قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي عشر

رواية الحرب لأجلك سلام الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي عشر

لا تأخذ جرعة كبيرة من الثقة في أحد، أترك مكانًا للخيبة ومكانًا لاستيعابها أيضًا، لا فائدة من نضجٍ شوهته التجارب المزيفة..؟!

-خير يا مجدي! مالها رهف؟!
ذلك السؤال الذي أردفه هشام باهتمام مجرد ملاحظته لتغير ملامح وجه مجدي، قفل الاخير هاتفه والقاه بعشوائيه وهو يزفر بضيق ويجيبه
-أبويا طلق عايده!
صوب سهم الصدمة إلي ملامح هشام محاولًا استيعاب ما قاله مجدي حتى ختم صدمته بضحكة ساخرة وهو يضرب كف على الأخر
-أدي أخرة الجواز على اللي عايزين يتجوزوا.

-هي رجالة العيلة دي مش مكتوبلهم جوازه تتم؟! أنا بدأت اتشائم يا ابن عمي! العيب في مين!
لم يكف هشام عن ضحكته الساخرة حتى اقترب من مكتبه على مقعده وهو يقول
-مش فاهم حقيقي في أيه؟! رهف ما قالتش أسباب؟
اندفع مجدي نحوه ليجلس على المقعد المجاور لمكتبه
-أنا مابقتش فاهم حاجة خالص، وبعدين هي عايدة اطلقت مالها بينا بقا؟! هاا قول لي مالها..
فكر هشام لبرهة ثم قال بحسم
-سيبك أنت كتب الكتاب في معاده!

رمقته سهام الشك المنطلقة من مجدي محاولًا ايجاد مبرر لقرار هشام وسأله
-أنت سخن؟! طب وعايدة اللي مولعة حريقه دي؟!
تبسمت معالم وجه هشام بمكر وقال مؤيدًا
-مشيها كتب كتاب الخميس والفرح لما الدنيا تروق كدا؟!
طالع مجدي ملامح وجه هشام بشكٍ
-مش مرتاح لك معرفش ليه؟! هي الموافقة دي لله وللوطن كدا!
اتكئ هشام على مقعده بفظاظة
-لا طبعًا، من أمتى هشام السيوفي بيقدم حاجة ببلاش كدا..
اكد عليه مجدي.

-هشام كلام رجالة؟! الخميس كتب الكتاب!
امتعضت ملامحه فجاة
-انت فاكرني هلعب معاك يالا، فوق كدا واعرف أنت بتتكلم مع مين..
أخفضت شكوك مجدي أجنحتها في سبيل مطلبها وذاع مستسلمًا
-بس بس كتب الكتاب الخميس، أحنا اسفين، المهم اي الحال.
انعقد جبين هشام بفتور
-مستغرب الهدوء اللي هما فيه، مفيش حاجة مخوفاني غير هدوئهم دا!
-يعني ما وصلتش لحاجة ولا البنت دي ظهرت تاني.

سحب هشام سيجارة جديدة من درج مكتبه وألقاها في فمه متحدثًا
-رجالتي في كل مكان وأهو مسيرهم يقعوا، دانا عاملهم خطه متخرش الميه.
سبَ مجدي تارة في سره وطور فالعلن
-تنظيم ولاد ال***، بس هيجوا وساعتها مش هنرحم كلب فيهم.
اشعل هشام سيجارته واخذ منها نفسًا طويلًا
-اخبار البيت أيه؟
-العمال شغالين وكلها اسبوع وترجعوا..
ثم لملم أشياءه متأهبًا للذهاب
-انا هرجع القاهرة اشوف الدنيا، وعلى تليفونات بقا..

-تمام وانا بكره او بعد بالكتير هحصل لك، بس حاول هدي الدنيا كدا وجري الأمور.
توقف مجدي لبرهه وسأله بتخابث
-هشام أنت مش كنت بطلت السجاير؟!
-اللي بطلت عشانها مش موجودة، لما ابقي ترجع بقا نشوف الموضوع دا..
انفجر مجدي ضاحكًا ولم تخل كلماته من السخرية وهو يهتف
-انت بقيت تسمع كاظم الساهر من ورايا ولا ايه؟! لا شوف الواد قال هفكر معرفش ايه وتقلان وهو حالته زفت! الشوق زي الكيف بيذل أوي.

شد هشام أجزاء سلاحه مهددًا
-كلمة كمان هتلاقي الرصاصه في لسانك اللي عايز قصه دا..
-لا وعلي ايه الطيب احسن...
كانت جملة مجدي الاخيرة بعجل وارتباك كي يهرب من تهديدات ابن عمه المتهور وهو يدندن في سره بفرحٍ
-يا ولاد بلدنا يوم الخميس هكتب كتابي وابقى عريس..
بمجرد قفل الباب خلفه ترك هشام سلاحه قائلًا بضيق
-عيل رزل...
ثم نهض وتناول سلاحه ووضعه خلف ظهره وتحمحم بحماس واردف متوعدًا وهو يغادر مكتبه.

-استعنا على الشقى والشر بالله.
انتهي اليوم وحل يوم أخر لم يعد به تفاصيل تذكر حتى أوشكت الشمس على المغيب، ما زال هشام مختفي من مكتبه منذ ليلة أمس، أما الحال عند عايده فكانت على أبواب الانهيار من كثرة ما تناولته من مهدئات حتى غلبها النوم وغاصت في سبات عميق في العاشرة صباحًا..

أسبلت رهف عيونها بتثاقل وهي تنهض لترفع رأسها بألم شديد لتجد نفسها قضت نومتها فوق ساق مجدي الذي انغمس هو الأخر في النوم، شهقت مفزوعة لتصرعه
-انت بتعمل ايه هنا؟! وازاي تسيبني أنام كدا، ياامجدددي!

فرك عيونه بكلل شديد وهو يسب في نفسه
-مجدي واللي يعرفوا مجدي ياشيخه! افندم
اعتدلت رهف في نومتها ونهرته معاتبة
-انت بتعمل ايه هنا؟! وازاي تسيبني نايمه كدا؟!
-ورحمة أمي الغالية انا ما فاكر اي حاجة غير أمك اللي صرعتني من فجر ربنا لعشرة الصبح دي؟! دانتو عيلة وش؟!

تقلصت ملامح وجه رهف بامتعاض
-وايه كمان؟! انا ممكن اعفيك من الوش دا؟!
-لا وحياتك ما صدقت الراس الكبيرة وافقت، رهف قوليلي!
-اقولك ايه؟!
-يعني ابويا طلق امك؟! انا مالي؟! هاا؟! مجدي ماله يتعامل المعامله الزفت دي ليييييه؟! أمك كان فاضلها حباية كمان وتقتلني؟! دا جزاتي إني بهديها؟!

زفرت رهف باختناق
-ماهو بردو مكنش ينفع عمو منير يطلقها كدا؟!
تحمس مجدي إليها و
-ايوه هو دا، أعرف ليه اطلقوا..

تجول الغم بملامحها وقالت
-طنط سعاد قبل ما تمشي قالت لعمو منير أن ماما السبب ورا طلاق هشام وفجر.

ضاقت جفون مجدي بمكر وهو يصدر إيماءه طويلة
-اممممم طلاق هشام وفجر!
ثم أكملت رهف
-اااه اتكلمت مع هشام كدا في كلام سخيف وفجر سمعته وصممت على الطلاق.
دنى منها مجدي بتخابث وهمس في أذانها
-اقولك سر ومحدش يعرفه..
اتسع بؤبؤ عينيها بشغف
-أنت مخبي عني أسرار؟! نهارك مش فايت!
-منا هقولك أهو، بس قدمي رشوة وهقبلها..
-زي ايه؟
-بوسة مثلًا..
حدجته بصرامة
-مجدي! اتظبط؟!
-خلاص مش هقول..
تشبثت بذراعه زي الطفلة تترجاه.

-خلاص خلاص قول قول ولو يستاهل هديك اللي عايزه..
اتسعت ابتسامة مجدي متحمسًا واقترب من أذنها
-هشام رد فجر، أأششششش..
شهقت بصوت عال واكفهر وجهها
-يانهار اسمر، دي ماما لو سمعت ممكن تروح فيها..
-روفا حبيبي دا سر.
اشارت بكفها على ثغرها بعد ما أغلقت شفتيها بقوة لتطمئنه، ثم غمز لها قائلًا
-هااا فين حقي؟!
هربت من جواره راكضة وهي تضحك بشماته
-عليك واحد، تعييش وتاخد غيرها..
اقتطم مجدي شفته السفليه بغل ثم دندن.

-اااه يابت ال!
ثم جهر بصوت مرتفع
-طب اجهزي عشان كتب كتابنا بعد بكرة، وأيامك لوز معايا يا بت السيوفي...
توقفت في منتصف الساحة بذهول
-مجدي أنت بتتكلم جد؟!
أخذ مجدي عُلبة سجائره وهاتفه ومفاتيحه وضحك متأهبًا للذهاب وهو يقول
-كدا واحد واحد؟!
كيف للمرء أن يتعايش مع واقع فُرض عليه ويترك ذلك الذي أحبه بصدق؟! كيف يعتاد المرء التخلي والاستغناء عن جميع الأماكن التي أطمئن فيها؟!

كيف يخدع قلبه ليتأقلم على أشياءٍ لم يدق بها ويجبره قسرًا على ترك سراح طيره حاملًا قلبه بدون رجعه؟!
ما أصعب أن يوضع الإنسان بين اختيارات قلبه وفرض الواقع! الأمر أشبه بشخص فُقد بالصحراء و في حاجة شديدة لكوب ماء وأنت ابدلت مطلبه ب وجبة دسمة؟!
نحن لست بحاجة لمغريات وأصناف عدة نحن نرتوي بكوب الماء الصغير ذلك الذي بخلت علينا الحياة به، هكذا هي قلوبنا فالموجع أن رغم بساطة امانينا إلا أننا لا ننالها...

تحدث ضجيجًا بالمطبخ لا يقل إنش عن ضجيج قلبها الصاخب بالحب والانتقام، الفراق والاشتهاء، الشوق والكبرياء، كم كان مذاق الذكريات لذيذا، تمنت ولو أن يُعيدها الواقع..

دخلت ندي عليها هي تلومها
-ايه يا أمي الكركبة دي؟! أحنا مش أكلنا؟!
وضعت فجر الغطاء فوق الإناء وقالت
-ااه بس دا مش لينا؟!
-أومال؟! وبعدين أنت عامله كبدة ومفكرة إني هسيبها؟!
-هوديها لخالد..
شهقت ندى بذهول
-فجر أنت واعية بتقولي إيه!
بتحدٍ تواجه به حنينها للذكريات
-اه يا ندى..
وقفت ندى بالقرب منه بعد ما حملت في عيونها.

-فجر متنسيش خالد متجوز وعنده حياته، ومش عشان هو السلاح اللي هتوجعي بيه هشام يبقى تعشميه وتبوظي حياته.
-فاهمه يا ندى متقلقيش..
-لا يا فجر أنا ما بقتش فهماكي؟!
زفرت فجر بضيق وأخذت تجوب أمامها بعشوائية وبدون مقصد إلي أن استسلمت للوجع وهي تضع يدها على قلبها وتنفجر باكية، كان بكائها غزير للحد الذي تظن أنها أرادت أن تخرجه بدموعها، احتوت ندى كتفيها
-يابنتي اهدي بس، حصل ايه بس؟!

ظلت لعدة دقائق تزف دموعها بصمت حتى تخلصت من وجعها للحد الذي يجعلها تكمل يومها وجفتت دموعها وسألتها
-الساعه كام؟!
تفاقمت الحيرة في رأس ندي وقالت
-معرفش تجي لها ٥ ولا حاجة..
-تمام يبقى قرب يجي، أنا هقوم اجهز بقا.

انطلقت فجر دون أن تترجم تصرفاتها الغامضة وظلت ندي تراقبها في صمت منتظرة ما ستفعله تلك التي قُتلت بخنجر الحنين والكبرياء، تكونت في نفسها قناعة مفادها أنَّ كُل الذين نحبهم عرضَة لأن يتحوَّلوا إلى رصاصة بين ليلةٍ وضحاها، رصاصة تقتل كل الحب والمشاعر الجميلة التي كانت لهم..

أقامت فجر لقرابة الساعة أمام النافذه منتظرة مرور صف الضباط الذي اعتادت عليه القرية كل يوم وهي تفتعل الف سيناريو للقاء بينهم، حاولت اقتناع قلبها بأن يعود مُحبًا كما كان ولكنه ما زال مشحونًا، فتعمدت خلق روح أخرى بينهم وهي روح المشاجرات الدائمة..

اسودت السماء واختفت المارة من أرجاء القرية ولمعت مصابيح سيارات الشرطة من بعيد، فزعت فجر بلهفة وهي تتأهب للخروج حيث تناولت الحقيبة التي بها الطعام متجاهلة نداء ندى وخرجت في اتجاه خط سير القوة المعاكس لهم..

بعد العديد من الخطاوي فوجئت بعسكري يقف أمامها ويمنعها من السير
-علي بيتك يا ست.
نهرته معارضة
-أوعي كدا، أنت مالك بيا!
تدخل العسكري الأخر
-الظباط ورانا ياختي متجيبلناش الحديت عاد.
بمجرد ما انتهى الاخير من جملته لاحظت انسحابهم بطاعة ما من أمامها وما أن دارت خلفها فشهقت مفزوعة
-هشام!
-التعليمات مش بتتنفذ ليه!
كانت جملته ثابتة متزنة وبطريقة رسمية مروعة، تحمحمت فجر وبدا الارتباك عليها ولكنها عاندت.

-معلش عندي مواعيد أهم من تعليماتكم الفاضيه دي!
مد أنظاره لبعيد فلحظ اقتراب الضباط والمأمور منهم ولكن هذا لم يحرك به ساكن و سألها
-واي هي الحاجات اللي اهم من التعليمات اللي بتحفظ سلامتك؟!
-ما يخصكش.
-ولما واحد من زمايلي يجرجرك علي القسم دلوقت هتقوليله ايه.
زفرت باختناق في وجهه ودارت متأهبه للذهاب
-هابقى اقوله اني وعدت جناب العمده بعشا من ايدي هروح اديهوله وهرجع تاني انفذ تعليماتكم.

قبض على معصمها بغل أوشك أن يطيح بها واوقفها أمامه
-خدي هنا! انت اتجننتي ولا واعيه بتقولي ايه!
تلوت من الوجع إثر قبضته الجامده علي يدها وقالت متوسلة
-ايدي ياهشام ما ينفعش كدا.
لاحظ اقتراب القوات منهم، فشد الحقيبة من يدها ونادى على العسكري وامره
-الشنطه دي توديها على مكتبي..
وما زالت قبضته مغلقه على معصمها بقوة حيث سحبها عنوة نحو منزلها الي أن صرخت من شدة وجعها لتوقفه.

-سيب دراعي ياهشام، انت مش هتبطل الهمجية بتاعتك دي!
ركل الباب بقدمه ودفعها بقوة وهو يلومها
-لما تبطلي تصرفات العيال دي يا هانم.
وقفت أمامه متحدية وصرخت بوجهه
-وانت مالك بياا هاا مالك، مراقبني ليه؟! ليه الانانية دي وانت مالك بيا يااخي؟! فوق بقا احنا خلاص خلصنا.
تقبل جمر كلماتها ببروده المعتاد
-أنت مش لسه في فترة العدة؟! تبقي تهميني، لما تبقي تخلص ابقي دوري ع حل شعرك براحتك؟

للحظة صُعقت من وقاحته فأصابها الذهول ولكن لم يستمر الحال طويلًا حيث انفجرت بوجهه
-انت مدرك بتقول ايه؟! انت لسه عايش على وهم إني ممكن ارجع لك؟! فاكر انك لما تظهر قدامي كل شويه كدا هحن وهرجع وخلاص نسيت انت هببت ايه؟! للاسف مش بالسهولة دي لا دا مستحيل اصلا!

هبطت ندى من أعلى إثر صوت صراخها الذي حجزته بقفل الباب الرئيسي للبيت وقالت
-فجر وطي صوتك، ماينفعش كدا، وانت يا هشام بيه اتفضل اتكلموا بالعقل..
تدخلت فجر رافضه
-مفيش عقل مع واحد محترمش الست اللي معاه، ومن فضلك ياهشام متطهرش تاني عشان حقيقي كدا انت بتزود المسافات ما بينا.

احتدت نبرته قليلًا
-المسافات دي انت اللي بتعمليها! مكونه آراءك من كلمة من هنا وكلمة من هنا! حاولتي نتكلم ونهدا ونعرف احنا عايزين ايه؟! انت قررتي ومشيتي ومش عايزه تسمعي.

ندي بنصح
-معلش يا فجر، اسمعي كلامه يمكن توصلوا لحل!

أطلقت فجر جشأة حزنها في وتيرة من الزفير وقالت بتحد
-تمام! عايزنا نرجع يا هشام؟! انا موافقه في حالة واحده وبس.
رفع حاجبه منتظرًا شرطها بهيبته وفظاظته، فمثله لم تخلق من قبل من تتلو عليه سلسلة شروطها ولكنه استمع لها متأملًا في العودة، اقتربت منه خطوة إضافية وقالت بجبروت.

-لازم تحس باللي انا حسيت بيه وبسببه نمت شهور بين الحياة والموت، هرجع لما تحس إنك قتلتني بطريقه أصعب ألف مرة من العربية اللي خبطتني..

ضرب كف على الاخر
-يابنتي انت بتدوري على النكد؟! بتدوري على العكننة، مسألتيش نفسك انا هنا ليه؟!
-انت هنا بعد اسبوع سبتني فيه للوجع والقهر والحزن والخوف، اسبوع نايمة بعيط من كتر ماانت واحشني وانا مش هعرف اشوفك تاني، انا عشت معاك في نار كافية اوي انها تخليني أكمل من غيرك، انت قويتني يا هشام ولحظك اول حد استخدمت قوتي عليه كان أنت.

خربشت بحزنها على جدار الشفقة بقلبه فاقترب منها وربتها على كتفيها بحنان بالغ وقال
-يافجر اهدي لو في حاجة نحلها بالعقل، بلاش جنانك دا..
-عايز عقل يا هشام؟! انا هقولك العقل بيقول أيه!
ثم ابتعدت عنه وكانت تحس بقلبها ينبض حتى حنجرتها وأكملت بصلابة ‏ليست إلّا انتقامًا من أجل أيامٍ مضت لم يَنفعُها اللّين.

-هرجع لما أعمل نفس اللي عملته مع ميان بالظبط، ساعتها هنرجع ونبدأ صفحة جديدة؟ هو دا شرطي الوحيد عشان ارجعلك.

تلك كانت آخر جُملة اردفتها فجر قبل ما تنالها يد هشام بصفعة قويه ألقتها أرضًا بعد ما أيقظت رجولته بمطلبها الأخير وجعلته ينحرف عن زمام السيطرة وهو يهذي
-دا عشان يفوقك من العك اللي معيشة فيه نفسك، ومن غير يمين يافجر لو شميت خبر أنك لمحتي الزفت دا هدفنك مكانك.
ثم رمق ندى بنظرة اخيرة قبل أن يغادر
-عقلي صحبتك!

(‏إن أسوأ إحساس ممكن أن توصله لإنسان قريب منك هو أن تستهين بزعله, أن تكرر نفس الأخطاء والتصرفات التي تجرحه، لايوجد أسوأ من أن يشعر أحدهم باختلال تقديره عندك, بعد ما كان يظن نفسه في منزلة عالية نحن لا نخسر علاقاتنا عادة بمشاكل كبيرة حاسمة بل بتراكم خيبات.!)
بعد حديث دام طويلًا بين رهف وبسمة التى سردت فيه الأولى جميع الأحداث التي مرت عليهم منذ رحيلها، أغلقت بسمة الهاتف وسؤال واحد يشغلها وهو.

-أزاي فجر مش قادرة تغفر لهشام غلطة واحدة زي دي وانا غفرت لزياد كل اللي فات، ياترى ميين فيا صح؟! ومين غلط!

اخذت تقلب في التلفاز بلا اهتمام تارة واخرى في هاتفها، كفكفت بيدها دموعها السائله حتى تناولت هاتفها وقررت أن تفصح عما يزعجها ربما تتخلص منه أو تجد حلًا.

فتحت صفحة بيضاء وتوقفت قليلا لا تعرف من أين ستبدأ، حتى شرعت في إلقاء حروف مبعثره كحالاتها؟!
-( صك الغفران لمن يُمنح ومن يمنحه )
بعد تفكير طويل وحيرة وصلت أن قلوبنا عامله بالظبط زي البنوك، وكل شخص بنقابله بيكون له رصيد معين جوانا..
في عميل مميز للبنك اللي هو مستحيل يستغنى عنه، بيحطله رصيد استثماري ضخم مهما خسر مستحيل يحاسبه لانه مميز، بدون أي جهد أو سعي من الطرف الاخر، مش هيقف له على الواحدة...

وعلي العكس، في عميل فقير ورصيده صغير كدا والبنك بيقبله بصعوبه لانه مش موافق عليه من الأول بس أهو اتفرض وجوده ومفيش مفر، اللي بيحصل كالآتي البنك بيفضل مركز معاه على كل غلطه واقل غلطه عشان يسقط من حساباته، ويقوله باي باي..
منكرش أن في ناس شاطره وبتتشعبط في الفرص كدا لحد ما يوصلوا لرصيد الأمان بالنسبة لهم..

ودا اللي حصل بين فجر وهشام، عمر فجر ما كانت حلمه ولا هو كان حلمها، دول اتنين خبطهم الواقع ببعض لحد ما اتجمعوا، كل واحد فيهم محوشش الرصيد الكفاية اللي يشفع للتاني بدون تفكير، الاتنين اتعودوا انهم يدوا وبس، وأول ما طرف غلط بس التاني جري وهرب لانه اتفاجئ بالوجه الاخر اللي هو مش متعود عليه..

أما أنا وزياد أحنا حبنا غير مبرر بالمرة، كل واحد بيعك ويضرب في التاني واحنا معتادين ده مش حاجة جديده، انا حبيت زياد وهو بتاع بنات وطايش وغير مسئول فتصرفاته دي كانت العادي بتاعه متخضتش، بالاضافه أن قلبي مش حابب ولا شايف غيره مهما يعمل رصيده عندي كبير معاه كريدت كارت من قلبي مستحيل تكون مع غيره..

واعترف كمان أن احنا كبنات مختلفين، كلنا عندنا القدرة على الغفران بدرجات متفاوته، في واحده تقبل تتخان وتسكت المهم النهايه ايه، وفي واحده مش بتستحمل نظرة وممكن تسيب من الغيرة، كل واحد بيواجه الدنيا بقلبه، التجارب مابتتورثش، مفيش حد من حقه يعاقب حد ويقول له انت ليه غفرت وليه سمحت، زي ما في ست قوية بنفسها في ست قويه بالحب، وفي الاخر هي أرصدة فالقلوب محدش يقدر يلوم حد عليها...

قفلت بسمه هاتفها سريعًا إثر سماعها صوت دخول زياد الذي فوجئ بوجهها الباهت وسائلها
-مالك؟! ماانت كنتي كويسه؟!
جففت دموعها سريعًا
-ابدا، المهم لقيت شقه؟!
-بسمة أنت متأكده انك هتقدري تقعدي السنتين معايا هنا؟
رمقته بحزن
-لو حابب انزل انا معنديش مانع..
-اطلاقًا يا حبيبتي، بس مستقبلك ومش عايز اعطلك..
-متقلقش، كله له حل..
اقترب منها اكثر ومسح على شعرها بحنو
-معيطه؟!
رفعت عيونها الهازلة
-يعني شوية...

ارسل لها ابتسامه خفيفة ومازحها
-عشان اتاخرت عليكي يعني، دانا حتى دوخت على الحرنكش عشان اجيبهولك معايا.
رغم عنها تناست حزنها وداعب الحب شفتها بابتسامة ساحرة، حيث ضربته برفق
-ييييي يادي حوار الحرنكش بتاعك! مين فهمك إني بحبه!
غمز لها بطرف عينه
-بس انا بحبه..
تأهب أن ينهض كي ينزع ملابسه ولكنها تشبثت في يده وطالعته بعوينات التوسل
-أنت مش هتوجعني تاني صح؟!
فهم زياد ما يعكر ملامحها فتلقى الموضوع بصدر رحب.

-اممم انا سبتك لوحدك مع شطانك فاستفرد بيكي ولعب في دماغك، مش كدا؟!
-زياد ما بهزرش..
جلس بجوارها مرة أخرى واحتوى كفها ليبث الأمان بجوفها وقال.

-هكلمك بصراحة ومن غير زعل، انت عارفه العيل الصغير اللي معاه لعب كتير كتير بس هو مش بيفضل غير لعبة واحده وبس، فعمل ايه بقا، احتفظ بدي بعيد عنهم وفضل يلعب بدول لحد ما زهق منهم خالص ورجع لعبته المفضله اللي مش بيتبسط غير بوجودها، كنت مغفل، بس أهو بصلح غلطي، كلنا بنغلط، خايفه ليه بقا.

بسمة بارتباك
-عارف انت الشخص اللي بيقعد ع السفر وقدامه اصناف كتير ومفيش غير طبق واحد من الكفته اللي اكتر حاجة بيحبها، قام خبي الطبق تحت السفر عشان محدش يشوفه وياخده منه وشغل نفسه بالاصناف الكتير دي واستمتع، وبعدين جيه يرجع لطبق الكفته لقى نفسه شبع مش قادر ياكل منه، حتى وهو بياكل مجبر مش حاسس بطعمها بس اهو بياكلها وخلاص استخسار، خايفه اكون الحاجة اللي دبست نفسك فيها يا زياد.

فكر في كلامها لبرهة حيث تمالك لجام الأمر بقبلة طويلة دفنها في منتصف عنقها أصابت جسدها بأكمله بسُكر مرغوب فاطلقت تنهيدة قوية اعتدلت بها مزاجها في لحظة ما كالطقس الذي لا يهدأ الا برياح قوي يزيح ضباب الهم.

ابتعد عنها متعمدا وقال
-اطمني يا بسمة اللي قاعد معاكي دلوقت مش زياد الولد الطايش بتاع زمان، اتغيرت والله اتغيرت عارفة أمتي؟! لما شوفت هشام وهو جمب فجر وهي بين الحيا والموت ومحدش عارف يعملها حاجة، لمجرد التخيل بس قلبي اتخلع من مكانه، فمظنش إن بقا فيا حيل لأي جري تاني، اطمني بقا.

اختتم جملته بنبرة خافتة من المزاح كي يحصل على ابتسامة الرضاء منها ولكنه فاجأته بعناق قوي زلزل حصونه التي تعمد أن يُبنيها بينهما، وهمست له بدفء
-بحبك على فكرة..
-منا عارف، وبعدين ما كل البنات بتحبني!
ضربته بغل على ظهره فجعلته يتأوه قائلا
-المهم أنا بحبك مين، ما تصبري ع رزقك بقا..
وما أن انتهى من قول جملته رن هاتفه باستلام رسالة فرقت جمعهم، حيث تناولت يده الهاتف بفضول وهو يقول.

-دي رساله صوتيه من رقم غريب..
وما أن فتحها وجدها صوت انثوي يحذره به
-يا زياد لازم تفهم أنك في فخ، خلي بالك وارجع مصر في أقرب وقت...

إِنِّي إِقترفتُ العِشقَ بعد تمنُّعٍ
‏وسَكِرتُ فِيكِ كناسِكٍ مُتصوِّفِ.

حل منتصف الليل وما زالت فجر تحت تأثير صدمتها التي تؤكد أن المرء في الحياة لا يعيش إلا في خياله فقط، ونتعجب لمَ مات فلان! انه مات من تراكم الأيام التي ابتلعها في جوفه، ظلت ندى تحادثها طويلًا تتوسل لها أن تنطق ولكنها ما زالت في الشرفة صامته صامدة حتى البكاء تدلل عليها وأبي السقوط..

ولم يختلف الحال، كاد عقله أن يجن عن فعلته الحمقاء؟! كيف تطاولت يده أن تصفعها بتلك القوة؟! كيف؟! كيف خرجت عن طوعه ليُؤلمها، فكانت الضربة صفعة على وجهها ورصاصة في قلبه؟! أيطعن المرء نفسه ويتساءل كيف فعلت؟! يجوب في البلدة بعشوائيه وبمرارة وتمني ولو كان باستطاعتِه أن أخبُّئها بين.

أضلعه، و أن لا يجرب مَرارة المسافة بينهم أبداً، تمنى ولو كان قبض ملك الموت روحه قبل أن يفعلها، ظل يجوب تائهًا الي أن اهتدى إليها..

صف سيارته تحت شرفتها فلاحظ شرودها في الشرفة وتغيبها عن الواقع، يبدو أن قلبها غضب منه للحد الذي لم يلحظ وجوده، ظل واقفا أمام سيارته يطالعه بأسف وخزي وما زالت شاردة في فعله الذي حطم أخر بذرة حب بينهم..

دخلت ندى آنذاك فلاحظت وجود هشام ورأسه المرفوعة إليها ولكنها تجاهلت وجلست مقابل لفجر وربتت على ظهرها
-طيب صرخي قولي أي حاجة، متفضليش ساكته كدا.
ألقت نظرة عليها ثم شردت مرة أخرى بعيدًا، فاتبعت ندى معاتبة
-مكنش ينفع تقولي كدا، هشام مهما حبك فهو راجل بردو، اعذريه فاللي عمله..

فرت دمع من طرف عينها اليسرى وانتفضت شفاهها لتنطق أخيرًا
-دا مد أيده عليا، ده عمره ما عملها، طول عمره كان يقول مش بمد ايدي على ستات، اشمعنا دلوقت، اشمعنا عمل كدا وهو عارف إني عمري ما هعمل كدا اصلا..

جففت ندى دموعها بحنو وأتبعت
-اللي عمله هشام تراكمات مش عشان كلمتك اللي فجرته مرة واحده، مفيش حاجة تطلع راجل عن شعوره غير لما يشوف الست اللي بيحبها مهتمه بغيره..

ثم ابتلعت ندى ريقها وأكملت
-انت ازاي جالك قلب تقولي جملة زي دي؟!
-زي ما هو جاله قلب وعمل فيا كدا؟!
-طيب اهدي اهدي ومش هنتكلم تعالى نامي وادخلي من الجو دا هتتعبي..

وقفت فجر مُلبية طلب ندى ولكنها فوجئت به أمامها بوقفته الشامخة وعيون اللامعة بضي الاعتذار، ارسل لها نظرة حَنونة، تسبق كُل كلمات المواسَاة ولكنها لم تتقبل تلك المرة تحول حزنها من فراقه الي حزنها منه، لست حزينه لأنها نفضته من قلبها ولكن حزينة لأن قلبها بات فارغًا، رغم اعترافها بخطأها إلا أن عيونها ما زالت تحمل غضبًا يناقضه قلبها بالغفران..

تجاهلت وجوده تمامًا حتى تعمدت ألا تطالعه طويلًا وقفت باب شرفتها بشموخ وتركته وجبة دسمة لعذاب القلب..
مشهد سينمائي لخصته أم كلثوم في جمُلة
( أوريه الملام بالعين، وقلبي على الرضا ناوي ).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة