قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس والثلاثون

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس والثلاثون

رواية تيراميسو للكاتبة ميرا كريم الفصل الخامس والثلاثون

أتذكُر حين بُحتُ لك عن عشقنا، فأعلنت يوم الاستقلال فهنيئاً لك برغد عيشك، وأتمنى لك السعادة والتوفيق الدايم من الله، أما أنا فلم يعد لي مكان هنا وسأبقى كعاشقة مجروحة الفؤاد، وسأعتاد لأكمل طريقي.

عادو معًا بعد ليلة حالمة استمتعوا بها بكافة الطرق بين رقص وطعام ومشاكسات وأحاديث عدة دون أن يتطرقوا لمعضلتهم كما اتفقوا وبالطبع لم يخلوا الأمر من بعض المشروب الذي جعلهم يترانحوا ويطلقوا الضحكات دون سبب، قاموا بصف السيارة وتدلوا منها وهي تؤشر له بسبابتها على فمها أن يصمت ولا يحدث أي صوت يُقظ من في المنزل، نزعت حذائها وهي تخطوا للداخل بخطوات حثيثة مترنحة وهي مشرأبة برأسها كي تأمن المكان بينما هو كان يكبح ضحكاته بصعوبة على هيئتها لتهمس هي بعدما تأكدت أن جميعهم نائمين:.

ششش الله يخرب بيتك هتفضحنا يلا روح على أوضتك
نفى برأسه وجذبها من خصرها وهمس بجموح وعينه تهيم بها: مش قبل ما تديني بوسة
هزت رأسها برفض وقالت وهي تدفعه وتتلوى بين يده: أعقل أحنا رجعنا لأرض الواقع تاني.

نفى برأسه وكأنه لايريد أن يعترف بذلك وأصر أكثر وهو يميل بوجهه ويقترب من شفاهها لتدفعه عنها وهي تلوح بسبابتها يمينًا ويسارًا أمام نظراته المتلهفة وكادت تلتفت لتصعد جذبها من خصرها وكاد يتناول شفاهها قسرًا لولآ ذلك الصوت الجهوري الغاضب الذي هز لتوه أرجاء المنزل وجعلهم ينتفضوا معًا:
مياااااااااااااااااااان.

هتف بها بصوته الأجش بغضب قاتل ناتج من صدمتة العارمة عندما دلف لتوه من باب المنزل فهو قد قضى ساعات عدة منذ تركته لين على الشاطئ و لم ينفك من التفكير بها وبكل ما تفوهت به.

اتسعت عين ميان و شهقت بقوة عندما أجفلها صوته الجهوري الذي زلزل دواخلها بِذعر بَين كما زلزل أرجاء المنزل وايقظ الجميع، فكانت النيران تتطاير من عينه وكأنها قادمة من أعماق الجحيم آما عن معالم وجهه فقد كانت تتوحش أكثر فأكثر كلما أقترب منهم مما جعلها تتراجع للخلف و تسقط الحذاء من يدها وهي تشعر أن قلبها يكاد يتوقف من شدة رعبها، آما عنه أبتلع ريقه بتفاجئ ودون تفكير كان يجذبها و يختصر المسافة التي صنعتها ويضعها خلف ظهره بِحماية، ما لبث أن فعلها حتى كال له يوسف لكمة عاتية جعلته يترنح بشدة،.

لتصرخ ميان وهي تهز رأسها بهستيرية عندما دفعها يعقوب جانبًا ورد له لكمته التي لم تأثر بلآخر بل جعلت نيران الحقد تتفاقم أكثر فأكثر ليركله بكل ما أوتي من قوة ليسقط يعقوب على أثارها ويندفع الآخر يعتليه و يسدد له عدة لكمات قوية وهو يهتف بصراخ وبنبرة جحيمية وهو يرفعه من حاشية ملابسه بيد وباليد الآخرى يسدد لكماته بها:
أنت عايز مني أيه؟
ليه عينك على كل حاجة تخصني، مالك بيهااااااااااااا.

بحبهااااااااا من قبل ما تقابلك ولا تعرفك وعمري ما هسيبك تدمرها زي ما دمرت أختها
هتف بها بجنون وبكل تبجح دون تفكير و كأن عقله مازال مغيب مما جعل يوسف يجز على نواجذه ويتفاقم غضبه أكثر فأكثر، آما عن ميان كانت تقف بزاوية تشاهد كل ما يحدث برعب وهي تنتحب بقوة و تضع يدها على أذنها و تهز رأسها بأنهيار تام.

بينما تناوب يوسف نظراته بينهم وصرخ بذهول من أعترافه الصريح له: بتحبها أزااااااااي يا بجح، أنت مكفكش اللي عملته فيا راجع أنت ومراتك لييييييييه علشان تخربوا حياتي
رفسه يعقوب عنه و رد بِحدة: حياتك، ياجباااااان يا أناني جاي تدور على حياتك بعد ما دمرتها وسبتها سنين بتتعذب فكراك ميت
وفي الأخر ترجع تلقيك خاطب أختها، فاكر كدة بتنتقم منها ياغبي...

زمجر يوسف بقوة كأسد جريح وركله بقوة بِمعدته سقط الآخر على أثرها ليصرخ بصوت جهوري رج أرجاء المنزل:
بتتكلم عليها وكأنها مخدعتنيش علشانك وكأنها ضحت بكل حاجة علشان تبقى معايا أناااااااا مش أنت
أحتدت نظرات يعقوب أكثر وقال مستفزًا الآخر وهو يمسح قطرات الدماء عن فمه: مش بقولك غبي...

زمجر يوسف من جديد و كاد ينقض عليه لولآ أن جميعهم تدخلوا ما بين شهقات فريدة و نجية و ماهيتاب المتفاجئة ونظرات لين المشدوهة وعويل ميان و صوت مارسيل التي تحاول أن تهدء من روعها، ليحيل عز بينهم ويقول بإنفعال:
أنتو اتجننتو هتموتو بعض
ليصرخ يوسف وهو يحاول يزيح عز عن طريقه لينقض على يعقوب: هموته هو السبب في كل حاجة سبنيييييييي.

لتهتف نجية بذهول وهي تضرب أعلى صدرها عدة ضربات خفيفة متقطعة: تموته يالهوي هي حصلت أيه اللي حصل يا ابني
صرخ يوسف بعصبية: أسئليه هو إيه اللي حصل و لو راجل يقول
لتتسائل فريدة أيضًا بِريبة: أيه اللي حصل يا يعقوب أتكلم...
أبتلع ريقه ببطء وهو يتناوب نظراته بينهم ولم يجرء على الحديث، ليبتسم الآخر ساخرًا عندما وجدها ترمقه شذرًا و تهرول إلى يعقوب تحاول أن تنهضه وهي تقول بقلق:
قوم يا يعقوب أنت كويس؟

هدئت حركته تمامًا وتجمدت معالم وجهه واتسعت بسمته إلى أن أصبحت قهقهات عالية ساخرة سخرية مريرة مما جعل الجميع يستغربوا ما حل به، ليهدر هو بتشفي:
خايفة عليه أوي كدة
للدرجة دي مخدوعة فيه، البيه المحترم اللي ضحيتي بكل حاجة علشانه، للأسف كان بيبوس أختك ولسة قايلي أنه بيحبها.

أحتلت الصدمة على معالم وجههم وظلوا يتبادلون النظرات بينهم، بينما لطمت نجية أعلى صدرها بخزي، لتقترب فريدة من ميان التي بنظرة واحدة لوجهها أكدت لها أنه لن يدعي عليها لتتلعثم ميان من بين شهقاتها:
ماما أنا...
صفعتان متتاليتان بالتناوب على وجنتيها دون أي تهاون صدرو من يد فريدة جعلوها تترنح للخلف حتى كادت تسقط لولآ أن مارسيل سندتها تلاها قول فريدة بنبرة حادة متخازلة:
ياخسارة تربيتي فيكِ...

تعالت شهقاتها وهي تشعر بخزي من نفسها و تسند رأسها على كتف مارسيل بِهوان التي كانت مازالت تسندها وتشعر بتخازل من فعلتها
آما عنها فكانت تنظر ل يعقوب وهي حقًا تشعر بالضياع وتحاول أن تستنبط من وجهه صدق أدعاء الآخر عليه، ليصرخ يوسف عندما وجدها لن يصدر منها أي ردة فعل:
أيه مش مصدقاني؟، أسئليه
ليؤشر ل يعقوب المسجي أرضٍ ويقول له بتهكم: أحلف لمراتك يمكن تصدقك وتكدبني.

لتلوح على ثغر يعقوب بسمة جانبية وهو ينهض ودون أي مقدمات كان يزيح عز ويناول يوسف لكمة قوية أجفلته وهو يصرخ من بين أسنانه بتشفي صعق الآخر:
مش مراتي ياغبي، مش مراتي
وضع يوسف يده أثر لكمته وهو يشعر أن فكه قد تضرر و وهدر بذهول وبِعدم تصديق وهو يعقد حاجبيه:
يعني أيه مش مراتك أنت عايز تجنني؟
اللي سمعته يا غبي
لتتدخل فريدة بجدية: فعلًا مش مراته...

زاغت نظراته بين الجميع بتيه وهو يشعر أنه على وشك أن يفقد عقله لتوه وقال متلعثمًا:
أنا شوفتهم بعيني يوم ما اعلنوا عن جوازهم
ليجيبه يعقوب بغيظ: يعني كنت هناك يومها ووقفت تتفرج عليها وأنا كنت قالب عليك إيطاليا كلها، والله أنت أغبى راجل أنا شوفته في حياتي، جوازي منها كان على الورق بس علشان وليد ميتجوزهاش ولو كنت شغلت عقلك المصدي دة كنت فهمت
يعقووووووب أسكت.

صرخت هي بها بعيون غائمة وهي تنظر ل يوسف نظرة عميقة متخازلة و تشعر أن أنانيته تعدت كل توقعاتها ألهذا الحد بلغت منه مبلغها وسمحت له أن يقف هناك ويشاهدها من بعيد، مهلًا الآن فقط تيقنت لما ألمها قلبها فهو كان قريب منها وذلك الألم طالما أرتبط به وجعلها تحتضر وهي تظن أن العالم قد أندثرت منه كافة سبل الحياه من دونه، قطع شرودها العابر أعتراض يعقوب بحدة:.

مش هسكت، سكت كتير لازم يعرف أن الحقد اللي جواه دة ملوش أساس وأن خطتة العظيمة بلأنتقام منك خطة فاشلة وكلنا كنا كشفنها
أبتلع يوسف ريقه بحلق جاف وهو يتناوب بينهم النظرات وقال بأنفاس متسارعة من شدة خيبته:
أنا معملتش خطط ومكنش قصدي أأذي حد غير اللي أذوني.

لتقاطعه فريدة بخيبة أمل: كداااب، بنتي حكتلي كل حاجة، ولو مكنتش حاكتلي كنت هعرف لوحدي أنت كل تصروفاتك واضحة زي الشمس، وللأسف كنت مستنياك تيجي تعترفلي وتتراجع عن الجواز من ميان بس أنت فضلت على عنادك، أنا وافقت على طلبك لكتب الكتاب وانا عارفة أنك مش هتقدر، كنت عايزة أحطك في أختبار بينك وبين نفسك وكنت بشوف الصراع اللي جواك بس أنت فضلت تعاند، و خزلتني...

ليبرر بخزي وهو مطرق الرأس: أنا كنت هتجوز ميان وعمري ما كنت هحاول أأذيها
لتخبره فريدة بِعقلانية و حكمة شديدة: و أنا عمري ما كنت هسيبك تأذي بناتي وأقف أتفرج عليك وأنت بتخدع واحدة علشان أنتقام سخيف ملوش أي أساس، و تجرح وتهين التانية.

كانت نجية تشاهد كل ما يحدث بتفاجئ شديد فكل هذا بمثابة صدمة عارمة لها يصعب تصديقها، آما هو كان يستمع لها وهو يشعر أن الأرض تدور به وأنه سيفقد عقله لامحالة لينظر ل لين نظرة طويلة نادمة لأبعد حد ولكنها قابلتها ببرود قاتل وكأن قلبها أصبح جليد صلد لا يتأثر ببضع قطرات الندي النادمة الذي يسقطها عليه، ليحاول هو تنظيم أنفاسه التي تسارعت من شدة صدمته و يرتمي على أقرب مقعد ويسند مرفقيه على ساقيه ويضع رأسه بين يده بأنهزام تام وهو يشعر بمدي غباءه.

وحكمه العقيم لظواهر الأمور، بينما
تحمحم يعقوب وقال بحرج وهو ينظر لأنهيار ميان بقلب يعتصر من شدة الألم: مدام فريدة أنا...
صفعة قوية سقطت على وجهه ألجمت لسانه وجعلته مشدوه من فعلتها...

لتهدر هي بصرامة أمام وجهه: أخرس ومش عايزة أسمع صوتك واحد بأخلاقك دي ملوش مكان بينا وإذا كان على بنتي اللي سمحت ليك بالتجاوز أنا هعرف أربيها كويس، أنت خالفت كل توقعاتي وللأسف خونت ثقتي فيك يظهر أن عيشتك برة نستك الصح من الغلط
ونستك أن أحنا لينا عادات وتقاليد وعرف سايد مينفعش نتخلى عنه.

وضع يده على وجنته وهو يشعر بالخزي من نفسه فتلك أول مرة يصفعه أحد بها وينهره بتلك الطريقة التي بالفعل أشعرته بفداحة ما أقدم عليه من جموح بفضلها تلك الصهباء الذي يقسم أنه عندما يتعلق الأمر بها لا يستخدم عقله بتاتًا ليطرق رأسه بلأرض ويتلجلج يحاول ان يبرر بأي شيء من أجل تلك التي تحتضر هناك ولا يعلم ما سيحل بها من عقاب:
أنا عارف إني غلطان بس أنا مش هينفع اسيبها وعندي استعداد...

لأ هتسبها وهتطلع برررررررة حياتنا كلنا وكفاية أوي اللي حصل ويكون في علمك أنا مستحيل هقبل بكدة
هتفت بها فريدة بحدة دون أي تهاون أو ذرة شفقة
مما جعله ينظر إلى وجههم جميعًا بخزي ثم يتنهد بثقل جثى على قلبه و يهز رأسه بعيون غائمة ويلتفت ليغادر لتتمسك لين بذراعه وتقول مدافعة:
ماما علشان خاطري...
لييييييين متحاوليش ولو مش عاجبك اتفضلي معاه بس تنسي أن ليكِ أم.

ربت هو على يدها التي تقبض على ذراعه بعدما فرت تلك الدمعة الحارقة من عينه وغادر وهو يحاول يلملم ما تبقى من كرامته التي تبعثرت لتوها...

ليتنهد عز بِضيق وهو يشعر بالغضب يتأكله من ذلك اليوسف بعد أن اتضح كل شيء ولكنه أكتفى بنظرات متدنية مشمئزة له وقرر أن يلحق ب يعقوب بعد أخباره ل ماهيتاب أن تلحق به معهم فهو على يقين تام أن يعقوب ليس لديه أحد كي يلجأ إليه وقد يحتاج لأحد بجانبه فهو و لين كل ما لديه بتلك الحياه.

آما عن ميان كانت تشاهد خروجه بقلب مدمي وبدمعات متساقطة دون هوادة ودون أي مقاومة منها كان يرفض عقلها الثبات أكثر لتسقط بين يدي مارسيل فاقدة للوعي
هرولوا جميعهم لها وصعدو بها لأحد الغرف، ماعداه هو و مهيتاب التي كانت تنظر له بآسى على ما توصل له بعناده لتقول وهي تراه يغمض عينه بقوة وهو مازال على وضعيته المنهكة:
شوفت عنادك وصلك لفين
خسرت كل حاجة، وعشت سنين واهم نفسك أنها خدعتك.

رفع نظراته لها و ابتسم بسمة غير متزنة بالمرة ولكنها محملة بالكثير من الألم ثم همس في ضياع و بعيون شاردة وكأنه وصل لتوه إلى حافة الجنون:
كانت بتحميني، ومش متجوزة، و جوازهم كان على الورق بس...
لتستأنف هي بلوم لتنتشله من تلك الحالة الغريبة: يوسف فوق و فكر أنت عذبتها وعذبت نفسك سنين على الفاضي وخليت الكل يشوفك أناني وأنت جاهدت واتعذبت قدها ويمكن أكتر منها وكان عندك استعداد تتحدى الدنيا كلها علشانها.

أتسعت بسمته المتألمة وغمغم بإختناق وبملامح مكفهرة وهو يمرر يده على وجهه: بس هي متعرفش كل دة وحتى لو عرفت مش هتصدق
نفت برأسها وقالت بثقة: لأ هتصدق هي كمان بتحبك، روح قولها وقول للكل أنك مش أناني زي ما هما فاكرين قولهم أنك كنت غبي وإن عنادك هو اللي وصلك لكدة.

نفى برأسه بعدم أقتناع لتصر هي بجدية: يبقى هقولهم أنا، واللي يحصل يحصل لازم الحقيقة تبان كاملة وكل واحد يعرف هو قَاسى أيه علشان خاطر التاني لو متكلمتش أنت هتكلم أنا و دلوقتي
ليقول بنبرة محذرة وبثقة مذبذبة من إصرارها العجيب: إياكِ يا ماهيتاب، أنا هتكلم، بس مش دلوقتي.

زفرت ماهيتاب بِضيق و أومأت له بتفهم وتركته ينعي غبائه وينعي كل شيء أوصله إلى ذلك الوضع المزري وهو يشعر بالضياع يبتسم تارة وتغيم عينه تارة آخرى.

آما عند تلك المتمردة التي منذ يومين لم تذق طعم النوم ابدًا ولم تغلق عيناها لوهلة واحدة فتلك المرة الوحيدة التي تشعر بها أنها وحيدة لا أحد بِجانبها، لا هو يدللها كعادته ولا والدتها تغدقها بنصحها وحنانها و لا حتى اخيها الذي تستند عليه حتى الصغير الذي كان ينهكها بشقاوته، تقسم أنه تفتقد كل شيء منه ويكاد قلبها ينخلع من بين ضلوعها من قلقها عليه وافتقادها له فإن عاد تقسم أنها لن تتأفأف أبدًا من مصائبه مهما كانت فادحة، آما عنه فكم أشتاقت له ولدلاله لها تعلم أنهم لم يمر على غيابه سوى ثلاث أيام ولكنهم مرو عليها كمرور الدهر فقد أدركت أنها لا تستطيع أن تغفى سوى بين أحضانه منعمة بذلك الدفئ والحنان الذي طالما كان يغدقها بهم، تعالت شهقاتها التي لم تنقطع منذ غيابه وهي تحتضن ذلك القميص خاصته وأحد ألعاب الصغير إلى صدرها وهي تشتمهم بحنين قاتل وبتقريع ضمير ناتج من تقصيرها بواجبتها جهتهم، كان هو بتلك الأثناء يدلف من باب الشقة وهو يشعر بالريبة الشديدة عندما وجد كافة الأضواء مضاءة وجميع أجهزة التلفاز التي بالمنزل تعمل بصوت جهوري أصاب أذنه بالطنين ليزفر بإنفعال ويتقدم يغلقهم بضجر شديد.

، أثناء أنشغالها بجلد ذاتها أعتدلت بجلستها وظلت تكفكف دمعاتها بظهر يدها عندما لاحظت السكون الذي عم المكان عدى صوت طرقات حذاء تقترب من غرفتها، شحب وجهها وجف حلقها وتسارعت أنفاسها بذعر حقيقي وهي تشعر أن جسدها تخدر من شدة رعبها ولا تقوى على الحركة وفي أقل من ثانية واحدة أنتفضت بقوة وصرخت صرخة عالية تصم الأذان عندما أنفتح باب غرفتها، أجفله صراخها ليهتف بنبرة مطمئنة وهو يرفع يده بحركة مسالمة:.

حلا دة أنا متخافيش
رفعت نظراتها المرعوبة إليه وهي تهمس بإسمه بإشتياق عارم و بنبرة متعطشة كأنها كانت ضائعة بصحراء و الآن فقط وجدت شربة ماء ترتوي بها:
إيسو.

أبتلع ريقه ببطء عندما رفع بندقيتاه وشاهد هيئتها مزرية للغاية شعر مبعثر ووجه شاحب وعينان غائرة يحيطها هالات سوداء دليل على عدم نومها مالبث أن يستوعب الأمر و دون أن تصدر منه أي ردة فعل تجاهها كانت هي ترتمي عليه وتحاوط خصره وتجهش بالبكاء، هيئتها قطعت نياط قلبه ولكنه التزم بثباته وربت على ظهرها مما جعلها تنفجر قائلة من بين شهقاتها:.

وحشتني يا إيسو أنا أسفة والله أسفة متسبنيش أنا كنت هموت من الخوف و أنا لوحدي من غيركم
كاد يتأثر بحديثها وأدرك الآن لمَ تركت الأضواء والتلفاز يعمل فيبدو أنها كانت مرعوبة بالفعل و تخشي وحدتها ولكن رغم كل ذلك التزم ثباته فهو لن يضيع ذلك المجهود الجبار الذي بذله بلأبتعاد عنها ويهدر تلك الفرصة العظيمة بترويض تلك الماكرة التي تعلم كيف تتلاعب به ليقول بنبرة ثابتة أجادها:.

أهدي خلاص وابعدي علشان مش عايز اتأخر
عقدت حاجبيها وفكت حصار ذراعيها عن خصره وتسألت وهي تكفكف دمعاتها بطرف منامتها كالأطفال:
تتأخر على أيه أنت هتمشي تاني، وبعدين فين أبني
أزاحها من طريقه بلامبالاه وسحب تلك الحقيبة من فوق الخزانة وضعها على الفراش وفتح خزانة ملابسه كي يخرج منها الملابس ويضعها بها
بكل ألية دون أن يعير سؤالها أي أهمية
أتسعت عيناها وسألته من جديد وهي تشاهد ما يفعله: أنت بتعمل أيه؟

أجابها ببرود و هو منهك فيما يفعله: زي ما أنتِ شايفة بلم هدومي مبقاش ليها لازمة تفضل هنا وانا هسيب البيت
أقتربت منه بعيون زائغة وتسألت من جديد ولكن تلك المرة بنبرة واهنة متألمة لابعد حد:
يعني أيه؟
هتسبني، و هطلقني
تنهد بِعمق وأجاب وهو يتوجه للمنضدة الجانبية ويأخذ زجاجات عطره وبعض أغراضه الشخصية:
مش أنتِ عايزة كدة.

نفت برأسها بطريقة هستيرية وهي تفرغ الحقيبة من جديد بجنون وبكل همجية: مش عايزة كدة مش هتسبني، مش هسمحلك تسبني أنت فاهم، تسمر بمكانه وهي يرى ما تفعله لترجوه وهي تقترب منه بعيون غائمة:
إيسو أنا بحبك علشان خاطري سامحني والله العظيم هبطل كل اللي بيضايقك وهسمع كلامك وهعمل كل اللي أنت عايزه بس بلاش تسبني ورجعلي أبني.

أغمض عينه بقوة كي يستمد القوة اللازمة للقادم وتناول نفسً عميقًا وزفره ببطء وهو يتوجه مرة آخرى للحقيبة ويعيد كل ما بعثرته هي بداخلها من جديد ويغلقها بإصرار وكأنه يثبت لها أنها لم تعد تأثر به فهو على يقين تام أن كافة وعودها ستتبخر بمجرد أن يتهاون معها لتصرخ هي بِعصبية:
إيسو رد عليا بلاش طريقتك دي علشان خاطري
تناول الحقيبة وهدر وهو ينوي الرحيل: الكلام مبقاش ليه لازمة يا بنت الناس.

لتنفي برأسها بعدم إتزان وتقول بنحيب قوي وهي تعترض طريقه: طب قولي عايز أيه ارضيك بيه؟، قولي أعمل أيه؟ وترجعلي أبني
استغفر عدة مرات وظل يدعوا الله بسره أن يمده بالقوة اللازمة، ليقول بحدة وهو يزيحها عن طريقه من جديد:
أبنك مع أمي و يوسف وهما قالوا راجعين بعد يومين، أنا مش بالقسوة دي علشان أحرمك منه أكتر من كدة.

هزت رأسها تؤكد على حديثه وهي تتعلق بذراعه: عارفة أنك حنين ومفيش حد في حنيتك وقلبك الأبيض وبتحبني وعمري ما ههون عليك
أجابها بعيون غائمة بالخزي من استهتارها من كل شيء وأولهم مشاعره التي طالما استغلتها واتخذتها نقطة لضعفه:
هتهوني يا حلا علشان أنا ياما حظرتك ومسمعتيش الكلام.

ذلك أخر ما تفوه به قبل مغادرته متغاضي عن صراخها بأسمه واستعطافها له فهو يقسم أن قلبه أنشطر نصفين لتوه ولكن يجب أن يتحمل كي يروضها ويجعلها تعرف قيمة حياتها المستقرة وتقدر حبه لها.

آما هي بعد أن استعادت وعيها ظلت متكورة على ذاتها تتصنع النوم دون أن تتفوه ببنت شفة لتهدر فريدة بجدية ل مارسيل و لين الذين كانوا يجاوروها:
قوموا لموا حاجتكم هنرجع دلوقتي
لتتلعثم مرسيل : بس ميان تعبانة يا ماما خليها الصبح
لتقاطعها فريدة بحدة: كلمة واحدة ربع ساعة وتبقوا جاهزين.

لتقترب من ميان التي هي على يقين تام كونها ليست غافية وتتناول يدها وتجذب من بين أناملها تلك الحلقة الذهبية التي تربطها به ودون أي مقدمات كانت تجذب يد نجية التي كانت مطرقة الرأس بينهم وتضعها بكفها وهي تقول بِجدية:
أنا بحل أبنك من أي رباط
يربطه بِبنتي
لتقول نجية وهي تنظر للحلقة الذهبية التي بيدها بِحسرة: والله ماعارفة أقولك أيه؟ الموضوع يحير.

ربتت فريدة على كتفها وقالت بِمحايدة: محدش ليه ذنب غيرهم وهما اللي لازم يتحمله نتيجة أفعالهم
تنهدت نجية بِضيق وكادت تتحدث لكن فريدة باغتتها: متقوليش حاجة، بنتي كمان غلطت ومبقاش ينفع صدقيني كدة أحسن للكل
أومأت نجية بقلة حيلة لتغادر فريدة كي تستعد للمغادرة
لتنهض لين أيضًا كي تستعد وقبل أن تخطوا خارج الغرفة نظرت لها نجية نظرة مطولة وكأنها تريد تطيب خاطرها، مما جعل.

لين تبتسم بسمة باهتة لم تصل لعيناها و تخرج لتضب أشيائها كما أمرتها والدتها تاركة نجية تشعر بحزن شديد على كل ما يحدث حتى أن قلبها يؤلمها بين ضلوعها لتهرول كي تتناول أدويتها وهي تعقد النية أن تعلم كل شيء من أبنها
آما عن الصهباء ربتت مارسيل على خصلاتها البرتقالية وقالت تؤنبها: كلهم خرجوا و أنا عارفة أنك صاحية وسمعاني، ليه عملتي كدة يا ميان ؟

فتحت عيناها الغائمة لها وتلعثمت بخزي وهي تعدل من جلستها: أنا عارفة إني غلطانة وأستاهل الموت بلاش تأنبيني
تنهدت مارسيل بِضيق وقالت ناهرة أياها: لازم أأنبك، أنت قبلتي على نفسك تعملي كدة مع جوز أختك...
مطلعش جوزها
بس أنتِ مكنتيش تعرفي ومع ذلك متراجعتيش
أجهشت ميان بالبكاء وقالت بأنهيار تام وبتقريع ضمير: غصب عني وحيات ربنا، قاومته كتير حاولت أفهمه أن كل دة غلط بس هو مكنش بيديني فرصة لأي حاجة...

لترد مارسيل بحدة: و أنا بغبائي كنت فاكرة يوسف هو اللي باسك وقولت بلاش أحرجك اكتر لما لقيتك منهارة وقولت معلش كلها كام يوم ويبقى جوزك لكن مطلعش هو طلع الحيوان قليل الأدب التاني
نفت ميان برأسها وبررت بِوهن: أنا عارفة أنه مجنون و أننا غلطتنا بس أحنا بنحب بعض ومن زمان
نهضت مارسيل بعصبية وصرخت بوجهها: أنتِ مجنونة، أنتِ بقالك كام يوم بس تعرفيه.

نفت ميان بِرأسها وقالت من بين شهقاتها: لأ أنا وهو اتقابلنا لما كنت مع بابا الله يرحمه في إيطاليا قابلته في المستشفى اللي بابا عمل فيها العملية ولما اتوفى نزلت مصر وهو حلفلي أنه دور عليا كتير بس معرفش يوصلي
عقدت مارسيل حاجبيها بذهول وتسألت بعدم تصديق: يعني هو نفسه اللي حكتيلي عنه زمان
أومأت ميان بِضعف وهي تحاول تنظيم أنفاسها المختنقة بسبب شهقاتها المتلاحقة، لتغمض.

مارسيل عيناها بقوة بعدما ألمها أنهيارها وجذبتها بلطف تحتضنها وتقول كي تهدئها:
أهدي، إن شاء الله كل حاجة هتتصلح بس أنتِ أدعي أن ماما تسامحك وتنسى اللي حصل
لتغمغم بنبرة تقطع نياط القلب و بمشاعر صادقة لأول مرة تستشعرها ولم تتجرء على البوح بها من قبل:
ماما عمرها ما هتسامحني أنا عارفة وهتحرمني منه، أنا هموت يا مارسيل لو بعد عني أنا ب، حبه والله بحبه.

تنهدت مارسيل بِضيق وظلت تمسد على ظهرها صعودًا وهبوطًا كي تهدئها وهي تعقد النية انها ستحاول مساعدتها والتشفع لها عند والدتها.

بعد عدة دقائق غادروا الجميع لته دون أن يدعوا مجال له بلأعتراض أو حتى التفوه ببنت شفة كي يدافع عن ذاته فكانت جميعهم نظراتهم قاتلة تطعن به وخصًة هي يقسم أن قلبه تمزق لتوه أثر تلك النظرة التي لمحها بعيناها فكانت نظرة غريبة متلبدة لم يعهدها منها قط لتقول نجية وهي تنظر لأثارهم بِضيق وخزي منه:
مش عارفة ألومك ولا ألوم أحساسي اللي عمره ما خاب.

أنا كنت حاسة، بس قولت ابني اللي ربيته بإيدي مستحيل يكون بيحب أختها نظراتك وكلامك حتى لما لقيتك في الأوضة اللي كانت نايمة فيها كل دة شككني فيك، قولي كان أيه اللي بينكم، وليه كنت عايز تنتقم منها يا ابني عملتلك أيه تستاهل عليه تخطب أختها علشان توجعها
أختها، أختها، بتتكلمي عن أختها كأنها ضحية وإني مفتري، ونسيتي أنها كانت مع راجل تاني من شوية.

هتف بها بغيظ شديد من تحامل الجميع عليه فهو قد فقد أعصابه على الأخير ولم يعد يحتمل المزيد، لتهدر هي بإنفعال:
أنا مبدفعش عنها وعارفة أنها غلطت وكدة أو كدة مستحيل جوازكم كان هيتم وأهي جت من عند ربنا، ياريت
متغيرش الموضوع يا ابن بطني وجاوبني على سؤالي يمكن قلبي يرتاح واعرف اعذرك
غامت عينه وارتعش صوته وأجابها بنبرة متألمة لأبعد حد: هحكيلك يا امي بس لما اعرف الحقيقة كاملة.

لتتنهد نجية بآسى على ولدها وتشعر أن ما مر به ليس بِهين فهو منذ أن عاد لم يقص عليها أي شيء وكان دائمًا يلتزم الصمت والغموض وكلما تسأله يرد بإقتضاب وبإجابات مختصرة لا تريحها. لينهض هو ويقول بنبرة مختنقة:
هنرجع القاهرة الصبح جهزي نفسك أنتِ و يوسف الصغير
أومأت له بتفهم بينما هو نهض ليصعد لغرفته و هو يلعن عقله الذي لم يسعفه وظل على غفلته طوال سنوات.

صباح اليوم التالي فقد مروا ساعات الليل عليه كمرور الدهر وقد قرر بعد تفكير مضني أن يذهب بعد عودتهم لمن يكبح فضوله ويريح قلبه بالحقيقة كاملة
فلم تكن لديه الجرأة للذهاب لها مباشرًا وسؤالها أو حتى يذهب لذلك الغليظ الذي يتمنى لو يقتله ويتخلص منه للأبد، دقائق معدودة وكان أمام منزل ماهيتاب ويطرق الباب فتح له عز ولكنه لم يرحب بل ظل ينظر له بتدني قبل أن يقول يوسف:
ممكن اتكلم معاك
أفندم، عايز مني أيه؟

قالها عز بنبرة حادة جعلت يوسف يشعر بالضيق ويمرر يده على وجهه ويقول بنبرة تكاد تكون متوسلة:
أنا عاذرك، بس أنا عايز أعرف الحقيقة كاملة وأكيد مش هروح ليها علشان متأكد أنها مش هترضى تتكلم معايا بعد اللي حصل
رفع عز حاجبه وربع ذراعيه فوق صدره بسخط من حديثه وكاد يرفض ويطرده إلا أن ترحيب ماهيتاب به بحفاوة منعه:
أهلًا يا يوسف اتفضل
ليه سايبه على الباب يا عز
نعمممم هو المفروض أرحب بيه كمان بعد اللي عمله في أختي.

هتف بها بغيظ وغابات الزيتون خاصته تقترب من الإشتعال من معاملتها معه
لتتنهد ماهيتاب وتفسح المجال ل يوسف ليدخل وهي توجه حديثها ل عز: حبيبي عيب الراجل جاي لغاية بيتك وميصحش تسيبه واقف كدة
ليهدر يوسف بإنفعال: سبيه براحته أنا همشي بس أنا لازم أعرف الحقيقة كاملة و محدش يلومني لو روحت للزفت ابن عمه ومعرفتش أمسك أعصابي وقتلته بعديها.

شهقت ماهيتاب ونفت برأسها وقالت بإندفاع وهي تستعطف عز بعيناها: لأ الله يخليك بلاش، أدخل يا يوسف، عز ميقصدش، مش كدة يا عز
وجه يوسف نظراته ل عز يريد يرى أي رد فعل على موافقته
ليمرر عز يده بخصلاته الشقراء نسبيًا وهز رأسه بمضض وسبقه للداخل
ليلحقوا به وهو يتفهم أنها موافقة ضمنية منه، ليتسأل عز بنبرة حادة منفعلة: افندم عايز تعرف أيه؟
فرك يوسف وجهه من نبرته وقال بثبات: ممكن تهدى.

لاحت على فم عز بسمة ساخرة وأجابه بحدة وهو ينهض ويرفع سبابته بوجهه: أسمع أنا مش مضطر اتكلم معاك أصلًا...
لأ مضطر وكفاية بقى تجرح فيه
هتفت بها ماهيتاب بإنفعال وهي تحيل بينهم
ليصرخ هو بوجهها في غيظ: أنتِ بتدافعي عنه ليه كدة مين دة علشان تقفي قصادي وتعارضيني...
لترد عليه بنفس الغيظ موضحة: دة اللي لولا ستر ربنا وهو كان زمانك مرمي في السجن.

بتهمة قتل وليد ، أظن فاكره يا عز وفاكر كنت هتعمل أيه لولآ هو منعك؟، و لولاه هو كان زماني لسة تحت رحمة وليد والله أعلم كان ممكن عمل فيا أيه!
عقد حاجبيه واشتعلت غابات الزيتون خاصته بإنفعال بَين وصرخ بعدم فهم: أنتِ بتقولي أيه أنا مش فاهم حاجة
ليزيحها يوسف من أمامه ويهدر بنبرة حاول أن تكون هادئة: أقعد واهدى وأنا هفهمك على كل حاجة بس كمان عايزك تحكيلي كل اللي حصل من تَلت سنين.

تناوب عز بينهم النظرات ثم إنصاع له وجلس ليبدء يوسف الحديث ويقص عليه كل شيء، لا ينكر عز أنه كان مشدوه غير مستوعب لكل ما نطق به ولكنه وجد حديثه منطقي للغاية ويبرر الكثير من الأمور المتعلقة بالماضي، ليخبره هو أيضًا بكل ما حدث معها وكم تعرضت للألم في غيابه وعن مكوثها بالمشفى ومحاولاتها العدة لأذهاق روحها كي تلحق به وهي تظنه قد رحل للأبد أخبره كل شيء مما جعل يوسف يشعر بأن قلبه يلتوي بين ضلوعه تحسرًا على كل تلك السنوات التي ذهبت هباءً في فراق ليس له معنى ولا ضرورة بالمرة غير إيلام وعذاب كل منهم، أسند مرفقيه على ساقيه ووضع رأسه بين كفوف يده وهو يشعر أنه على وشك أن يفقد عقله.

، ليربت عز على ساقه ويخبره بحرج: شكرًا على كل حاجة يا يوسف وأسف لو كنت قليل الذوق معاك، أنا مدين ليك بحياتي
أبتسم يوسف بسمة باهتة لم تصل لعينه المتألمة وهز رأسه بود ليعتدل بجلسته وهو يتناول نفسً عميق كي يستعيد رباط جأشه ويتسأل بتوجس:
في سؤال أخير نفسي اسئلهولك؟
أومأ له عز برحابةليقول يوسف بنبرة واهنة مترقبة: وصلتلها التراميسو اللي ادتهولك من تَلت سنين؟

ضيق عز زيتونيتاه بتفكير و ما لبث ثواني حتى تذكر الأمر ليقول بتفاجئ: مش معقول كنت أنت؟
أومأ له يوسف بنعم ليستأنف عز: أنا فعلًا وصلته ليها وهي كانت شبه المجانين ساعتها وقعدت تسألني مين اللي أدهالك، بس يعقوب قالها أنه هو اللي بعتهالها علشان عارف أنها بتحبها
فرك يوسف وجهه بإنفعال من ذلك اليعقوب وهو يقسم أنه لو أمامه الآن لكان كسر كل عظمة بجسده دون أن يرمش له جفن، ليسترسل عز:.

يبقى علشان كدة فرغ كل كاميرات القصر بعديها وسألني نفس السؤال مرة واتنين
ليقاطعه يوسف بغيظ: بيقول عليا أنا اللي غبي وهو مفيش أغبى منه.

ليبرر عز بِصدق: يعقوب مش وِحش زي ما أنت متخيل، هو كتير وقف جنب لين و دور عليك بس أنت مكنش ليك أثر ولا كان في أي ورقة بتثبت وجودك في البلد وقتها ولا حتى أنت سِبت خيط يوصله ليك، أنا عارف طريقة تفكيره هو يمكن عمل كدة علشان هي كانت بتوقيت حرج كانت لسة خارجة من المستشفى وخاف تنتكس تاني وحالتها النفسية تسوء لو علقها بأمل أنك عايش ومعرفش يلاقيك.

تنهد يوسف بعمق ثم أومأ بتفهم وشكره هو و ماهيتاب بإمتنان بعدها و وعدهم أنه سيصلح كل شيء و هو يتيقن أن لا داعي للحزن على كل ما فات فما حدث قد حدث ولا داعي لينعي الماضي بكل ما فيه فمازال لديه فرصة آخرى كي يستغلها ويعوض كل ما فاته مع قطته الشرسة الذي يشعر أنها إن رأته ستفتك به بِمخالبها لكن لا يهم فهو لن ييأس على أي حال.

ظلت تحتضن الصغير وتقبله بتلهف شديد بعدما أعادته لها والدتها فحقًا أشتاقت له لتعاتب والدتها: كدة برضو يا ماما يبقى أبني معاكِ ومتقوليش وتتفقي أنتِ وهو عليا
تنهدت نجية بضيق وهي تجلس بقربها وقالت بنفاذ صبر كي تجعلها تكف عن نواحها: أبنك رجعلك وتحمدي ربنا و بالله عليكِ سبيني في اللي أنا فيه أنا مش ناقصة أخوكِ واجع قلبي.

نفخت حلا أوداجها وهي تضم الصغير لها وقالت في ضيق وبتمرد كعادتها: كل حاجة أبنك، أبنك وأنا مينفعش تفكري فيا شوية جوزي، سايبلي البيت وعايز يطلقني
لطمت نجية أعلى صدرها وتمتمت بعدم تصديق: يالهوي هي حصلت طلاق...

أومأت تؤكد لها وقالت بِصدق وهي تضع الصغير بجانبها و تجهش بالبكاء: ماما أنا مش عايزة أطلق أنا بحب إيسو ومش هعرف أعيش من غيره، البيت من غيره وِحش أوي ومش عارفة أعمل أي حاجة لا باكل وبشرب ولا حتى عارفة أنام خليه يرجع ياماما هو بيسمع كلامك وأنا والله مش هزعله تاني
تنهدت نجية وضمتها لها وأخذت تربت على ظهرها وقالت بحنو: قولتهالك زمان وبرجع أقولهالك تاني يا بنت بطني.

ساعات الواحد مبيعرفش قيمة الحاجة اللي بيحبها غير لما بيحس أنها هتروح منه
و جوزك طيب وحنين وأبن أصول و معنى أنه عايز يطلقك يبقى تعب ما كل واحد ليه طاقة يا بنتي و مش معنى أنه بيحبك يبقى تتعوجي عليه ومتسمعيش كلامه ولعلمك يا موكوسة لو مش لاقي الراحة في قلب بيته حتى لو بيموت فيكِ هيدور على راحته برة.

أنتفضت حلا بين أحضانها وقالت ودمعاتها تسبق كلماتها: لأ، دة أنا ممكن أموت فيها، بالله عليكِ ياماما ساعديني وقوليلي أعمل أيه وأنا هسمع الكلام
أومأت لها نجية وهي تزيح دمعات أبنتها بكف يدها وقالت بمحايدة: تصلحي من حالك و ترضي باللي قسمه ليكِ ربنا وترضي بِنعمته وتشوفي واجباتك زي ما هو مش مقصر معاكِ ومكفي بيته ومكفيكِ من كله يبقى أنتِ كمان متقصريش
هزت حلا رأسها بطاعة وقالت بتلهف: يعني هتساعديني.

أيوة اللي في الخير يقدمه ربنا يا بنتي
ذلك آخر ما تفوهت به نجية قبل أن تضمها من جديد وتظل تدعوا لأبنائها بِصلاح الحال.

آما عن صاحبة الفخوخ الآسرة.

استيقظت اليوم على مفاجأة والدتها لها فقد أهدتها سيارة حديثة الطراز أعجبتها كثيرًا مما جعلها تتحمس وتخرج لتوها من منزلها و تتوجه إلى ذلك الفندق الذي يقبع به ذلك الجامح، ثواني معدودة من أنطلاقها وأثناء أنشغالها بالقيادة تعالى رنين هاتفها مما جعلها تتناوله وترد دون أهمية لوهلة أنتظرت الرد لكن دون جدوى فقط كانت تستمع لصوت أنفاس تشعر أنها ليست غريبة عنها، فنعم ذلك هو فبعد أن خرج من منزل ماهيتاب و عز تلفت أعصابه على الأخير و حاول جاهدًا ترتيب الحديث بذهنه وما أن يأس أخرج هاتفه وضغط على شاشته برقمها الذي أخذه من ماهيتاب مسبقًا، يقسم أنه لا يعلم كيف واتته الجرأة لذلك ولا يعلم حتى ما سيقول، ثواني معدودة وأتاه صوتها من الطرف الآخر مما جعله يغمض عينه ويتناول نفسً عميقً كي يحفز نفسه على الحديث وهمس بعدها:.

لين دة أنا يوسف
عندما وصلها صوته الرخيم ضغطت على مكابح السيارة بقوة جعلتها ترتد داخل سيارتها دون أن تجيب و هي تشعر أنها لم تستوعب الأمر لولآ أنه قال من جديد عندما طال صمتها:
لين أنا عارف أنك سمعاني...
بتتصل بيا ليه وجبت رقمي منين...
هتفت بها بشراسة مما جعله يذدرق ريقه ويتمتم وهو يشعر بالخزي من نفسه: أناااا لازم أتكلم معاكِ...

تنهدت بملل وقالت بنبرة محذرة: أنت بتهرج صح، مبقاش فاضل كلام يتقال و لو سمحت متتصلش بيا تاني دة لو عايز تحافظ على اللي باقي من كرامتك.

ذلك أخر ما تفوهت به قبل أن تغلق بوجهه مما جعله يضرب مقود السيارة بيده عدة مرات بعصبية وهو يشعر أنه سيفقد صوابه لا محالة ولكن ذلك لن يغير شيء من عزيمته نحوها فهو يعلم أن يحق لها فكل ما حدث كان بسبب غباءه وتسرعه بالحكم عليها لينطلق بسيارته وهو يقصد منزلها فهو ينوي انه لن يتزحزح من أمامه إلا أن يراها ويتحدث معها، آما عنها نظرت للهاتف نظرة مستخفة هازئة وكأن من كان يحدثها لتوه ليس هو سبب عذابها وشقاء قلبها، فنعم لم تعد تلك الهشة الضعيفة التي كانت عليها بل أصبحت تناقض لين أسمها وتحلت بالقوة والصلابة التي اكتسبتها بفضل أنانيته.

لتشعل موقد السيارة من جديد وتتوجه إلى غايتها التي ما أن وصلت لها وقصدت غرفته ظلت تطرق على الباب دون جدوى إلى أن نهش القلق بها وكادت تطلب المساعدة، لولآ أنه فتح باب الغرفة وظهر أمامها بهيئة مبعثرة للغاية وهو يغمض عين ويحاول فتح الآخرى من تأثير الضوء لتتنهد هي براحة وتهدر: قلقتني حرام عليك و قولت حصلك حاجة.

لم يجيبها بل سبقها للداخل وجلس على طرف الفراش وتناول علبة سجائره وأشعل أحدهم وأخذ ينفث دخانها بملامح متراخية دون أي تعبير يذكر، سعلت هي عدة مرات وتوجهت إلى الستائر تزيحها وقامت بفتح النافذة كي يدخل الضوء ويكسر تلك الكآبة التي يقبع بها، لتشهق وهي ترى كم السجائر التي تملأ المنفضة وتصرخ بوجهه وهي تنزع من يده السيجارة التي أشعلها لتوه:
أنت أتجننت يا يعقوب هتموت نفسك كدة...
رد عليها بهمس مختنق: ياريت.

لتنهره بحدة وهي تجلس بجانبه: ممكن أفهم أنت عامل في نفسك ليه كدة؟
لاحت على جانب فمه بسمة جانبية وأجابها بضيق وهو يتعمد أن يتهكم على ذاته: لا أبدًا أصل البنت اللي قابلتها من سنين وفضلت أحبها وأحلم بالصدفة اللي تجمعني بيها كانت مخطوبة لحبيبك الغبي وقفشني معاها بالجرم المشهود، و الحمد لله خرجت بفضيحة دة غير القلم اللي مامتك رزعتهولي.

فركت أرنبة أنفها تحاول كبح ضحكاتها حتى لا تغضبه أكثر ليستأنف هو بشغب كعادته وهو يضع يده على وجنته:
مامتك أيدها تقيلة أوي على فكرة أنا وداني بتصفر من ساعتها
أنفجرت ضاحكة فلم تستطيع كبح ضحكاتها أكثر على طريقته التي لم تتغير أبدًا.

ليبتسم هو أيضًا بسخرية مريرة على ذاته وهو يهز رأسه بقلة حيلة، لتهدء ضحكاتها عندما قال بنبرة متألمة وبملامح تقلصت لتوها بِحزن مميت وكأنه نزع وجه السخرية والجموح الذي دائمًا ما يتلبثه:
بحبها يا لين وعارف إني غلطت، ويمكن القلم دة فوقني وكنت محتاجه من زمان
بترت ضحكاتها وربتت على يده وهي تقول بعتاب: ليه خبيت عليا.

أجابها بضيق: حاولت أقنعك كذا مرة إني أحكي للغبي بتاعك وأنتِ رفضتي وقتها كنت عايز مصلحتك ومكنش عاجبني حالك ولا اللعبة السخيفة اللي مامتك أصرت عليها وخصوصًا إني كنت شاهد على كل العذاب اللي أتعذبتيه بسببه، ولو كنت قولتلك إني بحب ميان كنتِ هتحسي إني أناني وعايز مصلحتي.

تنهدت لين وقالت بتفهم: اللي حَصل حصل بلاش نتكلم في اللي فات خلينى في اللي جاي أنا لقيتلك عرض شغل يجنن مرشد سياحي بأمتيازات خاصة بصراحة مارسيل هي اللي ساعدتني لما اترجتها وأكدتلها انك بتتكلم تَلت لغات ودرست تاريخ واثار و خليتها اتوسطتلك في شركة سياحة كبيرة أوي وممكن تبدء من بكرة لو تحب
هز رأسه بنفي وبعدم أقتناع: مش عايز أعمل أي حاجة غير لما أطمن عليها، طمنيني يا لين علشان خاطري وريحي قلبي هي كويسة.

تنهدت لين بضيق وهزت رأسها بلا واسترسلت: هي مش كويسة يا يعقوب من ساعة اللي حصل وهي مش بتخرج من أوضتها وبتعيط ليل نهار دة غير أن ماما خدت منها التليفون واللاب توب بتاعها علشان متعرفش تتواصل مع حد وكمان منعتها من الخروج وحتى الأكل بتبعتهولها في الأوضة وحكمت علينا كلنا محدش يتعاطف معاها علشان تحس بغلطها.

كان يستمع لها بنظرات محتدة وأنفاس غاضبة و هو يخطو ذهابًا وأيابًا كاليث الجريح ليهدر بعصبية وهو يتوجه إلى الخزانة ليخرج ملابسه:
أنا مستحيل أسكت أنا هروح لمامتك ومش هيأس غير لما ترضى تجوزهالي
نفت لين برأسها وقالت بجدية وهي تقبض على ذراعه تمنعه: خليك واقعي شوية ماما مستحيل ترضى وأنت كدة، أنت في نظرها عديم الأخلاق وطايش ومنحل ومستحيل هتقبل تجوزهالك.

ليعترض بإنفعال: بس أنا مش كدة، مش كدة، و أنتِ عارفاني كويس، صدقيني كان غصب عني لما بكون معاها بنسى كل حاجة وعقلي بيقف مشلول قدامها...
ليرتعش صوته وتغيم ثاقبتيه ويقول بِصدق نابع من صميم قلبه: أنا بحبها بجد يا لين وعمري ما حسيت بكدة مع حد غيرها ولو هما شايفين إني حبي ليها جنان
عمري ما هتمنى أبقى عاقل
تنهدت لين بعيون غائمة أيضًا من حديثه الذي اشعرها بمدى صدق مشاعره وقالت كي تحفزه:.

يبقى تثبتلهم العكس، تشتغل وتبني حياة جديدة مستقرة تليق بيها
وساعتها كلنا هنقف في ظهرك لما تتقدملها رسمي
وأكيد ماما فريدة قلبها هيلين و توافق
أومأ لها بإقتناع وقال بشغب وجموح كعادته الذي لا يستطيع الاستغناء عنه: على فكرة بقى أمك دي مفترية وقوية ولو موافقتش هخطف ميان واتجوزها من وراها واللي يحصل يحصل.

ضربته على رأسه برفق وقالت بخفة: والله العظيم أنت مجنون وساعتها ماما فريدة هتعلقك أنت وهي وتعلن عليكم الحد
قهقه هو على حديثها وشاركته هي ليتسأل بترقب عندما هدئت ضحكاته ولاحظ حزن عيناها:
أنتِ كويسة
أومأت له وهي مازالت تحتفظ ببسمتها الباهتة وقالت بثبات: أنسى ومتحاولش تفكرني يا يعقوب، أهم حاجة إني أطمنت على ميان وأنو مش هيقدر يأذيها.

نظر لها نظرة عميقة يحاول سبر أغوارها فهو يعلم أنها مازالت تكن لذلك الغبي الكثير، تغاضت عن نظراته ونهضت وهي تخرج من حقيبة يدها ورقة وناولته أياها وهي تقول قبل أن تنوي الرحيل:
دة عنوان الشركة متنساش تاخد كل الورق المطلوب معاك
أومأ لها بطاعة وطلب قبل أن يدعها تغادر: هسمع كلامك بس بشرط
عقدت حاجبيها و حثته بعيناها أن يستأنف
لتلوح بسمة مشاكسة على جانب فمه ويقول والمكر يتراقص بثاقبتيه: هقولك...

دقائق معدودة و وصلت أمام منزلها وما أن صفت سيارتها و خرجت منها و كادت أن تغلق بابها أتاها صوته الرخيم الهادئ الذي طالما كان يبث بها السَكينة سابقًا على عكس الآن تمامًا فقد وترها للغاية وجعل قلبها يتهاوى بين ضلوعها:
وحشتيني يا قطتي.

أبتسمت ساخرة من ذلك اللقب الذي طالما أسر قلبها سابقًا وكم كان يتردد بأذنها طوال سنوات غيابه يذكرها به ولكن قد فات الآوان فلم تعد تلك اللينة التي تضاهي أسمها، لا فقد عاهدت ذاتها على أن تتخطى الأمر ولا تهدر عمرها هباءً في محراب عشقه البالي فليذهب هو و أنانيته الى الجحيم لم تعد تكترث بعد اليوم، لتلتفت وتقول بثبات:
أفندم
أقترب منها وقال بنبرة هادئة يحفها الندم: أسف.

قهقهت بكامل صوتها الأنثوي وردت هازئة: أسف، قد أيه الكلمة دي ضئيلة و تافهة أوي...
فاكر أنك كدة بتختصر بيها كل اللي فات، طيب أنا كمان أسفة، معنديش وقت أضيعه في الندم والعتاب...
ليتمتم بإصرار وبنبرة راجية: لأ، لازم تسمعيني
نفت برأسها وقالت بإصرار لا يقل شيء عن إصراره: مش مضطرة أعمل كدة، وصدقني ميهمنيش أسمع مبررات واهية ملهاش أساس...

التفتت لتبتعد عنه لولآ انه أعترض طريقها وقبض على ذراعيها يمنعها بنبرة متوسلة وعيناه الناعسة تفيض بالندم:
بلاش تتحاملي عليا واسمعيني، عذابك، ميقلش عن عذابي، بلاش تعملي كدة وتصعبيها عليكِ وعليا وتضيعي سنين أكتر من اللي راحت وأحنا بعيد عن بعض
نفضت يده بقوة وقالت بشراسة قتالية وهي ترمقه بجمود لم يكن أبدًا من طباعها: أبعد عن حياتي يا يوسف، أنت أنتهيت بالنسبالي، وزي ما قولتلك قبل كدة أنت مش هو...

أنا هو يا لين والله العظيم هو ابن بلدك الجدع الشهم، فكراه، انا كنت غبي بعترف كنت غبي وندمت وعندي استعداد اعوضك عن كل اللي فات بس أنتِ أديني فرصة واحدة بس
نفت برأسها بعدم أقتناع وتنهدت بعمق ثم قالت بنبرة قاطعة كحد السكين أجفلته: لأ، الفرصة التانية بتبقى فرصة تانية للي يستهلوا الحياة لكن أنت مت بالنسبالي
ذلك أخر ما تفوهت به تاركته مشدوه من رد فعلها و من تلك الشخصية العنيدة التي أصبحت عليها.

بعد عدة ساعات دخل منزله بخطوات متخازلة ثقيلة وبعيون غائرة من شدة حزنه مما جعل نجية تهرول إليه وتسأله بقلق:
مالك يا قلب أمك
نظر لها نظرة باهتة وقال بنبرة متألمة: تَعبان أوي يا امي حاسس أن في حمل تقيل على قلبي
لتسنده نجية وتسير معه إلى غرفته وهي تقول بحنو شديد: تعالَ ياقلب أمك أحكيلي وزيح حمولة قلبك.

أومأ لها بطاعة وهو ينوي أن يقص عليها كل شيء من بادئة الأمر إلى يومنا هذا، وبعد بعض الوقت قضاها هو بسرد كل ماحدث
ضربت نجية أعلى صدرها وقالت وهي تضمه لها وتربت على ظهره بدمعات متساقطة من كم الذكريات المؤلمة التي يحملها ولدها وفلذة كبدها وكانت هي غافلة عنها لتقول بنبرة حنونة وهي تشدد على أحتضانه:
ربك كريم و بيحبك والحمد لله أنك عرفت الحقيقة وقلبك أرتاح.

أنسى يا بني اللي فات وارجع ابني اللي ربيته يوسف اللي قلبه أبيض من اللبن الحليب
أومأ لها بعيون غائمة وقال بِحزن: بس هي مش عايزة تسمعني وخايف تكون كرهتني
شهقت نجية وقالت: طالما حزنت عليك سنين زي ما أنت بتقول لما كانت فكراك ميت يبقى لسة بتحبك، و اللي الحب يا بني يدخل قلبه ميعرفش يكره أبدًا
ليخرج من بين أحضانها ويقول بتوجس: بجد يا امي تفتكري لسة بتحبني.

أومأت له نجية وأخبرته بثقة: أيوة يا قلب أمك وبكرة هروح ل فريدة وأفهمها كل حاجة علشان تبقى في الصورة، لتتنهد بود وتربت على وجنته وتقول بِصدق نابع من صميم قلبها:
عارف، أول ما شوفتها حبيتها ودخلت قلبي وكنت بين نفسي أقول ياريت أختها كانت نفس طبعها الهادي، لتشرأب برأسها وتقول بصوت خفيض أضحكه بشدة:
أصل بيني وبينك كنت حاسة أن ميان مدلعة وكانت مش هتعرف حتى تقليلك بيضتين
كل دة شيلاه في قلبك يا نجية.

قالها وهو يرفع حاجبيه ويبتسم بسمة باهتة لم تصل لعينه
لتربت بخفة على صدره و قالت قبل أن تنهض لتغادر الغرفة: هي جت من عند ربنا وأكيد يا قلب أمك ربنا شايلك الأحسن، إن شاء الله ربنا هيريح قلبك ويجبر بخاطرك
أَمن يوسف على دعوتها بقلب متألم أنهكه الفراق.

لتخرج هي تاركته يسحب ذلك السلسال خاصتها من تحت وسادته ويرفعه أمام ناظريه وهو يفكر مليًا بكيفية ترويض قطته من جديد، ليتناول هاتفه ويحاول مرارًا وتكرارًا أن يهاتفها لعلها تستمع له وترأف بقلبه الهائم بها.

صباح يوم جديد مفعم بالمفاجأت و أولهم تلك العلبة التي ما أن فتحت عيناها وجدتها على الكومود بجانبها، اعتدلت بجلستها وتناولتها وإن قامت بفتحها وجدت بداخلها حلواها المفضلة التي طالما عشقتها تيراميسو ، تنهدت بسأم عندما وجدت ذلك الكارت الصغير بداخلها
الذي سطر عليه بخط منمق للغاية: ( أغفري لذلك الهائم بلا مأوى عيناكِ فطالما كنتِ أنتِ لين قلبه لا أحد سواكِ )
إمضاء: (تيراميسو قلبك ).

تنهدت بِعمق وببسمة واسعة وهي تتمعن بتلك الكلمات التي خصها بها، ولا تنكر أن الشك ساورها للحظات عندما تذكرت موقف مشابه ولكنها نفضت أفكارها سريعًا وبترت بسمتها وكأنها تذكرت لتوها ذلك العهد الذي قطعته على نفسها بتخطي الأمر، لتنهض وتضع العلبة على الكمود كما كانت وتتناول هاتفها التي كانت تجعله يعمل على وضع الصامت طوال الليل بسبب رنينه المتكرر لتجد العديد والعديد من المكالمات الفائتة وعدة رسائل من نفس الرقم الذي حاكاها منه لتزفر بسأم وترمي الهاتف دون أهتمام على الفراش بعدما أعادة تشغيل خاصية الرنين فهي أقسمت أن لا شيء سيؤثر بها، لتنهض كي تستعد فاليوم أصرو عليها ماهيتاب و عز أن تذهب لهم، بعد ساعة واحدة كانت قد وصلت عندهم لا تنكر انها شعرت بالريبة منهم ومن إصرارهم العجيب لمجيئها، فكانوا متوترين للغاية وكل حين وآخر يتبادلون النظرات بينهم مما جعل الشك يغزو قلبها، دقائق معدودة ودق جرس الباب ليظهر هو كما توقعت وإن كادت تهم بالمغادرة منعتها ماهيتاب بنبرة راجية:.

علشان خاطري اسمعيه مش هتخسري حاجة
نفت برأسها بقوة وصرخت بوجهها: أنتو أزاي تعملوا فيا كدة، سبيني أمشي
ليمنعها عز أيضًا: لين صدقيني أنا مش قصدي أضايقك أنا عايزك تسمعي منه مش أكتر
نفت برأسها برفض قاطع وزاحتهم بعند وإن كادت تخطوا نحو باب الشقة هتف هو بصوته الرخيم الهادء وببسمة متألمة لأبعد حد وهو يعترض طريقها:
يااااااااااه للدرجة دي كرهتيني ومش قادرة حتى تقعدي معايا في مكان واحد.

رمقته هي ببرود وقالت بنبرة متشفية: فعلًا بالظبط كدة بحيك على ذكاءك ياريت بقى تبعد عني وتسبني أمشي
هز رأسه بملامح مكفهرة من شدة حزنها جعلت قلبها يطعن بها يحثها على الرأفة به ولكنها عاندت و بادلت نظراته التي تفيض بالندم بكل ثبات دون أن ترتمش لها عين، ليتمتم هو بإنهزام وبنبرة متألمة جعلتها تشعر بغصة مريرة بحلقها وهي تستمع له:.

أنا أسف ولو قعدت أعتذر عمري كله مش هوفيكِ حقك، و أوعدك إني مش هفرض نفسي عليكِ تاني، ليرفع ناعستيه الحزينة لها وينظر لها نظرة عميقة مطولة تحمل بطياتها الكثير وكأنه يريد أن ينقش ملامحها تلك على جدار قلبه ويغادر دون أن يتفوه بأي شيء أخر مما جعلها ترتمي على أقرب مقعد وتنظر لأثره بضياع تام وبقلب مازال مدمي يقطر دمً بسبب عشقه لتقترب منها ماهيتاب وتقول بآسى:
ليه قسيتي عليه يا لين.

ليتدخل عز : كنت أسمعيه يمكن اللي كان هيقولهولك هيريح قلبك ويخليكِ تغيري نظرتك ليه
نفت برأسها بعدم فهم وصرخت بهم بِعصبية: أنتو عايزين تجننوني مش كدة، لتوجه حديثها ل عز وتنهره: ازاي أنت بتدافع عنه دلوقتي، وعايزني أسمعه
أجابها بثقة: لو كنتِ أدتيله فرصة يتكلم كنتِ هتفهمي كل حاجة وتعرفي بدافع عنه ليه
ليييييييييه، قولي أنت ليييييييه قبل ما اتجنن.

صرخت بها بعصبية مفرطة مما جعلهم يحاولوا تهدئتها ويجلسوها ويقصوا عليها كل شيء فهم مضطرين على أي حال طالما هي لم تمنح له فرصة بالحديث معها والتوضيح لها، كانت تستمع لهم بشدوه تام وكأنها صعقت لتوها ومع كل كلمة يتفوهون بها تسقط دمعة حارقة من عيناها و تشعر أنها على حافة الجنون وتظل تتسأل بذهنها هل فعل كل هذا حقًا من أجلها، أاهذا الحد كان قريب منها، هزت رأسها بهستيرية ونهضت ودون أن تنبت ببنت شفة كانت تركض مغادرة لا تعلم إلى أين ولكنها تعلم أنها يتوجب عليها إعادة ترتيب أفكارها واتخاذ القرار الصائب بشأنه.

بعد ساعتين كانت تجلس على أحد المقاعد الخشبية القابعة على ضفاف النيل بعيون غائمة وملامح باهتة تسترجع كل شيء وكأنه شريط يمر أمام عيناها، أنتشلها من دوامة ذكرياتها صوت رنين هاتفها لتتناوله وترد دون أهتمام ليأتيها صوت غليظ قوي من الطرف الآخر قائلًا:
صاحب التليفون دة عمل حادثة ورقمك أخر رقم حاول يكلمه هو موجود في مستشفى (، ).

أتسعت عيناها وتسارعت خفقاتها وشحب وجهها شحوب الموتى عندما نظرت لشاشة هاتفها وتيقنت أنه نفس الرقم الذي هاتفها منه، لتختنق أنفاسها وتهمس بنبرة ضعيفة متألمة لأبعد حد وهي تشعر بوخز قوي ينخر قلبها:
يوسف...
قد انكشفت جميع الحقائق الكامنة ولم يعد يتبقى شيء طي الكتمان، ولكن دعونا نتسأل هل حقًا الوصول لعنان السماء متوقف فقط على نشوة الحب والسعادة آم هناك سبل آخرى يباغتنا القدر بها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة