قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثاني

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثاني

رواية ابن رستم للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثاني

كان يراقبه بهدوء وحذر لئلا يُشعره بتواجده، أراد أن يترك له مساحة من الحرية عله يفيض بما بداخله للبحر، ولكن صمته هذا هو الذي يثير القلق.
زفر مروان ب اختناق ليجد من يضع يده على كتفه و: - واقف كده ليه ياكابتن؟
- ولا حاجه، روح انت شوف فاضل قد إيه على الطريق عشان نرجع
- حاضر.

تنحنح مروان وهو يتقدم منه ل يثير انتباهه قبل أن يقتحم لحظاته المنفردة، ثم ضرب على كتفه وهو يردف: - أظن مكنش في رحلة أحلى من كده نطلع بيها من ضغط الشغل الشهور اللي فاتت
أومأ ظافر برأسه بالإيجاب و: - فعلًا
نظر ظافر في ساعة اليد خاصته ثم أردف ب: - حد كلمك من القيادة؟
- آه، لما نرجع مصر هيكون في اجتماع بخصوص تدريبات الدفعات المستجدة على الطيارات الجديدة.

كانت نظراته غامضة لا تستطيع ترجمة ما يختبئ خلفها، ولكن مروان استنبط ما يفكر فيه و: - متقولش مش هتنزل! فرح نرمين بعد أسبوعين وانت اخوها الكبير ياظافر، يعني وجودك أهم من أي اعتبار تاني.

تهرّب ظافر من النظر إليه و: - الجو برد، أنا هدخل ألبس الچاكيت بتاعي وآجي
كان سطح الباخرة فسيح للغاية، تعلوك صفحة السماء الصافية والهواء الطلق يغلف محيطك بأكمله، لون البحر الذي يعانقه السماء، كلها ظواهر طبيعية تُدخل الإنتعاش والبرودة لداخلك.

هبط ظافر عن الطابق العلوي للطابق الأسفل حيث الغرف الصغيرة ذات المسافة المحدودة، دخل غرفته وأوصد على نفسه، فتح حقيبته وأخرج منها چاكيت أسود داكن بطانته بيضاء سميكة تشعرك بالدفء، ارتداه وهو ينظر للمرآه ليرى انعكاس الحزن في عيناه البُندقية الفاتحة التي تلمع ببريق مكتئب، في الفترات الأخيرة مرّ بحال لم يكن يصدقه، حتى إنه بدأ يفقد الثقة في نفسه گرجل وسيم يستطيع جذب الإنتباه بسهولة، مؤخرًا فقط بدأ استجماع نفسه قليلًا ليحس بإنه أعظم من أن يجتاحه شعور گهذا، نفخ بتذمر وهو يشيح بوجهه ثم التقط قنينة عطر فاخرة اشتراها من عاصمة تفوح رائحتها مع ذكرها باريس، عطر لم يشتم مثيله على رجل قطّ، وأغرق نفسه به وكأنه يريد أخفاء رائحة ما عالقة بذاكرته وحواسه، ثم أغلق سحاب الچاكيت خاصته وقرر الخروج مرة أخرى.

ظافر رُستم، الإبن الأول والوحيد ل رُستم والبالغ من العمر أثنى وثلاثين ربيعًا، تخرج من كلية القوات الجوية ليصبح ضابط جوية مشهور بين دفعته ودفعات أخرى ببسالته وشجاعته وقوته، حيث أسندت إليه عدة عمليات خطيرة للقضاء على الميليشيات الإرهابية التي انتشرت في أماكن عدة،.

وقام بإنجازها بكل مهارة، لم يستند على والده كونه أحد القيادات المشهورة بالجيش قبيل الخروج من الخدمة، بل كان مثلًا يُحتذى به في أداء دوره بمثالية استعجب لها الكثيرين من قادته..
قُرة عين أمه وأبيه، كانت ولادته الصعبة بالشهر السابع بمثابة إنتصار ل رُستم، ولذلك أشتق أسمه من الظفر النصر.

كانت أثير تتناول وجبة الغداء بداخل مطعم الفندق في ساعة الإستراحة الخاصة بها، عندما كانت تتصفح مواقع التواصل الإجتماعي على هاتفها، كانت تتفقد حسابه الشخصي وآخر وقت ظهر فيه إنه نشط، ولكنها لم تتوصل لشئ، ابتلعت الطعام بصعوبة وهي تترك الهاتف على الطاولة، ثم التقطت كأس الماء لتتجرع منه..

لم تنتبه لاقتراب أحدى صديقاتها، تلك الفتاة التي تعمل بقسم السكرتارية بالفندق، وإذ بهاتفها المفتوح والموضوع على سطح الطاولة يُظهر صفحته الشخصية، اتسعت عينا الفتاة وهي تراها، وانتقلت نظراتها الخبيثة إلى أثير التي لم تكن تشعر بتواجده، ف حمحمت وكأنها لم ترى ما رأت و: - أثير
توقفت عن الشرب فجأة وسعلت وهي تعكس وضعية هاتفها، ثم نظرت إليها و: - لو خلصتي غدا كنت عايزة منك بيانات نزيل عندنا هنا.

تنفست أثير وهي تنهض عن جلستها و: - حالًا ياشروق، هغسل إيدي وابعتلك البيانات، بس ابعتيلي ميل ب أسم النزيل
سحبت أثير هاتفها وأوراق المنديل خاصتها، ثم توجهت نحو دورة المياة، راقبتها شروق بنظرات متفحصة وتمتمت بصوت خفيض: - ظافر مرة واحدة ياأثير!
فركت أصابع يديها سويًا وهي تتابع: - ومش بعيد تكوني سبب كل اللي حصل!؟، بكرة الحقيقة تظهر وتبان!

فتحت تمارا الباب بحذر، ولجت مرتعبة من أن تجد والدها أمامها بأي لحظة، نظرت في ساعة الهاتف، فوجدتها السابعة إلا الربع، ف تأففت ب انزعاج وهي تردد: - يعني كان لازم نقعد كل ده يافدوى، ده انتي مُحرضة على الفساد!
ولجت ببطء نحو غرفتها وفتحت الباب بهدوء، ثم دلفت بسرعة وأغلقت الباب من خلفها، ضغطت على زرّ الإنارة والتفتت، شهقت بفزع وهي تصيح: - بابا!

كان يجلس على الأريكة منتظرًا إياها وقد تجلّى الغضب على تعابير وجهه، أطرقت رأسها بتخوف حينما نهض هو عن جلسته وتقدم منها قائلًا بصياح: - من أمتى وانا بناتي بتدخل البيت بعد الساعة خمسة؟ انتي اتجننتي ياتمارا!
ارتجفت تمارا وكأنها ليست تلك الشخصية المشاغبة وهي تجيب على والدها، ذاك المهيب الذي تخشاه وحده في هذا العالم: - الوقت سرقنا واحنا بنذاكر يابابا و...

فقاطعها بصرامة وحزم: - مذاكرة إيه وزفت إيه! إزاي تتأخري كده برا!
فحاولت تمارا التملص من حصاره عن طريق الإستعانة بوالدتها التي دائمًا ما تتستّر عليها: - ماانا قولت لماما إني هتأخر شوية صغيرين!
- كمان!
ثم صاح عاليًا: - زينب..!
عضت تمارا على شفتيها برعب حينما فتحت زينب الباب ودخلت مهرولة: - في إيه يارستم؟ بتزعق كده ليه؟
فسألها مباشرة: - بنتك قالتلك إنها هتتأخر برا وانتي وافقتي؟

فأجابت على الفور بإنكار: - أبدًا يا اخويا محصلش
فهمست تمارا وقد تأكدت من إنها ستنال عقاب صارم: - كده كملت
فصاح فيها رستم ب امتعاض: - كمان بتكذبي!
طالت نظراته المعنفة لها وهي عاجزة عن النظر إليه، وفجأة قال: - لآخر الأسبوع ده مفيش خروج من البيت، حتى لو امتحانات آخر السنة مش هتنزلي، ولو السنة دي شيلتيها زي اللي فاتت هتقعدي مع امك في البيت.

ورمقها ب حدة قبل أن يغادر الغرفة ومن خلفه زينب قبل أن تنفرد بها تمارا وتعاتبها..
ارتمت تمارا على طرف الفراش وهي تغمغم ب: - دي عيشه سودا، فينك ياظاظا كنت شايل عني ياحبيبي، أمتى ترجع بقى!
وأمسكت هاتفها ل تتصل بشقيقها، حيث كانت الوحيدة التي تمتلك رقمه الشخصي الذي يخفيه عن الجميع بعد أن أغلق الآخير، أجابها متعجلًا و: - تمرة قلبي، وحشتيني.

فقالت بصوت حزين يشوبه بوادر بكاء: - وانت كمان وحشتني أوي، أرجع بقى ياظافر مش عارفه أعيش في البيت ده وانت مش فيه
فسألها بقلق وهو ينهض عن مكانه: - في حاجه حصلت ياتمارا؟ انتوا كويسين!
- متقلقش كلهم كويسين، انا اللي مش متحملة ضغط بابا عليا من ساعة ما سافرت
ف ابتسم ظافر بشماته و: - أكيد رباكي من أول وجديد
فتلوت شفتيها ب استهجان معقبة: - حاسه بنبرة شماته في صوتك، عيب ده انا بنت قلبك ياأخي.

ف رقّ على الفور وهو يردد: - طبعًا بنت قلبي، طاوعي بابا بس وانتي ترتاحي
ف استمعت صوت أبيها وهو ينادي عليها بصوت مرتفع: - أنتي يازفته، العشا جاهز
ف أسرعت تمارا بإغلاق المكالمة و: - أقفل بسرعة كبسة، سلام
وأغلقت الهاتف، ألقى ظافر بهاتفه على المنضدة ودعس صبابة سيجارته بالمنفضة، ثم بدأ بإشعال جديدة عندما سأله مروان بفضول: - مالها تمارا؟

- بابا مستلمها من ساعة ما سافرت، ماانت عارف إني أنا اللي مربيها وانا اللي كنت مسؤول عن كل حاجه تخصها.

ف أظهر مروان عداءًا عليها وهو يردف: - سيبه هو يتصرف معاها، وبعدين أكسر للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرين
تنغض جبين ظافر و: - إيه العنف ده ياعم، مش للدرجة يعني، البنات دول عايزين معاملة معينة وانت بتربيهم، لو واد كنت كسرت دماغه مش ضلوعه بس، إنما البنت عايزة حضنك بس، عايزاك تسمعها، تناقشها، تتفاهم معاها، تقف في ضهرها.

نهض مروان عن جلسته بعد أن رمقه بعدم رضا و: - ولما تغلط أسقفلها بالمرة!؟، ده انت هتبقى أب لقطة والله
زفر ظافر زفيرًا مختنقًا من صدره وهو يعقب: - أكيد مش هخلي بنتي تحتاج كتف حد غيري تتسند عليه وتحكيله عشان أبوها راجل عصبي ومتهور، انا وبنتي هنبقى أصحاب قبل ما ابقى أبوها يامروان، حضني هيكون المكان الوحيد اللي تلجأ له وتستخبى فيه من الدنيا.

فتح مروان التلفاز و: - لأ الكلام معاك بالشكل ده هيفور دمي ياظافر، الحنية والدلع مطلوبين، لكن لكل شئ حدود، والشئ اللي يزيد عن حده ينقلب ضده، طول ماانا مدلع بنتي وأخطاءها ملهاش حساب هتفضل تغلط، عشان العقاب لو مش مؤلم سواء نفسي أو معنوي أو حسي عمرها ما هتتعلم، الوسطية مطلوبة في كل حاجه.

جلس مروان بجواره من جديد و: - خلينا نتفرج على الماتش أحسن
ثم سحب سيجارته من أصابعه ودعسها وهو يردد: - وكفاية تدخين عشان خنقتني
لم يكن ظافر مستوعبًا ما حدث، فقد علقت كلمات مروان الأخيرة بعقله، حقًا الثواب والعقاب گ كفتيّ الميزان لا بد وأن يكونا متساويتين، ولكنه مؤمن بمدرسة ومنهج معين في تربية الأناث تحديدًا لا يرغب في تغييرها، ورغم ذلك وضع رأي الأخير في الإعتبار أيضًا.

نظر ل شاشة التلفاز بدون تركيز، فقد اختلطت الموضوعات التي يفكر فيها برأسه بآن واحد مما جعله يتشتت، وفي النهاية لم يجد سوى ترك المكان والصعود لأعلى كي يُصفّي ذهنه قليلًا، تابعه مروان حتى اختفى ثم غمغم: - ربنا يريح قلبك ياظافر.

كانت شروق تنتظر على أحرّ من الجمر حضور رفيقتها التي بعثتها في مهمة سرية، جابت الغرفة ذهابًا وإيابًا وهي تفرك أصابعها بعضهم البعض، حتى دخلت سارة فجأة وأوصدت الباب من خلفها، أمسكت شروق بذراعها وهي تعنفها قائلة: - كُل ده ياسارة؟ ده انا شغلت أثير بالعافية!، ها عملتي إيه؟
- ملقيتش أي حاجه على تليفونها، ولا مكالمات ولا رسايل ولا أي حاجه من اللي توقعناها.

ذمت شروق شفتيها ب انزعاج و: - خسارة!
ف تحمست سارة على الفور وهي تردف: - بس لقيت حاجه تانية هتتجنني لو شوفتيها
- بسرعة انطقي ياسارة!
أخرجت سارة هاتفها وقد احتفظت بنسخة مصورة من تلك الصورة الموجودة على هاتف أثير، وما أن رأتها شروق حتى تدفقت الدماء بوجهها وارتفعت حرارة جسدها من المفاجأة، لثمت فمها وهي تدقق النظر في الصورة و: - دي صورة حقيقة! يعني إيه؟ هما مرتبطين ببعض؟!، معقول!

فشاركتها سارة التفكير معبرة عن رأيها: - أنا لحد دلوقتي مش مصدقة، ظافر إبن رُستم بيه أخرتها هيرتبط بموظفة إستقبال؟! بصراحة مش مصدقة، في سر تاني ورا الصورة دي!
- وليه لأ!، أثير مش وحشة، دي أحلى واحدة في قسم الإستقبال كله، بس ده مش سبب يخليها ترفع عينها فوق وتحطها على ظافر!

جلست شروق على مكتبها بعد أن ارتاح داخلها قليلًا، بينما تسائلت سارة بفضول: - هنعمل إيه بالصورة دي!
ف ضحكت شروق بمكر وهي تردد: - إحنا هنخلي الصورة دي حديث المدينة، هنبعتها على جروب الشلة وانتي عارفه البنات في النميمة مش بتتوصى، هي ساعة زمن وهتلاقي الفندق كله عرف إن أثير وظافر مرتبطين ببعض، وأكيد هي السبب في إنه هرب من أهله ومش عايز يرجع.

وعضت على شفتيها تكتم ضحكة شامتة تسربت لثغرها: - أنا متشوقة جدًا أشوف ردود فعل كل أصحابنا، وخصوصًا ياسر، مش هو طالع بيها السما أوي! أما نشوف هيقول إيه لما يعرف إن حبيبة القلب مش معبراه عشان طموحها عالي شويتين.

كانت سارة تستمع لها ب استغراب، رغم إنها عاونتها فيما حدث إلا إنها لم ترضى عما تفكر فيه شروق، هي تعلم إنها تميل ل ياسر وتفعل أقصى ما بوسعها للفت انتباه أو جذبه لها، ولكنه لم يرى يومًا سوى أثير، زميلته منذ أيام الدراسة الجامعية وهو الذي عاونها في البداية كي تتوظف بالفندق الذي يعمل هو فيه، كان هذا السبب كافيًا لنمو بذرة الحقد بداخلها تجاه أثير ومحاولة إيجاد ثغرة لها كي تنهي بها تفكير ياسر الدائم فيها، وها هي الثغرة أتتها على طبق من ذهب، ولم تتركها بسهولة.

رغم أن الأجواء مازالت شتوية إلا إنه معتاد على هذا الهواء البارد المُنعش، جلس ب أريحية على المقعد الممدد ب سطح الباخرة، السماء القاتمة في هذا الوقت من الليل والمزينة بالنجوم جذبت اهتمامه ليظل محدقًا فيها أثناء تفكيره..

أخفض بصره وهو ينهض واقفًا، تقدم من حافة الباخرة الأمامية ووقف شامخًا، وضع يديه في جيب الچاكيت وأخرج إحداهما ممسكًا بهاتفه الجوال، فتحه وتصفح صورة مازال محتفظًا بها بعد أن مسح أكثر من ألفين صورة، واحدة فقط ظلت معه لم يقوَ على مسحها قط، أطلق تنهيدة مُحملة بالهموم، وأطبق جفونه بقوة يعتصرها وهو يضغط على زر الطاقة لإغلاق الهاتف، ثم نظر للسماء وهو يهمس متسائلًا بفضول: - ياترى بتعملي إيه دلوقتي!؟

إنه نفس المكان الذي تلجأ إليه كل مساء، حيث السماء العالية بدون أن يكون برفقتها أي مخلوق؛ على سطح البناية العالية التي تقطن بها تنظر للدنيا التي تبدو صغيرة من أعلى وكأنها ذرّات تستطيع التلاعب بها بأصابع يدك..
وقفت أثير وهي تضم الوشاح الصوفي لصدرها شاعرة بالبرد، وللمرة الثامنة على التوالي تنظر لساعة هاتفها، ثم زفرت بقنوط وهي تتسائل ب استياء: - ياترى بيعمل إيه دلوقتي!؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة