قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل الرابع والعشرون

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم كاملة

رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل الرابع والعشرون

( الجزء الرابع من ذئاب لا تعرف الحب )

استلقى أمام شاشة التلفاز متابعًا بشرود ما يعرض عليها، لم يكن به أي رغبة للخروج أو التنزه أو حتى قضاء سهرته المسائية بالخارج، وكأنه قد ضجر فجأة من حياته الفارغة، أشعل "يامن" سيجارة أخرى نافخًا دخانها في الهواء، أدار رأسه للجانب حينما سمع قرع الجرس، نهض بتثاقل من على الأريكة العريضة متجهًا بخطوات بطيئة إلى الباب، بدت ملامحه مدهوشة حينما رأى "رغد" تقف بالخارج، دفعته دون ترحيب منه لتلج للداخل وهي تلقي نظرة شاملة على أرجاء المكان، التفتت نحوه لتسأله بتهكمٍ ساخط:

-مش مخبي واحدة جوا؟
نظر لها شزرًا ثم اقترب منها لينحني نحو منفضة السجائر الموضوعة على الطاولة القصيرة ليطفئ بقايا خاصته، اعتدل في وقفته واضعًا كفيه في جيبي بنطاله ليرد ببرود:
-لأ بطلت
جلست على الأريكة واضعة ساقها فوق الأخرى، رمقته بنظرات مستخفة وهي تعلق ساخرة:
-مع إني مش مصدقاك
جلس في مواجهتها قائلاً بصوتٍ شبه متشنج:
-مش مهم تصدقي، مش هيفرق معايا رأيك
سألته بفضول وهي تطالعه بعينين دارستين لردود فعله:
-وده من إيه التغيير ده؟

أجابها ببساطة دون تفكيرٍ:
-قرفت من نفسي ومن كل حاجة
هزت "رغد" ساقها بحركة ثابتة مبدية استهتارها بتصريحه الأخير، ثم عقبت عليه بجدية:
-كل مرة بتعمل كده، وهما يومين بس، وبترجع أسوأ من الأول
لم يرغب "يامن" في الجدال معها أو مناقشة تصرفاته وتبريرها لها، انتصب في جلسته وتصلبت عروقه متسائلاً بخشونةٍ طفيفة:
-إنتي جاية ليه؟

داعبت وجنتها بسبابتها وهي تجيبه بابتسامة غير مريحة:
-عشان أشوفك، مش معقول نكون في بلد واحدة ومانشوفش بعض
بدا غير مقتنع بزيف اهتمامها فرد قائلاً:
-سيبك من جو الحنين الأسري ده وقوليلي إيه اللي في دماغك؟
أخفضت "رغد" ساقها لتجلس باسترخاء أكبر وهي تجيبه:
-ولا حاجة، أنا حابة أقضي السهرة معاك
استشعر بجدية أنها تخطط لأمر ما، فهدوء أعصابها المريب يوحي بشر مستطير على وشك الحدوث، انتزعته من تفكيره الشارد على سؤالها الجاد:
-مش ناوي تروح تشوف بابا؟

أجابها بعد زفير ثقيل:
-طلبت زيارته ورفض
علقت بتوبيخٍ:
-ماهو لو إنت تحت طوعه مكانش عاملك بالشكل ده
هاجت دمائه من طريقتها المستفزة لاستثارة أعصابه فرد بانفعالٍ ملحوظٍ وقد هب واقفًا على قدميه:
-هو لازم أعمل كوارث عشان أعجب؟
نهضت هي الأخرى لتبدو في مواجهته، ثم ردت عليه ببرود قاصدة استفزاز أعصابه والتلميح الصريح برعونته الطائشة:
-ما إنت طول عمرك في المصايب، إيه اللي جد عليك؟

صاح مدافعًا عن نفسه:
-اللي جد عليا إني عاوز أتغير وأكون أحسن، مش هاستنى لما أدخل السجن وأعفن جواه عشان أعرف إني غلطت
أطلقت ضحكة ساخرة مستهجنة زادت من اشتعاله، مالت نحوه لتهمس له وهي تحاول السيطرة على ضحكتها المستفزة:
-ولا خايف منه
تجمدت حدقتاه على وجهها متسائلاً:
-قصدك مين
أشارت بحاجبيها ليفهم المغزى من وراء حديثها المتواري والذي قصدت به شخصًا بعينه، لم يترك الفرصة لعقله ليخمن هويته بل حذرها بلهجة حادة:
-"رغد" نصيحتي ليكي بلاش تعادي "أوس الجندي".

ضربت أخته على كتفه بيدها قائلة باستخفافٍ:
-خلي المواعظ دي لنفسك، أنا عارفة كويس أوي بأعمل إيه
سارت خطوتين للأمام مبتعدة عنه ثم استدارت نحوه لتضيف عن ثقة:
-وقريب هاتشوفه مكسور
قبض "يامن" على ذراعها ليجذبها منه نحوه، نظر في عينيها بنظرات حادة وهو يسألها بخشونة:
-إنتي ناوية على إيه؟
نفضت أصابعه القابضة عليها بقوة لتتحرر منه، منحته نظرة مخيفة قبل أن ترد هامسة ببسمة شيطانية تدب الرعب في الأبدان:
-كل شر يا حبيبي!

ثم ضحكت عاليًا لتزيد من شعوره الحانق، تضاعفت شكوكه بكونها تحيك مؤامرة دنيئة ستلحق الأذى بابن عمه وربما عائلته، لوحت له "رغد" بأناملها مودعة إياه قبل أن تفتح الباب وتخرج من منزله، صفقه "يامن" خلفها بعصبيةٍ مغمغمًا من بين أسنانه:
-مش هترتاحي إلا لما تخربيها وتضيعي نفسك يا "رغد"!

لم يكن بحاجة لامتلاك ذكاءٍ خارق ليفطن إلى أن وراء تلك الفوضى التي عمت بمنزله وبعدها ورشته شخصية هامة قد دعس دون وعي منه على قدمها ليتلقى جزائه، جاب "منسي" بنظراته المتحسرة زوايا ورشته بعد أن فتشها أفراد الشرطة جيدًا، تنفس الصعداء لكونه قد تلقى ذلك التحذير الجاد من "شعبان" في الوقت المناسب ليتمكن من إخفاء ما قد يثير الشبهات حوله أو يضعه تحت طائلة القانون، فلو تركه هكذا لذهب في مهب الريح، ابتلع ريقه ووضع قناع البراءة ليقول بتشنج المظلوم:
-حرام يا جدعان اللي بيحصل، عشان إيه البهدلة دي؟ احنا غلابة وفي حالنا وبنقول يا حيطة دارينا!

حذره الضابط المُكلف بتلك المهمة هادرًا بتهديدٍ شديد اللهجة:
-اسكت وإلا هاحطك في البوكس
ضرب "منسي" كفًا بالآخر قائلاً بانكسار زائف:
-أديني هاحط الجزمة في بؤي وأسكت، بس مايرضيش ربنا خراب البيوت المستعجل ده
اقترب أحدهم من الضابط ليؤدي له التحية العسكرية قبل أن ينطق برسميةٍ:
-ملقناش حاجة يا باشا
مط الضابط فمه وهو يجوب بنظراته المتفحصة أرجاء المكان من جديد ليقول بعدها بنبرته الصارمة:
-تعالوا ورايا.

اقترب "منسي" من أحد المخبرين الذين تربطهم به صلة خفية، مسح وجهه المتعرق بعرقٍ بارد وهو يميل نحوه ليسأله بنبرة أقرب للهمس:
-أنا بس عاوز أعرف مين اللي عامل فيا المغرز ده
تلفت المخبر حوله ليتأكد من عدم متابعة الضابط له، ثم أجابه بحذرٍ:
-بيقولوا واحد تقيل أوي من عيلة "الجندي"، إنت تعرف حد من العيلة دي؟
ردد "منسي" مصدومًا وقد ضاقت عيناه:
-"الجندي"!

-شوف إنت زعلت مين ووصى عليك جامد
قالها المخبر بغموضٍ قبل أن يتركه وينصرف ليتبع باقي أفراد رجال الشرطة، تسمر "منسي" في مكانه محدقًا في الفراغ أمامه بنظرات قاتمة، على الفور لمع اسم "أوس الجندي" في ذاكرته لتظهر الأمور بوضوحٍ وتتكامل أطرافها في ذهنه، تمتم مع نفسه قائلاً بحنقٍ كبير:
-بقى الحكاية كده، هو مافيش غيره!

-"عبده"!
قالتها "بطة" بوجهٍ مصدوم ونظرات متفاجئة وقد أطل زوجها من خلف باب المنزل، ظهر الارتباك جليًا على تعبيراتها الباهتة، لم تتوقع مجيئه قبل عدة أيام بسبب انشغاله بنقل بعض المواد الغذائية المستوردة من أحد الموانئ المصرية وإيصالها لمستودعاتها، فماذا عن كذبة وجود أختها معها؟ ستنكشف بسهولةٍ وستوضع في موقف حرج مع والدتها التي لن تصمت عن ذلك الأمر مطلقًا، تخبطت أفكارها وتماوجت معًا، ألقى "عبد الحق" بحقيبته الصغيرة على الأرضية ليحتضنها باشتياقٍ وتلهف قائلاً لها:
-وحشتيني يا بت!

شعرت بضمته القوية على جسدها، ابتلعت ريقها في حلقها الجاف لتسأله بتوترٍ:
-إنت لحقت خلصت شغلك؟ مش كنت قايل هتقعد ...
قاطعها قائلاً بإرهاقٍ وهو يتراجع عنها لينظر إلى وجهها:
-البضاعة لسه ورقها مخلصش، قدامها كام يوم، إيه اللي هيخليني بايت هناك، قولت أرجعلك إنتي والواد
ادعت الابتسام قائلة:
-وماله ياخويا، نورت بيتك.

بذلت "بطة" الكثير من الجهد لتبدو طبيعية في تصرفاتها رغم الارتباك المتواتر الذي يزداد بداخلها، قفز قلبها بين قدميها حينما سألها بفتورٍ:
-أومال أمك وأخواتك عاملين إيه
أجابته باقتضابٍ وهي ترمش بعينيها:
-كويسين
تثاءب "عبد الحق" هاتفًا بإرهاقٍ:
-حضريلي لقمة أكلها لأحسن واقع من الجوع
أومأت برأسها قائلة:
-عينيا
تحركت صوب المطبخ الصغير لكنها توقفت عن السير واستدارت لتنظر بعينين مذهولتين في صدمة واضحة عندما أضاف زوجها بفتورٍ:
-بالحق، مش "منسي" كان فاتحني في موضوع الجواز من أختك "هالة"
شهقت مستنكرة:
-إيه؟ يتجوز مين؟!

تابع موضحًا وهو يثني ساقه ليستند بمرفقه على ركبته:
-كلمني من فترة في الحكاية دي، بس أنا انشغلت ونسيت أقولك
هدرت به "بطة" بعصبية وقد عاد إلى ذاكرتها ما فعله ذلك الخسيس النجس بأختها:
-نسيت؟ وبعدين مافيش إلا الواطي ده عشان أجوزه أختي؟!
نظر لها "عبد الحق" بتعجب وهو يسألها مستغربًا:
-ماله الراجل؟

احمر وجهها غضبًا من برود زوجها وتقبله لمسألة الزواج برحابة صدرٍ، صاحت مهاجمة إياه بشراسة:
-ده بلطجي وصايع ورد سجون، و"هالة" أختي أحسن منه مليون مرة، إزاي توافق على كلامه ده؟
رد مستنكرًا بفتورٍ بائن على قسماته:
-هو كفر لما طلب السفيرة "عزيزة"؟
أجابته بحنقٍ مغتاظٍ:
-ده سمعته الزفت معروفة بين الناس كلها، بقى عاوزنا نوافق على اللومنجي ده؟

حك "عبد الحق" رأسه الحليقة بمللٍ، ثم طالعها بنظرات غير مكترثة معلقًا عليها:
-أنا ماليش فيه، اصرفوا مع بعض، هو الراجل كلمني وأنا ماطلت معاه، إنتو أحرار!
كزت "بطة" على أسنانها هامسة بنبرة مغلولة:
-مش هايحصل، معدتش إلا الكلب الجبان ده، يا مين يناولني رقبته أدوسها تحت رجلي!
لم يلقِ لها زوجها بالاً واستلقى على الأريكة ليريح جسده المتعب من عناء السفر والمجهود المتواصل، بينما ظلت هي تغلي على موقدٍ مشتعل تفكر في طريقة للخلاص من ذلك الدنيء وحماية أختها من مكائده الخبيثة.

انحنت بحذرٍ نحو صنبور المغطس محاولة إغلاقه لكنه لم يطاوعها، نفخت "ليان" بضيق لعجزها عن التعامل معه، همست بسبة مزعوجة ثم سارت بتمهل على الأرضية المبللة مكملة تجفيف جسدها وشعرها، ارتدت روبها الحريري لتمشي بعدها في اتجاه باب الحمام، وقفت عند أعتابه صائحة بصوتٍ مرتفع:
-"عدي" بليز تعالى بسرعة!
هزت ساقها بعصبية طفيفة وهي مستندة بيدها الأخرى على حافة الباب منتظرة قدومه، أقبل عليها الأخير متسائلاً بحيرةٍ:
-في إيه يا "ليو"؟
أجابته بضيقٍ مستخدمة يدها في التوضيح:
-مش عارفة أقفل الحنفية، لازم تشوفلنا سباك، أنا زهقت بجد
رد مبتسمًا وهو يداعب وجنتها برفقٍ:
-طب ليه النرفزة دي على الصبح يا حبيبتي؟ الموضوع مش مستاهل كل ده.

كتفت "ليان" ساعديها أمام صدرها بعد أن تنحت للجانب لتفسح له المجال ليمر قائلة له بتبرمٍ:
-أوكي، أنا هادية، وريني شطارتك
رد بثقة تامة وبتباهٍ واضح:
-إنتي جيتي في جمل!
خطا "عدي" نحو الداخل دون أن يترك ملف الأوراق الذي بيده، أحنى جزعه للأمام ليتمكن من غلق الصنبور بحرصٍ كي لا يبتل، وقفت "ليان" خلفه تتابعه بنظرات جمعت بين الفضول والاستخفاف، لاحظت فشله في إحكام غلقه فسألته بتهكمٍ بائنٍ في نبرتها:
-ها عرفت تقفلها؟

التفت للجانب ليقول لها بامتعاضٍ:
-بأشوف أهوو
أخفت ضحكة عبثية تراقصت على شفتيها وهي تعلق ساخرة:
-ده الجمل اللي بتقول عليه؟
حذرها بعبوس:
-بلاش تريقة
ردت عليه بيأسٍ:
-قولتلك هي بايظة وعاوزة تتصلح، وإنت مكبر دماغك
اعتدل في وقفته لينظر لها بغيظٍ قبل أن يصيح متذمرًا:
-ماهو أنا مش هاسيب الشغل اللي ورايا عشان أصلح حنفيات؟

نفخت متسائلة بنفاذ صبر:
-يعني إيه الحل دلوقتي؟
انحنى مجددًا ليغلق الصنبور قائلاً بنرفزة ظاهرة عليه:
-أنا هاحاول أقفل ال...
بتر عبارته مجبرًا حينما انتزع الصنبور في يده بسبب إفراطه في استخدام قوته مما جعل الماء يندفع بغزارة مغرقًا المكان، صرخت "ليان" بفزعٍ وتراجعت للخلف صائحة فيه:
-إيه اللي عملته ده يا "عدي"؟

حاول إيقاف تدفق المياه قائلاً بتوترٍ:
-الحنفية طلعت في إيدي
أسرعت "ليان" بغلق المحبس الرئيسي لوقف اندفاع المياه، ثم سحبت منشفة جافة لتمسح به وجهها، رددت بغيظٍ:
-بهدلتني
نفض "عدي" المياه العالقة بذراعيه لينظر بعينين مصدومتين للملف الذي أُغرق بالكامل، ازدرد ريقه قائلاً بتوجسٍ قلق:
-ده مش هايجي حاجة جمب البهدلة اللي هاخدها من أخوكي، الورق باظ، طب أقوله إيه؟

هزت كتفيها في عدم اهتمامٍ قائلة له:
-ماليش دعوة، وابقى شوف سباك بيفهم!
رمقها بنظرة مغتاظة من برودها، تركته في مكانه وانصرفت من الحمام ليخفض عينيه متأملاً ثيابه المبتلة، ضغط على شفتيه مواسيًا نفسه برثاءٍ:
-بتخلعي منها، كده اليوم بان من أوله، استعد أنا بقى للبهدلة اللي هاخدها على دماغي!

قابله مصادفةً على المقهى ليسأله عن أخت زوجته فأخبره "عبد الحق" ببساطة أنه لم يرها منذ فترة وبالتالي لم يعرف ردها بعد عن رأيها في الزواج منه، كانت محاولة ساذجة منه للتملص من مشاركته في ذلك الأمر، لم يرَ شرارات الغضب التي أطلت من حدقتي "منسي" فقد استشاط الأخير حنقًا وغلت الدماء في عروقه لسبب آخر، شعر في قرارة نفسه أنه بات أضحوكة لفتاة صغيرة تتلاعب به كيفما تشاء، لم يُرهبها محاولته الاعتداء عليها، بل إنها أقدمت على قتله بكل قسوة ولجأت إلى من يدمره، وها هو الآن ينكوي بنيران حقده، توعدها في نفسه ألا يمرر الأمر على خير...،

سيقلب الطاولة على رأسها وستكون له رغمًا عن إرادتها مهما فعلت، اتجه إلى منزل والدتها مُصرًا على معرفة الرأي النهائي لابنتها في عرضه بالزواج، بدت "أم بطة" جاهلة بالمستجدات من الأمور فتحرجت منه، وقد ظهر ذلك بوضوح على ردودها، لذا فكر ببراعة في استغلال الموقف ومعرفة مكان "هالة" من خلال استدراج أختها اللئيمة التي حتمًا لها ضلع في إخفائها عن عينيه، ألح عليها لتسمح له –وهي بصحبته- بالذهاب إلى منزل "عبد الحق" والحديث مع العروس الصغير، لم تجد "أم بطة" بدًا من الرفض فامتثلت لطلبه واتجهت معه إلى ابنتها الكبرى.

مزيج من القلق والكراهية انعكس على لمحات وجهها وهي تفتح الباب لتجد والدتها ومن خلفها "منسي" يطالعها بنظرات غامضة تطوي شرًا دفينًا، عادت "بطة" لتحملق في وجه أمها قائلة ببسمة مهزوزة:
-إزيك يامه، مش تقولي إنك جاية
ردت عليها بامتعاضٍ ساخط:
-حبيت أعملهالك مفاجأة يا حيلة أمك
حاولت ابنتها أن تبدو أكثر استرخاءً وهدوءًا وهي ترد:
-ده البيت بيتك يامه تشرفي في أي وقت.

ثم ألقت نظرة مستهجنة على "منسي" المرابط في الخلف متسائلة:
-بس إيه اللي جاب ده معاكي؟
أجابتها أمها بجمود وهي تطالعها بنظراتٍ غامضة لم تشعرها بالارتياح:
-سي "منسي" مش غريب، وأنا قاصدة أجيبه معايا النهاردة
تنحنح الأخير قائلاً بصوته الأجش:
-سلامو عليكم
تجاهلت "بطة" عن عمد رد التحية لتهمهم قائلة:
-استغفر الله العظيم
لكزتها والدتها في كتفها وهي تسألها بحدةٍ:
-أومال فين جوزك؟

أجابتها مشيرة بيدها نحو باب الغرفة المغلق:
-نايم جوا
انتبه ثلاثتهم إلى صوت فتح الباب ليظهر بعدها "عبد الحق" وهو يجذب جلبابه المنزلي الرمادي للأسفل، رد قائلاً بابتسامة فاترة:
-سلامو عليكم، منورين يا جماعة، ده أنا مستنيكم من بدري
عبست ملامح "بطة" على الأخير عقب جملته تلك التي أثارت الهواجس في نفسها، اقتربت منه لتسأله بصوتٍ خفيض:
-هو إنت كنت عارف إنهم جايين
أجابها بعدم مبالاة:
-أيوه، "منسي" كلمني قبل ما يجي يستأذني!

كبتت غيظها من إخفائه ذلك الأمر عنها داعية الله أن يمر النهار على خير، فالبدايات غير مبشرة على الإطلاق، ووجود "منسي" يعني كارثة وشيكة، هوى قلبها في قدميها مجددًا بتوترٍ مضاعف حينما سألتها والدتها بصوت قاتم ونظراتها المريبة مركزة على وجهها:
-أومال البت "هالة" فين؟ مش باينة يعني!
اختفى جمود "بطة" الزائف ليحل الشحوب على ملامحها، تدلت شفتها السفلى للأسفل في بلاهة واضحة عليها، اضطربت نظراتها واكتست تعبيراتها بارتباكٍ مقروءٍ للعيان، رددت بتلعثمٍ وقد لُوحظ تسارع أنفاسها:
-"ه... هالة" ... !

فرت الدماء من بشرتها ليبدو وجهها باهتًا متوترًا بعد أن سألتها والدتها عن أختها الأصغر، اضطربت نظراتها وشعرت بدقات قلبها المتسارعة تتقاذف بداخل صدرها، شُل تفكير "بطة" مؤقتًا وتشتت ذهنها وهي تعتصر عقلها ليعمل بكامل طاقته لتجد الرد المناسب، تساءل "عبد الحق" باستغراب وهو يوزع نظراته بين الثلاثة:
-هي "هالة" مش معاكو؟
تضاعف ارتباك "بطة" وأدركت أنها باتت في مأزق كبير، بينما أكمل زوجها قائلاً بنبرة عادية:
-احنا مشوفنهاش أديلنا زمن!
وكأنه انتزع فتيل قنبلة موقوتة لتنفجر "أم بطة" ثائرة في وجه ابنتها:
-إيه الكلام اللي بيقوله جوزك ده يا "بطة"؟

لم تعرف بماذا تُجيبها، فالطاولة انقلبت رأسًا على عقب، هزتها أمها بعنف من ذراعها الذي قبضت عليه صارخة بها:
-ردي عليا، البت أختك فين؟
بدا "عبد الحق" كالأبله وهو ينظر بحيرة إلى زوجته المضطربة وإلى والدتها المتعصبة، تساءل باندهاش حائر:
-هو في حاجة إنتو مخبينها عليا؟
كورت "أم بطة" قبضتها لتلكزها بقسوةٍ في كتفها مكملة صياحها الغاضب وقد ازداد حنقها منها:
-انطقي يا مزغودة!

تأوهت "بطة" من الألم وحاولت على قدر المستطاع تحاشي ضرباتها الموجعة، اعتدلت في وقفتها مجيبة بأنين:
-متقلقيش عليها يامه، هي بخير!
صرخت بها:
-هي فين؟
بينما علق "منسي" بنبرة ذات مغزى وبكلمات ونظرات موحية ليزيد من الطين بلة:
-قلبي كان حاسس إن الحكاية فيها إن، شوفي يا ست "أم بطة"، أنا دخلت البيت من بابه وغرضي أستر بنتكم، مش أتجوز واحدة ماشية على حل شعرها!
هنا انفجرت فيه "بطة" لترد بهياج غير مفهومٍ لمن حولها وهي تشير بسبابتها أمام وجهه:
-إنت آخر واحد يتكلم عن الشرف.

ثم رمقته بنظرة احتقارية قبل أن تضيف بإهانة قاسية:
-معدتش إلا واحد واطي زيك يتهم أختي في شرفها!
كبت "منسي" غضبه المندلع بداخله ليبدو كالملاك البريء في حضرة عائلتها معلقًا عليها بعتابٍ:
-أنا مش هارد عليكي!
نهرها "عبد الحق" بحرجٍ كبير:
-عيب كده يا "بطة"
وكأن والدتها تهيم في وادٍ خاصٍ بها، استثارت صائحة بتشنجٍ وهي تطاول باليد على ابنتها الكبرى:
-بصيلي هنا، أختك فين؟ أنا مش هاسيبك النهاردة إلا لما أعرف مكانها.

أصرت "بطة" على موقفها الرافض قائلة بتحدٍ سافرٍ:
-لأ مش هاقول على مكانها حتى لو فيها موتي
تعجبت أمها من حالة الإصرار العنيدة المسيطرة عليها، في حين تابعت "بطة" مدافعة عن موقفها العدائي تجاه "منسي:
-إيه عاوزين تضيعوها وتجوزوها لواحد زي ده؟ مش هايحصل أبدًا
اختنقت نبرتها أكثر وبدت أكثر انفعالية وهي تكمل:
-يامه ده حاول يعتدي على شرف بنتك، إزاي تأمني عليه؟

هنا تدخل "منسي" في الحوار بعد أن بقي للحظات على الحياد ليصيح نافيًا بصوته الخشن:
-كدابة، محصلش، شايف الافتراء يا "عبده"؟ أنا مش عاوز أرد على مراتك عشان إنت موجود، اتصرف بقى معاها
نظرت له "بطة" شزرًا وباستنكارٍ معكوسٍ على تعبيراتها المتعصبة، فكيف يجرؤ ذلك النجس على ارتداء قناع البراءة وهو ذئب حقير؟ شعرت بألم قوي يضرب كتفها وبأظافرٍ حادة تغرز في لحمها لتخرج شهقة متألمة من جوفها، جمدت عينيها المحتقنتين على وجه والدتها التي صرخت تهددها بعنفٍ:
-قسمًا برب العزة لو مقولتيش البت فين لأجيب رقبتك تحت رجلي، هو أنا حيلتي حاجة غير الشرف، انطقى يا ...!
توسلها زوجها برجاءٍ وقد تدخل بجسده ليحول بينهما ليخفف من حدة الاشتباك بالأذرع:
-ماتقولي هي فين يا "بطة"؟

لم تعبأ بما تتلقاه من أذى وردت بوجعٍ:
-لأ مش هاقف أتفرج على أختي وهي بتضيع
استشاط "منسي" من حماية "بطة" لأختها باستماتة فأراد زعزعة ما تظن أنها تملكه بالتلميح عن عمدٍ:
-كفاية يا ست "أم بطة"، هي تلاقيها مسنودة على حد تقيل وواصل فمش هممها حد!
ارتعدت "بطة" قليلاً وتوترت نظراتها من احتمالية كشف مخبئها، التفتت أمها نحوه لتسأله:
-تقصد مين يعني؟
أجابها بغموض وهو يومئ بعينيه:
-شوفي إنتو تعرفوا مين من الأكابر!

علق "عبد الحق" متسائلاً بنزقٍ وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
-تكونش راحت عند "تقى"؟
اتسعت حدقتا "بطة" في فزع بعد جملة زوجها الأخيرة والتي كشفت المستور، ردت عليه أمها مؤكدة وقد ضاقت نظراتها المحتدة:
-أيوه، مافيش إلا هي، ما إنتو متعرفوش حد غيرها برا الحتة الفقر دي يقدر يساعدكم
التوى ثغر "منسي" ببسمة ماكرة وهو يرد باقتضابٍ:
-وهو في غيرها!
أرادت "بطة" الفتك بذلك المخلوق الشيطاني الذي يزيد وجوده من احتقان النفوس وخراب البيوت، منعها عنه هجوم والدتها عليها بشراسة أكبر ممسكة بحجاب رأسها وبكومة من شعرها:
-انطقي بيت "تقى" فين؟!

قاومت قدر المستطاع وابل الشتائم والضربات الموجعة التي تلقاها جسدها لتحمي أختها الأصغر، أبت أن يكون مصيرها مثلها مع شخص تمقته ويحول حياتها إلى جحيم مستعر، هي تستحق الأفضل، أن تحظى بحياة طيبة سوية تحقق فيها تطلعاتها وأحلامها الفتية، تدخل زوجها لإنقاذها فتمتم بترددٍ:
-بيتهيألي أنا فاكر العنوان!
برقت عينا "بطة" بارتعاد حقيقي، فكل محاولاتها لإبعاد المخاطر عنها قد باءت بالفشل، توسلته بهلعٍ ظهر عليها:
-لأ يا "عبده"!
استدارت أمها نحوه لتسأله بعينين متوحشتين:
-قول يا جوز بنتي!

تجددت مشاعره المتحمسة وتضاعف شوقه مع سماعه لتلك النبضات السريعة المتلاحقة عبر الجهاز الطبي الحديث، شعر "أوس" بكم الأدرينالين المنفعل يتدفق في عروقه ليزيد من حالته المتوترة والمترقبة لمولود جديد سيأتي للحياة بعد أشهر معدودة سيحمله بين ذراعيه ويختبر مجددًا الشعور الأبوي العظيم، التفت نحو زوجته ليطالعها بنظراته الحالمة رغم الإضاءة المحدودة، تسارعت دقات قلبه واختلجت مع أنفاسه المنتظمة لتزيد من تلاحقها، فقد رزقه الله بجنين آخر ينمو في أحشائها، عاد ليحدق بدقة في الشاشة الموضوعة أمامه ليتأمل الشكل المبهم للجنين النامي، ابتسمت الطبيبة "بارسينيا" معلقة:
-عظيم، النبض كويس، وحجم الكيس مناسب.

سألتها "تقى" بفضول وقد تعلقت أنظارها بالشاشة المضيئة:
-يبان نوعه إيه يا دكتورة؟
أجابتها الأخيرة نافية وبنبرة علمية:
-لأ طبعًا، احنا لسه في البداية، الكلام ده على نهاية الشهر الرابع عشان نكون متأكدين من نوعه
رد عليها "أوس" بهدوءٍ ملحوظ في نبرته:
-أنا مش فارق معايا، المهم إنها والبيبي يكونوا بخير
أومأت "بارسينيا" برأسها بإيماءة خفيفة ثم أضافت محذرة بجديةٍ:
-ضروري الراحة الفترة الجاية بحيث يعدي أول 3 شهور على خير ونطمن إن المرحلة الخطرة عدت.

هز رأسه قائلاً دون تردد في التفكير:
-شوفي المطلوب وأنا هنفذه
رسمت ابتسامة منمقة على شفتيها وهي تكمل بكلمات منتقاة بحذرٍ:
-ويا ريت يكون في تقنين للعلاقة الزوجية، وده لمصلحة الأم والجنين!
خجلت "تقى" من تلميحها المتواري وتورد وجهها بحمرة مشتعلة شعرت بها، في حين ابتسم "أوس" قائلاً باقتضاب وقد فهم مقصدها دون أن يبدو متأثرًا:
-تمام.

نهضت الطبيبة "بارسينيا" من على مقعدها لتقول بلطفٍ وهي تعيد إضاءة الغرفة المعتمة:
-تقدري حضرتك تلبسي هدومك، وأنا هنتظرك في مكتبي برا
ردت بخفوت وهي تسحب الغطاء على بطنها المكشوف:
-شكرًا يا دكتورة
-العفو.

قالتها الطبيبة قبل أن تترك الاثنين بمفردهما في الغرفة لتعتدل "تقى" في جلستها على الفراش، أخفضت كنزتها المطوية لتغطي ما كُشف من جسدها ثم نظرت بعينين متقدتين بوهج الحب إلى زوجها قبل أن تسأله:
-فرحان يا "أوس"؟
أجابها بتنهيدة عاشقة:
-أنا طاير من السعادة.

ثم مد كفه ليمسك بأناملها، رفع يدها إلى فمه ليقبله بحنو، جلس إلى جوارها لينظر لها عن قرب، حملقت فيه متسائلة بتوترٍ:
-هتزعل لو جبت بنت تاني؟
قطب جبينه معلقًا باستغرابٍ مُعاتب:
-أزعل؟ يبقى إنتي مش عرفاني كويس يا "تقى"
ردت موضحة:
-أنا بس خايفة ...
وشع إصبعه على شفتيها ليمنعها من التبرير قائلاً:
-ربنا يراضينا بالأحسن.

أشرق وجهها أكثر مع تلك الهالة السمحة التي غلفت ملامحه الجادة ليبدو شخصًا آخرًا استطاعت ببراءتها إيجاد بذرته الطيبة لتطفو على السطح، تنفست بعمق لترد بعدها بنبرة متفائلة خيرًا:
-يا رب أمين
سألها "أوس" بحماس ظهر في نظراته نحوها:
-إيه رأيك أنا عازمك على الأكل برا في أشيك مطعم هنا؟
لم تعارضه قائلة:
-معنديش مانع، بس إنت مش وراك شغل
رد بعدم مبالاة:
-أنا معاكي اليوم كله
تذكرت وجود ضيفتهما بالمنزل فتشدقت قائلة:
-احنا نسينا "هالة"، هي ...

قاطعها بهدوءٍ:
-ماتشغليش بالك بيها، "عفاف" معاها وواخدة بالها منها، وبعدين عاوز أكون معاكي لوحدنا شوية، مش من حقي ولا إيه؟
عادت الدموية الدافئة لتغزو بشرتها من جديد فهمست بنعومة:
-اللي تحبه يا حبيبي
رفع حاجبه للأعلى ممازحًا:
-إيه الرقة دي؟ مش واخد على كده منك!
سألته بعبوس مصطنع:
-هو أنا نكدية
رد مبتسمًا وهو يكبت ضحكة توشك على الانفلات منه:
-على حسب!
تحولت ملامحها للجدية وهي تدفعه برفق من كتفه لتقول له:
-طب يالا بينا لأحسن الدكتورة تفتكر إننا بنعمل حاجة كده ولا كده
غمز لها قائلاً بعبثية وقد بدت الفكرة مغرية:
-وماله، مش مراتي!

عضت على شفتها السفلى محذرة:
-عيب يا "أوس"!
قهقه ضاحكًا من خجلها المحبب له، فنكست رأسها بحرجٍ لطيف، رمقها بنظرة بشوشة ثم نهض من جوارها ليعتدل في وقفته قائلاً لها:
-حاضر، وكله عشان خاطر الباشا اللي جوا ...!

ساعدتها النسمات العليلة على الاسترخاء وإراحة عقلها المشحون مؤقتًا من الضغوط المتواصلة عليه، استلقت "هالة" على الأريكة الموجودة بالحديقة الغناء قاصدة استذكار دروسها، لكن مع ذلك الهدوء المغري بدأ سلطان النوم يتسلل رويدًا رويدًا إلى خلاياها ويصيبها بالخدر فاستسلمت لتلك الغفوة القصيرة تاركة كتابها مُلقى على صدرها، في تلك الأثناء، وصل "يامن" بسيارته إلى الباحة الخلفية للفيلا ليصف سيارته، ترجل منها واستدار متجهًا إلى الباب الرئيسي، دار بنظرات فاترة في أرجاء الحديقة، استوقفه لمحه لإحداهن تتمدد بأريحية على الأريكة، ضيق عينيه ليتأملها عن كثب، لم يدع لفضوله الفرصة ليحيره، بل غير وجهته وسار في اتجاهها، تباطأت خطواته مع رؤيته لوجهها مألوف الملامح، تفاجأ من وجودها رغم حديث "أوس" السابق عن بقائها معه، ردد لنفسه باندهاش متحمس:

-مش معقول، واضح إن حظي حلو المرادي
لم يشعر بتلك الابتسامة العذبة التي تشكلت على ثغره وقد طالت نظراته نحوها، تنحنح "يامن" بخفوت ثم داعب طرف أنفه بإصبعه بلزمة عفوية معتقدًا أنها ستنتبه لوجوده، لكن حدث العكس، بدت مستكينة تمامًا مما شجعه على الجلوس، وقبل أن يقدم على ذلك تلفت حوله ليتأكد من عدم متابعة أحد له، خاصة ابن عمه الكبير الذي لن يسلم من إحراجه أو توبيخه إن اكتشف قربه منها، تسلل بحذرٍ ثم جلس في مواجهتها ليطالعها بنظرات فضولية متشوقة، اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يراها هادئة كصفحة من المياه، فهي في حالة سبات واضحة، قرر أن يراقبها في صمت، فلقاءاتهما القليلة دومًا تكون محفوفة بالمفاجآت المثيرة، لم تحرك "هالة" ساكنًا، فقط تململت عدة مرات وهي تحرك رأسها للجانبين مما منحه الفرصة لدراسة تفاصيل وجهها باستمتاع...،

أعجبه مداعبة الهواء لخصلات شعرها الهاربة من أسفل حجاب رأسها زهري اللون، تركز بصره على حركة جفنيها البسيطة، أخفض نظراته ليحدق في كتابها الموضوع عليها، استرعى انتباهه عنوانه فمال نحوها ليمد يده إليه، سحبه بحذرٍ شديد دون أن يوقظها، عاد ليجلس باستقامة على أريكته، قلب صفحاته بفتور، لم يكن سوى أحد المواد الدراسية، ابتسم بتهكم ورفع عينيه لينظر لها من جديد، تحفز حينما لاحظ أنها قد بدأت تفيق من غفلتها، ادعى انشغاله بقراءة فحواه، انتفضت "هالة" فزعة حينما وجدت أحدهم جالسًا قبالتها، بل وينظر لها بتفحصٍ أحرجها، أنزلت ساقيها معتدلة في نومتها غير المريحة وهي تنظر له بعينين متوترتين هاتفة فيه باندهاش مصدومٍ:
-إنت!

سألها بابتسامة صغيرة وقد بدا وجهه بملامح ثابتة:
-عاملة إيه؟
لم تجبه بل هبت واقفة على قدميها محاولة لملمة شتات نفسها، سألته بأنفاسٍ غير منتظمة:
-إنت جاي هنا ليه؟
ثم رأت كتابها بين يديه فانحنت نحوه لتلتقطه عنوة منه مكملة صياحها المزعوج:
-وهات كتابي!

رفع كفيه أمام نظراتها الحادة كتعبير عن عدم اعتراضه على تصرفها، ظلت ابتسامته مرسومة على جانبي شفتيه دون أن يعلق بحرف، ضمت "هالة" كتابها إلى صدرها ونظرت حولها باحثة عن "عفاف" أو أحد الخدم، لكنها لم تجد أيًا منهم، وكأن الوضع بات مهيئًا للقاء شاعري، عادت لتحدق في وجه "يامن" الذي وضع ساقه فوق الأخرى ممعنًا النظر فيها، سألته بنرفزة طفيفة:
-بتعمل إيه هنا؟

أجابها متسائلاً بقليل من الذكاء وابتسامته الخطيرة مازالت مرسومة على جانب فمه:
-مش غريبة إنك تسألي السؤال ده وإنتي موجودة عند ابن عمي؟!
تحرجت من رده المنطقي وانتشر ببشرتها حمرة خجلة ضاعفت من ربكتها المتوترة أمامه، ردت بخفوت متلعثم:
-عندك حق
ازدردت "هالة" ريقها ثم جمعت باقي كتبها المبعثرة مستعدة للرحيل، أوقفها "يامن" قبل أن تتركه وتنصرف بإمساكها من ذراعها، شهقت حينما رأت قبضته عليها، أبعد يده معتذرًا:
-سوري!

احتدت نظراتها نحوه فبادر موضحًا:
-كل الحكاية إني عاوز أطمن عليك
سألته بجمود وقد قست تعبيرات وجهها:
-عشان إيه؟
تحرج من إجابتها مباشرة وأطرق رأسه قليلاً ليرد متعللاً:
-عادي يعني، من غير سبب!
رمقته بنظرة حادة قائلة له باقتضابٍ:
-أنا كويسة.

أوشكت على التحرك لكنه اعترض طريقها بجسده لتتراجع خطوة للخلف، لا يعرف ما الذي يحثه للحديث إليها أو حتى مشاكستها، لكنه يجد متعة غير مسبوقة في استدراجها في الكلام والتمتع بردود فعلها المختلفة في نفس التوقيت، تنهد قائلاً لها برجاءٍ:
-استني بس
رمقته بحدية وهي ترد متسائلة بتجهمٍ:
-في إيه تاني؟
ابتسم متسائلاً باهتمامٍ:
-عملتي إيه في مشكلتك؟

أجابته دون تفكيرٍ لتمنعه من التدخل في شئونها الخاصة:
-والله دي حاجة تخصني
للمرة الثانية أحرجته مباشرة فأخفى ارتباكه من جفافها معه ليبرر بلباقةٍ:
-أكيد، أنا فاهم ده، بس كنت عاوز أطمن عليكي!
استغربت للغاية من اهتمامه المريب وغير المقنع لها، كانت ملامحها أقرب للجمود عنها للاندهاش، ضغطت على شفتيها لتقول ببرود:
-شكرًا، عن إذنك

في تلك الأثناء، نجح "منسي" في معرفة عنوان الفيلا المتواجدة بها "هالة"، ترجل مع أفراد عائلتها من سيارة الأجرة ليقفوا أمام المدخل الرئيسي لهذا المجمع السكني الراقي والمتحفظ، بالطبع حال مظهرهم الشعبي دون السماح لهم بالولوج إلى الداخل، ومع ذلك وأمام إصرارهم الشديد وافتعالهم للمشكلات التي ربما قد توتر الأجواء وتثير الفضائح، ودَّت "بطة" لو استطاعت تحذير أختها، لكن سُحب هاتفها المحمول منها قسرًا فمنعت من ذلك وبالتالي حرمت من فرصة ثمينة للفرار قبل أن يصلوا إليها، تركت في منزلها تضرب كفًا بالآخر متضرعة إلى المولى أن يحفظ "هالة" من بطش أمها ومن معها، لم يجد "منسي" ومن معه صعوبة في بلوغ وجهتهم، خاصة أن أحد أفراد الأمن سار بصحبتهم إلى هناك، أشار الأخير بيده نحو باب الفيلا الحديدي قائلاً برسمية وهو يمرر نظراته المزعوجة على وجوههم:
-دي فيلا "أوس" باشا.

انفرجت شفتي "أم بطة" عن دهشة مبهورة وهي تجوب بعينين متسعتين تفاصيل المكان، رددت مع نفسها بانبهارٍ:
-إيش إيش على الهلومة والأبهة
بينما ردد "عبد الحق" لنفسه بإعجابٍ:
-البت "بطة" عارفة ناس عليوي!
انتبه إلى صوت "منسي" الذي ردد بخشونة وهو يلكز الحارس الأمني في كتفه بجراءة مقلقة:
-طب وسع كده يا أخ
أخفض الحارس نظراته ليحدق في موضع يد ذلك المتبجح، ثم رد عليه الأخير محذرًا:
-خد بالك الباشا مش أي حد يقدر يقابله أو...

قاطعه بعدم اكتراثٍ:
-ملكش فيه، دي مسائل عائلية!
ثم اتجه نحو الباب الحديدي المغطى بألواح زجاجية ليطرق عليه بعنفٍ وهو يصيح عاليًا بصوته الأجش:
-إنتوا يا اللي جوا، افتحوا الباب
دعمته "أم بطة" صارخة بحدةٍ وهي تضرب بيدها على الزجاج:
-بت يا "هالة"، ردي على أمك يا بت!
لم يستغرق الأمر سوى لحظات قليلة لتُفتح البوابة ويطل منها حارسان ضخام الجثة، سد الاثنان بجسديهما المدخل، بادر أحدهما متسائلاً بشراسةٍ ظهرت على تعابيره:
-إيه الغارة دي؟ فاكر نفسك فين!

رد عليه "منسي" بتحدٍ وقد تعمد ادعاء القوة أمامه:
-بلاش وحياة أهلك الشويتين دول، احنا مش جايين لجنابك!
رمقه الحارس الأمني بنظرات نارية مهددة، في حين صرخت فيه "أم بطة" بتشنجٍ وقد كادت تمسك بياقته:
-فين بنتي اللي خاطفينها جوا؟
دفعها الأخير بخشونة طفيفة ثم لوح الحارس بذراعه صائحًا بلهجة آمرة:
-امشي من هنا يا ست، إنتي مش عارفة إنتي عند مين؟

أجابه "منسي" بتهديدٍ وقد بدا غير عابئ بتبعات ما يفعل:
-لا عارفين، والبيه بتاعك هنعمله جناية ونصورله قتيل هنا لو مجبلناش بنت حتتنا
تبادل الحارس الأمني نظرات حائرة مع زميله دون أن يظهر أي تأثر على ملامحهما، هدرت "أم بطة" منفعلة:
-ناديلي بنتي من جوا بدل ما أعملكم فضيحة هنا
رد عليها الحارس الأمني باستهزاء وهو يزيح سترته للجانب ليظهر سلاحه الناري المرخص:
-باين عليكم شاربين، اتمشوا من هنا.

هتف "منسي" بتحدٍ بعد جملته الأخيرة:
-لأ مش ماشيين
ثم أشهر مديته في الهواء ليهدده بها بحنقٍ:
-حتى لو فيها قطع رقاب، احنا يا قاتل يا مقتول!
ورغم ثقته الواضحة إلا أن الحارس الأمني استخف به، نظر له الحارس الآخر شزرًا قبل أن ينطق بتهكمٍ:
-شيل اللعبة دي أحسنلك
تحفر الحارسان للانقضاض عليه لكن تدخل "عبد الحق" سريعًا ليمنع تطور الأمور قائلاً بتروٍ:
-بص يا كابتن، من غير شوشرة وقلبة دماغ، احنا جايين ناخد أخت مراتي من جوا، فناديلها واحنا هنمشي.

أضاف "منسي" قائلاً بنبرة غاضبة وقد احتقن وجهه:
-أنا عاوز خطيبتي من جوا
سأله الحارس الأمني بسخطٍ ساخر:
-وخطيبتك هتعمل إيه هنا؟
أجابه بتهكمٍ وقد قست عيناه:
-اسأل الباشا بتاعك، هو اللي خطفها من وسطنا
نفى الحارس الآخر مرددًا:
-محصلش، وبطلوا تخاريف
وكأنها قد فقدت آخر ذرات هدوئها لتنفجر صارخة بصوت غاضب مجلجل في المكان:
-يا "هالة"، إنتي يا بنتي، تعالي في حضن أمك!

عند تلك اللحظة انتبه كلاً من "يامن" و"هالة" للضجيج الحادث على مقربة منهما، كانت الأخيرة الأسرع في التحرك نحو البوابة لترى ما يحدث، تسمرت قدماها في مكانها وقد رأت بعينين متسعتين في فزعٍ "منسي" ووالدتها عند أعتاب الفيلا، ارتخت أناملها عن كتبها فسقطت على الأرضية العشبية، شحب وجهها وحل الخوف على قسماتها، بدت كالصنم عاجزة عن التفكير أو التحرك أو حتى الهروب والاختباء مما أتاح الفرصة لمن تبغضه أن تقع عيناه عليها، هدر "منسي" مناديًا بنبرة أوقعت قلبها في قدميها:
-"هالة".

تبعها "يامن" بخطوات متمهلة، توقف بجوارها لينظر إليها باستغراب، تعجب من حالة الوجوم غير المفهومة التي تشكلت على ملامحها، التفت برأسه للأمام ليطالع أصحاب الهيئة المتواضعة بنظرات مدققة، تساءل بصوتٍ مسموعٍ لها:
-مين دول؟
أجابته بكلمة واحدة عنت الكثير ودون تفكيرٍ:
-أهلى
استدار برأسه نحوها لينظر لها بغرابةٍ، رأى علامات الفزع جلية عليها، ردد متسائلاً:
-هما دول اللي...

بتر سؤاله ملتفتًا إلى صاحب الصوت الخشن الهادر بقوةٍ:
-تعالي لخطيبك يا "هالة"، أمك مش هتتعرضلك
ارتجف بدنها من كلماته التي أنهت حلمًا قصيرًا بالخلاص منه، وجدت نفسها في مأزق لا مناص منه، سمعت بين ضلالاتها صوت "يامن" وهو يسألها:
-إنتي مخطوبة لده؟

أدارت رأسها ناحيته لتنظر إليه بعينين تحبسان الدمع فيهما، وجدت صعوبة في الرد عليه بالنفي أو التأكيد، شعر "يامن" بنغصة تؤلم قلبه لمجرد رؤيتها هكذا، شهقت منتفضة بخوفٍ وصوت والدتها يرن مهددًا:
-تعالي هنا يا بت بدل ما أعملك فضيحة، احنا معندناش غير الشرف يا حيلة أمك، جاية تتحمي في مين هنا؟ محدش دايملك غير أهلك
تمتمت "هالة" بصوت خفيض مختنق يوحي بكارثة أكيدة التقطته أذني "يامن":
-أنا ضعت!

انسابت عبراتها بكثافة على وجنتيها، كانت مدركة لحقيقة الأمر، أنها لن تستطيع تلك المرة النجاة من مصيرها البائس، وفي نفس الوقت لن تسمح بإيذاء من مد لها يد العون بأي شكلٍ، لذا باستسلام وانكسار خطت بقدميها فوق كتبها الملاقاة لتسير بخنوعٍ صاغر في اتجاه البوابة، تبعها "يامن" بنظراتٍ جمعت بين الحيرة والضيق، وتلك المرة لم يقف في مكانه كالمتفرج الصامت، مشى مسرعًا ليسبقها ثم سد بجسده الطريق عليها لتنفلت منها شهقة مصدومة لتصرفه الصادم لها، انتصب في وقفته فبدا أكثر طولاً وتحفزًا وهو يتساءل بصلابة:
-عاوزين إيه منها؟ هي مش هتخرج من هنا!

كانت "هالة" على وشك الاعتراض عليه لكنه رفع سبابته أمام وجهها آمرًا:
-ماتكلميش!
ابتلعت ريقها وهي تكاد لا تصدق ما يحدث، أيتدخل ذلك الغريب للدفاع عنها هكذا ببساطة؟ بل وهل سيرضخ أهلها لأوامره إن أملاها عليهم؟ تحرك بؤبؤاها بتوترٍ خائف نحو وجه "منسي" الغاضب والذي هتف متسائلاً من بين أسنانه المضغوطة:
-وإنت مين إن شاءالله؟
وكأن ذلك العرق المتغطرس قد نبض بقوة في جميع خلاياه ليرد عليه "يامن" بغرور وثقة:
-"يامن الجندي"!

تأهب "منسي" بمجرد سماع اسمه، فذلك اللقب دومًا مصحوبٍ بقوة مَعلُومة وخفية، بنفوذ مسيطر وتحكمات جلية، ادعى الثبات معلقًا باستخفافٍ ساخر:
-حصلنا الخضة
ثم أضاف بابتسامة متهكمة متعمدًا التحقير من شأنه وموجهًا الحديث ل "عبد الحق":
-قابل يا عم، دلدول جديد للبيه!
إهانة غير متوقعة من وقح سليط اللسان لا يعرف متي يتحكم في لسانه أو أفعاله، استشاط "يامن" غاضبًا يتوعده:
-هدفعك تمن غلطك ده!
رد "منسي" بتحدٍ:
-وريني يا سبع الرجال!

كتمت "هالة" شهقة مذعورة وهي ترى الاشتباك الوشيك بين الطرفين، أدركت بحدسها أن الصدام لن يكون في صالح عائلتها، بل سيطال الأذى الجميع، و"تقى" وزوجها لا يستحقان أن يزج بهما في مشاكل لا تخصهما، لذا صرخت بهيسترية رافضة تأزم الموقف أو تدهوره للأسوأ:
-كفاية بقى.

ثم دفعت "يامن" بعصبية من كتفه لتتمكن من المرور، تفاجأ بفعلتها ونظر لها مذهولاً، طالتها قبضتي والدتها فجذبتها إليها، ثم أحاطتها بذراعيها لتضمن عدم انفلاتها منها، ورغم يقين "هالة" بأن ذلك الاهتمام الزائف والخوف المبالغ فيه ليسا إلا غلافًا لمصير أسود ينتظرها إلا أنها استسلمت لمقدماته، ففي النهاية هي صغيرة مراهقة لن تجابه العالم بأشراره بمفردها، رددت "أم بطة" على مسامعها بحنوٍ مصطنع:
-تعالي لحضن أمك يا حبيبتي، أخيرًا رجعتيلي.

ردت "هالة" بهمسٍ باكٍ:
-خلينا نمشي، مش عاوزة فضايح يا ماما، أنا تعبت
أومأت برأسها هاتفة:
-حاضر يا عين أمك، المهم إنك كويسة
شددت من ضمها لها ثم وجهت حديثها إلى "منسي" قائلة:
-بينا ياخويا، مالوش لازمة وجودنا، بنتي بقت معايا وفي حضني
هز رأسه موافقًا وهو يرد:
-ماشي يا ست الكل
تأكد من ابتعادها ب "هالة" ليكز على أسنانه كابتًا حنقه المشتعل بداخله لحظيًا، ثم حانت منه التفاتة نحو "يامن" يتوعده فيها بنظرات مظلمة:
-هنتقابل تاني، و"منسي" هيعلم عليك ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة