قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثلاثون

لا تكاد تصدق ما حدث لها، تشعر وكأنها تعيش احداث فيلم سينمائي! فقط في تلك الافلام نجد الظابط يشير لآخر كي يتقدم قبل ان يقوم بتسليمه جواز سفر تلك التي تقف أمامه وهو يقول بروتينية نأسف. لن تستطيعي السفر، فمن غير المسموح لك مغادرة الاراضي المصرية. نعتذر! مشهد من فيلم عربي، صحيح؟! وهي من قامت بدور البطولة تلك التي مُنعت من الصعود على متن الطائرة المغادرة الى انجلترا برفقة والدتها، والتي قلقت من مشهد ابنتها وهي تتجادل كثيرا مع ضابط الجوازات، قبل ان تستدير عائدة متمتمة بكلمات باردة وصوت مذهول أنها قد تم منعها من السفر!

وقفت حينها والدتها للحظات مترددة، ولكن مع النداء الثاني للرحلة كانت قد اتخذت قرارها فالبقاء في مصر يعني شماتة الأعداء وسخرية من ظنتهم يوما أصدقاء، فسمعتهم تلوكها الألسن وقد سمعت أقاويل لا بأس بها أيام العزاء، فلم يراعوا حزن أرملة أو ابنة بصرف النظر ان كان المتوفي مذنب أم لا، فللوفاة حرمة يجب عدم المساس بها، وكم أرادت يومها الصراخ بهم أن كنتم تحتقرونه الى تلك الدرجة ففيما قودمكم لتقديم التعزية فيه؟ كان من الأفضل والأشرف لكم مقاطعة عزائه، ولكنكم جميعكم منافقون، أنتم الوجه الآخر له، ذلك الرجل الذي أفنيت شبابي، اجمل سنوات عمري معه، كي أحافظ على اسم عائلة الرازي، وأضمن لابنتي واجهة عائلية مرموقة، فلست أنا من أحمل لقب مطلقة تلك الصفة المرادفة للفشل، وأنا سليلة عائلات الأناضول، لم أكن لألوث اسم العائلة بهكذا صفة، على الرغم من خياناته المتكررة لي والتي كانت تأتيني تفاصيلها دون جهد يذكر مني، وكلما زادت خياناته زاد المقابل، من شقة في لندن، فمنزل على سفح جبلي من جبال الالب في سويسرا، ففيلا في نيس بفرنسا، وكل ذلك باسمها هي، ولعله كان يقوم بهذا كي يحتاط لليوم الذي ستظهر فيه حقيقته المخزية، وهذا ما كان سيحدث ان آجلا أو عاجلا، وساعتها فهي على يقين من أنه وبعلاقاته الاخطبوطية كان سيهرب خارج البلاد ليعيش عيشة الملوك ذاتها فهو قد عمل حساب ذلك اليوم وانتهى الامر، ولكن فاته أن يقوم من عمل لحسابهم بتصفيته فمن الواضح أن فضل قد أصبح كاردا محروقا بالنسبة له وليس أسهل من التخلص منه وبلمح البصر!

والآن ها هي تفر من بلدها برفقة ابنتها التي واجهتها حماتها برفضها أن تبقى ككنة لها، فعائلة المسيري عائلة عريقة، ترفض أن يختلط نسبها بآخر عديم الشرف، خائن ومجرم، فتلك وصمة عار لايمحوها الزمان!، وهي قد سمعت اهانات ابنتها بأذنها قبل أن تدلف مرحبة بدولت المسيري، لتقف خارجا تستمع لباقي حديثها المسموم، وهي بين نارين أن تدخل اليها فتوقفها عند حدها، وبالتالي فدولت لنتسكت بل ستزداد ضربات سياط لسانها، أو أن تنسحب بهدوء دون أن ينتبهوا لوجودها من الأساس، وتترك لشهرت حرية التعامل مع حماتها، واختارت الحل الثاني لتنصرف رافعة رأسها تكبت دموعها كعادتها دائما، وبعد برهة قصيرة فاجئتها ابنتها برغبتها بالسفر معها، وقد تدبرت أمر التذاكر الى لندن، وها هما في المطار، ولكن من الواضح أن ابنتها تعاني من مشكلة ما تعيق سفرها، لتجد نفسها في موضع اختيار للمرة الثانية لهذا اليوم، هل تنتظر معها أم تسافر هي كي تخلص من هذا الكابوس الذي تحياه منذ مقتل زوجها في السجن وحتى اللحظة؟ لتختار ترك ابنتها والهروب بنفسها للمرة الثانية، تاركة ابنتها تواجه مصيرها بمفردها، فهي أن كانت واثقة من شيء فهو أن ابنتها أكثر من قادرة على العناية بنفسها، وكأن تربيتها الانجليزية الباردة قد صقلتها جيدا لتقف أمام المِحن برأس شامخ وبرود صقيعي لا ينصهر!

انتبهت شهرت من أفكارها على صوت جلبة أمام باب غرفة مكتب الضابط والذي تركها منذ دقائق، بعد أن فجّر أمامها السبب في منعها من السفر، ألا وهو، زوجها العزيز!

وكأنها استحضرته بذهنها إذ سرعان ما انفتح الباب ليدلف منه السيد المبجل زوجها المحترم، بكامل هيئته وجاذبيته، ليتبادل بعض الكلمات البسيطة مع الضابط حيث تركه بعدها الأخير منصرفا، فيما وقفت هي تطالعه بأنف مرفوع ونظرات متجمدة!

تقدم شريف منها وهو يضع يديه في جيبي بنطاله القماشي الأسود اللون، لتبتعد سترته السوداء الى الخلف مظهرة قميصه المشابه للونها، والذي التصق بعضلات جذعه العلوي، وكأنه ينقصه جاذبية أضافية، فاللون الأسود قد زاد من وسامته المدمرة!

وقف شريف على بعد خطوات منها وقال بهدوء: - كنت فاكرة انك تقدري تهربي مني بسهولة؟
شهرت بإباء أثار اعجابه بشدة: - دا مش هروب، دا تصحيح وضع كان لازم يتصلح من زمان!
شريف بتقطيبة وهو يدنو منها مقللا المسافة التي تفصل بينهما: - وضع؟! وضع ايه دا اللي عاوز تصححيه؟
شهرت وهي تتعمد ألا تتلاقى نظراتهما: - وضعنا! حياتنا مع بعض، جوازنا من الآخر يا شريف، وضع غلط ولازم يتصلح.

شريف مكررا بذهول وصدمة: - ايه؟ قولي تاني كدا، جوازنا!
سكت لثوان تابع بعدها بتساؤل مرتاب: - وجوازنا دا. مش معناه أنا وأنتي؟! أنا بقه فين من قرار سيادتك دا؟..
شهرت وهي تنظر الى البعيد: - جوازنا ما كانش قرارك ولا اختيارك يا شريف، انا اتفرضت عليك، ودلوقتي بعفيك من الفرض دا.

شريف بصوت بدأ يعلو تدريجيا: - وهو أنا كنت اشتكيت لك؟ ولّا انت اللي عاوزة تهربي من الحياة اللي اتفرضت عليكي انتي كمان، صح؟

لتضع عينيها نصب عينيه بدون ارادة منها وتجيبه دون أن يطرف لها جفن وبهمس صادق: - جايز ارتباطنا ببعض فرض فعلا، لكن جوازي منك كان اختيار. مش فرض يا شريف!
شريف بشكّ وحيرة: - يعني ايه؟

شهرت بابتسامة ذابلة: - يعني أنا كمان أخدت الأمر انك زوج المستقبل، وأنه ارتباطنا دا أمر واقع، لكن. – وسكتت للحظة تابعت بعدها وهي تطالعه بعينين مشعتين بصدق عميق – انا اللي اخترت أكمل يا شريف، من أول ما شوفتك شدتني، حاسيت أنه حياتي معك هتبقى مختلفة، ودا اللي حصل فعلا، وأنا صارحتك ب دا قبل كدا، لكن لما الحياة دي تبقى مهددة، لازم وقفة، خصوصا وأن اللي بيهددنا هيلازمنا على طول، دي سمعة يا شريف، وصمة عار على رأي مامتك!

ليقطع شريف الخطوة الفاصلة بينهما ويقبض على كتفيها وهو يهزها قائلا بحدة مكتومة: - وأنا مش ابن أمي عشان أمشي ورا كلامها!
شهرت بانفعال وقد بدأ تماسكها بالتشقق: - دا مش كلامها هي لوحدها، عارف في العزا الجملة اللي كنت بسمعها تقريبا طول الوقت هي ايه؟..

نظر اليها بتساؤل فأردفت بابتسامة مريرة: - سبحان المعزّ. المذلّ! اللي حصلنا دا كان ذل يا شريف، للأسف بابا عمل حساب كل حاجة الا حساب اليوم دا، كان مرتب نفسه لو اتكشف ازاي يهرب بره مصر، ومظبط أموره هناك، لكن الشيء اللي معملش حسابه انه يموت ويسيبنا كدا. حياتنا حكاية لكل الناس، وأنا أرفض أنك تكون طرف في حاجة مالكش يد فيها، خصوصا لما تمس الشرف والكرامة، الحاجتين اللي بابا الله يرحمه كان شايلهم من حساباته نهائيا، كان فاكر انه بفلوسه هيبتدي حياة تانية في بلد تانية وهناك يعمل لنفسه اصل جديد وكأنه اتولد من تاني.

قاطعها شريف بحنق تام: - انا جوزك، اللي يمسك يمسني، وأي حد يتكلم ميهمنيش، كل عيلة وفيها الكويس وفيها الوحش، سفرك دا يعني هروب من كلام الناس، وكأنك بتعترفي أنه اللي بيقولوه صح، وأنه عيلة فضل الرازي لازم تدفع تمن اللي هو عمله، لكن العكس المفروض هو إلى يحصل، تقفي وراسك مرفوعة، حتى لو والدك غلط لكن هو اخد جزاؤه في الدنيا، لما اتقتل على ايدين الناس اللي كان بيحميهم، غير سمعته والتشهير اللي حصل له، دا طبعا غير حسابه عند ربه، مش عدل أبدا انك تدفعي تمن غلط ما عملتهوش.

شهرت هاتفة بانفعال تام وقد انهار تماسكها: - لا. لازم أدفع، عشان اسمي شهرت الرازي لازم ادفع، وعشان احنا عايشين في مجتمع مبيرحمش، لو حد غلط او حتى ارتكب جريمة لازم اهله كلهم يدفعوا التمن، من سمعتهم وكرامتهم، حتى ماما. شويكار هانم اللي عمر ما هزّها أي شيء، هربت. مقدرتش تواجه، مش هينفع نعيش وراسنا نازلة لتحت، بابا كسر لنا رقبتنا اللي كنا دايما رافعينها، انهرده مامتك حطيتني قودام حقيقة كنت بهرب منها...

نظر اليها باستفهام فتابعت بانكسار وأسف: - حياتنامع بعض هتبقى ازاي بعد اللي حصل؟ أنا ما عدتش (لم أعد) شهرت الرازي الزوجة اللي تليق بشريف المسيري، كان لازم أبعد وأنت كنت لازم تسيبني أبعد...

صاح شريف بعنف: - مينفعش، مقدرش أسيبك تبعدي، ومش عاوزك تبعدي!
صاحت شهرت بدورها وقد انهمرت دموعها تغرق وجهها: - ليه؟ شفقة! ولا عطف؟ ولا عشان عاوز تبقى كريم معايا للآخر وتقف جنبي في محنتي، ما تتكلم يا شريف، منعتني من السفر ليه؟ مش عاوزني أبعد ليه؟

صرخ شريف عاليا ويداه تعتصران كتفيها: - لأني، بحبك!
سكنت شهرت تماما ووقفت تطالعه بفم مفتوح وعينين محدقتين بذهول وصدمة بينما كرر هو ثانية وهو يسحبها اليه حتى تلامست أنفاهما:.

- بحبك، ومش عاوز غيرك، وآسف، لأني مش هقدر أسيبك تبعدي مهما حاولتي، أنتي اللي رجعتيلي شريف الانسان، وأنا مش ممكن أخسره أو أخسرك مهما حصل، حتى لو كان المقابل أني أخسر عيلة المسيري كلها، لأني قصاد الخسارة دي هبقى كسبت حياتي كلها، وانتي يا شهرت. انتي حياتي يا حبيبتي!

شهرت بهمس مغلف بنبرة عدم التصديق: - شريف!
ولكنه لم يمهلها الحديث إذ سرعان ما تلقفتها ذراعاه ليجرفها بعناق اكتسحها بقوة، وما أن رفع رأسه همس قائلا وهو يحيط وجهها براحتيه الكبيرتين:
- بيتهيالي نمشي أحسن، عشان الظابط اللي عمل معايا واجب وسابنا براحتنا لو دخل علينا فجأة مش هيبقى في مصلحتنا أبدا!

ضحكت شهرت وسط دموعها ليردف بحنان بعدها وعيناه تتملّان من حسنها: - مش عاوز أشوف دموعك تاني أبدا يا حبيبتي، انا عارف انك مترددة تصدقيني ولا لأ، بس أوعدك أني همسح كل ذكرى وحشة لينا، وهعوضك عنها بأحلى أيام هتكون هي دي ذكرياتنا اللي هنحكيها لولادنا وأحفادنا!

شهرت بأسى: - ولادنا!
شريف بابتسامة حانية وصوت كله عزيمة: - أيوة ولادنا، أنا هخدك ونلف العالم يا شهرت، وبإذن الله هتتعالجي، ولو لاقدرالله ما حصلش عندنا أحمد ابني، نحكي له ذكرياتنا سوا ولأحفادنا منه! مش أحمد ابنك بردو ولّا ايه؟

شهرت بابتسامة بدأت تتسع: - طبعا يا حبيبي، ماتتصورش أنا بحبه قد ايه!
شريف بتقطيبة: - قلتي ايه؟
شهرت بابتسامة: - حبيبي!
شريف بنفي قاطع: - لالا مش دي ما انا عارف اني حبيبك – اختفت ابتسامة شهرت ليرتفع حاجبها في توجس بينما أكمل شريف – أنا قصدي الجملة اللي بعديها. بتحبي مين؟

شهرت بعدم فهم: - بحبه أ...
ليقاطعها بعينين تلتهمان وجهها الفتان: - غلط! بتحبي دي ما تتقالش (لا تُقال) إلا ليا أنا. ولآ حتى لابننا، لأني غيور جدااااا، مفهوم؟!

فهزت شهرت رأسها ايجابا وابتسامتها تتسع وهي في حالة بين الذهول وعدم التصديق، لتهمس بحب لمع بين فيروزيتيها:
- مفهوم. حبيبي!
فاعتصرها بين له ذراعيه قبل أن يهمس لها وهو يحثها على السير: - طيب ياللا بينا وبعد كدا يامدام مش هتتحركي خطوة واحدة من غير إذني.
أوقفته شهرت وهي تتسائل: - صحيح يا شريف. عملت ايه مع مامتك؟

فلمعت عينا شريف بمويض شرس قبل ان يقول بابتسامة صغيرة: - ما تقلقيش حبيبتي. المهم أني عاوزك تطمني. دولت هانم مش هتضايقك تاني أبدا!
قطبت شهرت وقالت في توجس وريبة: - ليه؟ عملت ايه؟..
شريف ببساطة: - تقدري تقولي انها اقتنعت بفكرة مامتك!
نظرت اليه شهرت باستفهام فتابع وهو يحرك كتفيه علامة اللا مبالاة: - السفر له سبع فوائد!

وقبل أن يتثنى لها التعليق كان يرافقها للخارج ليصادف الضابط أمام الباب فشكره على تركه لمكتبه لهما، وانصرف مع زوجته بينما عيناه تلمعان بقوة وشعور بالنصر، فلقد وقف أمام دولت هانم. وواجهها بكل قوته، بأنه على استعداد للتنازل عن ثروة المسيري بل والاسم نفسه المسيري، ولكنه ليس على استعداد للتنازل عن شريف. عنه هو! فهو قد اختار أن يحيا ولأول مرة كما يريد هو لا كما فرض عليه، وهو اختار زوجته، ضاربا بعرض الحائط أيّة أعراف أو بروتوكولات تمنع ذلك، وعندما صرخت أمه تواجهه بأنه لا قِبل له بكلام الناس كان جوابه كلمة واحدة. طُزْ!، فهو قد تعلم من تجربته السابقة، فقبلا كان غرّا ساذجا لا يزال شابا يافعا استطاعت هي ووالده الضغط عليه فترك زوجته وابنه، ولكنه الآن رجلا يشار له بالبنان، بل أنه هو من يدير ذلك الصرح العملاق شركات المسيري بمفرده، وهدد بأنه سيترك كل شيء وهو يعلم في قرارة نفسه أن أمه لن تقبل، فابنها هي من يمسك بزمام أعمال العائلة بيده، فهو قد ورث أسهم والده في شركات العائلة والبقية ما هم الا مساهمين بنسب بسيطة مقارنة به، لتسكت على مضض، ولكنها أخبرته أنها ستسافر حتى حين. أو بمعنى أدق حتى تموت فضيحة حماه، فهي لن تستطيع مواجهة الناس أو حديثهم!

وها هو قد ربح وأعاد حبيبته اليه، وابنه وقد رجع الى احضانه، فهذا هو الدفء الحقيقي الذي اكتشفه، فأموال الدنيا لن تقيه برودة الوحدة ولا حياة عادمة. لا طعم لها ولا رائحة، طالما خلت من قلب محب بصدق، فوحده الحب من ينعش الروح ويبهج الحياة!

يا تسنيم يا بنتي مينفعش كدا، أسبوع دلوقتي يا حبيبتي وانتي حابسة نفسك لا بتروحي كليتك ولا حتى بتخرجي من أوضتك، بس لو تقوليلي ايه اللي حصل يوم ماكان فواز هنا بعد الاستاذ فاروق ما مشي، وسيبتكم وقمت، من يومها وحالك متشقلب، حتى هو كمان لا بيجي ولا بشوفه، يدوب على قد مكالمة التليفون ويقفل على طول، كأن حد بيجري وراه.

سكتت تسنيم ولم تعقّب، ماذا تقول؟ أتخبرها أنها كانت على وشك تسليم نفسها له بكل بساطة ويسر؟ أتقول لها أنها اكتشفت أنها أضعف من الضعف ذاته أمامه وأنها في لحظة كادت تخسر نفسها لولا أن أفاق هو أولا من لحظة السُّكر التي أحاطتهما؟ هي زوجته شرعا وتدرك هذا، ولكنها لاتريد أن يتمم زواجهما بهذا الشكل، بل هي تحلم كسائر العرائس بزوجها الذي يبادلها حبا بحب فيكون لحظة اتمام زواجهما هي ذاتها لحظة تتويج ذلك الحب بدمج أرواحهما قبل أجسادهما، ولكن ما حدث لم يكن الا رغبة بحتة من جهته، وإلا لماذا لم يهمس له بحبه لها وهو في أتون شغفه؟ تعلم أن قلبه لا يزال يحمل أثر جرحا تركته تلك الحية عميقا لن يندمل بسهولة، ولكنها قبلت بذلك، وقد أخذته كتحدٍّ لها، فهي ستفوز بقلبه، وستمحو أي اسم قبلها، بل وستزرع بداخل رأسه ذكرياتها هي فقط ماحية أي ذكرى لأخرى، سواءا سعيدة أو حزينة، لتسقط مع أول امتحان حقيقي أمام نفسها، ما أن ذاقت قربه، وشعرت بحرارة أنفاسه تضرب وجنتها، حتى رفع قلبها الضعيف رايته، واستسلم جسدها الخائن للمساته، والتي كانت كالنار وكأنه يوسمها باسمه.

نظرت تسنيم الى جدتها التي نادتها برجاء ويأس لتقول بخواء: - ما تقلقيش يا ستِّي، أنا قلت لك شوية برد وان شاء الله هبقى كويسة.
الجدة بعدم تصديق: - شوية برد يخلوكي ماتبطليش عياط!
تسنيم بانكار ضعيف: - يا ستّي دا زكام، عشان كدا تلاقي عينيا حمرا بتدمع على طول.
الجدة بشكٍّ: - طب وفواز اللي ما شوفتش من اسبوع؟ عنده برد هو كمان! يا بنتي ريحيني ايه اللي حصل بينكم يومها؟ اتخانقتوا تاني؟!

وجدت تسنيم أن هذا أنسب جواب ولكن ولأنها لم تعتد الكذب اكتفت بهز رأسها بالموافقة، فعلى أية حال ذلك اليوم هو السبب فعليا في حالتها الراهنة، قالت الجدة بلهفة:
- وليه بس يابنتي؟ ما انا سبق وقلت لك انه فواز قلبه أبيض وطيب، أنا عارفة انك هتتعبي معه بس استحمليه شوية، هو اللي شافه يا عيني مش قليل.

قاطعهما صوت رنين جرس الباب فنهضت تتسند على ركبتيها بصعوبة وهي تقول: - شكله فواز، انهرده لما كلمني حلفت عليه انه يفوت علينا وهو راجع من الشغل، ودا معاده، أنا هروح أفتح له وانت قومي كدا اغسلي وشِّك وغيري هدومك وسرحي شعرك، اوعي يشوفك معيطة وعاملة في نفسك كدا، هو حفيدي آه لكن انتي عندي أغلى من بنتي، اتقلي. التقل صنعة، خليه يشوفك بدر منوّر. ولا كأن غيابه الفترة اللي فاتت دي كلها فارقة معاكي.

وغادرتها الجدة وتركتها وقد دفعت بالحماس الى عروقها بكلماتها الأخيرة، لتهمس بوعد:
- ماشي يافواز، يا أنا يا أنت. أما كنت أنسيك اسمك، ما بقاش أنا تسنيم!

يا حاجة افهميني...
قاطعته الجدة بحزم وغضب وهي تنظر اليها من مكانها حيث جلست على المقعد في حين وقف هو أمامها كالطالب المعاقب:
- أفهم ايه؟ قلت لك قبل كدا وفهمتك بدل المرة عشرة. مراتك غلبانة ويتيمة، ماتاخدهاش بذنب غيرها، ومهما كان هي صغيرة في السن، وانت ولا كأني بتكلم.

زفر فواز بضيق وقال وهو يخبط راحة يده اليسرى على ظهر يده اليمنى: - أنا مش فاهم ايه اللي حصل لدا كله؟
الجدة بنصف عين: - ايييييه، بقه مش عارف يا استاذ يا كبير؟
للحظة شكّ فواز أن تسنيم قد صارحتها بما حدث! ولكن لينفض هذا التفكير من رأسه رافضا لهذا الاحتمال بكل قوة، لأنه من غير المنطق أن تذهب اليها تسنيم وتعترف بكل بساطة أنها كادت تسلّم نفسها ل، زوجها!

كاد يطلق تأوها عميقا، فذكريات ذلك اليوم لا تنفك تهاجمه في صحوه ومنامه، حتى أثناء عمله يتراءى له ما أوشك على الحدوث بينهما، أو بمعنى أدق ما كاد يموت هو ليحصل عليه! رباه. لم يكن يتصور مطلقا أن تكون تلك الصغيرة بمثل هذه الرقة والنعومة بل والدفء! فلا تزال أنفاسها الدافئة يشعر بها فوق وجهه، وهمساتها التي تذيب الحجر الصوان وهي تنطق باسمه برجاء، لم يعرف أتترجاه أن يتركها أم أن يطفئ شوقهما الذي كاد يميته هو شخصيا لينهل من نبع حنانها العذب والذي رآه داخل عسليتيها.

لا يعرف كيف استطاع مقاومة ذلك الهاجس الذي كان يدفعه ليستسلم لنظراتها العاشقة! نعم، هو يعلم انها تحبه، لقد خانتها عيناها ووشت بها لديه، تلك النظرات التي رمقته بها لتخبره بما تكنه له فكانت أفصح من أي كلام فعلا، ولكنه لم يكن لينتهز ضعفها وحبها له، لا يدري لما ولكنه وجد أنها لا تستحق منه أن تكون مجرد اشباع رغبة، او توق يكاد يفتك به اليها، وفي نفس الوقت لا يريد خوض علاقة حب أخرى غير متكافئة، فهي صغيرة جدا بالنسبة له، ما بينهما يجعله ان كان تزوج كما كانوا يفعلون قديما لكانت ابنته في مِثل عمرها الآن، وهو لم يكن ليكرر خطئه، فالحب ضعف، والضعف يوُلد الخطأ. وهو قد قرر نبذ الضعف تماما من حياته، ولكن. لما هذا الشعور بالمرارة وأنه على وشك خسارة فادحة؟ أسبوع كامل وهو يحارب نفسه بقوة كي لا يراها أو يسمع صوتها، ولكن اليوم وبعد أن صارحته الجدة انها ومنذ اسبوع تقبع في غرفتها ملازمة للفراش، وكانت قد رفضت أن تخبره الجدة قبلا معللة أنها ستكون أحسن فما هي فيه ما هو إلا أعراض برد. وستكون بخير! ما ان علم بأمر تعبها حتى سارع بالحضور متعللا بتنفيذه لأمر الجدة برؤيته اليوم، بينما في الواقع هو لا ينفّذ الا رغبته هو في رؤيتها وسماع صوتها، حتى وان كان ينكر ذلك امام نفسه!

نادته الجدة قائلة بحنق: - فواز. روحت فين يا بني، ما ترد عليا!
زفر فواز بتعب ونظر اليها قائلا: - نعم يا حاجة، اؤمريني، قولي اللي يرضيكي وأنا تحت أمرك.
الجدة بتساؤل: - يعني لو طلبت منك حاجة مش هتمانع؟
فواز بشبح ابتسامة: - لا مش همانع يا حاجة، أنتي عارفة اني مقدرش أرفض لك طلب.
فهتفت الجدة باندفاع: - يبقى تتمم جوازك على تسنيم!
فغر فواز فاه دهشة واتسعت عيناه في صدمة هاتفا: - ايه؟!

نظرت اليه الجدة قائلة بحزم: - ايه اللي ايه؟ هي مش مراتك وانت كاتب عليها من مدة وأشهرنا الجواز كمان؟ يبقى لازمته ايه التأجيل؟ حكاية انه كل واحد فيكم عايش في مكان مش بالعاها بصراحة.

فواز بتردد بسيط: - أيوة بس. بس جوازنا كان.

أشهرت الجدة سبابتها في وجهه وهي تنهره آمرة: - اوعى. شوف اوعى تقول عشان الناس وكلام الناس وتاخد بالك منها والكلام دا، انا لما جوزتهالك عشان تعمل معها عيلة وتفتح بيت ويبقى لك زوجة تونسك وتشيل عنك الهم اللي حنى كتافك، وانت عشان تبقى لها عزوة وسند، وتبقى لها زوج وأخ وأب وعيلتها كلها، مش جوزتكم لبعض جواز مؤقت ولا كدا وكدا، لانه دا يبقى حرام يا استاذ يامتعلم يا بتاع المدارس، وأنا مش هضحك على ربنا أستغفر الله العظيم، وأنا بقولك أهو. موافق يبقى تنفذ إلى قلت لك عليه وتروحوا تعيشوا في شقتك فوق وتتلموا ف بيت واحد، لكن لو رفضت...

وسكتت ليطالعها فواز بريبة قائلا: - ايه؟..
الجدة ببساطة: - يبقى زي ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف، وتسيب البنية تشوف حالها يا بني، أصله ميرضيش ربنا بنت زي القمر وأخلاق مافش بعد كدا وتفضل راهنها جنبك قال ايه بتخل بالك منها، لأنه في غيرك كتير يتمنوا تراب رجلها وبردو هيخلوا بالهم منها، مش بس كدا. دول هيحطوها في حباب عينيهم من جوة!

نار تتصاعد في جوفه مع تعاقب كلمات جدته ومع آخر حروفها صرخ هو في غضب وصدمة مما يسمع:
- إيه؟!، اللاه. جرى ايه يا حاجة؟ انت عاوزة تجوِّزي مراتي لغيري؟
الجدة ببساطة أغاظته: - ما هي وقتها يا بني مش هتبقى مراتك. هتبقى طليقتك، ومالهاش عدة كمان عشان ما اختليتش بيها، أنا يمكن مش متعلمة لكن سألت الأبلة وفاء مدرّسة الدين اللي فوقينا، والله يكرمها نورتني!

فواز بسخرية ومرارة: - اللاه. دا انتي عاملة حسابك اهو وسأله ومطمنة!
الجدة بتأكيد: - طبعا، دا شرع ربنا، عاوزني أخالفه؟، المهم قلت ايه. نفرح بيك انت وهي على آخر الاسبوع كدا ونعمل لكم زفة ومالكش دعوة بالناس أنا هقول أني صممت ما تدخلوش لغاية ما نعمل فرح، ولّا تخلص البنية من شبكتك دي ووقف حالها وتسيبها تشوف نصيبها.

وقف فواز قابضا على يديه بجواره بقوة هاتفا بكل عزم: - لا يا جدتي أنا...
قاطعه صوت ناعم يهتف بكل طاقته: - بس أنا مش موافقة يا ستي!
طالعت الجدة تسنيم التي دلفت دون انتباه منها بينما هدر فواز بذهول وغضب: - نعم؟ مش ايه؟
تسنيم ببرود شديد: - مش موافقة، ايه. أستهجاها عشان تتأكد؟..
نهضت الجدة بتثاقل واقتربت منها وهي تقول بينما وقفت تسنيم تبادل فواز النظر بكل جرأة وتحدّ:.

- ليه بس كدا يا تسنيم يا بنتي؟ دا فواز ابن حلال وشاريكي.
تسنيم ببرود وعينيها لم تبرحا وجه فواز: - ابن حلال يا ستي وجميله ووقفته جنبي فوق راسي وأنا ما قلتش حاجة، لكن حقي أني لما أتجوز ما يكونش رد جميل ولا واجب لازم يتعمل!

الجدة بتقطيبة: - يعني ايه؟
تسنيم وهي ترفع ذقنها موجهة نظرات قوية لفواز الذي وقف يطالعها بغموض وحدها اختلاجة عضلة فكّه ما وشت بما يعتمل داخله من انفعالات مكتومة:
- يعني حقي انه جوزي يبقى حلم حياته انه يتجوزني أنا. تسنيم، عشاني أنا، بيحبني أنا. مش مجرد شفقة وواجب مفروض عليه ورجولته ماخلِّتوش (لم تجعله) يرفضه!

الجدة بتوجس: - تسنيم. انت قصدك.
وسكتت لتكمل تسنيم بقوة وهي تنظر الى فواز الصامت تماما: - الطلاق. طلقني يا فواز!
شهقت الجدة بذهول في حين وقفت تسنيم بكل ثبات، ليتحرك فواز أخيرا ويدنو منها، ويتكلم لأول مرة منذ اقتحامها جلسته وجدته قائلا بكل هدوء لا يخلو من حزم:.

- الجواز مش لعبة، وقت ما تحبي تتجوزي نتجوز، ووقت ما تعوزي تطلقي أوافق! دي حاجة، الحاجة التانية عيب اوي تقفي قودام جوزك وتتكلمي عن واحد تاني حتى لو بصيغة الغيب، لانه المفروض جوزك دا هو اللي هيشاركك مش بس أحلامك لا وحتى النفس اللي بتتنفسيه، تالت حاجة وأهم حاجة.

سكت يتابع أثر كلماته على وجهها بينما التزمت هي واجهة باردة تخفي غيظا شديدا ولكنها لن تدعه يرى الى أي مدى استفزها بجبروته وغروره الذكوري، ليردف بعدها بجدية:
- فرحنا يوم الخميس الجاي، يعني كمان ست أيام، تقدري تعزمي الجيران ياحاجة، والشقة فوق جاهزة. مش ناقصها غير.

ومال عليها هامسا بابتسامة ساخرة: - تنوريها يامراتي!
ليردف بعد هنيهة بينما انطلقت زغاريد الجدة عاليا: - مبرووك. يا عروسة!
وفيما كانت الجدة تحتضنهما مباركة بحب ولسانها يلهج بالدعاء لهما بالذرية الصالحة كانت هي تتبادل النظرات مع فواز، وعيد من ناحيته على جرأتها في تحديه، ووعد من جهتها على اعادة برمجة بوصلة قلبه. فلن ينبض الا باسمها هي وحده!

يا بنتي بقولك أنا جنب مدرسة حمزة، كنت بشتري شوية حاجات وقلت أعملها له مفاجأة وافوت عيه ونروّح سوا...

سكتت نجوان تستمع لصديقتها في الطرف الآخر من الهاتف بينما تحث السير تجاه مدرسة زوجها:
- سيدي يا سيدي، يا مفاجآتك يا نونة، قولي انك مقدرتيش على بعده وبتتحججي انك جنب المدرسة، أو انك غيرانه وهتموتي تشوفي شكل البنات إلى بيدرس لهم، ما هما اعدادية يعني اربعتاشر خمستاشر سنة كدا، اعترفي صح؟

تأففت نجوان بزيف وقالت بانكار غير صحيح: - لا طبعا، بصي شكلك كدا عصام ناسيكي ومفوّقة عليا أنا.
ريما بضحكة ساخرة: - مين دا اللي ناسيني؟ دا من يوم مامعتز اشتغل معنا وهو بقه ييجي هنا يمكن أكتر ما بيروح شغله، أنا مش فاهمه حاطة في دماغه ليه؟

نجوان بدهشة: - ليه؟! كل دا وبتسألي؟ اذا كنت أنا يا بنتي ما شوفتوش معاكي الا مرة ولا اتنين وانا عندك في الشركة واخدت بالي هو بيبص لك ازاي ومش بيشيل عينه من عليكي، ما بالك عصام بقه؟ مجنون ريما!

هتفت ريما معترضة: - انا مش فاهمه ايه اللي في دماغك انتي وهو؟ يابنتي بقولك مامته كانت زميلة لبابا، وهو انسان محترم جدا، وبعدين دا يدوب معنا من عشر أيام بس، لحق يبص او يعمل؟ دا طيب جدا يا نجوان.

نجوان بحزم: - اقعدي انتي كدا قولي طيب وطيب وطيبة قلبك دي اللي جايباكي ورا دايما، ولا انتي نسيتي ممدوح، مش كان صعان عليكي ووافقت عليه أصلا عشان بيحبك!

ريما بتصلب: - نجوان انتي عارفة السبب اني وافقت عليه، داغير اني أرفض انك تقارني معتز بممدوح، معتز انسان بسيط وواضح وعارف من الاول اني مخطوبة ولما بيشوف عصام عمره ما اتكلم معه بطريقة وحشة او تجرح كرامتي قودامه. ولو سمحتي يا ريت ما تجيبيش سيرة اللي اسمه ممدوح دا تاني.

نجوان بأسف حقيقي: - أنا آسفة والله يا ريما ما أقصدش، لكن أنا خايفة عليكي فعلا، انت قلبك طيب اوي يا ريما.

ريما متقبلة لاعتذار صديقتها: - خلاص ولا يهمك يا نونة، روحي انتي لجوزك عشان متتأخريش، وابقي شوفي وقتك فاضي امتى عشان عاوزة أشوفك.

نجوان بابتسامة راحة لصفح صديقتها عنها: - وهو كذلك ريما، سلام حبيبتي.

وأنهت المكالمة وأغلقت الهاتف ووضعته في حقيبتها اليدوية وهمّت بعبور الشارع الى المدرسة لتشاهد ما جعل قدميها تتسمران في الأرض، فأمامها على الناحية المقابلة من الطريق يقف زوجها شبه محتضنا لأخرى، وما أن ابتعد عنها حتى ظهر وجهها، لتشهق نجوان في صدمة بالغة ويسقط من يديها حقائب مشترواتها، بينما غطت فمها براحتها، بينما حمل زوجها صاحبة الوجه الذي لن تنساه. وهل تنسى الزوجة غريمتها والحب الأول لزوجها، بلى، فقد كانت هي بين يديه، يحملها برفق، ويحتضنها بحنو، في ذات المكان الذي لا تنام الا فوقه. تهدهدها ضربات قلبه، ولكن الآن من يحتل ذلك المكان كانت أخرى، كانت، مايا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة