قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

رواية إلا أنت (نساء متمردات ج3) للكاتبة منى لطفي الفصل الثاني

نزل درجات السلم العريض شامخا برأسه، غير ملتفتا لتلك التي تتبعه وهي تتحدث بصوتها الناعم ال. آمر كعادته دوما!

وصل الى الطابق السفلي ليسير بخطوات قوية حيث الشرفة الخارجية فيلقي تحية الصباح الى والدته الجالسة بأناقتها المعهودة تتناول افطار الصباح، قبل أن ينضم اليها فيما دلفت الأخرى برقّتها الطبيعية لتلقي بدورها تحية الصباح على حماتها قبل أن تتخذ مكانها حول الطاولة وتحديدا أمام زوجها، ذلك المتجاهل لها منذ ليلة الأمس!

نظرت المرأة الأكبر سنًّا الى تلك الشابة التي تجلس بهدوء تام تتناول طعام الافطار فيما عيناها ترمقان ذلك المتجاهل عمدا لها بنظارات غضب بارد، وشت بما يعتمل في صدر صاحبتها من ضيق!، لتقابل نظرات حماتها لها بدون تعبير، جعل الأخيرة تعمد لفتح الحديث علّها تعلم ما الذي جرى بين ابنه وكنّتها للمرة الألف:
- شايفاك مبدّر يعني يا شريف، وراك مشوار قبل الشركة؟

شريف وهو يتناول طعامه بهدوء: - أيوة يا ماما، عندي مشوار هعمله وبعدين هطلع على الشركة.
ابتسمت دولت هانم وقالت وهي تشير لكنّتها برأسها كي تشارك بالحديث: - طيب يا ريت متتأخرش انهرده على الغدا.
رفع شريف عيناه ناظرا الى امه بنظرة عادية سائلا بلا مبالاة: - ليه؟ فيه مناسبة وانا معرفش؟

كاد البرود الانجليزي الذي يكسو تعبيرات شهرت زوجته أن يتصدع وهي ترى كمية اللامبالاة التي يتحدث بها زوجها الوسيم، بينما استدركت دولت الوضع قائلة بضحكة صغيرة:
- جرى ايه يا شريف، انت هتعمل نفسك ناسي؟
ثم وجهت حديثها لكنتها قائلة: - ولا يهمك يا شهرت. أكيد هو فاكر وعامل لك مفاجأة ومخبِّي.
شريف وهو يحرك كتفيه بلا مبالاته المعهودة عاقدا جبينه بجهل: - مفاجأة؟!، مفاجأة لمين وليه؟

فقط تقلص في أصابع يدها ليمنى ما أعلمه أن تلك الدمية الجميلة ذات قالب الثلج قد تأثرت ببروده ولا مبالاته، ليرتفع طرف شفته العليا في ابتسامة ساخرة سرعان ما أخفاها فيما قالت محدثة حماتها ببرودها الانجليزي المعروف:
- ما تشغليش بالك يا طنط، واضح انه شريف بيه مشغول أوي لدرجة أنه ينسى مناسبة زيّ دي!

كاد شريف يقهقه ضاحكا ولكنه افتعل البرود وأجاب ببساطة وهو ينهي افطاره بمسح فمه بفوطة المائدة:
- أكيد طبعا اليوم اللي اتولدت فيه شهرت فضل الرازي لازم مصر كلها تحتفل بيه.
ونهض واقفا فيما طالعته هي بصدمة كادت تجعله يهتف منتصرا فها هو قد نجح في زعزعة قشرته الصلدة ولكنها لم تكن سوى لحظات عاد قناعها بعدها بصلابة أشد فيما هتفت أمه بتأنيب عاقدة جبينها:
- شريف!

مال شريف يقبّل رأسها قبل أن يتناول أغراضه الشخصية ويعتدل واقفا وهو يقول: - معلهش يا ماما. أنا بجد هتأخر على المعاد بتاعي، عن إذنك.
واستدار ليغادر حينما وقف لينظر الى زوجته الحسناء لثانية توجه بعده اليها ليميل عليها حيث رفع يدها مقبلا ظاهرا بدبلوماسية قائلا بابتسامة لم تصل الى عينيه:
- أنا كلّمت يعقوب الجواهرجي، هيبعت لك مندوب انهرده بأحدث الأطقم إلى نزلت عندههم. اختاري اللي يعجبك، الحساب مفتوح.

قبل ان يستدير مغادرا الشرفة فيما تبعته شهرت بعينين خاويتين ونظرات زجاجية، بااااردة!..

قطعت دولت الصمت الذي ساد بعد رحيل ابنها قائلة بابتسامة: - أنا عارفة أني لو سألتك هتقولي ما فيش حاجة، لكن أنا مش عميا. شكلكم انتم الاتنين بيقول انه فيه حاجة وحاجة كبيرة اوي كمان، وأعتقد مش هكون متطفلة لو سألتك إيه هي، الموضوع اللي يخلي شهرت الرازي تفقد هدوئها المعروفة بيه أكيد مش موضوع سهل، ممكن أعرف إيه هو؟

لتجيب شهرت بعبارة واحدة كنت كافية لجعل دولت تعلم أن الأمر ليس فقط بالهيّن ولكنه سيتسبب في شقٍّ عميق بين ابنها وزوجته:
- شريف قرر ينفذ وصية عمي راغب الله يرحمه!
دولت بذهول: - انتي بتقولي ايه يا شهرت؟ معقول! شريف هي...
ابتسامة باردة زينت مبسمها الوردي أجابت بعدها بغضب بارد: - أيوة يا طنط. شريف عاوز يجيب ابنه يعيش معنا هنا...

لتنظر اليها بكليّتها مردفة بسخرية خفيفة: - مش دي كانت وصية عمي ليه وهو بيموت؟ عشان يكون عنده وريث لعيلة المسيري!

لم تعلم دولت أتغضب من أجل زوجة ابنها، تلك الكنّه التي لاقت استحسانها فقد كانت تنطبق عليها المواصفات التي كانت تريدها في كنّتها، فتاة جميلة من عائلة عريقة وتعليم فوق الممتاز، ذات ثراء ونسب مشرِّف، أم تفرح لأنه أخيرا ستتمتع برؤية حفيد لها من ابنها الوحيد، حتى وأن كانت أمه لا تتماشى مع طبقتهم الارستقراطية العريقة، ولكنها كفيلة بجعله ينسى ما ربّته عليه تلك الفقيرة المعدمة ذات الأصل البسيط، وتعيد تأهيله من جديد ليستحق أن يحمل لقب عائلة المسيري، فهو سيكون وريث العائلة الأوحد في المستقبل، وسيكون كارت الربح بالنسبة لهم والذي سيبعدون به الطامعين في ثروتهم من أبناء العمومة المنتشرين هنا وهناك يقبعون مترصدين لحظة الانقضاض على ورث راغب المسيري عميد العائلة وأغنى أغنيائها، ممنين أنفسهم بالفوز بنصيب الأسد من الإرث، فوحيدها ليس لديه أبناء، ولا يوجد أمل في حصوله على واحد، فزوجته الجميلة يرفض رحمها استقرار أي جنين به، حيث يلفظه ما أن يتم شهره الخامس بداخله، ولم تفلح أية محاولات في استقرار حملها، كما قامت بأكثر من عملية تلقيح مجهري بل وأطفال أنابيب أيضا ولكن يبقى الوضع كما هو، لتتوقف عن مزيد من المحاولات بأمر من الأطباء، فقد بات حملها خطر على صحتها الشخصية!

ليقع هذا الخبر عليهم كوقع الصاعقة، ويقع راغب زوجها بين شقي الرحى، فمن جهة هو يريد وبشدة الحصول على حفيد من صلبه يرث أملاكه وأملاك ابنه، ومن جهة أخرى لا يستطيع السماح لابنه بالزواج من أخرى فابنة فضل الرازي لن تصمت وسيعتبر أبوها هذا الأمر بمثابة اهانة لا تغتفر في حقّه وحق ابنته، وهم لا قِبل لهم بمجابهة غضب كبير عائلة الرازي، حوت السياسة والمال المعروف!

ليأتي الحل عن طريق محامي العائلة والصديق الشخصي لراغب والذي ذكّره بأنهم يمتلكون حفيدا بالفعل، ومع أنهم قد أخفوا هذا الأمر عن الجميع ولكن غضب الرازي لن يكون بمثل قوته أن تزوج شريف بأخرى كي تأتي له بحفيدٍ للمسيري!

ولم يمهل القدر راغب كي ينفذ رغبته في الحصول على حفيده الذي تنصلّوا له منذ ولادته، إذ توفي إثر ارتفاع حاد في ضغط الدم مما أدى الى نزيف في المخ لتحدث الوفاة في غضون أيام قضاها في غيبوبة عميقة يترنح فيها بين الحياة والموت، ولكنه كان قد طلب من ابنه قبل سقوطه أن يعمل على إعادة ابنه الى أحضان عائلته (وكأنه كان بينهم من الأساس! ). فأحمد هو أملهم الوحيد كي يبقى اسم راغب المسيري على وجه الدنيا، فهو. أحمد شريف راغب المسيري مهما كان الأمر!

ومن الواضح أن ابنها قد قرر المضي قدما في تنفيذ وصية والده، ولكن. لما الآن؟ فزوجها قد وافته المنية منذ عام كامل، ومن يومها وقد تبدل حال ابنها ليغدو أقسى و. أعنف وأشرس. وإن غلّف نفسه ببرود جليدي. ينافس برود زوجته الجميلة. الانجليزي!

شعر بشيء خفيف يداعب وجهه ليجعد أنفه وهو يزيح بيده ذلك الشيء دون أن يكلف نفسه عناء فتح عينيه، ولكن. من الظاهر أنها ذبابة سخيفة تصمم أن تحط على وجهه، لينفخ في ضيق ويهشّ بيده بعنف، ولكن، تصر الذبابة أن تحوم حوله وبكل صفاقة!..

كاد يصيح عاليا مناديا زوجته حينما طرق سمعه صوت ضحكة صغيرة مكتومة، ليفتح عينا واحدة ليرى صاحبة الضحكة، فيطالعه عينان تلمعان بشقاوة بينما كتمت صاحبتهما ضحكتها براحتها الصغيرة، ليباغتها بحملها فجأة بين يديه وهو يهتف عاليا:
- بقه انتي الدبانة الرخمة اللي عمالة تزن. تزن، حواليا؟ تعالي هنا بقه!

حاولت ابنته التملص منه بينما هو شرع في دغدغتها لتطلق ضحكاتها التي تشرح قلبه عاليا، وبينما هي تستعطفه كي يكف عن دغدغتها كان هو يقول بتصميم مصطنع:
- أبدا. عشان تعرفي تعملي دبانة بعد كدا!
دلفت الى غرفة نومهما هي وزوجها وقد وصلها أصواتهما الصباحية المعتادة وهي تقول بضحك:
- هو كل يوم لازم آجي أفض الخناق بينكم!
هتفت نادرين وسط ضحكاتها الصاخبة وفشلها في الهروب من يدي والدها: - ما. ما...

لتكمل بلغتها الغير مفهومة وهي تزم شفتيها تارة في حنق طفولي وتضحك تارة، لتدنو منهما شمس وتحمل ابنتها بعيدا عن والدها وهي تقول بضحك:
- خلاص يا إسلام بقه حرام عليك، شوف وشّها بقه أحمر إزاي؟!
نهض إسلام من مكانه فوق الفراش واتجه الى شمس التي وقف تحمل نادرين ابنتهما والتي دفنت رأسها في كتفها لتبتعد عن يدي والدها، بينما قال إسلام بجدية مصطنعة:
- سيبيني يا شمس أتصرف مع دبانة كل يوم دي!

شمس بصرامة مزيفة: - تستاهل، ما هي طالعالك، مش انت اللي معلمها ازاي تبقى دبانة؟ إسألني أنا، يا ما دبانتك وقفت على وشِّي وأنا نايمة!

إسلام بضحك: - فرحانة فيّا يا أم نادرين، طب هاتيها لي.
صرخت نادرين وهي ترى يدي والدها وهما تقتربان منها: - ما. م ما!
شمس وهي تبعد ابنتها عن يدي زوجها: - خلاص يا إسلام عشان خاطري، هتقلب بعياط في الآخر. انت عارفها ما تحس انها هتتغلب بتعيّط...

إسلام بجدية زائفة: - ماشي الكلام، بس لو الدبانة جات ناحية وشّي تاني هصطادها...
قالت شمس وهي تتجه بابنتها للخارج: - خد الشاور بتاعك على ما أحضر الفطار.
دلف الى المطبخ بعد أن اغتسل وارتدى ثيابه ليبصر ابنته وقد جلست الى كرسي الأطفال المخصص لتناول الطعام حيث وضعت لها شمس طبقا من حبوب القمح والحليب، ووضعت حول عنقها منشفة صغيرة كي تحمي ثيابها من الاتساخ.

جذب اسلام مقعدا من المقاعد الخشبية الملتفة حول مائدة الطعام المعدة لأربعة أفراد في المطبخ وجلس بينما كانت شمس تقف أمام موقد الغاز تطهي البيض المقلي، لترفعه من فوق النار وتصبّه في الصحن وتحمله مع سلة الخبز لتضعهم في وسط الطاولة، ثم تجلس بدورها وهي تقول:
- اتفضل الفطار. الأومليت ال Spanish اللي انت بتحبه.
إسلام وهو يقطع جزءا من البيض ويضعه في صحنه قبل أن يرفع بطرف شوكته قطعة كبيرة منه ليتناولها:.

- أحسن حاجة في يوم أجازة عليّة أني بقعد أفطر هنا براحتي، يوم ما بتكون في البيت بتكون محتلة المطبخ ومش بتخليني أعتّبه.

ضحكت شمس قائلة: - حرام عليك دي حتى عليّة دمها خفيف وعشرية أوي...
أجاب اسلام: - هو أنا قلت حاجة؟ ما طبعا لازم تشهد لها دي محسساني أني ضرّتها، على طول انتي اللي صح وكل كلامك محصلش، وأنا العكس على طول الخط!

ضحكت شمس في حين تذوق اسلام البيض قبل أن يقول: - امممممممم، روووووعة، تسلم ايديكي يا شمسي...
شمس بابتسامة: - بالهنا يا حبيبي.
ثم التفتت الى ابنتها تمسح فمها الملطخ بطعامها قبل أن تنتبه لوقوف إسلام فقطبت قائلة وهي ترفع عينيها إليه:
- إيه دا؟ لحقت تفطر؟
إلسام وهو يرتدي سترة حلّته الرمادية اللون: - معلهش يا حبيبي. عندي مواعيد الصبح بدري...

ثم مال مقبلا نادرين قبل أن يلثم وجنة زوجته واتجه الى الخارج لتناديه شمس فأجاب وهو يتابع طريقه ليحمل حقيبة حاسوبه الشخصي الذي كان قد وضعها في الردهة وهو في طريقه لتناول طعام الافطار بالمطبخ:
- أيوة يا شمسي...
لحقت به شمس وقالت وهي تراه يضع أغراضه الشخصية في جيب سترته: - كنت عاوزة أتكلم معاك في موضوع مهم يا إسلام.
قطب إسلام وقال وهو منشغل بما بين يديه: - قولي حبيبتي سماعك.

شمس بضيق: - لا مش هينفع وانت مشغول كدا...
كفّ إسلام عمّا كان يفعله ونظر اليها بابتسامة متسائلة: - خير يا شموس؟ قلقتيني.
شمس بابتسامة كي تطمئنه: - لا يا حبيبي خير ان شاء الله. أنا متأكدة أنك مش هتمانع كمان!
لا يعلم لما دقّت كلمة تمانع. في ذهنه كناقوس الخطر ليبتسم باستغراب واضح وهو يجيب:
- وهو إيه اللي أنا مش ه أمانع فيه؟
هتفت شمس بحماس: - شغلي!

لتغيب الابتسامة تدريجيا عن وجه إسلام وهو يقول مكررا بدون تعبير: - شغلك؟!
شمس بلهفة: - أيوة حبيبي، زميلتي اللي كانت معايا في شركة السياحة كلمتني امبارح وانت رجعت متأخر فمعرفتش أقولك!..

إسلام بغموض: - تقولي لي إيه؟
شمس بفرحة عارمة: - عاوزين مرشدين سياحة وصفاء كلمتني عشان أقدم، وبتقولي أني أكيد هيقبلوا يرجعوني الشغل، لأني كنت بشتغل معهم قبل ما أستقيل بعد ما حملت في نادرين، مش بس كدا، هي جسّت نبض مستر ناجي وهو مرحّب جدا!

زفر إسلام في ضيق وهو يتذكر صاحب هذا الاسم. ناجي الحديدي، صاحب شركة السياحة التي كانت تعمل لديها شمس قبل زواجهما، ولم تفلح محاولاته معها لترك العمل بعد الزواج، فقد كانت تحب عملها بشدة، حتى حملت في صغيرتهما فوقتها وبأمر الطبيبة وجب عليها الراحة التامة لتنصاع لرغبته في ترك وظيفتها لدى ذلك السمج والذي لم يرتح له منذ الوهلة الأولى لرؤيته، فقد كان يخص شمس بنظرات غامضة، كانت تثير غيظه وفضوله، ليعلم وعن طريق الصدفة ومن شمس ذاتها أنه كان رافضا تماما لتركها العمل بل أنه قد تجاسر قبل زواجهما وحين كانت توزع بطاقات الدعوات لحفل الزفاف أن اعترض على زواجها بهذه السرعة معللا قوله بأنها. لا تزال صغيرة! ليتأكد له أن شعوره الأولي ناحيته كان صائبا وأن هذا الوقح علاوة على تدخله السافر في حياة حبيبته فإنه أبدا ليس بصاف النية من جهة زوجته. وبالتالي كان رد فعله متوقعا بالنسبة له وهو يسمعها وهي تسهب في ذكر صفات مستر ناجي. ذلك الرجل الاربعيني العمر الطيب القلب ال...

هتف اسلام بحدة: - بس!
شمس بذهول: - إيه يا إسلام؟ ايه اللي نرفزك بالشكل دا؟
نفخ إسلام بضيق قبل أن يقول: - لا أبدا، بس انتي كأنك ما صدقتي جبتي سيرة الشغل وهاتك يا مدح في أصحاب الشغل!

شمس بغير فهم: - عادي يا إسلام، ما هو شيء يسعدني أنهم يكونوا لسه باقيين عليّا وعاوزيني أرجع أشتغل معهم من تاني!
مال إسلام على وجهها وقال بصرامة: - انسي موضوع الشغل دا يا شمس!
شمس بصدمة بالغة: - أنسى!، ليه؟
اسلام وهو يتحضّر للانصراف: - بنتك يا هانم نسيتيها؟

شمس وهي تتبعه فيما يسير هو بخطوات سريعة: - لا ما نسيتهاش (لم أنساها) طبعا، أنت ناسي أساسا أننا ساكنين معهم في نفس الفيلا؟ دا احنا في الدور اللي فوقهم على طول!

اسلام باستنكار: - يعني إيه يا هانم؟ هتسيبي بنتك وهي في السن دا لأمي تربيهالك؟
شمس بسخط: - انت ليه محسسني أني أنانية ومش بفكر إلا في مصلحتي وبس؟
هتف إسلام مؤكدا: - لأنها الحقيقة! الأم اللي بنتها عندها سنتين وتفكّر تسيبها لحماتها مهما كانت حنونة عليها لكن مش هتبقى زي أمها، الأم دي تبقى في قمة الانانية كمان!

شمس باعتراض حاد: - ومين قال لك اني هسيب بنتي؟ نادرين مش هتكون مع ماما مها إلا وقت ما أكون أنا في الشغل وبس، دا غير عليّة أنت عارف هي بتحبها أد إيه، وباقية اليوم.

هدر يقاطعها بغضب: - باقية اليوم حضرتك هترجعي تعبانه عاوزة تنامي فطبعا علية هي اللي هتكمل مع نادرين، وواحدة واحدة هتلاقي نفسك متعرفيش عن بنتك حاجة. وما استبعدش أنها بعد كدا تقول لعلية يا ماما!

شمس بصدمة: - بقه كدا يا إسلام؟!
رفض إسلام الاحساس بالذنب لنظرتها المتألمة وقرر وضع حدّا لهذا الأمر حتى لا تفاتحه في مسألة عملها ثانية فقال بوضوح وحزم:
- شمس. موضوع شغلك ما فيش فيه فصال، رجوع عند الحديدي، – سكت للحظات تابع بعدها بعينين تبرقان بعزم – انسي!

ليستعد للانصراف وما أن همّ بالخروج حتى نظر اليها من فوق كتفه قائلا: - عصام أخويا عازمنا انهرده كلنا على الغدا، جهزي نفسك، وأنا طالع من الشركة هكلمك عشان هفوت عليك نروح سوا...

ثم تابع بابتسامة ساخرة: - ممكن تودّي نادرين عن مامتك انهرده، ما فيش مشكلة!
وانصرف وتركها وهي تكاد تخبط الأرض بقدميها من الغيظ والقهر، لتتجه الى ابنتها تتفقدها وهي تكاد تجن. لما شعرت وهو ينطق باسم صاحب عملها السابق الحديدي وكأنه يبصق الاسم لا. يلفظه!

بينما خارج الباب وقف اسلام لهنيهة يتنفس بعمق قبل أن يتمتم في نفسه بوعيد: - قسما بالله يا ابن الحديدي لو ما بعدت عنها لا أخليك تندم على عمرك كله!
ولمعت عيناه ببريق العزم والتصميم!

حالة هرج ومرج سادت المجموعة لتقطب ريما متسائلة: - هو فيه إيه انهرده؟ الناس مالها بتجري ليه كدا؟
أسرّت إليها زميلتها في قسم العلاقات العامة: - أصل المدير الجديد عامل اجتماع للقسم عندنا، فتلاقي الكل زي ما أنتي شايفة كدا، حاسين انهم داخلين امتحان. وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان!

فكّرت ريما في داخلها أنه من الواضح أن لابن خالها أثر كبير في نفوس العاملين تحت إمرته، فهي تراهم ورغم قلقهم من الاجتماع الطارئ فهم يتحدثون عنه بكل احترام ووقار، بل أن بعضهم ذهب الى القول أنه قد دفع بأفكار جديدة الى القسم مما يتعود بفوائد كثيرة على شُغل المجموعة ككل، والبعض تندر بأنه سيسحب البساط من تحت قدمي والده. محمود شمس الدين!
نهضت زميلتها ونظرت اليها قائلة: - انتي مش هتيجي يا ريما؟

رفعت ريما عينيها اليها وقالت: - أه دقايق بس، أخلّص آخر ورقة في ايدي وهحصّلك على طول.
ونوت ألا تتأخر فهي لا تريد أن يمسك عليها سيادة المدير أي خطأ ولو كان غير مقصود!

ولكن ما نوته شيء وما حدث فشيء آخر تماما، لتتحقق أسوأ مخاوفها وتتأخر رغما عنها عن اللحاق بموعد الاجتماع فقد تصادفت مع الأستاذ رحمي رحيم عبد الرحمن رحمي. زميلها الشاب والذي لم يعلم بخبر عودتها الى العمل إلا حينما شاهدها وهي متجهة الى غرفة الاجتماعات بمكتب مدير القسم، ليوقفها لتبادل التحية والسلام والسؤال عن الحال والأحوال و...

- آنسة ريما...
صدح صوت جهوري جعلها تشهق بخفوت وهي تلتفت الى صاحبه لتقابلها عينان بلون سماء مكفهرة في يوم رعديّ عاصف، أردف عصام بصرامة:
- أظن في اجتماع عندك صح؟
تقدمت منه ريما وهي تعلم أنه على حق في غضبه وتسب وتلعن رحمي رحيم رحمي على أنه السبب في أن يسمعها ما لا ترغب لتأخيرها عن معاد الاجتماع!

وقفت ريما أمامه وقالت وهي تحاول تمالك نفسها وعدم الظهور بمظهر الضعيف: - فعلا يا فندم. أنا متأسفة كنت...
عصام بسخرية غاضبة: - كنت إيه؟ واقفة ترغي وتسلمي وتحيِّ وسايبه شغلك؟!

بصعوبة شديدة ألجمت لسانها عن الانطلاق في وجهه وصفعه بكلماتها الغاضبة، فمهما كان ليس هذا هو الوقت ولا المكان المناسبين لايقاف ابن خالها المبجّل عند حده، لتفتح فمها تهمّ بالرد عليه حين قاطعها صوت زميلها الشاب وهو يقول بثرثرته المعهودة:
- أنا آسف يا عصام بيه، أنا اللي أخّرت ريما...

بتر عبارته عندما اصطدمت عيناه بنظرات نارية ليستدرك مصححا: - أ. أقصد الآنسة ريما. كنت برحّب بيها عشان نزلت الشغل تاني، أنا معرفتش أنها رجعت الشغل لا لما شوفتها و...

سئم عصام من ثرثرة رحمي رحيم رحمي ليشير اليه بيده ليصمت وقال: - خلاص، خلصنا.
ثم أشار ريما مردفا: - أظن كفاية الوقت اللي ضاع. اتفضلي على الاجتماع!

هزت برأسها معتذرة من رحمي قبل أن تتقدمه كما أشار لها براحته العريضة، ليتبعها بعدها وهو يسير بخطى واثقة، وما أن وصلا لغرفة الاجتماعات الملحقة بغرفة مكتبه حتى دلفت هي فلحق بها هو، ليشير للجميع بالصمت ويتخذ مكانه في صدارة مائدة الاجتماعات فيما جلست ريما على أبعد مقعد عنه، وما أن بدأ بالاجتماع حتى اكتشفت أنها قد اختارت الكرسي الذي يقع تحت نظراته مباشرة!

انتهى الاجتماع وشرع الحضور في الانصراف، ولم يتبقى سواها هي موظفة أخرى وهو، همّت بالمغادرة حينما طلب منها بصوت لا يقبل الجدل بالانتظار، وفيما رحلت الموظفة الاخيرة وقفت هي تنفخ بضيق فيما استقر هو في مقعده الجلدي يدور بخفة على قوائمه ذات العجل، شابكا يديه في حضنه، ينظر اليها بعينين نصف مغمضة لتكون هي أول من يخرق الصامت زافرة بضيق واضح وهي تهتف بحنق:.

- أظن أنت ما طلبتش مني أني أستنى عشان تقعد تبصّ لي (تطالعني)!
اعتدل عصام في مقعده قبل أن ينهض واقفا ويدور حول الطاولة ليقف أمامها متندا بظهره الى طرف المائدة فيما عقد ساعديه أمامه قبل أن يتحدث بهدوء شديد:
- كان بيقول لك إيه؟
قطبت ريما متسائلة: - هو مين؟
أشار عصام بيده اليمنى ناحية الخارج: - الكابتن اللي كان عمّال يلكّ معاكي بره!
ريما ببرود: - وانت دخلك إيه؟

عصام بسخرية: - لما تتأخري عن اجتماع مهم زي بتاع انهرده بسبب رغيّ الأستاذ يبقى أكيد لازم أعرف، من باب الفضول على الأقل! إيه هي الحاجة المهمة أوي دي اللي عشانها وقفتي تتكلمي معه فيها وبالتالي اتأخرت ربع ساعة عن الاجتماع!

هزت ريما كتفيها بلا مبالاة قائلة: - عادي، كان بيسلّم!
هتف عصام بذهول ساخط: - بيسلّم!
أردف حانقا: - ربع ساعة سلامات!، ليه ان شاء الله؟ يبقى مين الاستاذ بالظبط؟
ريما بجدية: - رحمي رحيم عبد الرحمن رحمي!

صمت دام لثوان بعد اجابتها الشديدة الجدية لينفجر عصام بعدها ضاحكا بصورة مباغتة أصابتها بالذهول، بينما هو كان يضحك وكأنه لم يسبق له الضحك قط! لتطالعه بصمت لثوان قبل أن تشاركه هي الأخرى الضحك بذات القوة حتى أدمعت عيناها!

بعد أن هدأت نوبة الضحك المعدية التي أصابتهما قال عصام وأثر الضحك لا يزال ظاهرا في صوته:
- لا تصدقي فعلا سبب أنه يدوب السلام بتاعه يبقى ربع ساعة، على كدا بقه دا الواحد ما يدخلش معه في مناقشة. لأنه مش هيخلص قبل أسبوع على الأقل!

ريما وهي تمسح دموع الضحك من عينيها: - فكرتني بزميلتنا خديجة، أول ما تشوفه جاي علينا تقول لنا اللي فيكم وراها حاجة يا تقوم تنجزها يا تنساها. لأنه لما بيفتح ما بيقفلش (لا يصمت)!..

طالعها عصام بابتسامة وقد غاب أثر الضحك من وجهه بينما انتبهت ريما الى وقوفها أمامه تبادله الضحك والمزاح، لتشعر بالارتباك لوهلة فتقول وهي تتأهب للانصراف:
- طيب أروح أنا أشوف...
ولكنه عاجلها بالامساك برسغها فالتفتت لتطالع قبضته وهي تحيط كالسوار بمعصمها قبل أن ترفع عينيها اليه بتساؤل فيما دنا هو منها وهمس بصوت رخيم:
- وحشتني ضحكتك أوي يا آخر العنقود!

ابتسامة شاردة ارتسمت على شفتيها الممتلئتين لتقول بعدها بهدوء فيما لم تفته نظرة الحزن التي غيمت على عينيها الجميلتين:
- آخر العنقود خلاص، ما عادش آخر العنقود!
قطب عصام محاولا تحليل معنى كلماتها لتنتهز هي فرصة شروده وتجذب يدها من قبضته وتستدير لتغادر، ليوقفها صوت عصام ويدها فوق مقبض الباب:
- ريما...
فالتفتت اليها تطالعه بابتسامة صغيرة. قائلة بأسف وحزن: - آخر العنقود كبر يا ابن خالي. كبر أووي!

وانصرفت مغلقة الباب خلفها بهدوء فيما وقف هو يطالع الباب حيث غابت بينما يعمل ذهنه كالمكوك محاولا تفسير سبب نظرتها الحزينة، ومعرفة معنى عبارتها التي قالتها قبل مغادرتها والتي تحمل نبرة مرارة لم تخطئها أذنه!

جلس في مقعده الجلدي في ذلك المكتب الفخم حيث يترأس مجموعة شركات المسيري أكبر صرح تجاري بالبلد، أمسك بملف كبير يحوي أوراقا كثيرة، ليمرر سبابته على الاسم المدون البطاقة الملتصقة على غلاف الملف وهو ينطقه بصوت مسموع:
- أدهم شمس الدين!

ألقى بالملف أمامه على السطح الرخامي البارد للمكتب المصنوع من خشب الأرو الأسود اللون تماما كما باقي أثاث مكتبه، واستند بظهره الى الوراء الى مسند المقعد، حيث عاد بذاكرته الى الخلف وتحديدا منذ ثلاثة أسابيع. إلى تلك الليلة التي كانت الفصل لأمور كثيرة في حياته، واتخذ فيها قرارات لأمور أخطر تخصّه هو على وجه التحديد. شريف راغب المسيري!

كان قد قام بدعوة بعض رجال الاعمال وزوجاتهم الى تناول طعام العشاء في إحدى أفخم المطاعم التي بالبلد، وبالطبع كانت برفقته زوجته الجميلة. شهرت فضل الرازي...

كان يتناول طعام العشاء وهو يبتسم ويتبادل الحديث المنمّق مع ضيوفه اللذين يلتفون حول مائدة الطعام في ذلك المطعم الراقي عندما شعر بالرغبة في الانصات لمن حوله عوضا عن الاشتراك معهم في الحديث تاركا زوجته لتقوم هي بهذا الدور والذي تبرع فيه، فهو أبدا لم يكن من هواة الكلام، وكانت تلك هي نقطة ضعفه الوحيدة في مثل تلك اللقاءات الهامة، فالأمر الوحيد الذي يبرع بالحديث عنها هو. العمل. والعمل فقط! في حين أنه منذ سنوات ليست بالكثيرة كان لا يكف عن الحديث والمزاح بل والضحك أيضا!، لتغيم عيناه بغمامة الذكريات والتي حاول جاها نفضها عن رأسه محاولا الاستماع للحوار الدائر حوله، ليشعر بالسأم فالاجتماعيات تلك هو لم يكن يوماً من مُتقِنيها حتى جاءت زوجته الجميلة. فعوّضت هذا العيب المزمن في شخصيته حيث كانت تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه وبالتالي لم يكن أحد ليلاحظ هذا الشيء!

عاد برأسه الى الخلف منتهزا فرصة توقف الكلام لثوان انخرط فيها كل اثنين في الحديث جانبا، ليرتفع طرف شفته العليا في طيف ابتسامة ساخرة وهو يطالعهم بعينين شبه مغلقتين، وصوت يهمس بأعماقه. المال هو القاسم المشترك الأكبر بين كل الموجودين، ثمانية أِخاص بما فيهم هو وزوجته والتي كانت تتبادل الحديث والمزاح بطريقة ساحرة خلابة ولكن ما المدهش في هذا؟ أليست هي شُهرت الرازي، ابنة رجل السياسة المعروف فضل الرازي. من نشأت في أفخم القصور وتربت على أيدي مربيات أجانب، وتلقت تعليمها بمدرسة داخلية في بريطانيا، حتى أنهت جامعتها وقد درست إدارة الاعمال وعادت الى مصر كي تفتح عملها الخاص بها بمساعدة علاقات والدها المتشعبة تماما كالإخطبوط! ليبدأ اسم شهرت الرازي بالصعود عاليا، وكما المعتاد في حقل رجال الأعمال حيث اقتران السلطة بالمال ضرورة لا بد منها، ليقترن هو ابن رجل الأعمال الكبير راغب المسيري بها هي. ابنة رجل السياسة المشهور فضل الرازي! إذن فليس من العجيب أبدا أن تتعامل بهذا الرقي والفخامة مع ضيوفه، فذلك تماما كتقليم الأظافر، ولن ينكر أن أبوه قد صدق في أن زواجه بها سيعول عليه بالنجاح في حياته العميلة والمالية، ولكن، غرورها الزائد عن حد، ونظرتها اليه التي تحمل نوع من الفوقية عليه هما ما ينغصان عليه حياته، وإذا أضفنا جمودها وبرودها الذي استقته من معايشتها للانجليز فتكون النتيجة أنه بعد ما يزيد عن سبع سنوات زواج فهو يشعر وكأنه زوج لدمية جميلة، شكلها الفتان يخلب الالباب ولكن داخلها، فهو بارد. خاو، تماما كالدمية!..

صوت من الخلف استرعى انتباهه، لتتبدل ابتسامته الساخرة لأخرى شجية، وتغيم عيناه بنظرة حنان، لينتبه إلى أنه من الخطأ الاستماع لعبارات لغزل التي ينهال بها ذلك الرجل على من معه، ولكن. اسم. مجرد اسم، طرق سمعه ليجعله يتسمّر في مكانه، ويشحب وجهه، بينما سطع في عقله نور قوي ليصبح كمن خرج من الظلام إلى النور فجأة، فيما يتردد صدى اسمها الذي نطقه ذلك الرجل - والذي يماثله عمرا - في ذهنه، لبنى.!..

وكأن اسمها كان كلمة السر التي استدعت شريط من الذكريات كانت مدفونة في أعماقه منذ سنوات طويلة لتخرج الى السطح، ليسمع ضحكتها البريئة التي كانت تشجيه، ويرى نظرتها المعاتبة التي كانت تطلع بها اليه حين يسخر منها، ويسمع همسها باسمه عندما تناديه بلهفة وحب، ليقرر أن يسترق النظر. فقط نظرة واحدة ليتأكد هي هل ذات ال لبنى أم أنه تشابه أسماء فقط لا غير!

تظاهر بالميل يسارا لتناول شيئا ما ليرفع عينه الى المرآة الطويلة المجاورة والتي تكشف المائدة خلفه، ليحدق بانشداه في الصورة المنعكسة على وجه المرآة وقد نسي يده مرفوعة بينما فتح عينيه على وسعهما! فأمامه قد ارتسم وجه لم يرى في براءته ولا طُهره منذ أن فارقه منذ سنين!

صوت زوجته الهامس المتسائل في حيرة عمّا أصابه أخرجه من شروده ليفتعل ابتسامة صغيرة متفوها بكلمات لم يعي منها حرفا واحدا، فيما ضحكة ناعمة كانت الرد على غزل ذلك الشاب داعبت أوتار قلبه، وعزفت على آذانه أعذب الألحان، ليكتشف أن الشهور القليلة التي عاشها مع تلك الغافلة عن وجوده على بعض خطوات قليلة منها، كانت من أجمل أيام حياته، ولم تستطع ابنة القصور على مدار أكثر من سبع سنوات أن تنجح في جعله يعيش معها ولو يوما واحدا شبيه بأيامه القليلة مع الأخرى، لتظل لبنى ذكرى راسخة في قلبه وذهنه، ولكنه أمرها بالانزواء بعيدا. بعيدا، حتى يستطيع المضي قدما في حياته تماما كما خطط له والده، ولكنه ملّ. سأم أن يكون كالانسان الآلي، المبرمج على فعل أشياء محددة وألا يحيد عما هو مرسوم له، وكأن الحظ يعانده، ليصادفها بعد كل تلك السنين، فكانت كذرّ الملح فوق الجرح، فمع تعاقب الأيام ومرور السنوات، يبقى خسارته لها جرحا، لم يداويه الزمان. ولكن. ترى هل هناك سبيل لفرصة أخرى له؟..

تكشيرة اعتلت وجهه وهو يسمع اعتراف ذلك الشاب لها بالحب، وكان قد التصق بمقعده راميا بأذنه وقد انصب تركيزه على الاستماع للهمس الدائر خلفه، يعلم أن هذا خطأ ولكنه لم يستطع الا الانصياع رغبته في معرفة من يكون ذلك الرجل؟، لتأتيه الاجابة من فمها هي بصوتها ذو البحة المميزة وهي تقول بدلال لم تتصنعه أنه لا يليق به ذلك الغزل فهو الآن أبًا لابنة جميلة لا يصح أن تسمع والدها وهو يغازل والدتها بتلك الكلمات، ليعلم أنها هي، تلك الوالدة. أي زوجته!

تشنج ظهر في قبضة يده ولكن. وكأن القدر قد قرر أن يزيح الستار عن الماضي كاملا، لينطق الرجل بما جعل تلك الليلة هي الحد الفاصل لثلاثتهم. وما تنسيش أحمد، ابني! ...

وفيما ضحكت لبنى موافقة على كلام مهدي كان شريف قد تيبس في مقعده، لتعتلي عيناه نظرة غامضة، وقد برقت بوميض العزم والتصميم، ليقرر أنه آن الأوان لمقابلة تأخرت أكثر من ثمان سنوات، وأن يعرف أحمد من يكون والده الحقيقي، وأن تعلم والدة ابنه أنه لا يزال موجودا، بل ومصمما على العودة الى حياتهما ثانية وبقوة. لتظهر ابتسامة ظفر صغيرة على فمه الحازم فيما ارتسمت أمامه الخطوات التي سيتبعها لاستعادة، زوجته وابنه!

رافقت ريما عصام في طريقهما للذهاب الى المطعم وكانت قد أخبرته أن السائق الخاص بعائلتها كان هو من قام بإيصالها الى العمل عوضا عن أخذها لسيارتها، ومر الوقت في السيارة في تبادل للأحاديث الخفيفة وكأنهما منذ لحظات الضحك التي تشاركاها في العمل قد أعلنا هدنة غير مرئية، رغبة منهما للحفاظ على شعرة التواصل الرفيع التي حدثت دون أي ترتيب بينهما، فيما قرر عصام استغلال تلك الهدنة في اعادة ترسيخ نفسه في حياة ابنة عمته والتي ظهر له أن هناك الكثير مما تخفيه عنه، ترى، أين ذهبت ريما آخر العنقود!

وصلا الى وجهتهما ليترك عصام مفاتيح السيارة للحارس ليقوم بصفّها، واصطحب ريما حيث رافقهما النادل الذي أملاه عصام اسمه وكان قد حجز مسبقا، فتقدمه النادل حتى مائدتهم والتي كانت تسع لثمان أشخاص.

كان مهدي ولبنى أول الواصلين تبعهما همس ومراد وما أن وصل عصام وريما حتى كان اسلام وشمس في أعقابهما، وبعد تبادل التحية فيما بينهم شرعوا في املاء النادل طلباتهم.

انقضى الوقت في الاحاديث المرحة الخفيفة، ونسيت شمس غضبها من اسلام، وكيف لا تفعل والمجنون قد فاجئها بقدومه بعد انصرافه بساعتين ليباغتها وهي تقوم بترتيب المنزل وكانت قد ذهبت بصغيرتها الى والدتها وتركتها لديها معللة انها تريد القيام ببعض التنظيف واختفت ومها تشيعها بنظرات متسائلة خاصة بعد ان رفضت عرضها بالاستعانة بإحدى الخادمات في ترتيب المنزل بهمسة رفض خافتة.

كانت تقف فوق درجات السلم المعدني تقوم بتنظيف الثريا، وكانت قد ارتأت أن أفضل حلٍّ كي تنفس عن غضبها من زوجها العزيز هو الاتشغال بأعمال المنزل، لتقرر فجأة أن الثريا الكبيرة المعلقة في غرفة الصالون تملئها الأتربة ولا بد من تنظيفها جيدا!

ارتدت شورتا قصيرا للغاية وقميصا قديما يصغر نقاسها بنمرتين على الأقل، ليزهر محكما على جذعها العلوي فيما تركت أزراره العلوية مفتوحة وقامت بعقد طرفي القميص على هيئة أنشوطة، فيما جمعت خصلات شعرها الكستنائي في شكل ذيل الفرس بينما انفلتت بعض الخصلات تحيط بوجهها كإطار أكسبها فتنة وبراءة...

وقفت تزيح الأتربة بمنفضة التراب المصنوعة من ريش النعام الأسود وهي تدمدم بحنق في سرّها، لتسمع صوتا يسألها:
- بتقولي إيه يا شمس؟ علِّي صوتك شوية!
شمس بسخط: - بقول أنا اللي جبت دا كله لنفسي، جواز ووجع قلب، ما كنت عايشة حياتي براحتي في بيت بابا لا حد يتحكم فيا ولا يقول لي تشتغلي ولا ما تشتغلي...

وسكتت لتجحظ عيناها رعبا بعد ان انتبهت أن هناك من يحاورها، لتشهق بصدمة ونست أنها تقف فوق سلم غير ثابت فأتت بحركة ساذجة ليتحرك السلم أسفل منها فصاحت وهي تهوى به وقد ارتسم في خيالها صورتها وهي ملقاة أسفل ذلك الحديد ولكن، شيئا أعاق وصولها الى الارض. أو بمعنى آخر. شخصا كان هو المنقذ لها من سقطة كانت ستتسبب في جرح كرامتها وليس فقط قدمها أو يدها!

هوت مغمضة العينين كي لا ترى مصيرها لتتلقفها ذراعين قويتين، فتحت عينيها تطالعه لتبصر ابتسامته الواسعه فيما مال عليها هامسا:
- سلامتك يا شمسي...
همّت بالابتسام له بالمقابل عندما تذكرت ما كان منه قبيل ذهابه الى العمل صباحا فحاولت التنصل منه وهي تقول مزمجرة:
- الله يسلمك، ممكن تنزلني؟!
إسلام وهو يرفعها بين ذراعيه يعدل وضعيتها وبمكر: - بس أنا مبسوط كدا!
قطبت شمس هاتفة في حنق: - بس أنا مش مبسوطة كدا!

هز إسلام كتفيه وقال ببساطة: - والله كل واحد ينام على الجنب اللي يريّحه!، أنا عن نفسي مبسوط كدا، انتي مش مبسوطة بقه دي مشكلتك انتي مش مشكلتي!

شمس بذهول غاضب: - هو إيه أصله دا؟ إسلام. أنت شارب حاجة؟
مال عليها بوجهه لتلفحه رائحتها الأنثوية مختلطة برائحة عرقها الخاص مما أثار بداخله موجة قوية من الشوق العنيف:
- شارب المر في كاسات. ليه؟..
شمس وهي تحدق فيه بذهول وصدمة: - أحييييه!

حدق فيها إسلام بانشداه فيما تابعت: - أنت جبت الكلام دا منين يا إسلام؟ بتحفظ كلام علية وتيجي تقولوه؟ بس شاطر بس تقولي خايف على نادرين تلقط من كلامها الغريب! اذا كنت انت شخصيا لقطت!

اسلام هاتفا: - أيوة. لق، ط. ت!
لتتكسر آخر كلمة وهو ينتبه لما ترتدي وقد برزت مفاتنها الأنثوية أسفل قميصها المحكم التفاصيل، فلاحظت اتجاه عيناه لتضربه على كتفه ناهرة:
- ارفع عينيك، بتبص (تنظر) فين؟!
إسلام وهو يشعر بالدماء وهي تندفع في عروقه بقوة رهيبة: - أنتي. أنتي لابس...
شمس وهي تحاول النزول: - يووه بقه يا اسلام، نزلني.
إسلام وقد قرر وضع حدّ لتعبه: - على جثتي!..

لتفتح فمها وقد انتوت تقريعه فكانت تلك اللحظة التي كان ينتظرها ليبتلع أحرف كلماتها قبل أن يتثنى لها النطق بأحدها، معتصرا جسدها بين ذراعيه، مرتشفا رحيقها كالعطشان الذي ينهل من بئر مياه عذبة، بينما قادته قدماه الى غرفتهما ليركل الباب يصفقه خلفه، ويضعه بين أغطية فراشهما، و، يسمح له أخيرا بالتنفس بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الاختناق!

شمس وهي تلتقط أنفاسها المتعثرة: - بر. بردو. مش. مش هس. سامحك!
إسلام بعشق جارف وهو يحتضنها بحنان: - أنا عارف أني انفعلت عليك، بس انتي عارفة أني بحبك ومقدرش على زعلك، ولعلمك عمي أدهم لو عرف أني سيبت الشغل والدنيا تضرب تقلب و روحت للمدام جري مش بعيد يرفدني! يا إما في أحسن الاحوال هيعمل لي لفت نظر وتهديد شديد اللهجة!

ضحكت شمس وهس تنظر اليه بعينيها اللتيم ورثتهما عن والدتها بلونهما الفريد وقالت وسبابتها ترسم خطا وهميا حول قبة القميص:
- بس انا نفسي أرجع أشتغل تاني يا سلامونتي!
إسلام بشوق: - هتشتغلي يا روح سلامونتك!
شمس بلهفة وهي تطوق عنقه بذراعيها: - بجد صحيح؟، هشتغل!
إسلام وهو يميل بها ليشرف عليها: - أكيد طبعا. هتشتغليني! عاوزة أكتر من كدا شغل؟!

قطبت شمس بضيق وما ان همت بالكلام حتى سارع قائلا: - هششش. أنا جاي أصالحك، عشان خاطري يا شمس بلاش نزعل على حاجة مش مستاهلة، أنا يا ستي راجل غيور. ارتحتي كدا؟ مش عاوز مراتي تبعد عن عيني لحظة، ولو على الشغل انزلي الشغل معايا من بكرة. معايا ها،؟..

شمس بتفكير: - أشتغل معاك؟ وهشتغل إيه؟
إسلام قبل أن يسكتها لوقت طويل وكمن يدلي بقسم: - هعلّمك!..
ليسود الصمت التام بعد ذلك ولمدة طوييييييييلةّ!
عادت شمس الى حاضرها بوكزة من همس التي مالت عليها تقول: - يعني ما شبعتيش منه في البيت؟ اللي يشوفك يقول بتحبوا في بعض جديد!
شمس بتنهيدة عميقة: - الحب يا همس. أقولك إيه بس!

في حين همس مهدي لعصام وإسلام ومراد أن خاله أدهم في انتظاره في منزله، وشرح ببعض كلمات السبب، ليتبادل الثلاثة النظرات بين غاضب وحانق ومغتاظ!

كانت قد استأذنت للذهاب الى دورة المياه الخاصة بالسيدات، وعند عودتها لمائدتهم كانت تخفض رأسها الى الاسفل عندما ضربت رغما عنها في جسد بشري فرفعت عينيها تنوي الاعتذار بابتسامة سرعان ما ماتت على شفتيها وهي تكتم براحتيها فمها كي لا تنطلق صرختها، بينما اقترب الآخر منها هامسا:
- كنت فاكرة أني مش هقدر أوصلّ لك؟!، وحشتيني أووووي يا، ريمي!

واختفى فجأة تماما كما ظهر فجأة، لتعود ريما الى مائدتهم بسيقان ترتعش وما أن جلست في مكانها بجوار همس حتى سارعت بالقبض على يد الأخيرة، لتقطب همس وقد هالها برودة يد شقيقتها، فتساءلت بقلق:
- ريما؟
لفّت ريما وجها شاحبا يضاهي شحوب الموتي وهي تهمس بجمود: - شوفته يا همس. شوفته!
ازدادت عقدة جبين همس لتتساءل بحيرة: - هو مين دا؟..

وهي في ذهول من حالة أختها التي تبين مدى ما هي عليه من رعب، بينما أجابت ريما باسما واحدا كان كفيلا بتجميد الدم في العروق:
- ممدوح، ممدوح حفني!
همس بهمس مختنق وعينين جاحظتين رعبا من هذا الاسم وما يعنيه: - مم. ممدوح!
لتكتفي ريما بهز رأسها موافقة بينما شحب وجه همس بشدة فيما داخلها يهذي بتساؤل مجنون، كيف رأته؟ وهل الأموات يعودون ثانية على قيد الحياة؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة