبته بيدها الصغيرة برقة وقالت ببراءة طفولية هامسة: أحكيلك أنا، أنا حافظة كتير اوي اوي..

قبل وجنتها برقة وهو يبتسم ثم داعب شعرها بنعومة وهمّ بالتحدث بتردد: غرام يا حبيبتي انا مسافر بعد
كام ساعة
تقلصت ملامحها وانتصبت جالسة وهي تهز رأسها بنفي، وشفتيها ترتجف، مُعلنة عن نوبه بُكاءٍ قادمة: لأ، لأ، أنت ملحقتش تقعد معايا لأ..
مسح على شعرها بحنان وهو يواسيها برفق كي تفهم: هاجي تاني يا حبيبتي مش هتأخر عليكِ صدقيني..

غمرت وجهها بين راحة يديها الصغيرة وبدأت تبكِ وتشهق بحزن، أقترب كي يعانقها لكنها هزت كتفيها وابتعدت عنهُ قائلة بحرقة: أنت مش بتحبني، وانا مش هحبك تاني..
وظلت تبكِ وحدها وهي توليه ظهرها برفض، تنهد بتعب واعتصر رأسه بإرهاق، وظل جالسا محله يحدق في ظهرها بعجز، لقد نفذت طاقته واكتفي، ولا يعرف ماذا يفعل الآن كي ترضي..

دلفت ريمة إلى الغرفة في هذا الوقت لتنقذة، نظر لها بلهفة واستنجد بها بوجل: قوللها يا ريمة اني هاجي على طول ومش هتأخر عليها..
جلست ريمه مقابلها وهي تبتسم لها بحزن، ثم ضمتها بحنان بالغ وهي تهدئها: بس يا حبيبتي متعيطيش بابي لازم يمشي، بس هييجي تاني ومش هيتأخر، وبعدين مش أنتِ عيد ميلادك بعد شهر؟
توقفت عن البُكاء، ورفعت رأسها تناظرها بلهفة وهي تومئ و عبراتها تنهمر فوق وجنتيها دون توقف..

أومأت غرام بينما تقول وهي تستنشق ما بأنفها بصوتٍ خافت: ايوا عيد ميلادي..
اتسعت ابتسامه ريمة وشرعت في الحديث وهي تحتضن يدها بين يديها: بابي قال إن عيد ميلادك الجاي هتقضية معاه في مصر وهتشوفي مامي كمان..
شهقت بتفاجئ وقفزت فوق الفراش وظلت تضحك بسعادة، بينما قُصيّ امتقع وجهه وظل يحملق في تلك الغبية التي تعِدها مثل هذا الوعد، هل جُنَّت أم ماذا؟ كيف سيحدث هذا؟!

توقفت عن القفز وهي تضحك بصوتٍ رنان جعلته يضحك بحيوية كأنه عاد إلى الحياة من جديد بقلبٍ مُفعمًا بالحب وهو يراقبها سعيدة..
قفزت فوقه وعانقته بسعادة وهي تقول ببهجة وحب: بحبك اوي يا بابي، مش زعلانه خلاص..
حاوطها بقوة، وقبل رأسها بحنان، وهو يغمض عيناه يستنشق رائحتها بقوة، فصل العناق ثم دثرها أسفل الغطاء وهو يبتسم باتساع..
أمرها بحزم مصطنع وهو يضع الدمية بين يديها: ننام بقي عشان الأيام تجري بسرعة..

هزت رأسها موافقة، ثم أطبقت جفنيها بلطافة وسرعة وظلت ساكنة كي تغفي..
قبل جبهتها مطولا، ثم جلس يرتب غرتها وهو يتأملها بحنان حتى انتظمت أنفاسها وغطّت في نومٍ عميق..
أغلق الضوء بتمهل ثم خرج وأشر إلى ريمة كي تأتي خلفه للخارج..
أغلقت الباب ببطء واستدارت لهُ، كادت تتحدث لكنه سحبها من ذراعها بقوة آلمتها بينما يسألها بتجهم وهو يضغط علي ذراعها أكثر: عيد ميلاد إيه اللى هتقضية معايا وأُمها مين اللي هتشوفها؟

نزعت يدها من يده بقوة وهي تزدرد ريقها ببعض الخوف ثم قالت بتحدي وهي تستعيد رباطة جأشها: ايه اللي مش مفهوم؟ بعد شهر هنجيلك يا قُصيّ تكون نهيت كُل حاجة، إحنا مش هنفضل طول عمري في الموال ده، ولما تكسل وتزهق من كُل حاجة أفتكر إننا جايين، غرام تستحق إنها تعيش حياة طبيعية ومش هقبل بغير كده يا قُصيّ..
مرر يده علي وجهه بعصبية ثم صرخ بها بفقدان صواب: أنتِ مبتفهميش ليه؟ تيجوا فين؟

تجاهلت قوله ولم ترد عليه، وسارت تجاه غرفتها وتركته يقف محله كالمنبوذ، يكاد ينفجر من الغضب والغيظ في آنٍ واحد..
لم يستطع كبح غضبه أكثر فذهب خلفها، وثب داخل غُرفتها وصفق باب الغرفة بقوة أفزعها، نظرت له بدون تعبير مُنتظرة أن يقترب ويصفعها، لقد غدّت تتوقع منه أي شيء..
توقف دقيقة يسيطر بها على نفسه ويكبح غضبه، فهو لا يُريد ولا يسعي لأن يتشاجر معها قبل أن يغادر بتاتًا..

شهر يمكن أن يحدث فيه الكثير، لن يتسرع سينتظر حتى يحين الوقت وليري بعدها ما سيحدث وكيف ستأتي..
تقدم منها بتمهل وعلامات الندم ترتسم علي تقاسيم وجهه بسبب صراخه عليها، ضمها إلى صدره بحنان وهو يتأسف بندم: انا اسف متزعليش مني..
أحاطت خصره بيدها وهي تبتسم ثم قالت برقة: ايه ده قُصيّ لسه موجود اهو افتكرتك هتضربني..
أبتعد عنها بانتفاضة ثم قال بلوم وعتاب: ازاي يعني اضربك! شايفاني متوحش وحيوان يا ريمة؟

هزت رأسها بنفي بينما تستكين على صدره براحة وهي تبتسم بحنان قائلةً بنبرة مفعمة بالحب: لأ طبعا أنت أجمل وأحن قُصيّ في الدنيا، متزعلش أنت مِني عشان كُنت قاسية معاك..
قبل رأسها بحنان وهو يمسد ذراعها سرعان ما عمد على قوله الذي سيجعلها تنفجر به: طنط حنان هتفضل قاعدة معاكم هنا يا ريمة..
زفرت بقوة تُعبر عن رفضها المحتوم وهي ترفع رأسها باحتجاج لكن توقفت متمنعه لأجله..

تنهدت بقلة حيلة، تعلن أستسلامها قائلةً بثقة: أنا بثق فيك يا قُصيّ عشان كده هسيبها ومش هتكلم..
أومأ بامتنان وهو يبتسم قائلا ببعض التوسل: عشان خاطري عامليها كويس، صدقيني هي حد كويس و تستاهل كل خير ها عشاني ؟
أومأت قائلة بانصياع: حاضر..
تابع وهو يربت على وجنتها بنعومة: بُكره الصُبح هتجيلك شغالة جديدة، متقلقيش منها انا اللي اخترتها بنفسي..

أومأت بعبوس وهي تهم بمعانقته قائلةً بأعين دامعة وحزنٍ عميق: هتوحشني..
قبَّل يديها بالتناوب كما كان يفعل دوما تحت ابتسامتها الناعمة ثم ضمها إلى صدره بحنان قبل أن يُغادر..
في مدينة الإسكندرية، داخل شقة سامي..
دلف جاسم وهو يتلفت حوله باحثًا عن سامي في أرجاء الشقة بأعين حمراء مُرهقة..
ذرع غُرفة الجلوس من ركنٍ إلى آخر، حتى سقط نظره فوق ديوان موضوع في ركنٍ بعيد مصطفا فوقه بعض زجاجات الخمر..

هذا هو الطبيعي لـ سامي، إنهُ شخصٌ فاسق وماجِن يهوى العربدة..
أخذ يفكر بتوشوش وقدمه تسوقة إليه دون تفكير وكأن عقله توقف عن العمل، الألم الذي يشعر به غير محتمل، يريد أن يفقد الوعي..
حدق بمحتوى الزجاجة قليلا بشرود، سكب له كأسًا، أرتشفه بعشم كأنها مياه غازية..

تقلصت ملامحه باشمئزاز، ثم بصقه و سعُل بحدّة حتى أدمعت عيناه، تركه من يده وظل يحدق به بوجوم ثم عاد أدراجه واستلقي على الأريكة وظل مُنتظرا عودة سامي..
بعد منتصف الليل تقريبا..
توقف سامي بالسيارة أمام العمارة، ترجل بهدوء بعد أن صفها بانتظام، ثم صعد إلى شقته بنعاس..

أغلق الباب بخفة كي لا يصدر صوتا وسار بخطواتٍ حثيثة وهو يقطب جبينه شاعرًا بالريبة والقلق بسبب الأضواء المُنيرة، توقف زافرًا عِندما أبصر جاسم يغط في نومٍ عميق فوق الأريكة بطريقة مُبعثرة، ويده ساقطة من على طرف الأريكة أرضا بجانب زجاجة خمر فارغة ملقيه بإهمال..
اقترب منهُ متعجبا سبب وجوده وسبب ثمالته! هو ليس هذا النوع من الأشخاص الذي سيشرب كي ينسى ألمه، هو شخص عاقل لا يصل إلى تلك المرحلة!

هزّ جسده يوقظه برفق: جاسم، جاسم، جاسم..
همهم بثقل وهو يتقلب، ليعيد سامي هزه بإصرار: جاسم اصحي، اصحي..
فتح عيناه ببطء رغما عنهُ، ليشعر بتلك الحرقة والحرارة تضخ داخل مقلتيه، والألم في رأسه..
نظر له بعينا زائغة ثم قال بابتسامة ثملة: سامي أنت جيت؟
ابتسم سامي ونفي قوله بسخرية: لأ مجتش لسه، بتعمل ايه هنا؟
قهقه جاسم وهو يعتدل جالسا نصف جلسة وشرع في الحديث بتقتير: أنا، جيت، عشان، عايز، تجبلي مُسدس..

تفاجئ سامي في بادئ الأمر ولم يستطع أخفاء معالم وجهه وهو يرفع كلا حاجبيه، ثم تفحص حالة جاسم الرثة بعيناه وجاراه في الحديث: طيب لما تفوق نتكلم اطلع نام دلوقتي..
هزّ رأسهُ بنفي وهو يبتسم، ثم وقف بترنح وسار بعدم اتزان حتي وصل إلي باب الشقة، وفتحه وغادر..
تنهد سامي بانزعاج، وهو يفكر في جاسم، فما حاجته لمسدس، ماذا سيفعل به؟ هل سيقتل عشق أم قُصيّ أم سيقتل نفسه؟!

في كثير من الأحيان يشفق عليه ويحزن من أجله، فهما كانا أشقاء ومازالا، رُبما سامي من نكث بهذا لكن بالنسبةِ إلى جاسم سامي شقيقة وسيظل..
في شقة جاسم..
وصل بعد نصف ساعة، رغم أن سامي لايبعد عنهُ كثيرًا، وكان هذا بسبب قيادة البطيئة، ورؤيته المشوشة..

صعد الدرج بتعثر وهو يلهث بتعب وإعياء عوضًا عن المصعد، دلف إلى المنزل وصعد قاصدًا غُرفة عشق، ليتفاقم ألمه ويتشنج جسده على عكس ماظنَّ وهو يسند ظهره على الباب بوجل، فهو لم ينسي عذابه قط ولم يغيب عقله مثلما فكَّر..

هاهي المسؤوله عن تلف قلبه تغط في سباتها العميق بكل راحة دون أرق، بينما هو لم يجافيه النوم قط مُنذُ عودتها، مازال يتساءل ماذا فعل كي يحدث لهُ هذا؟، بل ماذا فعل لها كي تكافئة بتلك الطريقة المُخزية المُهينة، تستحق ماسيفعل بها، جاسم الطيب هي من دمرته..
وثب إلى الداخل وأغلق الباب خلفه وبدأ بحل أزرار قميصه واحدًا تلو الآخر وهو يحدق في جسدها بدون تعبير، فقُصيّ ليس أفضل منهُ..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة