قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس

عودة أخري لقلب أوروبا الرحيم (إيطاليا وخصةً نابولي ) كما يطلقون عليها بسبب احتضانها جميع الثقافات والديانات المختلفة، تعلقت بذراعه بتلقائية أثناء سيرهم في شارع Spaccanapoli، الرئيسي الذي الذي يقسم نابولي ويعد بمثابة قلب المدينة التاريخي. ولذا يعج بالناس، ومن خلال سيرهم في طرقاته الضيقة شاهدو مجموعة كبيرة من الكنائس والمحلات التجارية، وغيرها من المباني القديمة التي يزين شرفها الزهور التي تشبه كثيرًا الأحياء العربية.

وبعد السير لأكثر من نص ساعة وصلو الى وجهتهم وهو ذلك المطعم الصغير بأحد الطرقات الموازية، وحين قابلها برب عمله و طرح عليه الأمر أعترض في بادئة الأمر كونه يخشي المسائلة ولكن عندما ترجته لين وأستعطفته بلغة إيطالية متقنة أدهشت يوسف وجعلت الشكوك تغزو قلبه حتى أنه ظل ينظر لها بملامح مبهمة جعلتها ترتبك قليلًا وتحثه هو على المتابعة في أقناعه، وما أن فعل تهاون صاحب العمل و وافق بعدما لمعت عينه بالطمع فهو يقاضي المهاجرون بنصف راتبهم فقط مستغل حاجتهم للمال وأنعدام فرصهم بالعمل بشكل رسمي وكأنهم ينقصهما أذلال فوق أذلالهم في غربتهم، وكانت من شروط العمل أن تعمل بداخل المطبخ بشكل مستتر لا يلفت الأنظار و ان تتولى تنظيف المطبخ بعد أنتهاء اليوم وافقت هي دون تردد فهى مضطرة على أي حال.

أصطحبها يوسف للمطبخ وعرفها على زملائها الذين قابلوها بود وبترحاب شديد ولكن لم يغفل عليها نظرات الحقد من تلك الشقراء التي ما كانت إلا كرستين التي أخبرها عنها يوسف فهى تعمل كنادلة بالمطعم، أرشدها أحدهم الى غرفة جانبية مخصصة لتغير الملابس بعد أن أحضر لها الزي المخصص للتنظيف وحين أنتهت شرعت بالعمل بكل حماس رغم أن تلك هي مرتها الأولى بعمل كذلك إلا أنها جاهدت كي تتمه برغم عدم خبرتها بتلك الأمور نظرًا لرفهيتها السابقة وكونها مدللة أبيها فقد نال الأرهاق منها بشكل كبير وشعرت أن جسدها يأن في أخر اليوم،.

تنهدت بأرتياح وهي تعيد أدوات التنظيف الى مكانها بعدما بدلت ملابس العمل وهمهمت بأرهاق: الحمد لله خلصت، أخيرًا
طب يلا علشان نِروُح
هتف بها وهو يعقد يديه ويستند على أطار الباب الخلفي للمطبخ
لتشهق بخضة وتخبره: حرام عليك يا يوسف كنت هتوقف قلبي
سلامت قلبك يا قطة
قالها وهو يغمز بعينه ليشاكسها
وحياة ربنا أنت di spessore.

رفع حاجبيه بمكر وهدر بنبرة حاول أن تكون جادة لأقناعها: طالما أنا di spessore يبقى سلام أنا مرُوح لوحدي
لأ، لأ الله يخليك أستنى مش هعرف أروح لوحدي وكمان عايزة أشتري فستان بيومية النهاردة
كمان، طب أعتذري الأول ياقطة؟
أمرها بتسلية وبنبرة جاهد لتكون ثابتة وهو يقترب منها ويرفع حاشية ملابسها من الخلف بمشاكسة وجعلها تنكمش كفرخ صغير أصابه البلل، لتهمس وهي ترفع نظراتها و تمط فمها بطفولة: خلاص بقى متبقاش قماص.

يا ابن بلدي لتستأنف ببسمة مشاكسة: وبعدين حد يزعل من القطط
هز رأسه بلا فائدة وهو يكاد ينفلت منه ضحكة صاخبة على هيأتها الطفوليةوأبتعد خطوتان بعيد عنها وهو يحثها بعينه أن تتحرك
لتبتسم هي بأتساع وتهتف قبل أن تسبقه للخارج: تعيش يافخر الصناعة المصرية.

لم يستطيع كبح ضحكاته أكثر على طريقتها وهو يشعر أنها ستفقده صوابه لا محالة ليلحق بها الى خارج المطعم كي يلبي رغبتها و بعد أن ساعدها في أقتناء ثوب جديد وأثناء سيرهم لطريق العودة نظر هو نظرة خاطفة على ذراعه التي مازالت تتأبطه وتلقي بثقلها عليه أثناء سيرهم ليهمهم بنبرة هادئة نسبيًا: تعبانة
أجابته بوهن: أوي يا يوسف رجلي وجعاني ومش حاسة بيها
خلاص هانت وصلنا معلش أتحملي.

أومأت بتعب وهي تميل برأسها تستند على كتفه أثناء سيرهم، تصلب جسده ككل مرة تقترب منه ولكنه تنفس بعمق ليسترد ثباته قبل أن يهمس بشك يحاول سبر أغوارها فهى كانت جاهلة تمامًا لأمور التنظيف وكانت بين الحين والآخر تأتي اليه لتسأله ببراءة متناهية عن أتفه الأمور فهو أستشعر أنها ليس لها أسبقية بالعمل: قوليلي هو انتِ كنتِ شغالة أيه قبل كدة؟

زاغت نظراتها لثواني معدودة قبل أن تتلعثم قائلة: كنت، شغالة في مطعم بقدم الطلبات للزباين
أومأ لها وباغتها بسؤاله من جديد بعدما تذكر حديثها مع صاحب العمل: أنتِ أزاي بتتكلمي إيطالي كويس كده؟
قطمت طرف شفاهها كعادة مستديمة لها عندما تتوتر وهي تشعر أنه سيكتشف أمرها لا محالة لتبرر مستدعية أول كذبة جالت بخاطرها: أخدت كورس في اللغة، عادي يعني يا يوسف.

أومأ لها ولكن أجابتها لم تكن كافية لكبح فضوله نحوها فهى دائمًا تكتفي بردود مقتضبة عن حياتها السابقة وذلك ما يثير ريبته بشدة
حاولت هي أن تغير مجرى الحديث كي تلهيه عن أسألته التي ستفضح أمرها وأشارت بسبابتها نحو قلعة نوفو الشامخة في سماء نابولي وتعتبر موقعة تاريخية لذلك البلد:
تعرف القلعة اللي هناك دي أسمها أيه؟

نظر يتبع ما تأشر عليه من بعيد وهز رأسه بلا لتستأنف هي بحماس غير عادي: دي قلعة نوفو أتبنت سنة 1279م وكانت وقتها مقر لملوك نابولي وأراغوان وأسبانيا لغاية سنة 1815م لكن دلوقتي بقت مقر جمعية نابولي لتاريخ الوطن الإيطالي.

رفع حاجبيه بأعجاب من كم معلوماتها لتستأنف هي من جديد بحماس أكبر: عارف أنها بتضم متحف مدني وكنايس ومتاحف فيها لوح من القرن التاسع عشر، ده غير قوس النصر و خمس أبراج دائرية تجنن ممكن تشوف جمال وروعة البحر الأبيض المتوسط كله من فوقهم
أبتسم بأتساع على حماسها وقال بأنبهار: أيه كم المعلومات دي
أنتِ بتتكلمي كأنك من أهل البلد وعارفة تاريخها.

رغم جملته الأخيرة التي وترتها إلا أنها أبتسمت بغرور وأضافت بتفاخر وهي تتدعي الثبات: أنا دارسة تاريخ البلد دي حتة حتة قبل ما أجيها، متستغربش
هز رأسه بتفهم وأستأنفو سيرهم عودة الى المنزل
و أثناء استغراقهم في السير أبتسمت بأتساع حتى أن غمزاتها زينت وجنتها حين رأت متجر صغير لبيع الحلوى بأحد الزواية لاحظ هو نظراتها ليسألها بود:
تحبي تاكلي حاجة حلوة؟

هزت رأسها بتلقائية طفولية ليبتسم بهدوء ويسير بها جهة المتجر الذي يضع على ناصيته عدة طاولات لأستقبال رواده
وما أن وطأت قدمها أمام العارضة الزجاجية أخذت تبحث بعيناها عن تلك الحلوى التي تعشقها حد الجنون وتكن لها العديد من الذكريات القديمة...

تلك الحلوى الناعمة التي تذوب بين طبقاتها المتعددة بداية من أطابع البسكويت الغنية المتشربة بطعم قهوة الإسبريسو وكريمتها الغنية الممزوجة بالجبن، نهايتًا ببودرة الكاكاو الرائعة التي تغطيها لتجعل مذاقها مميز للغاية وقد لا تنسى مذاقها للبقية من عمرك.

طالعها بتمعن لعدة دقائق وهي تتناول تلك الحلوى وعلى محياه بسمة عابثة فكانت طفولية كثيرًا بطريقة ألتهامها لطبق الحلوى حتى أنها لم تنتبه إلى تلطخ زاوية فمها بالكريمة وكانت تصدر منها همهمات مستمتعة كادت تفقده صوابه، ليحمحم بمشاكسة وهو يشير لزاوية فمها: ياقطة براحة محدش بيجري وراكي وامسحي بؤك
رفعت نظراتها اليه وسألته وهي تمسح فمها بأحد المحارم بحرج: ليه ما طلبتش حاجة؟

أجابها بتلقائية: مش بحب الحلو خالص، كُلي انتِ بالهنا
أومأت له وأخذت تتناول ما في طبقها من جديد
آما هو تبدلت نظرته العابثة إلى أخري ممتعضة وهو يطوف محيطهم بعينه ليلفت نظره اثنان من الشباب يجلسون على مقربة منهم ويتبادلون النظرات اليها
ليقول احدهم للآخر جملة بلغة مختلفة لم يفهمها يوسف ولكنه يعلم أنها من المأكد كلمات أعجاب واضحة من نظراتهم التي تخترقها.

وعند هذه الفكرة شعر بدمائه الحارة تتدفق الى رأسه ويكاد يفقد سيطرته على أعصابه حتى أنه أخذ يجز على نواجزه بعصبية مبالغة لا يعلم سببها حين وجدها مازالت منهمكة بألتهام حلواها ويصدر منها تلك الهمهات اللعينة نفسها: لين كفاية كدة يلا
طالعته هي بعدم فهم وهمست بحرج وهي تلوك ما بفمها: أنا لسة بأكُل؟
نهض هو بتسرع وهتف من جديد بنبرة صارمة: لأ كفاية هجيبلك غيرها تاكليها في البيت.

أومأت له بإذعان و بنظرات زائغة تحاول استنباط سبب عصبيته المفاجأة وهمست بحرج: لأ خلاص مش لازم أنا شبعت
زفر الهواء بقوة وكأنه يصارع أفكاره ليدفعها برفق كي تسير أمامه وهو يرمق الشبان بنظرة مشتعلة تكاد يتطاير منها الشرار، سارو إلى المنزل دون أن يتفوه أي منهم ببنت شفه
وما أن وصلو همهمت لين بنبرة ضعيفة وهي تفتح باب شقتها وتنظر إلى ظهره بعدما تخطاها وصعد الدرج لشقته: يوسف.

تجمد بمكانه بعدما تلفظت بأسمه بتلك الطريقة التي أشعرته بقشعريرة أجتاحت جسده، حاول جاهدًا الثبات ورد دون أن يلتفت لها:
نعم
هو أنا زعلتك في حاجة؟
أبتلع ريقه ببطء وهو لا يعلم بما يجيبها فهو ذاته لم يعلم سبب لعصبيته وتغير مزاجه، ليكتفي فقط بهز رأسه بلا ويقول قبل أن يستكمل صعود الدرج: تصبحي على خير
ردت تحية المساء بضيق وبنبرة مختنقة فهى لا تعلم ما الخطأ التي أرتكبته ودلفت إلى شقتها الصغيرة تنعي حالها.

أما عنه بعد أن دخل إلى شقته استلقى على الفراش بتهاون وأخفى عينه بذراعه يفكر بسبب منطقي لكل ما يحدث معه فلأول مرة يشعر بالعجز هكذا، فتلك المشاكسة أحتلت حياته في وقت قصير جدًا وقلبتها رأس على عقب و هو لا ينقصه تشتت فهو هنا لغرض جني المال وبناء مستقبله لا أكثر ولا يريد توريط قلبه بها فهو قد عاهد نفسه منذ أن وطأت قدمه تلك البلد أن يكبح كل رغباته ومشاعره ويجمدها إلى أجل مسمى فالحب رفاهية لا يحظى بها أمثاله.

أنتشله من خضم أفكاره صوت صديقه وهو يهتف بتهكم أثار خنق الآخر: اللي واخد عقلك يا صاحبي يتهنا بيه!
رفع ذراعه وأعتدل بجلسته ورد ببرود وهو يتوجه لخزانته ليغير ملابسه: مفيش حد يقدر ياخد عقلي يا فوزي
حانت من فوزي بسمة ساخرة وأضاف: أمال أيه حكاية البت اللي تحت دي اللي لزقلها ليل نهار دة حتى الشغل أخدتها معاك وشغلتها
لحق الخبر يوصلك!

أشعل فوزي أحد سجائره وهتف بثقة وهو ينفث دخانها: أنت عارف معارفي في كل حتة وهما اللي بيوصلولي أخبار اللي يهموني
تنهد يوسف بضيق وهو يغلق سترة منامته وهتف بملل: والمطلوب؟
جلس فوزي واستأنف وهو يكرر نفث دخان سجائره: أبعد عن البت دي يا يوسف قلبي مش مرتاح ليها وانت عارف وضعك هنا مش متحمل، الغلطة هنا بفورة يا صاحبي.

مرر يوسف يده بخصلاته بعنف وهو يشعر بفوران رأسه وهتف بأنفعال: عارف، عارف ملوش لزوم تفكرني كل شوية إني لازم أعيش جنب الحيط
نهض فوزي ورتب على كتف يوسف بمواساه: معلش سامحني لو بضغط عليك بس لازم أفوقك علشان أنت زي أخويا و واجب عليا نصيحتك، أنت مش حمل عبء جديد أنت شايل همك وهم أهلك بالعافية.

هز يوسف رأسه بتفهم وهمهم بقلة حيلةو هو يشعر أن صديقه يذكره بطريقة غير مباشرة بأنه يأويه في منزله دون مقابل: عارف، وعمري ما نسيت وقفتك جنبي
نفض فوزي سيجارته على الأرض ودهسها بكعب حذائه وهو يخبره بإقرار: أنا اللي مدين ليك يا صاحبي لولآ أنك لحقتني يوم ما هجموا عليا أمن البار بعد ما كسرته كان زماني دلوقتي في خبر كان
مرت ومضة أمام عين
يوسف.

وهو يتذكر ذلك اليوم فكان يفترش أحد الزواية المنعزلة عن الطريق بجوار المشردين الذي كانوا يحاوطوا برميل كبير أشعلوا النار بداخله ليبث بهم الدفئ المسلوب منهم ورغم إنعدام حالهم إلا أنه لا ينكر كرمهم ابدًا فكانوا يشاركوه في تناول بقايا الطعام الذين يجلبوها من حاوية القمامة الخاصة بالمطعم القريب، كانت حالته حينها يرثى لها مشرد ضائع دون مأوى ولكن ذلك لم يغير من فطرته الشرقية فحين وجد فوزي يتكاثروا عليه الرجال ويبرحوه ضربًا ما كان منه إلا مساعدته.

قبل أن ينفرد به أحدهم ويستعد لطعنه بذلك النصل الحاد بيده ليتفادى يوسف عنه الضربة ويستقبلها بذراعه ولحسن حظه لم يكن الجرح عميق وتعافا منه بعد عدة أيام ومن حينها وصديقه يشعر بلأمتنان له ودعاه ليقيم معه دون أي مقابل حتى أنه هو من دبر له أمر عمله
روحت فين يا صاحبي؟
انتشله من ذكرياته سؤال صديقه ليرد بود وهو يربت على كتفه: معاك، متزعلش مني لو أتعصبت عليك أنت لما بتشرب بخاف منك بتبقى حد تاني.

قهقه فوزي وقال بمكر وهو يلكزه بصدره: الشرب والنسوان دول الحاجة الوحيدة اللي بتهون عليا الأيام السودا دي
هز يوسف رأسه بلا فائدة ليتوجه فوزي للفراش يتمدد عليه بعد أن خلع حذائه وسترته ويهتف بمشاكسة: طب يلا أطفي النور وتعالى نام جنبي
ليجيبه يوسف بمشاكسة مماثلة: مش بقولك بخاف منك لا ياعم أنا هنام على الكنبة أمان اكتر
ليقهقهو سويًا وينتهي يومهم بأتخاذ يوسف بعض القرارات الحسمية بشأنها.

تسللت أشاعة الشمس لنافذتها معلنة عن بدء يوم جديد نهضت بنشاط على غير عادتها و بعد أدائها لروتينها الصباحي استعدت للذهاب لعملها لترتدي ملابسها السابقة التي أتت بها وتحزم باقي الملابس التي أستعارها لها من تلك الشقراء بعد غسلهم وكيهم فهى لا ينقصها أحد يتفضل عليها وخاصتًا تلك الشقراء التي لم يخفي عليها نظرات الأعجاب التي ترمق بها يوسف ، أنتظرت كعادتها خلف الباب تنتظر صوت خطواته على الدرج لكن دون جدوى وما أن يأست من الأنتظار صعدت لشقته.

لتستكشف ما الذي يأخره كل هذا الحد، طرقت الباب عدة طرقات متتالية دون أجابه لتتنهد بضيق وتذهب للعمل بمفردها فهى قد حفظت الطريق أثناء عودتهم بلأمس.

تعالى رنين هاتفه بألحاح أثناء نومه مد يده إلى الكومود بجانبه لكي يغلق ذلك اللعين الذي قطع ثباته ولكن عندما تكرر الرنين مرة واثنان قرر أن يرد في الثالثة أجاب بنبرة صارمة بلغة إيطالية:
نعم، أستمع اليك
صمت لدقائق معدودة يستمع إلى الطرف الأخر لينتفض بقوة ويهتف بثقة عارمة: حسنًا سأتدبر أمر تلك الشحنة
أخبر سيدك أن كل شيء سيكون على ما يرام في غضون أسبوعين ليس أكثر.

لم ينتظر إجابة الطرف الأخر ليغلق وليد الخط ويقول بسعادة بلغته الأصلية: أخيرًا جت الفرصة اللي بستناها من سنين علشان أثبت بيها ولائي ليهم.

ليحتل الغضب ملامحه عندما تذكر تلك الهاربة التي تهربت من زواجه منها وخربت غايته الوحيدة بلإستيلاء على ثروة أبيها فهو يعمل طوال سنوات لصالحه بأسمه وهو يعتقد أن ذلك حق مكتسب له، هو لا ينكر أن العمل معه أتاح له العديد من النفوذ والسلطة وتعدد العلاقات اللازمة ولكن قد آن الأوان كي ينفرد بذاته ويعمل لصالحه بعد تلك الصفقة التي وكلوه بها فهو سيبذل أقصى جهده كي يثبت جدارة ويجعلهم يثقوا به ويعلوا من شأنه بينهم ليجز أسنانه بغيظ ويستأنف: لازم القيكي بأي شكل قبل ما أسافر أتمم الشحنة يا.

لين.

جلس شكري الأنصاري والد لين على طاولة الطعام يتناول بعض اللقيمات المعدودة دون شهية فالحزن يتأكله على أبنته الهاربة التي إلى الأن لم يتوصلوا لشيء عن مكانها، تنهد بضيق وهو يحل رابطة عنقه حينما دلف عز بخطوات مترنحة تدل على أفراطه بالمشروب وأنتهاء سهرته الماجنة ليهتف شكري بغضب وهو يقترب منه: لسة راجع يا بيه والله ليك حق ما دي أخرة تربية أمك.

أجابه عز بعدم أتزان وبلغة إيطالية يعلم أنها تغيظ أبيه: أنا منهك أبي وفر حديثك
نهره شكري بقوة وهو يهزه من ذراعيه لعله يفيقه من تأثير المشروب لايعلم أن أبنه قد تفاقم الأمر معه وأتوحل بالسموم على يد تلك المغوية، تأفأف عز لينهره والده من جديد: و لا على بالك كل المصايب اللي أنا فيها ولا حتى هروب أختك أثر عليك دة أنت مكلفتش نفسك تسأل حتى عليها.

ليجيبه عز بلامبالاه وبلغة إيطالية يجيدها فهو أيضًا يتحدث العربية ويتفهما ولكن تظل لغت أمه الإيطالية هي المحببة على قلبه: لا تقحمني بمصائبك
وتلك التي هربت ما أفسدها إلا دلالك، كل ما توصلنا اليه هو صنع يدك أبي
صفعة قوية سقطت على وجه عز يصحبها صراخ أبيه: أتكلم معايا عربي واخر مرة أسمعك تتكلم معايا بلغة غير لغتنا.

ليرفع سبابته ويستأنف بإنفعال: أنا مقصرتش معاك في حاجة بس أنت ديمًا منحاذ لأمك ولحياتها بعد ما طلقتها وبتتعمد تبعد عني، لو كنت قريب كنت عملت معاك زي اختك وكنت زرعت جواك عاداتنا وتقاليدنا وخليتك تتمسك بلغتنا العربية زيها.

تحسس عز وجنته بطرف أنامله وقال بصوت مختنق وبعيون غائمة بلغة عربية ليرضي غرور أبيه: متنساش أنها عاشت في مصر خمس سنين قبل ما تسافر بيها وأمها عربية علشان كدة بتتكلم زيك لكن أنا كنت أقرب لأمي علشان أنت أصريت تمحيني وتلغي وجودي ومكنش بيهمك غير بنتك وبس دة حتى شغلك مخلي وليد و يعقوب هما اللي يديروه.

هربت دمعة حارقة على وجنت عز وهو يستأنف بنبرة مهزوزة متألمة: طول عمرك مستقل بيا وشايفني عديم المسؤلية لغاية مخلتني أنا كمان أصدق، خلتني مليش هدف غير البنات والشرب والسهر علشان أهرب من تميزك العنصري وتجاهلك ليا
تأثر شكري بحديثه وتراجع بضع خطوات للخلف يستند على حافة الطاولة فهو محق بكل كلمة تفوه بها ليبرر وهو يجلس على أحد المقاعد القريبة بإنهاك: ملوش لازمة كلامك ده، أنا.

قاطعه عز بحدة فهو ككل مرة يدعي أسباب واهية هو في غنى عنها: أنا هروح أعيش مع أمي ليبتسم بسمة متألمة ويستأنف: أي نعم جوزها الجديد مش بقبله بس متأكد إني هرتاح هناك أكتر
ذلك أخر ما تفوه به قبل أن يغادر دون أن يستمع إلى رجاء أبيه
وأنهياره غافلين عن ذلك صاحب العيون الرمادية الذي يسترق السمع لهم بكل أنتشاء ويعتلي ثغره بسمة مسمومة متشفيةولما لا فهو الأن أجتاز أول عاقبة في طريق أنتقامه.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة